اللامتوقَّع

إنَّه لأمرٌ بسيط أن يرى المرءُ ما هو واضح، ويفعل ما هو متوقَّع. فالإنسانُ يميل إلى أن يحيا حياة مستقرَّة وغير متقلِّبة، ويعزِّز هذا الميلَ لديه المجتمعُ المتحضِّر؛ حيث لا تُرى سوى الأمور الواضحة، ونادرًا ما تحدث أمور غير متوقَّعة. ولكن عند حدوث غير المتوقع، يَهلك غير القادرين على التأقلم، لا سيَّما إذا كان أمرًا على جانب كبير من الأهمية. فهم لا يرون إلا الأمورَ الواضحة، ويعجزون عن فعل ما هو غير متوقَّع، ولا يَقدرون على تكييف مسارات حياتهم النمطية الرتيبة لتتناسب مع الأحداث الغريبة الطارئة. باختصار، عندما تضطرهم الظروف إلى الخروج عن مسارات حياتهم الرتيبة، يكون في ذلك هلاكهم.

في المقابل، هناك مَن يكافحون من أجل البقاء، وهؤلاء هم الأفراد المتكيِّفون، الذين يتحرَّرون من سيطرة الأمور الواضحة والمتوقَّعة، ويكيِّفون حياتهم لتتلاءم مع أي مسارات غير مألوفة قد ينجرفون إليها، أو قد يُجبَرون على خوضها. كانت إديث ويتلسي واحدة من هؤلاء. وُلدت إديث في منطقة ريفية في إنجلترا، حيث تسير الحياة وفق العادات والتقاليد المألوفة، ومن غير الوارد حدوث أي أمور غير متوقَّعة لدرجةِ أن ينظر إليها المرء حالَ حدوثها على أنها غير أخلاقية. بدأت إديث العمل خادمةً في سنٍّ مبكرة، ومع تطوُّر خبراتها أصبحت مساعدة شخصية لسيدة من المجتمع الراقي، مع أنها كانت لا تزال شابة.

يمارس المجتمع المتحضِّر تأثيره في فرض القوانين البشرية على البيئة حتى تسير مثل الآلة وفق نظام متَّسق. وعندئذٍ، يمكنه التخلُّص من الأمور البغيضة والتنبؤ بالأمور الحتمية. ومن ثَم أصبح الإنسان لا يبتلُّ عند سقوط المطر، ولا يشعر بالبرد عند هبوب موجةِ صقيع؛ وحتى الموت، بدلًا من أن يطاردنا على نحوٍ عَرضي ومخيف، أصبح حدثًا له إعدادات مُسبَقة، حيث يشقُّ الموت طريقه بسلاسةٍ آلية إلى مقبرة العائلة، التي تخضع هي الأخرى إلى صيانة مستمرَّة لتنظيف الأجواء من الغبار وحماية الأبواب من الصدأ.

هكذا كانت حياة إديث ويتلسي. حياة خالية من أي أحداث. ربما الأمر الوحيد الذي يُمكِن اعتباره حدثًا هو مرافَقة سيدتها في سن الخامسة والعشرين في رحلة قصيرة إلى الولايات المتحدة. هنا فقط تغيَّر مسارُ حياتها. لكنها ظلَّت الحياة نفسها بأحداثها المتوقَّعة. حتى رحلتها عَبْر المحيط الأطلسي كانت هادئة، حيث كانت السفينة تشقُّ طريقها في عُرض البحر بسلاسة كأنها فندق كبير متعدِّد الأروقة يتحرَّك بسرعة وهدوء، ساحقًا الأمواجَ بضخامة حجمه حتى أصبح المحيط مثل بركة رتيبة راكدة. وعند بلوغ الجانب الآخَر من المحيط الأطلسي، استمرَّ روتين حياتها كما هو حتى على اليابسة، حيث وفَّر لها هذا الروتين الجدير بالاحترام والمتَّسم بحُسن التنظيم فنادقَ فخمة في كل مكان نزلت به، كما وفَّر لها وسائل راحة فندقية على متن القطارات نفسها التي استقلتها بين كل نقطةِ توقُّفٍ وما تليها.

في شيكاغو، شهدت إديث ويتلسي جانبًا من الحياة الاجتماعية يختلف عن الجانب الذي كانت تعيشه سيدتُها، وعندما تركت خدمة سيدتها وأصبحت إديث نيلسون، كشفَت — ربما بقدر طفيف — عن قُدرتها على التعامل مع الأمور غير المتوقَّعة وإدارتها. كان هانس نيلسون، وهو مهاجِر من أصل سويدي ويعمل نجارًا، يحمل في داخله ذلك الاضطراب التيوتوني الذي يدفع أصحاب ذلك العِرق دائمًا نحو الغرب لخوض مغامَراته العظيمة. لقد كان رجلًا ضخم العضلات متبلِّد الحس، وكانت روح المبادرة لديه لا حدودَ لها بالرغم من خياله المحدود، فضلًا عن تمتُّعه بولاء ومحبة لا يقلَّان صلابةً ومتانة عن قوته الجسدية.

قال هانس لإديث في اليوم التالي لحفل زِفافهما: «سوف أعمل بجد وأدَّخر بعض المال، وبعدها سنذهب إلى كولورادو.» وبعد مرور عام، ذهبا إلى كولورادو، حيث نجح هانس نيلسون في أولى مهامِّه التنقيبية، ومنذ تلك اللحظة أُصيب كغيره بحُمى التنقيب عن الذهب. وقادته أعمال التنقيب إلى التنقُّل بين ولايات داكوتا وآيداهو وأوريجون الشرقية، وصولًا إلى جبال كولومبيا البريطانية. كانت إديث نيلسون ترافقه دائمًا، في المعسكر وفي الطريق، تشاركه حظَّه ومصاعبه وكدحه. استبدلَت طريقةَ سير متسلِّقي الجبال ذات الخطوات الواسعة بطريقةِ سير المرأة التي اعتادت على المكوث في المنزل. لقد تعلَّمت أن تنظر إلى الخطر بعينٍ يقظة ومتفهمة، وأن تتخلَّص إلى الأبد من الهلع الناجم عن الجهل الذي يُبلى به سكانُ المدينة، فيجعلهم سُذَّجًا كالخيول الحمقاء التي تتجمَّد في مكانها من الرعب وتنتظر مصيرها بدلًا من مواجَهته، أو تتدافع في ذعر دونَ تفكير فتؤذي نفسَها وتَعوق الطريق بجُثثها المبعثَرة.

واجهَت إديث نيلسون فكرة اللامتوقَّع طَوال رحلتها، ودرَّبت نفسها على إدراك بواطن الأمور، وليس الواضح منها فحسب. ومع أنها لم تَطبخ قَطُّ في حياتها، فقد تعلَّمت أن تخبز دونَ استخدام نبات الجنجل أو الخميرة أو مسحوق الخَبز، وتعلَّمت خَبز الخبز بكامل تفاصيله في مقلاة على لهيب النار. وعندما نفد آخِر كوب من الدقيق وآخِر شريحة من لحم الخنزير المقدَّد، تمكَّنت من مواجَهة الموقف، واستخدمت الأخفاف وقِطَع الجلد المدبوغة اللينة لصُنع بدائل تدعم المرء بطريقة أو بأخرى وتقيم صُلبه ليواصل سعيه. وتعلَّمت أيضًا كيفية حزم الأغراض على ظهور الخيل ببراعةٍ لا تقل عن أي رجل، وهي مهمة كفيلة أن تُوهِن عزيمةَ أيِّ شخصٍ من سكان المدن وتُشعره بالامتهان، وأصبحت ماهرة في اختيار العُقدة الأنسب لكل صُرَّة. علاوةً على ذلك، فقد تمكَّنت من إشعال النار باستخدام خشب رطب أثناء هطول المطر دونَ أن تفقد رباطة جأشها. باختصار، لقد أتقنَت التعاملَ مع الأحداث الطارئة غير المتوقَّعة بكل أشكالها. لكن المفاجأة الكبرى كانت لا تزال في طريقها لاقتحام حياتها ووضعها على المحك.

