الفصل الثاني عشر
حين اقتربت الإجازة الصيفية كان سباعي في بيته بالقاهرة في إلمامةٍ سريعة، فإذا صلاح يقول له: بابا سنأخذ الإجازة الصيفية بعد أسبوعَين.
ووجم سباعي فما كان يُفكِّر في هذه الإجازة فطالَعَتْه من حيث لا يحتسب، ودون وعي سأل ابنه: وماذا تريد أن تفعل؟
– أذهب للبلد.
– وماذا تصنع في البلد؟
– أركب الحمير وألعب الكرة. إنني أريدك أن تشتري لي كرةً ألعب بها مع أصحابي في البلد.
– أيُّ بلدٍ التي تذهب إليها؟
– بلدنا، أنا أحبها جدًّا يا بابا.
– يا بني، البلد تراب وعفار.
– ولكنك تعيش فيها مع التراب والعفار.
– شغلي.
– رفضتَ في العيد وإجازة نصف السنة أن تذهب بي إلى هناك، أرجوك يا بابا، والنبي.
– ألم أجئ إليكم في العيد؟
– أنت جئتَ نعم، ولكن البلد لم تجئ.
– وكيف تريد البلد أن تجيء؟
– أذهب إليها أنا.
وفجأة ومضَت في ذهن سباعي فكرةٌ لم تكن خطَرت له على بال.
– أنت تلعب مع مَن طول السنة؟
– مع أصحابي في المدرسة، ومع عمر ابن عمتي.
وهنا فقط تدخَّلَت قدرية في الحديث: الله يخليها عابدة، لا تتركني ليلًا ولا نهارًا، أما ياسين أفندي فلا بد أن تُقدِّم له هديةً عظيمة، إنه يعامل صلاح كأنه ابنه عمر وزيادة، لا يشغله شيء في الدنيا أن يعطيهما كل يوم الدرس، ويُراجع معهما دروس المدرسة، فإذا أحسن صلاح الإجابة أعطاه مكافأة من النعناع والمِلَبِّس والشيكولاتة التي لا يخلو منها دُرجُه أبدًا.
والتفَتَ سباعي إلى صلاح.
– مبسوط منك عمك ياسين يا صلاح؟
– كل يوم آخذ أنا النعناع والملبس والشيكولاتة، وعمر لا يأخذ.
– أنت أشطر من عمر؟
– بزمان.
وقال سباعي: ما رأيك أن تذهب أنت وعمر وعمَّتُك عابدة وعمُّك ياسين إلى الإسكندرية لتُصيِّفوا هناك؟
والتفَت إلى قدرية وقال لها: وتكون هذه هي هديتنا إلى ياسين وعائلته.
وقبل أن تجيب قدرية يقول صلاح: ما الإسكندرية هذه يا بابا؟ أنا لم أرَهَا عمري.
ويقول الأب في سخرية: والله يا ابني ولا أنا، ولكن ماذا أفعل؟ الغلبة لها أحكام.
وتقول قدرية وهي مترددة في السؤال وكأنها تعرف الإجابة: لماذا لا تريد صلاح أن يذهب إلى البلد؟
– أريده بعيدًا عنها.
– ألا ينبغي أن يتصل بالأرض؟
– ليس الآن، حين يكبر.
وفي خوف ولعثمة قالت قدرية: إذا كنت لا تُريده أن يعرف ما تفعله فلماذا تفعله؟
وفي حسمٍ قال: أنتِ التي تقولين هذا يا بنت عز الدين الخولي؟ دعي هذا الكلام لغيرك!
– ومن قال لكَ إني كنتُ راضيةً عما يفعله أبي؟
– إذن فما دُمتِ لم تكوني راضية فمن الطبيعي ألا يذهب صلاح إلى البلد.
وحاولت أن تقول: ولكن …
وقاطعها سباعي في لهجته العاتية التي أصبحَت طبيعيةً عنده: انتهينا، لا مناقشة.
ونكَّسَت قدرية رأسها في استسلام.
– أمرك.
ومر هذا النقاش على ذهن صلاح وكأنه لغةٌ أخرى غير التي يعرفها؛ فهو لم يفهم من الحديث شيئًا وكان يُفكِّر أن يسأل، ولكنه حين رأى الطريقة التي ختم بها أبوه الحديث أخذه الرعب من ملامح أبيه ولهجته فنكَّس رأسه في استسلام، وراحت عيناه ترتفعان إلى أبيه مخالسة ثم ترتدان إلى أسفل كأنما يخشى أن يراه أبوه وهو يتجرأ على النظر إليه، ورمقه أبوه في حاله هذه فحاول أن يزيل ما علق بنفسه من آثار الحديث.
– وماذا يُدرِّس لك عمُّك ياسين؟
– القرآن.
– القرآن؟
– نعم؛ فأنا أحفظ الفاتحة وأحفظ الكثير من السور.
ونظر سباعي إلى زوجته وسألها: هل يُدَرِّسُون لهم القرآن في المدرسة؟
وقبل أن تجيب أجاب صلاح: لا، ولكن عمي ياسين يُدرِّس لنا القرآن مع دروس المدرسة.
ولم يجد سباعي شيئًا يُعلِّق به إلا أن يقول: ما رأيك أن تذهب إلى الإسكندرية؟
– أنا لا أعرفها.
– سنعرفها معًا.
– هل ستبقى معنا هناك؟
– أطلُّ عليكم كما أفعل هنا، هيه ما رأيك؟
– أريد أن أذهب إلى البلدة.
وحسم سباعي الموقف: ستذهب إلى الإسكندرية.
وفي الصباح توجَّه سباعي إلى الإسكندرية، وحين نزل من القطار سأل عن فندقٍ وذهب إلى فندق سيسيل.
وهناك طلب من إدارة الفندق أن تدُلَّه على سمسار شُقق وبدأه: أريد شقة.
– للمصيف؟
– طبعًا.
– تقصد مفروشة؟
وفكَّر سباعي قليلًا فوجد نفسه لا يفهم السؤال، فلم يجد بُدًّا من أن يسأل: ماذا تقصد؟
وفَهِم السمسار أنه أمام رجل لم يطأ الإسكندرية من قبلُ فقال: هناك شُقق يمكن أن تستأجرها طول العام وتفرشها أنت، وهناك شُققٌ تُؤجَّر للصيف فقط وتكون مفروشة، ويكون إيجارها مدة الصيف فقط أو جزءًا منه إذا شئتَ، أنت وكيفك.
وفكَّر سباعي قليلًا.
– والشقق التي أستأجرها طول العام أفرشها أنا؟
وقال السمسار: نعم، وطبعًا تستطيع أن تأتي إليها في الصيف وفي الشتاء كما تريد، تصبح شقتك.
– وكم إيجار هذه وكم إيجار المفروشة؟
– على حسب الحجم والمكان.
– أقصد الفرق كبير بين المفروشة وغير المفروشة؟
– طبعًا المفروشة تكون أغلى بكثير؛ لأنك تستأجرها بفرشها ولمدة ثلاثة أشهر فقط على الأكثر.
– والسنة الجائية إذا أردت أن أُصيِّف؟
– نستأجر لك شقَّة أخرى.
– وأظل كل سنة أبحث عن شقة؟
– طبعًا.
– إذن فأنا لا أريد شقَّة مفروشة.
– عظيم، تريد شقَّة طول السنة.
– طول السنوات.
– طبعًا، العقد يتجدَّد من تلقاء نفسه.
– أريد من هذه.
– كم تريد أن تدفع؟
– أريد شقةً واسعة، وعلى البحر، والفلوس لا تهم.
وكان ما أراد.