الفصل الحادي والعشرون
انعقدَت دائرة الجنايات ونظرت في قضية حسن عبد الحميد، وتحدَّد يوم المرافعة، وتكلم وكيل النيابة، ولم يكن محتاجًا لإسهاب؛ فالقاتل معترف والجريمة تمت مع سبق الإصرار والترصُّد فهو يطالب بأقصى العقوبة.
وطلب صلاح أن يترافع بوصفه مدعيًا بالحق المدني فسُمِح له وبدأ المرافعة.
– بسم الله الرحمن الرحيم، أقولها يا حضرات المستشارين لا افتتاحًا للمرافعة فحسب؛ وإنما لأتأمل مع المحكمة الموقرة لماذا اختار سبحانه الرحمة الرحيمة من بين أسمائه الحسنى جميعًا ليجعل منها فاتحةَ فاتحةِ الكتاب. أليس هذا لأن صفة الرحمة الرحيمة هي أحب الصفات إلى الذات العلية؟ وقد جعل الله الإنسان سيد المخلوقات؛ لأنه قَبِل أن يحمل الأمانة التي عرضها سبحانه على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، فنصَّبه سبحانه سيد خلقه أجمعين، فإنسانٌ بلا رحمة ليس إنسانًا جديرًا أن يحمل الأمانة، والأمانة يا حضرات المستشارين هي الاختيار الذي منحه الله للإنسان حين هداه النجدَين، وحرم سائر مخلوقاته من حق الاختيار هذا؛ فالحيوان لا يستطيع أن يكون إلا حيوانًا، والملائكة لا تستطيع أن تكون إلا ملائكة، والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يكون إنسانًا أو حيوانًا أو ملاكًا، وبهذا الاختيار يصبح الإنسان إما شرًّا من الحيوان لأنه اختار، أو خيرًا من الملائكة لأنه اختار، وكلاهما لا يملك الاختيار، ونحن في عصرٍ يا حضرات المستشارين فرض على مصر أن يكون أبناؤها مسحوقين، وحينما يُسحق الناس يسود الجبروت ويفشو الظلم، ويصبح النفاق هو الزعيم الأول؛ فنحن ننافق السلطات، وننافق من ينافقون السلطات، وننافق الغش، وننافق الخداع، وننافق الرشوة، وننافق التدليس، وننافق السرقة، وننافق القتل، وننافق الاعتداء على الأعراض والأموال والكرامات وعزة الآدمي. حضرات المستشارين إننا ننافق النفاق ذاته، وأبناء جيلي نشَئوا في هذه الفترة القاتمة السواد. وقد تبينَّا أمرنا بعد أن ادلهمَّ الخطب، واشتدي أزمةُ تنفرجي، قد أوشك ليلُكِ بالبلج. هكذا قال الشاعر وهو ينظر إلى قوله سبحانه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا والعسر هنا واحد؛ لأنه معرف بأل واليسر مطلق؛ لأنه محرر من التعريف بحكمة الإله الأعظم، ولهذا قال المفسرون: لا يغلب عسرٌ واحد يُسرَين أبدًا، فلا عجب يا حضرات المستشارين أن يبدأ جيلنا نحن أن يصنع اليسر بيده مؤيدًا بروحٍ من بارئ النفوس ومُلهمِها فجورَها وتقواها. وقد آن لنا أن نتبع تقوانا بعد أن أوغل عصرنا في فجوره، وخلق من المعاصي ما لم تعرفه البشرية.
إن هذا المتهم الماثل أمامكم لم يقتل أبي، وإنما قتل أبي نفسه، وإن هذا المتهم حين أطلق الرصاص على أبي كان في حالة دفاعٍ شرعي عن الكرامة التي هي أغلى من النفس.
أما أن أبي قتل نفسه فبما صنع من فظائع في حق البشرية، وبما قتل من أنفُس، وبما قهر من رجولة الرجال، وبما أذل من كرامات الإنسان، وأي شيء أقسى على نفس الرجل من أن يكون ذليلًا أمام زوجته وابنه وابنته، ولا يملك لظالمه دفعًا، ولا لكرامته صونًا؟ وإذا قالت النيابة إن المتهم هو أيضًا قتل طلبتُ إلى الزميل ممثل النيابة أن يرجع إلى قول الله سبحانه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وقد كان أبي — وأشهد في هذه الساحة المقدسة — مفسدًا في الأرض فحقَّ عليه عقاب. وإذا قيل إن العقاب من حق المجتمع، ومن حق الله وحده، انتقلتُ إلى موقف المتهم مرتئيًا أنه فعَل فِعلَه في حالة دفاعٍ شرعي عن الكرامة التي هي أقدس عند الفلاح الأصيل من النفس. تصوَّروا يا حضرات المستشارين حال هذا المتهم أن يبيع أرضًا لا يريد بيعها، ما نَظْرتُه إلى نفسه والنظرات من حوله احتقار أو إشفاق، وكلتا النظرتين أشد على الحر وقعًا من كل رصاص العالم؟ فإذا قيل فما باله انتظر هذه السنوات فإن الجواب حاضر من قريب: لقد ذاق هو الذل مقهورًا بالجبروت، ولم يُرِد لأبنائه أن يذوقوا الذل مقهورين بالحاجة؛ فلو أنه صنع صنيعه يوم أُرْغِمَ على ترك أرضه لترك أطفاله صغارًا يتكفَّفون الناس، ويمدُّون أيديهم في طلب الجدوى فانتظر تزيده السنوات شعورًا بالمهانة والذلة حتى استوى أبناؤه رجالًا، ودافع عن كرامته التي امتُهنت طوال هذه السنين.