كان تيار البحث عن الذهب يتدفَّق شمالًا إلى ألاسكا، وكان من المحتَّم أن يسير هانس نيلسون وزوجته مع هذا التيار ويتَّجهان نحو نهر كلوندايك. وصلَا داييا في خريف عام ١٨٩٧، ولكن لم يكُن لديهم المال اللازم لحمل المعدات عَبْر ممرِّ تشيلكوت والإبحار بها إلى مدينة داوسون. ومن ثَم، اشتغل هانس نيلسون بمهنته ذلك الشتاء، وساعَد في تطوير بلدة سكاجواي التي كانت تزدهر بسرعة لكونها مركزًا لتزويد المنقِّبين عن الذهب بالمُؤَن والمعدات.

لم يَسَعه الانتظار أكثر من ذلك؛ فطَوالَ فصل الشتاء كان يسمع كلَّ ألاسكا تُناديه. وكان خليج لاتويا هو الأعلى صوتًا؛ ولذلك في صيف ١٨٩٨ شقَّ هو وزوجته متاهات الخط الساحلي الوعر في زوارق خاصة بالسيواشيين، يبلغ طول الواحد منها سبعين قدمًا. كان برفقتهما هنود، بالإضافة إلى ثلاثة رجال آخَرين. أنزلهم الهنود مع إمداداتهم في منطقة منعزلة تبعد مائة ميل أو نحو ذلك عن خليج لاتويا، وعادوا إلى سكاجواي؛ لكنَّ الرجال الثلاثة الآخَرين بقوا؛ لأنهم كانوا ينتمون إلى هذه المجموعة. وقد ساهَم كلٌّ منهم في التجهيزات بحصةٍ متساوية من رأس المال، وكان من المقرَّر تقسيم الأرباح بالتساوي. تولَّت إديث نيلسون مسئولية الطهي، وتقرَّر أن تحصل في المقابل على حصةٍ مثل بقية الرجال.

في البداية، قطَع الرجال أشجار التنوب وبنَوا كوخًا يتكوَّن من ثلاث غرف. كانت مهمة إديث نيلسون هي الاعتناء بهذا الكوخ. وكانت مهمةُ الرجال البحثَ عن الذهب واستخراجه، وقد نجحوا في تنفيذ كلا الأمرَين. لم يكُن اكتشافًا مذهلًا، فبالكاد عثروا على رواسب منخفضة القِيمة؛ حيث تَراوَح ما كسبه كل رجل بعد ساعاتٍ طويلة من العمل الشاق ما بين خمسة عشر وعشرين دولارًا في اليوم. تجاوز صيف ألاسكا القصير مدتَه المعتادة، فانتهزوا الفرصة، وأخَّروا عودتهم إلى سكاجواي حتى اللحظة الأخيرة. لكن الأوان قد فات. واتُّخِذَت الترتيبات اللازمة لمرافَقة عشراتٍ من الهنود المحليين في رحلتهم التجارية في الخريف على طول الساحل. انتظر السيواشيون أصحابَ البشرة البيضاء حتى اللحظة الأخيرة، ثم غادروا. لم يكُن أمام المجموعة إلا انتظارُ أيِّ وسيلةِ نقل متاحة. وفي هذه الأثناء، أنهَوا مهمة البحث عن الذهب وتخزين الحطب.

سادَ الجو الدافئ لفترة طويلة، وفجأةً أعلن الشتاء عن قدومه. وبين ليلةٍ وضُحاها، استيقظ المنقِّبون على صوت الرياح العاتية والثلوج الكثيفة والمياه المتجمِّدة. عاصفة تِلو الأخرى، يتخلَّلها صمت، لم يكسره إلا دَوِي الأمواج المتلاطمة وهي تضرب الشاطئ المُقفِر، الذي تناثر عليه المِلح المتجمد مؤطِّرًا حافتَه بلونٍ أبيض.

سارت الأمور على ما يُرام داخل الكوخ. بلغت قِيمة تراب الذهب الذي حصلوا عليه حوالي ثمانية آلاف دولار، ومن ثَم لم يَسَعهم سوى الشعور بالرضا. كان الرجال يصنعون أحذية للثلوج، ويصطادون اللحوم الطازجة لتخزينها، ويَقضون الأُمسيات الطويلة في لعب الورق دون توقُّف. ومع توقُّف أعمال التنقيب، تولى الرجال عملية إشعال النار وغسل الأطباق، بينما تولَّت إديث نيلسون مهمة رتْقِ جواربهم وإصلاح ملابسهم.

لم يكُن هناك تذمُّر ولا مشاحَنات ولا خلافات تافهة في الكوخ الصغير، وغالبًا ما كان يهنِّئ بعضهم بعضًا على أجواء السعادة العامة التي يعيشونها داخل الكوخ. كان هانس نيلسون هادئًا متبلِّد الحس، وقد نالت إديث منذ وقت طويل إعجابه اللامحدود بقُدرتها على التواصل مع الناس. وكان هاركي — وهو رجل نحيل طويل القامة من تكساس — ودودًا على نحو غير معتاد بالنسبة إلى شخص يميل إلى الكآبة، وكان حَسَن العِشرة ما لم يجادله أحدٌ بشأن نظريته حول نمو الذهب من الأرض. وقد أضفى الفرد الرابع في المجموعة، ويُدعى مايكل دينين، روحًا من البهجة على الكوخ بفضل فكاهته وخفَّة ظلِّه الأيرلندية. كان رجلًا ضخمًا وقويًّا، كثيرًا ما ينفجر في نوبات غضب مفاجئة بسبب أمور تافهة، ويتمتَّع بروح دعابة لا تنضب تحت وطأة الأمور المهمة الضاغطة. أمَّا الفرد الخامس والأخير فهو دوتشي، الذي كان يجعل من نفسه أضحوكةً طواعية. فقد كان يبذل قصارى جهده ليُثير الضحك حتى ولو بالسخرية من نفسه، من أجل الحفاظ على روح المرح. يبدو أن هدفه الأساسي في الحياة هو صنع الضحكة. ولذا لم تكُن هناك أي شجاراتٍ جدية تعكِّر صفو هذا الجَمْع على الإطلاق؛ والآن بعد أن أصبح لدى كلٍّ منهم ألف وستمائة دولار مقابل عمل صيفي قصير المدة، سادت روحٌ من الرخاء مِلْؤها الرضا والشبع.

ثم حدث ما لم يكُن في الحسبان. كانوا قد تجمَّعوا للتو حول مائدة الإفطار. ومع أن الساعة كانت الثامنة صباحًا (أصبحت وجبات الإفطار المتأخرة أمرًا طبيعيًّا بعد توقُّف العمل المتواصل في التنقيب)، فقد أضاءوا المكان بشمعةٍ وضعوها في عنق زجاجة. جلس كلٌّ من إديث وهانس عند رأسَي المائدة. وجلس هاركي ودوتشي على أحد الجانبَين، موجِّهَين ظهرَيهما نحو الباب. ولم يكُن هناك مَن يجلس على الجانب الآخَر. فلم يدخل دينين بعد.

نظر هانس نيلسون إلى المقعد الفارغ، وهزَّ رأسه ببطء، وقال في محاولة للمزاح تُعوِزها البراعة: «دائمًا مَن يكون أول الجالسين إلى المائدة. إنه أمر غريب جدًّا. لَربما يكون مريضًا.»

سألت إديث: «أين مايكل؟».

أجاب هاركي: «لقد استيقظ قبلنا بقليل وخرج.»

عَلَت وجه دوتشي ابتسامةٌ ماكرة. وتظاهَر بمعرفة السبب وراء غياب دينين، وتَصنَّع الغموض عندما سأله الآخَرون أن يُدلي بما لديه من معلومات. عادت إديث إلى المائدة، بعد إلقاء نظرة خاطفة على غرفة الرجال. ونظر إليها هانس، فهزَّت رأسها نافيةً وجودَ أحد هناك.

قالت: «لم يتأخَّر قطُّ عن وقت تناول الطعام.»

قال هانس: «هناك شيء غير مفهوم. إنه يتمتَّع بشهية مفتوحة دومًا.»

قال دوتشي وهو يهز رأسه بحزن: «يا له من أمر سيئ للغاية.»

كانوا على وشك المزاح بشأن غياب رفيقهم.

ولكن دوتشي تطوَّع قائلًا: «يا له من أمر مؤسف جدًّا!»

