الفصل السادس عشر
السنوات الخضر من الشباب حين يكون للحب جناحان يُحلِّق بهما الإنسان في سمواتٍ سامقات عن الدُّنا، قصياتٌ عن الأرض، رفيعاتٌ عن الدنيَّة. هناك يُحس الشباب أن الهوى لم يُخلق إلا له، وأن الله سبحانه وتعالى يُرسل به إلى الأرض نفحاتٍ من الجنة تُعين الإنسان على مرور الحياة، وعلى تكالُب البشر، وعلى اشتباك المصالح، وعلى الكذب، وعلى الغش، وعلى خداع الصديق، وعلى حضيض الناس وانحيازهم إلى خُلق الحيوان وتنكُّرهم للإنسانية التي جعلهم الله بها سادة الخَلْق أجمعين.
بالحب يستطيع الإنسان أن يكون سيد المخلوقات، بهذه الخفقات المُجنحة العربيدة الآمنة، السعيدة القلِقة، الباسمة المقطِّبة، الآملة اليائسة، الراغبة العازفة، المُقدِمة عن رعونة المُحجِمة عن حذَر.
بالبحث عن الكلمات فإذا هي في تيهٍ عن المشاعر أُغلقَت عليها المسالك لا تدري أين سبيلها إلى الشفة لتُعبِّر عن حُب صاحبها، باللعثمة واللسان فصيح، ولكنه ينوء بما لا يطيق من أحمال الحب، فإذا به — وهو المُنطلِق القَئُول — مُقيَّد مكبول، وإذا النجوى صمتٌ وإذا الحديث نظرة، وإذا الحياة نشوة يطمسها الحديث المُعلن ويُشعشِعها الفم الصموت.
عرفَه صلاح وعرفَتْه عديلة. بلمسة يدٍ، بابتسامة عند لقاء في الصباح أو لقاء في المساء. بكلماتٍ يُهمهِمن على شفاه صلاح ويقف بهنَّ جلال على وجه عديلة.
إنه الحب البكر لقلبَين مخلوقَين من نقاء الماس دون صلابته، ومن طهارة الملائكة ممتزجة بخلجات الإنسان، وشفافية البلَّور، وقد سرى فيه نبض البشر، ومن نور الأمل في المستقبل طليقًا من قيود الزمن. أحسَّ كلٌّ منهما عند صاحبه ما كانا به في غناء عن التصريح. وكان الحديث يجري بينهما رُخاءً، وفي عير الحب كان الحديث. لقد اتفق كلٌّ منهما مع الآخر دون قولٍ منهما أن أي حديث هو أصغر من الحب يكنه كلٌّ منهما لحبيبه، والمكان الذي يعرفه كلٌّ منهما لنفسه عند هواه.
سألَتْه يومًا: هل أنت إخوان أم شيوعي؟
– أنا مصري.
– إذن فأنت من الأغلبية.
– وأنتِ؟
– ماذا تظن؟
– مصرية، لحمًا، ودمًا، وقلبًا، وروحًا، وجسمًا، ومشاعر، وأخلاق، وآراء …
– إما أن يكون المصري كذلك أو لا يكون.
– ولكن ألم تُفكِّر أن تنضَم إلى هؤلاء أو أولئك لتعرف ما يُفكِّر فيه كلٌّ من الجانبين؟
– صادقتُ من هؤلاء ومن هؤلاء، وحاول كلٌّ من الجانبين أن يضُمَّني إليه ورفضتُ.
– لماذا؟
– لا أريد أن أحكُم العالم، ولا أريد حتى أن أحكُم مصر، بل ولا أريد أن أحكُم أحدًا على الإطلاق.
– فماذا تريد أن تكون؟
– إنسانًا.
– ألستَ كذلك؟
– ليس بعدُ.
– فما الإنسان عندك؟
– أن أحب كل الناس حتى المخطئين، ولا أحقد، وأن أعطي إذا ملكتُ العطاء، ولا أنتظر على العطاء شكرًا؛ لأن العطاء نفسه يمنح المِعطاء سعادة لا يبثها في القلب كل شكر العالمين. أريد أن أرى جمال الحياة وأُحاول بكل جهدي أن أُهوِّن البؤس فيها على البائسين. أُريد أن يظل إيماني بالله وبالخلق وبالصدق وبالقيم ثابتًا لا تُزعزِعه الأهوال التي أعلم أن الحياة ستُواجهني بها. أريد أخيرًا أن أكون وأنا في طريقي إلى الله سعيدًا أنني سألقاه، وأنتِ؟
لم يسمع جوابًا ورأى الدموع تجري مدرارًا على وجنتَيها، وكانت توقَّفَت عن المسير فتوقف، وهو يتحدث دون أن يسألها عما دعاها للوقوف. أسعده بكاؤها ومد يده ومسح دموعها في هوادةِ مُحبٍّ مشفق، وفي ضغطٍ شابٍّ فتيٍّ وابتسم وقال: لقد أجابت دموعُكِ عنك، أنتِ تريدين أن تكوني مثلي.