الفصل الثالث
عجيبٌ شأن الأيام والسنين؛ فالأيام تمر بطيئةً متثاقلة كأنما يدفَعُها القدَر إلى المُضي رغم أنفها، بينما تمضي السنوات مسرعةً تُلهِب الزمان بسياطها، وتندفع كالسيل الجارف فإذا الطفل فتًى، وإذا الفتى شاب، وإذا الشاب كهل وإذا الكهل شيخ. وإذا نظروا إلى أمسهم وجدوه قريبًا منهم يكادون لو مدُّوا أيديهم أن يُمسِكوا به أو هكذا يُخيَّل إليهم على الأقل؛ فهم يعلمون أن أمسهم الذي ولَّى بعيدٌ عنهم بُعدَهم عن بدء الخليقة، ولكنه في أذهانهم وفي وجدانهم كأنه ما مضى. وقد يتجسَّم الخيال في نفوسهم ويوشكون أن يُصدِّقوه فما هي إلا نظرةٌ في مرآة أو قومةٌ متثاقلة يعوقُها الكِبَر حتى يُدرِكوا ما على أكتافهم من سنوات، وتتبين لهم الحقيقةُ أوضحَ ما يكون الوضوح. إن السنين قد مَرَّت، ولم يكن مرورها بوهدان وزوجته عبثًا؛ فقد أنجبا سباعي وخليل وفاطمة وعابدة.
وكان وهدان طَوالَ هذه السنوات خيرَ فلاحٍ في القرية، وربما كان خير فلاح في المنطقة، فاستطاع أن يشتري أربعين فدانًا كاملة؛ فقد كان حريصًا أن يشتري في كل عامٍ أرضًا بما يفيض من ماله فلا ينكسر عنده مالٌ إلى عامٍ قادم، مرتئيًا أن مستقبله ومستقبل أولاده جميعًا هو هذه الأرض، ولكن عشرة أفدنة من هذه الأربعين لها قصةٌ أنت بالغها.
ومع كل هذه الأرض التي اشتراها لم يعرف أحد عنه بخلًا، ولا هو قصَّر في الإنفاق على بنيه، ولا هو كان شحيحًا مع زوجه؛ فما طلبت منه مطلبًا إلا كانت إجابة هذا المطلب هي أول شيءٍ يسارع إليه. لم يَنسَ أنها قَبِلَته بذراعٍ واحدة على غيرِ غنًى؛ فما كان أبوه يملك غير أربعة أفدنة استطاع أن يصل بها إلى خمسة قبل موته، وبالجهد الذي بذله وهدان فما كان أبوه ذا همة، وما كان يَعْنيه أن تزيد أرضه بقَدْر ما كان يَعْنيه أن يجلس إلى عبد الحميد أبو ديدة الخياط.
ولم يُحاوِل وهدان وهو يجمع هذه الأرض أن يكون جشعًا يهتبل الفرص ويشتري ممن تُلمُّ بهم الضوائق أو تعترض حياتهم الكوارثُ. ولم ينسَ أهل «الصالحة» قريتهم أن سليمان النواوي الذي يملك ستة أفدنة من أجود أراضي القرية، جمعَها من تجارة القطن التي كان بارعًا فيها كل البراعة، ضارَبَ يومًا في البورصة فإذا هو مدينٌ دينًا كبيرًا وإن كان لا يستغرق الأرض. وقصَد عبد الحميد أبو ديدة إلى وهدان وأوعَز إليه أن يشتري أرض سليمان في هذه الفرصة ويفوز بها، وإذا بوهدان ينتفض عن إنسانٍ يعفَّ أن يكون أخوه فريسته: أترضى لي هذا يا عم عبد الحميد؟
– وماذا فيها يا وهدان يا بني؟ هو معذور، ولا بد أن يُسدِّد الدَّين، وجميع أصدقائه في التجارة مضروبون معه، ولا طريق له إلا بيع الأرض فلماذا لا تشتريها أنت؟
– قسمًا بأهل بيتي جميعًا لو كان سليمانُ هذا يهوديًّا لا أعرفه ولا يعرفني ولا نحن أبناء بلدةٍ واحدة ما فعلتُها، فكيف وهو ابن قريتنا نشَأْنا نراه ويرانا وتتزاور زوجته وزوجتي ويلعب أطفالي مع أطفاله؟ صلِّ على النبي يا عم عبد الحميد.
– عليه الصلاة والسلام يا وهدان، يا ابني، ولكن أليس هذا الذي تذكُره سببًا أن نُنقِذه من أزمته.