سألوه جميعًا في نفَسٍ واحد: «ماذا هنالك؟»

وجاءهم الرد الحزين: «مايكل المسكين.»

سأل هاركي: «حسنًا، ما خطْبُ مايكل؟»

صاح دوتشي: «لم يَعُد يشعر بالجوع بعد الآن. لقد فقَد شهيته. وأصبح لا يحب الطعام.»

علَّق هاركي: «هذا ليس صحيحًا بالنظر إلى الطريقة التي يلتهم بها الطعام التهامًا حتى تمتلئ معدته عن آخِرها.»

ردَّ دوتشي سريعًا وقال: «إنه يفعل ذلك فقط لمجامَلة السيدة نيلسون. أعرف أنه تصرُّف غريب. ولهذا لا يجلس معنا. لأنه قد خرج. لماذا؟ ليستعيد شهيته. كيف؟ بالمشي حافي القدمَين في الثلج. يا إلهي! ما أدراني أنا بهذه الأمور! فهذه هي الطريقة التي يتَّبعها الأثرياءُ لاستعادة شهيتهم عندما يفقدونها. يملك مايكل ألفًا وستمائة دولار. إنه من الأغنياء الآن. وقد فقد شهيته. ولذلك فهو يطاردها. فقط افتح الباب وسترى آثار قدمَيه على الثلج. لكنك لن تتمكَّن من العثور على شهيته. فهذه مشكلته الخاصة. وعندما يعثر عليها، سيُمسِك بها ويأتي لتناول وجبة الإفطار».

انفجروا جميعًا في الضحك بصوت عالٍ على هُراء دوتشي. ولم يكَد الصوت يَخفت حتى فُتِح الباب ودخَل دينين. استدار الجميع لينظروا إليه. كان يحمل بندقية. وبينما كانوا ينظرون إليه، رفعها إلى كتِفه وأطلق النار مرتَين. في الطلقة الأولى، هوى رأس دوتشي على المائدة، وانسكبَ قدَحُ قهوته، وسقط شعره الأصفر الكثيف الأشعث في طبق العصيدة أمامه. وهَوَت جبهته على الحافة القريبة من الطبق، وهو ما جعل الطبقَ يرتفع قليلًا بزاويةِ ميلٍ قدْرُها خمس وأربعون درجة. أصابت الطلقة الثانية هاركي وهو يفزُّ ناهضًا من مقعده، فانبطح على وجهه أرضًا، وهو يقول بصوتٍ مُختنِق يتلاشى: «يا إلهي!».

لقد حدَث ما لم يكُن في الحسبان. كان هانس وإديث في حالة ذهول. كانا يجلسان إلى المائدة بجسدَين متخشبَين، يحدِّقان في القاتل بنظراتٍ مصدومة. لم يَرياه بوضوح بسبب دخان البارود، ولم يقطع الصمت سوى صوتِ تساقُط قطرات قهوة دوتشي على الأرض. فتَح دينين خزنة البندقية، وأخرَج الطلقات الفارغة. وأمسكَ البندقية بيدٍ واحدة، ومدَّ يده الأخرى إلى جيبه لإخراج طلقاتٍ جديدة.

فاقت إديث نيلسون من الصدمة وهو يدفع بالطلقات الجديدة داخل بندقيته. كان من الواضح أنه ينوي قتلها هي وهانس. ولمدة ثلاثِ ثوانٍ تقريبًا، كانت في حالة ذهول وشلل بسبب الطريقة الرهيبة غير المعقولة التي وقَع بها هذا الحدث اللامتوقَّع. وبعدئذٍ نهضت لمواجَهة الموقف. وبالفعل واجهته حرفيًّا؛ حيث انقضَّت على القاتل مثل القِطة وأمسكت ربطةَ عنقه بكلتا يدَيها. ونظرًا إلى قوة اندفاع جسدها ترنَّح القاتل بضعَ خطوات إلى الوراء. حاوَل التخلُّص من قبضتها والبندقية لا تزال في يده. لكنه لم ينجح في ذلك؛ لأنها كانت تتشبَّث به مثل القِطة. وألقت بجسدها على جانب واحد، وكادت تطرحه أرضًا وهي لا تزال مُحكِمةً قبضتَها حول عنقه. استعاد توازنه واستدار بسرعة. وبسبب قبضتها المتصلِّبة، دار جسدها معه لدرجةِ أن قدمَيها ارتفعتا عن الأرض، وتأرجَّحت في الهواء وهي متشبِّثة بعنقه. توقَّف الدوران عندما اصطدما بأحد المقاعد، وسقطا على الأرض سقوطًا عنيفًا مدوِّيًا وصلَا على إثره حتى منتصف الغرفة.

كان هانس نيلسون متأخرًا بنصف ثانية عن زوجته في مواجَهة هذا الحدث اللامتوقَّع. إذ كانت عملياته العصبية والعقلية أبطأ منها. ومع أنه كان أكثر فظاظة، فقد استغرق الأمر منه نصف ثانية لإدراك الموقف وتحديده والشروع في مواجهته. وعندما فزَّ هانس ناهضًا من مقعده، كانت هي قد انقضَّت بالفعل نحو دينين وأمسكَت بعنقه. لكنه لم يكُن يتمتَّع برباطة جأشها. فقد كان في حالة من الغضب الأعمى، غضبٍ أهوج. وفي اللحظة التي هبَّ فيها قافزًا من مقعده، انفتحَ فمُه وصدر منه صوتٌ جمَع بين الزئير والخُوار. كان دينين قد بدأ يدور بالفعل عندما لاحَقه هانس عبر الغرفة وهو ما زال يَزأر ويَخور، وأدركه عندما سقط على الأرض.

ألقى هانس بنفسه على الرجل المنبطح أرضًا، وضرَبه بجنون بكلتا قبضتَيه. كانت ضرباته قوية وثقيلة، كأن قبضتَيه قد تحوَّلتا إلى مطرقتَين، وعندما شعرت إديث باستسلام دينين، أفلتَت قبضتها وتدحرجت بعيدًا. كانت تراقبه بأنفاسٍ لاهثة وهي مستلقية على الأرض. استمرَّ وابل الضربات العنيفة. يبدو أن دينين كان لا يبالي بالضربات. فهو لم يتحرَّك حتى من مكانه. ثم اتَّضح لها أنه كان فاقدًا للوعي. صاحت إديث في هانس كي يتوقَّف. وصاحت فيه مرَّة أخرى. لكنه لم يلتفت إلى صوتها. أمسكت بذراعه، لكن تشبُّثها به لم ينتج عنه إلا عرقلة ضرباته فقط.

لم يكُن هناك دافعٌ منطقي وراء ما فعلته بعد ذلك. ولم يكُن ذلك من باب الشفقة، أو الامتثال لأوامر أو نواهيَ دينية. بل كان احترام القانون — ذلك المبدأ الأخلاقي المترسِّخ في نشأتها وبيئتها السابقة — هو ما أجبَرها على التدخل بجسدها حائلًا بين زوجها والقاتل الذي لا حول له ولا قوة. ولم يتوقَّف هانس عما كان يفعله إلا عندما أدرك أنه إنما كان يسدِّد تلك الضربات إلى زوجته. وسمَح لها بدفعه بعيدًا مثلما يُطيع كلبٌ شرِس سيدَه. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فغضبُ هانس ما زال يدفعه للزَّمْجرة مثل الحيوانات، وحاوَل الانقضاض على فريسته عدة مراتٍ ولم يمنعه سوى جسد المرأة الذي تَدخَّل بسرعة.

ظلَّت إديث تدفع زوجها إلى الخلف. لم تَرَه في مثل هذه الحالة من قبل، وكانت خائفة منه أكثر من خوفها من دينين في خِضَم الصراع. لم تصدِّق أن هذا الوحش الهائج هو هانس، وفجأةً أدركَت على نحو صادم أنها تشعر بخوفٍ غريزي من احتمالية أن ينهش يدَها بأسنانه مثل حيوان مفترس. ولعدة ثوانٍ، ظلَّ هانس يتملَّص منها عدة مرات؛ فهو لم يكُن يرغب في إيذائها، لكنه كان مُصرًّا على رغبته في الانقضاض مرَّةً أخرى على فريسته. لكنها صدَّته بكل حزم، حتى استعادَ رُشده واستسلم.

