الفصل الثامن عشر
كان صلاح قد انتهى من امتحان الليسانس، ولكنه بقي في القاهرة في انتظار النتيجة، ولم يسافر إلى الإسكندرية. وكان يتهيأ للنزول ليذهب إلى عديلة شأنه في كل يومٍ حين دقَّ جرس الباب، وإذا القادم عمه خليل. وفوجئ صلاح بعمه يحتضنه على الباب ويصيح: جيد جدًّا، ألف مبروك.
وذُهل صلاح: أحقًّا؟
– كلَّمَني الآن الدكتور عبد الوهاب رفاعي.
– أستاذ الجنائي؟
– ورئيس الكنترول.
– وعديلة؟
– جيد.
– يعني نجحت؟
وقبل أن يُكملا الحوار انفجرت زغرودة من حيث لم يحتسبا ومن حيث لم يتصورا أيضًا. لقد كانت قدرية بمسمع منهما. والتفتا إليها في فرح فإذا هي تطلق زغرودة أخرى وترتمي على الكرسي. ويجري إليها ابنها وعمه وتقول لاهثة: ندر عليَّ وأنا أوفّيه. ما فعلتها في حياتي، ولكني كنت أتمرن عليها كل ليلة منذ دخلتَ الحضانة. أنا يا بني لا أحب الحياة إلا من أجلك. أنت حياة حياتي.
وراح صلاح يُقبِّل يدها ووجهها ويشرب صادق دموعها المنهمرة، وهي تقول وكأنها تكلم نفسها: لقد جئت مصر من أجلك، وأنا لا أعتبر أن لي زوجًا منذ رزقني الله بك. لم أفكر في شيء لنفسي طول حياتك، لا فكَّرتُ في فسحة، ولا في فستان، ولا في شيءٍ، حتى أرضي حين أخذوها مني قلتُ: في ستين داهية ما دمتَ أنت فالحًا في مدرستك. ولولا إلحاحك ما ذهبتُ عمري إلى السينما. التلفزيون لا ينفتح ما دمتَ أنت تُذاكر. عمري كله كان ينتظر هذه اللحظة فلا تعجبوا. إنها لحظة عمري، منذ اليوم أنا لا أريد شيئًا. أنا ابني معاه الليسانس، وكل شيءٍ بعد ذلك لا يساوي شيئًا. حتى في يوم فرحك لن أزغرد. فرحانة نعم سأكون، ولكني لن أزغرد. هي مرة، ولن تعود. ابني معاه الليسانس، شربات يا أم السعد، شربات يا هنية، شربات للعمارة كلها.
إن حب الأم لابنها أمرٌ ليس غريبًا على صلاح، ولا هو بغريبٍ على خليل، ولكن الذي دُهِشَا له أن قدرية الصموت المستسلمة دائمًا الجادة تزخر بكل هذه المشاعر ولا تُبين عنها إلا الآن. تركيبةٌ عجيبة هذا الإنسان! حتى أقرب الناس إليه لا يعرف الأعماق الحقيقية التي ينطوي عليها كيانه.
قال خليل: أنت وعديلة عندي على العشاء الليلة. وكلِّم أباك.
وقبل أن ينزل خليل قال له صلاح: نجيء لك في العيادة أم في البيت؟
– على البيت مباشرة، وإذا تأخرت فانتظراني.
– وهو كذلك.
وسارع صلاح إلى عديلة وبشَّرها بمشهدٍ من أبيها، ومن هناك طلب أباه فأخبره فإذا بصوت أبيه يأتيه في التليفون: اسمع يا أستاذ، بعد غدٍ أنت وعروسك والبك والدها وعمك وزوجته وعمتك عابدة وزوجها وعمتك فاطمة وزوجها كلكم مدعوون مع أولاد الجميع على احتفال عندنا هنا في البلد بمناسبة تخرجك. سامعني؟
– خذ سعادتك كلِّم عمي عبد الغني.
قبل الرجل الدعوة ونزل صلاح مع عديلة، ولم ينتظرا أن يركبا السيارة وإنما قبَّلها على السلم، وإذا هي تضربه على خده ضربة أقرب إلى التربيت وهي تقول: يخرب عقلك!
– ماذا؟ إذا كنتِ جيد فأنا جدًّا.
– وما شأن الناس بهذا؟
– إنهم يحبون أن يروا خطيبًا يبوس خطيبته.
– ولكنهم مع ذلك يدَّعون الغضب.
– وأنت ما الذي يهمك، الحقيقة أم الادعاء؟
– يبدو أنك ستكون أنت في الادِّعاء؛ فالغالب أنك ستدخُل النيابة.
– أو أكون أستاذًا في الكلية.
– ماذا تريد أنت؟
– لم أُحدِّد بعدُ، ربما رفضتُ هذا وذاك وفكرتُ في المحاماة.
كانا قد ركبا السيارة وسارت بهما وقالت عديلة: إلى أين؟
– إلى صاحب الفضل الأول عليَّ.
– الأستاذ ياسين؟
– كان يجب أن يعرف قبل أبي.