وأنا يا حضرات المستشارين لست أدعو بقولي هذا إلى الفوضوية التي يُتاح فيها للفرد أن يمسك القانون بيدَيه يُشرِّعه هو ويُحاكِم به الآخرين ويُنفِّذه أيضًا؛ فإنه إذا حدث هذا وقعنا في هوةٍ سحيقة ينهار فيها بنيان المجتمع كله إلى حضيضٍ ما له من قرار. إنما أحاول فقط أن أُخفِّف عبء جريمة القتل العمد التي تُوجِّهها النيابة — وهي المدافعة عن حق المجتمع — إلى قاتل أبي هذا. إن هذا الذي أقول هو ما يعتمل في نفسه، دفعَني إلى قوله محاولةٌ مني أن يكون العدل أعظم من الأُبوة، وأن يكون حق الإنسان في الكرامة التي وهبها الله له مقدسًا قداسة الروح الإنسانية، وأن تكون مصر مسبح آدميِّين لا غابة ذئاب.
وبعدُ يا حضرات المستشارين فقد يُقال إنني دافعتُ عن المتهم وجحدتُ حق الأبوة، والله وحده يعلم كم أُقدِّس الأبوة، ولكن تقديسي للحق ولكرامة الإنسان أشد. وإنني بهذا الذي أقوله أتوجه إلى الذات العلية أن أكون قد كفَّرتُ بما قلتُ عن بعضِ ما صنع أبي بالإنسان سيد المخلوقات، وبما امتهَن من كرامته، وبما أذلَّ من عزته، وبما أزهقَ من أرواحه.
وقد يُقال شابٌّ في مقتبل العمر انتهز قتْل أبيه فرصةً ليصنع منها لنفسه شهرة. وإني أحتمل هذه المقالة، ولا أحتمل أن أكتُم الحق نفاقًا للمجتمع، ولكنني أُعلن منذ اليوم أنني أعتزل المحاماة، وأقبل أي وظيفة قد تُعرض عليَّ.
ولو كنتُ وكيلًا عن موكِّل في هذه القضية ما قبلتُها، ولكنني يا حضرات المستشارين أنا وحدي الموكِّل والوكيل فلا وارث للحق المدني غيري، ولهذا رخَّصتُ لنفسي أن أتشرف بهذا الدفاع في ساحتكم القدسية.
وأُنهي مرافعتي يا حضرات السادة المستشارين بتنازلي عن الدعوى المدنية تاركًا لأستاذي ممثل الدفاع البدء في مرافعته.
وأنهى صلاح كلامه واتجه إلى باب الخروج، وإذا عديلة التي كانت جالسةً على مقعدٍ بجانب الممشى تقف وإذا هي حين يُقْبل إليها تحتضنُه وتُقبِّله على ملأ الناس لأول مرة في حياتها ويصحبها ويخرجان.
ويبدأ الدفاع مرافعته: حضرات المستشارين، ليس لي بعد مرافعة المدعي بالحق المدني أي مرافعةٍ أضيفها إلا أن أُخبر عدالة المحكمة أن هذا الشاب الذي كان ماثلًا أمامكم قد أرجع الحق إلى كلِّ من اغتصب أبوه منه حقًّا.
وأنهي المرافعة بطلب البراءة.
والتفت رئيس المحكمة إلى ممثل النيابة: النيابة لها تعليق؟
– النيابة تُفوِّض الأمر للمحكمة.
•••
ذهب صلاح مع عديلة إلى منزل أبيها، ولم يكن هناك ما يستطيع واحدٌ منهما أن يقوله. هو لا يزال مرتعشًا بالموقف الذي وقفه مقتنعًا أنه الحق. وهي مبهورة به، ولم يطُل بهما الانفراد، جاء أبوها وقالت عديلة: ما الذي أخَّركَ؟
– كنتُ أنتظر الحكم.
ولم يسأل صلاح عن الحكم، وقال لوالد خطيبته: لقد انتظرتُ هذا اليوم لأسألكَ هل ما زلتَ مُصرًّا أن تُزوِّجني ابنتكَ بعد ما شهدتَ اليوم وبعد أن بددتُ ثلثَي الثروة التي تركَها أبي، والتي كانت في حسبانك يوم قبِلتَني؟ أما عديلة فقد أعلنَت رأيها في المحكمة فما رأيكَ أنتَ؟
– يا بني، أنا لست مُصرًّا، ولكن لو لم تكن خاطبًا لابنتي لسعيتُ إليك لكي تخطبها، أنا اليوم أتشبَّث بك، وفي تشبُّثي بك تشبُّث بالأمل في مصر الغد.