نهَض كِلاهما ببطء. ترنَّح هانس إلى الوراء حتى ارتكز على الحائط، كان وجهه يتلوَّى من الألم، وفي حَلْقه زَمْجرة عميقة متواصلة، بدأت تتلاشى تدريجيًّا مع مرور الوقت حتى اختفت تمامًا. لقد حان وقتُ ردِّ الفعل. وقفت إديث في منتصف الغرفة، تفرك يدَيها، وتتنفَّس بصعوبة، وكان جسدها كله يرتجف بشدة.

كان هانس يحدِّق في الفراغ، لكن عينَي إديث كانتا تتنقَّلان بعصبية من تفصيلة إلى أخرى مما حدث. كان دينين مستلقيًا على الأرض بلا حركة. وبالقرب منه كان المقعد المقلوب، الذي وقَع على الأرض أثناء دورانه المجنون. وكان جسده يغطِّي جزءًا من البندقية التي كانت خزنتها لا تزال مفتوحة. سقطت من يده اليمنى الخرطوشتان اللتان أخفق في وضعهما في البندقية، وظلَّ ممسِكًا بهما حتى غابَ عن وعيه. كان هاركي مستلقيًا على الأرض، ووجهه للأسفل حيث سقط؛ بينما استقرَّت رأس دوتشي على الطاولة، وسقط شعره الأصفر الكثيف الأشعث في طبق العصيدة، وكان الطبق لا يزال مائلًا بزاوية خمس وأربعين درجة. أذهلها هذا الطبق المائل. لماذا لم يسقط؟ كان الأمر سخيفًا. لم يكُن من الطبيعي أن يظل طبق العصيدة مائلًا على الطاولة على هذا النحو بالرغم من كل ما حدث.

نظرت مرَّة أخرى إلى دينين، لكن عينَيها عادتا إلى الطبق المائل. كان الأمر سخيفًا جدًّا! شعرت بدافع هستيري للضحك. ثم لاحظت الصمت، ونسيت الطبق رغبةً منها في حدوثِ شيءٍ ما. كانت قطراتُ القهوة الرتيبة التي تسقط من الطاولة إلى الأرض تُبرِز حِدَّة الصمت. لماذا لم يفعل هانس شيئًا؟ لماذا لم يقُل شيئًا؟ نظرت إليه وكانت على وشك التحدُّث، عندما اكتشفت أن لسانها يرفض أن يؤدي مهمته المعتادة. كان هناك ألمٌ غريب في حَلْقها، وكان فمُها جافًّا. لم يكُن بوسعها إلا أن تنظر إلى هانس، الذي نظَر إليها بدَوْره.

وفجأةً كسَر حاجزَ الصمت صوتٌ رنَّان حاد. صرخت وقفزت عيناها إلى المائدة. لقد سقط الطبق. تنهَّد هانس كمَن يستفيق من النوم. لقد أيقظهما رنين الطبق على واقعهما الجديد. لقد جسَّد الكوخ العالمَ الجديد الذي عليهما من الآن فصاعدًا العيشُ فيه والتحرك في أنحائه. لقد اختفى الكوخ القديم إلى الأبد. وأصبحت للحياة آفاقٌ جديدة تمامًا غير مألوفة. ها هو اللامتوقَّع قد ألقى بسحره على الأشياء، فغيَّر وجهات النظر، وتلاعَب بالقِيم، ومزَج بين الواقع والخيال في بوتقةٍ مربِكة ومحيِّرة.

كان أولُ ما قالته إديث: «يا إلهي، هانس!».

لم يُجِب، بل حدَّق فيها بذعر. تفحَّصت عيناه الغرفةَ ببطء، كأنه كان يستوعب تفاصيلها لأول مرة. ثم ارتدى قبعته واتجه نحو الباب.

سألت إديث وقد تملَّكها خوفٌ شديد: «إلى أين أنت ذاهب؟».

استدار نصفَ استدارة وهو يضع يده على مقبض الباب وأجاب: «إلى الخارج لحَفْر بعض القبور».

قالت وهي تَجُول بنظرها في الغرفة: «لا تتركني يا هانس مع … مع هذا.»

قال: «نضطر أحيانًا إلى حفر القبور.»

اعترضت في يأس: «لكنك لا تعرف عددهم.» وعندما لاحظت تردُّده أضافت: «ثم أنني سأذهب معك وأساعدك.»

عادَ هانس إلى المائدة، وأطفأ الشمعة دون تفكير. قيَّم كل منهما الوضع. كان كلٌّ من هاركي ودوتشي قد لقيا حتفَيهما، فقد ماتا ميتةً شنيعة؛ نظرًا إلى قُرب المسافة التي أُطلِقت منها رصاصةُ البندقية. رفَض هانس الاقتراب من دينين، فاضطرَّت إديث إلى أن تتحقَّق بنفسها.

صاحت إديث: «لا يزال على قيد الحياة».

توجَّه هانس نحو القاتل ونظر إليه.

سألت إديث بعد أن سمعت زوجها يُهمهِم بكلماتٍ غير واضحة: «ماذا قلتَ؟».

جاء الرد: «قلتُ من العار أنه لم يَمُت.»

كانت إديث تنحني فوق جسد القاتل.

أمرها هانس بنبرة غريبة مليئة بالقسوة قائلًا: «اتركيه وشأنه».

نظرت إليه بقلقٍ مفاجئ. فقد التقط البندقية التي أسقَطها دينين وراحَ يحشوها بالطلقات.

نهضت من انحنائها وهي تصيح به قائلة: «ماذا ستفعل؟».

لم يُجِبها هانس، لكنها رأت البندقية تتَّجه نحو كتِفه. أمسكت فوهة البندقية بيدها ودفعتها إلى أعلى.

صاح بصوتٍ أجش: «اتركيني وشأني!».

حاوَل إبعاد السلاح عنها، لكنها اقتربت منه وتشبَّثت به.

صاحت: «هانس! هانس! أَفِقْ! لا تكُن مجنونًا!»

كان ردُّ زوجها: «لقد قتَل دوتشي وهاركي! لذا سأقتله.»

اعترضت قائلة: «لكن هذا خطأ. يوجد قانون.»

ضحك ساخرًا لتشكُّكه في فاعلية القانون في منطقةٍ كهذه، لكنه كرَّر بكل هدوءٍ وإصرار: «لقد قتَل دوتشي وهاركي.»

تجادلت معه طويلًا، ولكن الجدال كان من جانب واحد، فقد اكتفى بترديد جملته «لقد قتَل دوتشي وهاركي» مِرارًا وتكرارًا. لكنها لم تستطِع الهروب مما تعلَّمته في طفولتها، ولا من المبادئ الراسخة بداخلها. كانت متمسِّكة بالقانون، وكان التصرُّف السليم من وجهة نظرها هو تنفيذ القانون. لم تستطِع أن ترى أيَّ نهج قويم آخَر لتتَّبعه. لم يكُن لرغبة هانس في تطبيق القانون بيدَيه ما يبرِّرها تمامًا مثل فِعلة دينين. وأكَّدت أن الخطأ لا يُعالج بخطأ آخَر، وأنه لا سبيلَ إلى معاقبة دينين إلا بطريقة واحدة، وهي القانون الموضوع من قِبَل المجتمع. وأخيرًا، استسلم لها هانس.

وقال: «حسنًا. فَلْتفعلي ما تشائين. ولكن اعلمي أنه سيقضي علينا غدًا أو بعد غد.»

هزَّت رأسها ومدَّت يدها لتأخذ البندقية. كان على وشك أن يناولها إياها، ثم تردَّد.

وتوسَّل إليها قائلًا: «من الأفضل أن تتركيني أطلِق النار عليه.»

هزَّت رأسها مرَّة أخرى، وهمَّ أن يعطيها البندقية، وعندئذٍ انفتح الباب، ودلف رجل هندي إلى الداخل، دونَ أن يَطرقه. وتسلَّلت معه هَبَّة من الرياح والثلج. استدارا وواجهاه، وكان هانس لا يزال يحمل البندقية. أدرك الدخيل ما حدَث دونَ أي اندهاش. وألقى نظرة سريعة على القتلى والجرحى. لم يَظهر على وجهه أيُّ تعبير يدل على المفاجأة، ولا حتى الفضول. كان هاركي مستلقيًا عند قدمَيه، لكنه لم ينتبه إليه. من ناحيته، لم تكُن جثة هاركي موجودة.

