الفصل الأول
حين كان الزمان مثل الموسيقى الحالمة الهادئة، وكان الناس فيه أنغامًا ساجية حالمة، ذلك الزمان الذي لم نَرَهُ نحن وإنما هو بالنسبة إلينا رواياتٌ عن الآباء تلقَّفوها عن الأجداد فأصبحنا ولا نعرف عنه إلا مباهجه ومتعته، الجلسة الهادئة المليئة بالسعادة والضحك والهناء؛ فالأجيال جميعًا تُحب أن تنظر إلى أمس الغارب، وتكره الحاضر وما تشهده فيه من صراعٍ، وتخشى المستقبل الذي تُطل عليها بواكيره مُكشِّرةَ الأنياب رهيبة السمات.
ذلك الزمان البعيد عنا هو أحب الأزمان إلينا لأننا لم نشهده، ولا نستطيع أن نعرف منه إلا ما حلا للأجداد أن يَرْووه لأبنائهم الذين هم آباؤنا، ونقله إلينا الآباء سعداءَ بما ينقلون مقارنين دائمًا بين الخير الذي كان يشيع في جوانبه، والشر الذي يفشو في الزمان الذي يعيشون فيه. وهكذا أصبح شأننا نحن أيضًا. لا يختلف جيلنا الحاضر عن أجيالنا السابقة، فأصبحنا ساخطين تَحِن نفوسنا إلى هذه الملاوة من الزمن التي كنا فيها بلا مسئولية وبلا صراع، وكان آباؤنا يحملون عنا العبء جميعًا ونحن نتصور — كما يتصور أبناؤنا اليوم — أن عليهم أن يحملوا العبء، وعلينا نحن أن نسعد وعليهم هم أن يُحبونا، وعلينا نحن أن نحترمهم فقط ثم لا نصنع شيئًا من بعدُ.
في ذلك الزمان البعيد بدأت أسرة وهدان تتكوَّن، وكان رأس الأُسْرة طفلًا بريئًا في الملعب يلهو مع أترابه من الأطفال، لا فارق ثَمَّةَ بين طفل وطفلة، ولا بين قادرٍ بسط الله الرزق لأبيه، وبين مُعسِرٍ قَدرَ الله سبحانه — لحكمة لا يعلمها إلا هو — الرزق على ذويه. في ذلك الزمان كان وهدان يُحب نبوية ذلك الحب الطفل الطيب الذي لا يعني عند أيٍّ منهما إلا خفقةً في القلب، وفرحةً عند اللقاء، وشوقًا عند التباعُد.
وحين شَبَّ كلاهما عن الطفولة إلى الصبا القريب من الفُتوَّة احتجبَت نبوية ولم تصبح الحياة كلها لعبًا عند وهدان، بل كان يحلو له أن يتشبَّه بالرجال، ويقف في الجُرن، ويرقُب النَّوْرَج أو يركبه، أو يقف في الغيط يجمع القطن أو يرقُب من يجمعونه. وما كان أبوه غنيًّا، ولم يكن أيضًا مُعسِرًا، وإنما هي أربعة أفدنةٍ تنأى بأبيه عن الأُجراء لتضعَه في مَصافِّ الملاك.
ولكن الحقيقة مع ذلك تبقى كما هي أربعةُ فدادين.
كانت الشمس ساخطة على الأرض، تكويها بشُواظٍ لاهبٍ من النار، وكان النَّوْرَج يدور وقد أوشك هو الآخر أن ينبجس العرقُ من خشبه أو من عجلاته الصلبة الحادة، وهي تمر في دائرةٍ مُفرغة على عيدان القمح في ملالةٍ وضيقٍ يجُرها الثور الكبير وقد أوشك أن يتهاوى من شدة الحر. وكان وهدان يعتلي صَهْوة الدكَّة الخشبية التي يجلس إليها من يسوق الثور، وبيده سوطٌ مفتول من لحاء أشجار التيل الذي يزرعونه حول حقول القطن ليرُدَّ عنها عادية الأتربة وعُدوان الحيوان.
وكان يدري أن الجُرن الذي يتلبَّس فيه ملابس الرجال ذوي الأعمال هو الطريق الطبيعي لمسير نبوية. وكانت هي أيضًا تعلم ذلك؛ فكانت تظل في هذا اللهيب من الحر رائحةً جائية تتظاهر بأنها تؤدِّي مطالب المنزل، وعَلِم الله، وأحسب أن وهدان أيضًا كان يعلم، أنها لا تكثر من المرور إلا لتلتقي نظراتها بنظراته، وتطفو إلى شفاه كلٍّ منهما تلك الابتسامة الوادعة الحنون، التي يخفق لها القلب ذلك الخفقَ الدءوب الجديد المرتفعَ الوجيب المتخافتَ الصوت؛ حذَر أن يطَّلع عليه من شهود اللقاء أحد.