قال الرجل الهندي على سبيل التحية: «يا لَها من رياح شديدة. هل أنتم بخير؟ هل كل شيء على ما يُرام؟»

أدرك هانس، الذي كان لا يزال مُمسكًا بالبندقية، من أن الرجل الهندي قد افترض أنه المسئول عن الجثث المشوَّهة. ونظر إلى زوجته مستغيثًا.

قالت بصوتٍ مهزوز وهي تحاول جاهدةً أن تُخفي توتُّرها: «صباح الخير يا نيجوك. لا، الأمور ليست على ما يُرام. فهناك الكثير من المشاكل.»

قال الرجل الهندي: «وداعًا، سأذهب الآن، أنا في عجلة من أمري»، ودونَ أي تسرُّع، وبتَروٍّ شديد ابتعدَ عن بِركة الدم الموجودة على الأرض، وفتحَ الباب وخرج.

نظر هانس وإديث أحدهما إلى الآخَر.

قال هانس لاهثًا: «إنه يعتقد أننا قتلناهم، أو بالأحرى أنني قتلتهم.»

ظلت إديث صامتة لبرهة. ثم قالت بإيجاز وبطريقة عملية:

«دَعْ عنك ما يعتقده. سنهتم بذلك لاحقًا. لدينا الآن قبران علينا أن نحفرهما. ولكن قبل كل شيء، علينا أن نقيِّد دينين حتى لا يتمكَّن من الهرب.»

رفضَ هانس أن يلمس دينين، لكن إديث قيَّدت يدَيه وقدمَيه بإحكام. ثم خرجت هي وهانس حيث كان الجليد يغطي كلَّ شيء. كانت الأرض متجمِّدة. ولم يكُن من السهل حفرها بالمِعوَل. ولذا جمعا الأخشاب أولًا، ثم كشطا الثلج عن الأرض، وأشعلا النار على سطحها المتجمِّد. ولمَّا ظلت النار مشتعلة لمدة ساعة، ذابت عدة بوصات من الأرض. جرفا الجزءَ الذائب، ثم أشعلا نارًا جديدة. تمكَّنا من حفر الأرض بمعدَّل بوصتَين أو ثلاثِ بوصاتٍ في الساعة.

لقد كان عملًا شاقًّا ومريرًا. لم يسمح الثلج المتساقط للنار بالاحتراق جيدًا، بينما اخترقت الرياح ملابسهما وبرَّدت جسدَيهما. لم يتحدثا إلا قليلًا. وتداخلت الرياح مع الكلام، فجعلته صعبًا. وبعيدًا عن التساؤل عما يمكِن أن يكون دافع دينين، ظلا صامتَين، مقهورَين من فظاعة المأساة. وفي الساعة الواحدة ظهرًا، أخبرها هانس، وهو ينظر نحو الكوخ، أنه جائع.

أجابته إديث قائلة: «لا، ليس الآن يا هانس. لن أستطيع العودة وحدي إلى الكوخ وهو بهذا الوضع، وطهي وجبة.»

في الساعة الثانية ظهرًا، تطوَّع هانس بالذهاب معها؛ لكنها أصرَّت على إكمال عمله، وفي تمام الرابعة اكتمل حفر القبرَين. كانا ضحلَين، ولا يزيد عمقهما على قدمَين، لكنهما يؤدِّيان الغرض. أسدل الليل أستاره. وأحضر هانس الزلَّاجة، وجرَّ الرجلَين الميتَين عبر الظلامِ والعاصفةِ إلى قبرَيهما المتجمِّدَين. كان موكب الجنازة خاليًا من أي مراسم. وغرزَت الزلَّاجة في الثلج المنجرف، وبات من الصعب سحبها. لم يكُن هانس وإديث قد أكلا شيئًا منذ البارحة، وشعرا بالضَّعف والوهن بسبب الجوع والإرهاق. ولم تكُن لديهما القوة لمقاوَمة الرياح، وفي بعض الأحيان كانت هبَّات الرياح تُطيح بهما. انقلبت الزلَّاجة عدة مرات، واضطرَّا إلى إعادة تحميلها بحمولتها الكئيبة. كانت آخِر مائة قدم للوصول إلى القبرَين عبارة عن منحدر شديد الانحدار، وقد زحفاها على أيديهما وأرجلهما، مثل الكلاب التي تجر الزلَّاجات، مستخدَمين أيديهما لدفع الثلوج. ومع ذلك، أدى ثِقَل الزلَّاجة إلى جرِّهما إلى الخلف مرتَين، فانزلق الأحياء مع الأموات وسقطوا جميعًا أسفل التل، وتشابكت حبال السحب مع الزلَّاجة تشابكًا فظيعًا.

قال هانس بعدما وضَع الجثتَين في قبرَيهما: «غدًا سأضع شاهدَين يحملان اسميهما.»

أخذت إديث تنتحب وتَجهش بالبكاء. ولم تستطِع أن تقول سوى بِضع جُمل متقطعة لتشييع الجنازة، واتَّكأت على زوجها في طريق عودتهما إلى الكوخ.

استعادَ دينين وعيه. وتدحرج مرارًا وتكرارًا على الأرض في محاوَلة عبثية لتحرير نفسه. نظَر إلى هانس وإديث بعينَين برَّاقتَين، لكنه لم يحاول التحدُّث قط. ظل هانس يأبى لمس القاتل، ونظر إلى إديث متجهمًا وهي تسحبه على الأرض إلى غرفة نوم الرجال. وحاوَلت قدر استطاعتها رفْعَه من الأرض إلى سريره، لكنها لم تفلح في ذلك.

ناشَدها هانس للمرة الأخيرة قائلًا: «من الأفضل أن تتركيني أُطلِق النار عليه، حينها لن نواجِه أيَّ متاعب أخرى.»

هزَّت إديث رأسَها معرِبةً عن رفضها، وانحنت مرَّة أخرى لإتمام مهمتها. ولدهشتها ارتفع الجسد بسهولة، وعرفت أن هانس قد تراجع عن قراره وبدأ يساعدها. وبعدها، حان وقت تنظيف المطبخ. كانت الأرضية لا تزال ملطَّخة بآثار المأساة، إلى أن كشط هانس سطح الخشب الملطَّخ واستخدم النشارة لإشعال النار في الموقد.

مرَّت الأيام. كان هناك الكثير من الظلام والصمت، الذي لم يكسره سوى العواصف والرعد على شاطئ الأمواج المتجمدة. كان هانس يطيع كل أوامر إديث. واختفت كل مبادراته الرائعة. لقد اختارت أن تتعامل مع دينين على طريقتها، ولذلك ترك الأمر برمته بين يدَيها.

كان القاتل يمثِّل خطرًا لا ينتهي. وطوال الوقت كانت هناك احتماليةُ أن يحرِّر نفسه من قيوده؛ ولذا كانا مُجبرَين على حراسته ليلَ نهار. ودائمًا ما كان يجلس أحدهما بجانبه، ممسِكًا بالبندقية المحشوَّة. في البداية، حاولت إديث مراقبته لمدة ثماني ساعات، لكن الضغط المستمر كان كبيرًا جدًّا، وبعد ذلك تناوَبت المراقَبة مع هانس كلَّ أربع ساعات. ولمَّا كان عليهما أن يخلدا إلى النوم، ونظرًا إلى استمرار المراقبة طوال الليل، فقد قضيا وقت استيقاظهما بالكامل في مراقبة دينين. ولذلك لم يتبقَّ لديهما إلا القليل من الوقت لإعداد وجبات الطعام وإحضار الحطب.

منذ زيارة نيجوك غير الموفَّقة، تجنَّب الهنودُ الكوخ. وأرسلت إديث إلى أكواخهم هانس ليُقنِعهم بأخذ دينين إلى الساحل لاصطحابه في زورق إلى أقرب مستوطنة بيضاء أو محطة تجارية، ولكن باءت المهمة بالفشل. حينها ذهبت إديث بنفسها وأجرت مقابَلة مع نيجوك. وباعتباره زعيمَ القرية الصغيرة، كان يدرك تمامًا مسئوليته، وقد أوضَح سياسته بدقَّة في بِضع كلمات.

وقال: «إنها مشكلة بين أصحاب البشرة البيضاء، وليست مشكلة بين السيواشيين. لكن لو ساعدَتكِ جماعتي، فستصبح مشكلة السيواشيين أيضًا. وعندما تجتمع مشاكل أصحاب البشرة البيضاء مع مشاكل السيواشيين، ستنجم عن ذلك مشكلة كبيرة لا حدَّ لها، ولا يمكِن فهمها. إن المشاكل لا تأتي بالخير. وجماعتي لم ترتكب أيَّ خطأ. فلماذا يساعدونكِ ويواجهون المتاعب؟»

عادت إديث نيلسون إلى الكوخ المرعِب لتتولى نوبات المراقَبة التي لا تنتهي لمدة أربع ساعات متجددة. وفي بعض الأحيان، عندما يحين دورها وتجلس بجوار السجين المحتجَز، وهي تحتضن البندقية المحشوَّة، كانت تغلِق عينَيها ويغلبها النعاس. كانت دائمًا تستيقظ مفزوعة، وتلتقط البندقية وتلقي نظرة سريعة عليه. كانت هذه صدمات عصبية واضحة، ولم يكُن تأثيرها جيدًا عليها. لقد كانت ناجمة عن خوفها من هذا الرجل، لدرجةِ أنها حتى لو كانت مستيقظة تمامًا، فإنها لا تستطيع منعَ نفسها من القفز من مكانها ومحاوَلة التقاط البندقية بسرعة إذا تحرَّك تحت أغطية الفراش.

كانت على شفا الإصابة بانهيار عصبي، وكانت تعرف ذلك. في البداية شعرت بارتعاش في مقلتَيها، وهو ما اضطرَّها إلى إغلاق عينَيها التماسًا للراحة. وبعد قليل اعترَت جفنَيها رعشةٌ عصبية لم تستطِع السيطرة عليها. ومما زاد التوتر أنها لم تستطع نسيان المأساة. ظلَّت مرعوبة كما كانت في صباح اليوم الأول عندما اقتحم اللامتوقَّع بابَ الكوخ وأمسكَ بزمام الأمور في قبضته. وأثناء رعايتها اليومية للمحتجَز، كانت تجبِر نفسها على تحمُّل ما لا يُطاق بالكَزِّ على أسنانها وتجهيز نفسها جسديًّا ومعنويًّا.

كان تأثير الوضع على هانس مختلفًا. فقد أصبح مهووسًا بفكرة أن من واجبه قتل دينين؛ وفي كل مرة كان يخدم الرجل المقيَّد أو يراقبه، كانت إديث تخاف من أن يضيف هانس قتيلًا آخَر إلى سجل الكوخ. كان دائمًا يلعن دينين بفظاظة ويعامله بقسوة. حاول هانس إخفاء هوسه بالقتل، وكان يقول لزوجته: «عما قريب ستطلبين مني قتله، وحينها لن أستطيع فعل ذلك. إذ سيثير هذا الفعل اشمئزازي.» ولكن لأكثر من مرَّة، عندما كان يحين وقت مناوَبتها في المراقبة، كانت تتسلَّل إلى الغرفة لتجد الرجلَين يحدِّق أحدهما في الآخَر بشراسة، وكأنهما حيوانان بريَّان، وترتسم على وجه هانس شهوة القتل، وتعلو وجه دينين شراسةُ جُرذٍ محاصَر ووحشيته. كانت تصيح قائلة: «هانس! أفِقْ!» وكان يستعيد رشده، مذهولًا وخَجِلًا، لكن دونَ ذرَّة ندم.

ومن ثَمَّ أصبح هانس عاملًا آخَر في المشكلة التي ألقى بها هذا الحادث اللامتوقَّع إلى إديث نيلسون لحلِّها. في البداية كان الأمر يتعلَّق فقط بتحديد أنسب طريقة في التعامل مع دينين، وكانت أنسب طريقة، كما تصوَّرتها، هي احتجازه حتى يتمكَّنا من تسليمه للمُثول أمام المحكمة في محاكَمة عادلة. لكن هانس أصبح جزءًا من المشكلة الآن، ورأت أن سلامة عقله وخلاصه كانا في خطر. ولم يَمضِ وقت طويل حتى اكتشفت أن قوتها وقدرتها على التحمل أصبحت أيضًا جزءًا من المشكلة. كانت تنهار تحت كل هذه الضغوط. وأُصيبت ذراعها اليسرى برعشات وتشنُّجات لا إرادية. كان طعامها يسقط عن ملعقتها، ولم تَعُد تستطيع الاعتماد على ذراعها المصابة. تَراءى إليها أنها أُصيبت بحالة أشبه باضطراب رقصة القديس فيتوس، وخشيت من تفاقُم أعراضه وتفشِّيه. ماذا لو أنها انهارت؟ كان يزيد من رعبها تصوُّرها المستقبلَ المحتمَل، عندما يمكث دينين وهانس وحدهما في الكوخ.

بعد اليوم الثالث، بدأ دينين يتحدَّث. كان سؤاله الأول هو: «ماذا ستفعلان بي؟» وكان يكرِّر هذا السؤال يوميًّا وعدة مرَّات في اليوم. ودائمًا ما كانت إديث تجيب بأن التعامل معه سيكون وفقًا للقانون بالتأكيد. وكانت هي بدورها تطرح عليه سؤالًا يوميًّا: «لماذا فعلت ذلك؟» لكنه لم يُجِبها قطُّ. كما أنه كان يستقبل السؤال بنوباتٍ من الغضب؛ إذ كان يستشيط غضبًا ويشد وَثاقه الذي كان يقيِّده، ويتوعَّدها بما سيفعله عندما يتحرَّر من قيوده، ويؤكِّد لها أنه سيتمكَّن من فعل ذلك عاجلًا أو آجلًا. وفي هذه الأوقات، كانت تضع إصبعها على زِناد البندقية، استعدادًا لإطلاق النار عليه إذا ما تمكَّن من التحرُّر من قيوده، وكانت ترتجف وتشعر بالدُّوَار ويخفق قلبها من شدة التوتر والصدمة.

ولكن مع مرور الوقت، أصبح دينين مُطيعًا أكثر من ذي قبل. وبدا لها أنه قد سَئم من وضعية الاستلقاء التي لا تتغيَّر. وبدأ يتوسَّل إليها ويناشدها بإطلاق سراحه. وقطع على نفسه وعودًا جامحة. وقال إنه لن يُلحِق بهما أي أذًى. وسيتوجَّه بنفسه إلى الساحل ويسلِّم نفسه إلى المسئولين عن تنفيذ القانون. وسيعطيهما نصيبه من الذهب. وسيذهب بعيدًا إلى أقاصي المناطق البرية، ولن يظهر مرَّة أخرى في الحضَر. وأضاف أنه سينتحر إذا أطلقت سراحه. وعادةً ما كانت توسُّلاته تبلغ ذُروتها في شكل هذيان لا إرادي، حتى كان يبدو لها أنه يمرُّ بنوبة غضب؛ لكنها كانت تهز رأسها دائمًا وتحرمه من الحرية التي كان مستعدًّا لأن يضحي بنفسه من أجلها.

ومع مرور الأسابيع، أصبح أكثر امتثالًا. ونتيجةً لذلك تزايَد شعوره بالضجر. كان يتمتم وهو يحرك رأسه إلى الأمام والخلف على الوسادة مثل طفل مشاكس: «لقد سئمتُ هذا الوضع، سئمتُه.» وبعد فترة وجيزة، بدأ يتوسَّل طلبًا للموت؛ توسَّل إليها أن تقتله، وتوسَّل إلى هانس أن يضع حدًّا لمعاناته حتى يُمكِنه على الأقل أن يرقد بارتياح.