كانت حياةُ وهدان منذ البواكير الأُولى من سنوات عمره حياةً جادَّة حازمة كلُّها عمل. وربما كانت سنوات الكُتَّاب التي تتَّسِم بعنف المعلم، وصعوبة العلم بالنسبة لوهدان هي أندى هذه السنوات وأخفها وطأةً عليه لو كان من هؤلاء الذين يرون في العمل جهدًا وشقاء، ولكنه كان من الذين يُحبون أن يعملوا، ولا يُقوِّمون العمل إن كان ممتعًا أو غير ممتع، وإنما هو عملٌ ولا بد أن يُؤدَّى فهو يُؤدِّيه كما يتنفَّس الهواء ويَطعَم الطعام.
ولم يكن جلوسه على النورج في هذه السن الباكرة لعبًا شأن رفاقه من الصبية؛ فما هي إلا أيامٌ قليلة ركب فيها النَّورَج لهوًا ومراحًا ثم سحب أبوه المُكلَّفَ بإدارة النَّورَج، ووجَّهَه إلى أعمالٍ أخرى وترك النَّورَج بكلِّ ما يتصل به من أعمالٍ عُهدةً في ذمة وهدان؛ فهو الذي يجمع أكوام التبن والقمح، ويُمِد النورج بزاده الجديد من أعواد القمح ذات السنابل، حتى إذا مالت الشمس إلى منزلها من العصر توجَّه إلى كَوْم القمح رجلان أو ثلاثةٌ أشدَّاء ليَذُرُّوا الأكوام، فينفصل القمح عن التبن بنفس الوسيلة التي يتبعها أجدادهم وأجدادُ أجدادهم، منذ عرف الإنسان القمح كوسيلةٍ لصنع العيش.
ومرَّت الأيام، وأوشك موسم الحصاد أن ينتهي وبدأَت المخاوف تُساوِر الصبيَّين اللذَين التقيا بشبابهما مع أنسام القمح؛ أن يُصبِح اللقاء بينهما غير ميسور.
وكانت الشمس في السماء حريقًا وكان النَّورَج يدور دوراتٍ كان وهدان في غير حاجةٍ إليها، ولكنه يُديره ليجد عند نفسه أو عند المارَّة عُذرًا ينتظر به مُرور نبوية، حتى إذا مرَّت قفز من النَّورَج قفزةً سريعة ملهوفًا يُريد أن يظفَر منها بوعدٍ على اللقاء، ولكنَّ مسمارًا في النورج يُمسك بجلبابه فإذا وهدان تحت النَّورَج وإذا الأسلحة تبتُر ذراعه اليسرى أو تكاد. وترى نبوية ما حل بحبها وتصرخ بأعلى صوتٍ لها، فيُدوِّي صُراخها فيملأ أنحاء القرية، وتجري إلى وهدان الذي فقد وعيه فتُبعِده عن النورج، وتَعمِد إلى خمارها، وتسدُّ به نوافير الدماء المندفعة من الذراع، وتحضن الفتى في لوعة، وتصرخ لا يعنيها أن يراها الناس. ويُقبِل الملأ من كل حدب، وينقلون وهدان إلى حلَّاق الصحة، وتُلازمه نبوية لا تتركه، ويُضطَر أبواها اللذان جاءا مع الجموع أن يُلازماها مُدرِكَين ما ينفطر به قلب الابنة.
وحين تطمئن الجموع على حياة وهدان ينصرف كلٌّ إلى شأنه إلا نبوية. ويقول الأب لزوجته وابنته: اذهبا أنتما فإني سأبقى.
ولا يدري أحدٌ أو لعل كل مُحبٍّ يدري من أين استطاعت نبوية أن تأتي بكل هذه الشجاعة التي تجعلها تقول لأبيها في حسمٍ قاطع لا يقبل المناقشة: أنا سأبقى يا أباه.
ويخشى الأب أن يُجاوِز النقاش ما بلغَه من حسمٍ فينفضح من حب الفتاة الطاهر ما ينبغي أن يظل في طي الكتمان ويقول في استسلام: ونبقى نحن أيضًا.
ومع أنسام الفجر تنقطع آهاتُ وهدان التي ظلَّت تُدوِّي طَوال الليل. وتُوقِظ نبوية التي لم تنم أباها وأمها من نومهما الجالس، ويتجه ثلاثتُهم إلى بيتهم.