وسرعان ما أصبح الوضع مستحيلًا. كان توتُّر إديث يتزايد، وكانت تعلم أنها قد تنهار في أي وقت. لم تتمكَّن حتى من الحصول على القدر الكافي من الراحة؛ إذ كان شبح الخوف يطاردها خشيةَ أن يستسلم هانس إلى هوَسه ويقتل دينين أثناء نومها. وبالرغم من حلول شهر يناير، فلم يكُن من الممكِن انطلاقُ أيِّ مركب شراعي تجاري في الخليج إلا بعد مرور أشهر. علاوةً على ذلك، لم يتوقَّعا قضاء الشتاء في الكوخ، وكان الطعام يَنفد؛ ولم يكُن في وسع هانس أن يوفر مزيدًا من المُؤَن عن طريق الصيد. فلم يكُن في وسعهما أن يبرحا الكوخ لضرورةِ أن يحرسا سجينَهما.

كانت تعلم أنه لا بد من القيام بشيءٍ ما. ولذا أجبرَت نفسها على إعادة النظر في المشكلة. لم تستطع التخلُّص من إرث نشأتها؛ احترامِها للقانون الذي كان يسري في دمها ويترسَّخ داخلها. كانت تَعلم أنه أيًّا كان ما ستفعله فلا بدَّ أن يتوافق مع القانون، وخلال ساعات المراقَبة الطويلة، والبندقية على ركبتَيها، والقاتل الضَّجِر بجانبها، والعواصف تدوِّي بالخارج، فكَّرت مليًّا في كيفية تطوُّر القانون داخل المجتمعات. وتوصَّلت إلى أن القانون ما هو إلا تجسيدٌ لحُكم أي مجموعة من الناس وإرادتهم. ولا يهمُّ عدد أفراد هذه المجموعة. وعلَّلت ذلك بأن هناك مجموعات صغيرة، مثل سويسرا، ومجموعات كبيرة مثل الولايات المتحدة. كما استدركت أنه لا يهم مدى صِغَر هذه المجموعة وقِلَّة أفرادها. فقد يكون هناك عشرة آلاف شخص فقط في بلدٍ ما، ولكن حُكْمهم الجماعي وإرادتهم سيمثِّلان قانونَ ذلك البلد. وهنا سألت نفسها: ما المانع إذَن أن يتمكَّن ألف شخص من تشكيل مثل هذه المجموعة؟ وماذا عن مائة؟ أو خمسين؟ أو خمسة؟ أو حتى اثنَين؟

كانت إديث خائفة من النتيجة التي توصَّلت إليها، وتحدَّثت عن الأمر مع هانس. في البداية لم يتمكَّن من فَهْمها، لكنه بعدما استوعب الأمر، أمدَّها بأدلة مقنِعة. وتحدَّث عن اجتماعات المنقِّبين، حيث يجتمع جميع رجال المنطقة لسَنِّ القوانين التي عليهم الالتزام بها. وقال إنه قد يكون هناك عشرة رجال أو خمسة عشر رجلًا فقط، لكن إرادة الأغلبية تصبح قانونًا للعشرة أو للخمسة عشر، ومَن يخالف تلك الإرادة يُعاقَب.

أخيرًا عثرت إديث على طريقةٍ لحل الأمور. يجب شنق دينين. وافَقها هانس. وهكذا شكَّلا معًا أغلبية هذه المجموعة الصغيرة. وقضَت إرادة الأغلبية بشنق دينين. ولتنفيذ هذا الحُكم، سعت إديث جاهِدةً إلى مُراعاة الإجراءات العُرفيَّة، لكن المجموعة كانت صغيرة جدًّا لدرجةِ أنه كان عليهما أن يلعبا دور الشهود، والمحلَّفين، والقُضاة، ومنفِّذي الحكم أيضًا. اتَّهمت مايكل دينين رسميًّا بقتل دوتشي وهاركي، واستلقى السجين في فراشه واستمع إلى شهادة هانس أولًا، ثم إديث. رفَض الإقرار بجُرمه أو إنكاره، ولَزِم الصمتَ عندما سألته إذا كان لديه ما يقوله دفاعًا عن نفسه. وأعلنت هي وهانس، دون مغادَرة مقعدَيهما، قرارَ هيئة المحلَّفين بالإدانة. ثم، بصفتها قاضية، أصدرت الحكم. ارتعش صوتها، وارتعش جَفْناها، واهتزَّت ذراعها اليسرى، لكنها تمكَّنت من النطق به.

«مايكل دينين، في غضون ثلاثة أيام ستُعدَم شنقًا حتى الموت.»

هكذا كان الحُكم. تنفَّس الرجل الصُّعَداء دون وعي، ثم ضحك في تحدٍّ، وقال: «عزائي الوحيد أن الفراش اللعين لن يؤلمني بعد الآن.»

مع صدور الحكم، بدا أن الجميع يشعر بالارتياح. ولا سيَّما دينين. إذ تحوَّل سلوكه العابس المقاوِم إلى سلوك اجتماعي وتجاذَب أطراف الحديث مع آسِرَيه، مضيفًا بعضًا من ملامح حسِّه الفكاهي القديم. وكان يشعر بارتياح كبير عندما كانت إديث تقرأ له من الكتاب المقدَّس. كانت تقرأ من العهد الجديد، وأبدى اهتمامًا كبيرًا بقصة الابن الضال واللص المُعلَّق على الصليب.

في اليوم السابق للموعد المحدَّد للإعدام، عندما سألت إديث سؤالها المعتاد: «لماذا فعلتَ ذلك؟» أجابَ دينين: «الأمر بسيط جدًّا. كنت أفكِّر …»

لكنها أسكتَته فجأةً، وطلبت منه الانتظار، وأسرعت إلى سرير هانس كي تُوقِظه. كان في فترة راحته، واستيقظ من نومه وهو يفرك عينَيه ويتذمَّر.

قالت له: «اذهب وأحضِر نيجوك وهنديًّا آخَر. مايكل سيعترف ولا بدَّ من حضورهما. خذ البندقية معك وهدِّدهما بها إذا اضطررتَ لذلك.»

وبعد نصف ساعة، دخل نيجوك وعمُّه هاديكوان غرفة الإعدام. جاءا على مَضَض، وكان هانس يرشدهما حاملًا البندقية.

قالت إديث: «نيجوك، لن تواجِه أنت أو جماعتك أيَّ مشكلة. كل ما عليك هو الجلوس والاستماع والفَهم.»

وهكذا اعترف مايكل دينين، المحكوم عليه بالإعدام، علانيةً بجريمته. وأثناء حديثه، دوَّنت إديث قصته، بينما كان الهنديان يستمعان، وكان هانس يحرس الباب خشيةَ فرار الشاهِدَين.

أوضح دينين أنه لم يَعُد إلى موطنه القديم منذ خمسة عشر عامًا، وكان ينوي دائمًا العودة وفي جَعْبته الكثير من المال ليجعل والدته العجوز تستريح بقية عمرها.

ثم أكمل متسائلًا: «لكن أنَّى لي أن أفعل ذلك بألف وستمائة دولار؟ ما كنت أريده هو أن أحصل على الذهب كله، الثمانية آلاف كاملة. حينها كنت سأتمكَّن من العودة بأبهى صورة. وفكَّرتُ في أن أسهلَ سبيلٍ إلى ذلك هو قتل الجميع، والإبلاغ في سكاجواي عن ارتكاب رجل هندي هذه الجريمة، ثم الهروب إلى أيرلندا. وهكذا بدأتُ بقتل الجميع، ولكن كما كان يقول هاركي، لقد قضمتُ أكثر مما أستطيع مضْغَه، وأقدمتُ على ما لا طاقةَ لي بتحمُّله. هذا هو اعترافي. لقد امتثلتُ لأوامر الشيطان، والآن، بمشيئة الرب، سأمتثل لأمر الله.»

قالت إديث محدِّثةً الرجلَين الهنديَّين: «نيجوك وهاديكوان، لقد سمعتما كلام الرجل الأبيض. وقد دوَّنتُ كلماته هنا في هذه الورقة، وعليكما أن تضعا علامة على الورقة، حتى يعرف أصحاب البشرة البيضاء الذين سيأتون بعد ذلك أنكما سمعتما شهادته.»

وضعَ كلٌّ من السيواشيَّين صليبًا مقابل توقيعه، وتلقَّيا استدعاءً للحضور في الغد مع جميع أفراد عشيرتهما لحضور بقية الإجراءات، وسُمِح لهما بالذهاب.

فُكَّ وَثاق يدَي دينين حتى يتمكَّن من التوقيع على الوثيقة. ثم ساد الصمت في الغرفة. كان هانس قلِقًا، وشعرت إديث بعدم الراحة. استلقى دينين على ظهره، محدِّقًا إلى أعلى في السقف الذي تنتشر الطحالب بين شقوقه.

ثم تمتم قائلًا: «والآن سأمتثل لأمر الرب.» وأدار رأسه نحو إديث. وقال: «اقرئي لي من الكتاب». ثم أضافَ بلمحة من المرح: «ربما سيساعدني ذلك على نسيان وطأة الاستلقاء على هذا الفراش.»

كان طقس يوم الإعدام صافيًا وباردًا. انخفضت درجة الحرارة إلى خمسٍ وعشرين درجة تحت الصفر، وهبَّت رياح باردة دفعت الصقيع إلى اختراق الملابس واللحم والنفاذ إلى العظام. لأول مرة منذ عدة أسابيع، وقَف دينين على قدمَيه. كانت عضلاته خاملة لفترة طويلة، ومن ثَمَّ لم يَقوَ على الوقوف منتصبًا، وبالكاد استطاع الوقوف على قدمَيه.

تمايل إلى الأمام وإلى الخلف، وترنَّح، واستند على إديث بيدَيه المقيَّدتَين.

ضحكَ بوهنٍ وقال: «يا إلهي، أشعرُ بالدُّوَار.»

وبعد لحظة قال: «إنه لمن دواعي سروري أن الأمر قد انتهى. أعلم أن ذلك الفراش اللعين كان سيمثِّل موتي.»

عندما وضعت إديث قبعته المصنوعة من الفرو على رأسه وشرعت في تغطية أذنَيه، ضحك وقال:

«لماذا تفعلين ذلك؟»

أجابت: «البرد قارس في الخارج.»

قال: «لكن في غضون عشر دقائق، لن يشكو مايكل دينين المسكين من تجمُّد أذنَيه.»

كانت قد أعدَّت نفسها لتحمُّل هذا الجزء الأخير، لكن تعليقه أفقَدَها رباطة جأشها. حتى الآن، بدا كل شيء أشبه بالوهم، كأنها تحلم، لكن الحقيقة القاسية لما قاله أيقظَتها على حقيقةِ ما كان يحدث. لم تَخفَ معاناتُها على الرجل الأيرلندي، بل لاحظ ما اعتراها.

وقال بأسف: «أعتذر عن إزعاجك بكلامي الأحمق. لا أقصد شيئًا بذلك. إنه يوم عظيم في حياة مايكل دينين، وهو في غاية السعادة.»

وبدأ يصفِّر بمرح، لكن سرعان ما شعر بالحزن وتوقَّف.

قال بأسًى: «أتمنَّى لو كان هناك كاهن»؛ ثم أضاف بسرعة: «لكن مايكل دينين مُحنَّك كبير، لا تَفرق معه هذه الكماليات.»

لقد كان ضعيفًا للغاية ولا يَقوى على المشي، لدرجةِ أنه عندما فُتح الباب ودلف إلى الخارج، كادت الرياح تَطرحه أرضًا. سار كلٌّ من إديث وهانس بجواره ليَسنداه، بينما كان يُلقي النكات محاولًا أن يُبقيهما مبتهجَين، ولم يتوقَّف عن ذلك إلا لترتيب إرسال حصته من الذهب إلى والدته في أيرلندا.

تسلَّقوا تلة صغيرة وخرجوا إلى مكان مفتوح بين الأشجار. كان هناك برميلٌ موضوع فوق الثلج، تجمَّع حوله في حشدٍ مَهيب نيجوك وهاديكوان وجميع السيواشيين، حتى الأطفال والكلاب، ليرَوا كيفية تطبيق قانون الرجل الأبيض. وبالجوار كان هناك قبرٌ مفتوح حفَره هانس في الأرض المتجمِّدة.

ألقى دينين نظرة عملية متفحِّصة على الاستعدادات، ملاحظًا القبر، والبرميل، وسُمْك الحبل، وقُطر فرع الشجرة الذي مرَّ الحبل من فوقه.

وقال: «لا شكَّ أنه لم يكُن بوسعي فِعل ما هو أفضل من ذلك من أجلك يا هانس.»

ضحك بصوت عالٍ على مزحته، لكن وجه هانس كان جامدًا يعلوه رعب متجهِّم لا يمكِن أن يكسره شيء أقل من نهاية العالَم. كان هانس يشعر بأنه ليس على ما يُرام. لم يكُن يدرك مدى فداحة مهمة إنهاء حياة زميله. من ناحية أخرى، كانت إديث قد أدركت الوضع؛ لكن إدراكها لم يجعل المهمة أسهل. سيطرت عليها شكوك بشأن ما إذا كانت قادرة على الحفاظ على رباطة جأشها لفترةٍ كافية لإنهاء هذه المهمة. راوَدتها دوافعُ متواصلة للصُّراخ، والصياح، والسقوط على الثلج، ووضع يدَيها على عينَيها والالتفاف والفرار إلى الغابة، إلى أي مكان بعيد. بذلت روحها جهدًا عظيمًا لكي تتمكَّن من الوقوف منتصبةً والمُضِي قُدمًا وتنفيذ ما كان عليها فعله. وفي خِضمِّ ذلك كله، كانت ممتنَّة لدينين على الطريقة التي ساعدها بها.

قال محدِّثًا هانس: «هلَّا ساعدتَني»، وبالفعل تمكَّن بمساعدته من الصعود فوق البرميل.

انحنى حتى تتمكَّن إديث من وضع الحبل حول رقبته. ثم وقف منتصبًا بينما سحَب هانس الحبل وجعله مشدودًا على فرع الشجرة.

سألت إديث بصوتٍ واضح يرتجف رغمًا عنها: «مايكل دينين، هل هناك ما تودُّ قوله؟»

حرَّك دينين قدمَيه على البرميل، ونظر إلى أسفل بخجَلٍ وكأنه رجل يُلقي خطابًا لأول مرة، ثم تنحنح.

وقال: «أنا سعيد لانتهاء هذا الأمر. لقد أحسنتِ معامَلتي، وأنا أشكركِ من كل قلبي على لطفكِ.»

قالت: «أرجو أن يتقبَّل الله توبتَك، أيها المُذنِب التائب.»

أجاب بصوته الأجشِّ العميق الذي كان متناقضًا مع صوتها الضعيف: «أرجو أن يتقبَّل الله توبتي، توبةَ المُذنِب التائب».

صاحت، وبدا صوتها يائسًا: «وداعًا يا مايكل».

دفعت البرميل بكل ما أُوتيت من قوة، لكنه لم ينقلب.

صاحت بصوتٍ ضعيف: «هانس! أسرِع! ساعِدني!».

شعرت أن البرميل يُقاوِمها وأن ما تبقَّى من قوتها يتلاشى. هُرِع هانس نحوَها، وأزاح البرميل من تحت مايكل دينين.

أدارت ظهرها، ووضعت أصابعها في أُذنَيها. ثم بدأت تضحك بحدَّة، ضحكة رنَّانة قاسية؛ وصُدِم هانس كما لم يُصدَم طَوال المأساة بأكملها. لقد انهارت إديث نيلسون أخيرًا. حتى وهي في هذه الحالة الهستيرية، كانت مدرِكةً لما يحدث، وكانت سعيدة لأنها تمكَّنت من الصمود حتى الانتهاء من تنفيذ المهمة. مشيت مترنِّحةً باتجاه هانس.

واستطاعت أن تقول بكل وضوح: «خُذني إلى الكوخ يا هانس.»

وأضافت: «دَعْني أستريح. فقط دَعْني أستريح، وأستريح، وأستريح.»

وانطلقت عبر الثلج يسندها هانس الذي لفَّ ذراعه حولها لتوجيه خطواتها العاجزة. لكن الهنود ظلوا يراقبون بجِديَّة ما كان في وسع قانون الرجل الأبيض أن يفعله — ذلك القانون الذي يمكِنه أن يقضي بإعدام المرء شنقًا ليتأرجح هكذا في الهواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