– أيكون ما تشير به إنقاذًا أم إجهازًا عليه؟
– على الأقل ستكونُ أنت رحيمًا معه في الشراء، وتدفع له ثمن الأرض دون أن تخسف بها سابع أرضٍ، كما يعرض عليه حمدان أبو إسماعيل.
– ولا هذا.
– إذن فقد أضعتَ الرجلَ وأنت تُحاول أن تُنقِذه.
– وما كنتُ لأفعل هذا أيضًا.
– فماذا أنت فاعل؟
– قم معي وسترى.
وحين استقَر بهم المجلس عند سليمان قال سليمان دون ريثٍ من التفكير: الحمد لله أنكَ جئتَ يا وهدان.
– تحتَ أمركَ يا سليمان.
– والله لا يشتري الأرض إلا أنت. لقد خسفَ حمدان ثمنها إلى العشر وأنا مُضطَر للبيع، ولكنني رفضتُ أن أبيعها له من شدة غيظي منه. أما أنتَ فأبيعكَ إياها بالثمن الذي عَرضَه وأكون سعيدًا.
– صلِّ على النبي يا أبو داود.
– عليه الصلاة والسلام، أتريد أن تنزل بها عن ذلك أيضًا؟
– صلِّ على النبي «أمال»، خذ هذه الفلوس.
– ما هذه؟ ألا نتفق الأول؟
– ولا نتفق ولا يحزنون. خذ، وصلِّ على النبي.
– بكم تريد الفدان؟
– لا أريده مطلقًا، لا أريده حتى ولو بعتَه لي بلا ثمن.
– فما هذه الفلوس؟
– دَيْنك، اذهب فسدِّدْه.
– ماذا تقصد يا وهدان؟
– ماذا جرى يا سليمان؟ أكلابٌ مسعورة نحن حتى نتشمَّم الضوائق تُحيط بناسنا فنجعل منها فرصًا لنا؟ لا يا سليمان، لا عشنا إن كنا نفعل ذلك. سدِّد دينَك والتجارة يوم في العالي ويوم في الواطي، وإن خانك السوق مرة فمصيره أن يُكرِمك في المرة القادمة.
– أما سبحان الله! ولكننا لسنا أصدقاء.
– معارف، وأولاد بلد واحدة، ووشنا في وش بعضنا البعض العمر كله. وأنا كنتُ سأشتري بضعة أفدنةٍ هذا العام بهذا المال الفائض عندي، فماذا يجري إذا أجَّلنا الشراء إلى العام القادم.
وصاح سليمان من الفرحة وكأنه يرى سحرًا لا يصنعه أحد من أبناء الأرض: أهذا معقول؟
– غير هذا هو الذي لا يُعقل. توكَّل على الله. سلام عليكم.
– انتظر أكتب لك ورقة.
– ولا ورقة ولا يحزنون.
– لا، هذا ليس من حقك.
– إنه مالي وأنا حُر فيه.
– أطال الله عمرك ولكنه ليس مالك. إنه مال أولادك وأنت أمينٌ عليه.
– لا مسئولية عليَّ أمام أولادي. لقد ورثتُ عن جدهم خمسة أفدنة، ولو كنتُ بعتُها لكان هذا من حقي، ولكني لم أبعها وزدتُ عليها.
– اسمع من غير كثرة كلام. تأخذ الورقة أو تأخذ الفلوس؟
– هات الورقة.
وهكذا لم يكن وهدان في شرائه للأرض مسعورًا ولا كان نهَّازة فُرص. وما دمنا قد رَوَينا قصته مع سليمان فمن حق القصة أن نُكمِلها؛ فقَد سدَّد سليمان دَيْنه، وعمل في التجارة، وكسب في العام التالي كسبًا يُمكِّنه من سداد دَيْن وهدان، ولكنه لم يفعل وإنما قصد إلى وهدان.
– لقد عملتَ فيَّ معروفًا ما زالت الجهة تتحاكى به.
– يتهيأ لك.
– اسمع، أنا كسبتُ هذا العام، ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أرُدَّ إليك دَيْنك. ومن عمل معروفًا فعليه أن يُتمَّه، فهل أنت على استعداد أن تُتم معروفك؟
– أُتمَّه إن شاء الله.
– تترك فلوسك للعام القادم.
– أمرك.
وانصرف وهدان ودار العام في غمضة عين وإن كانت أيامه كانت تمُر ثقيلةً أثقل من الأيام العادية؛ فقد كان سباعي كلما خلا بأبيه يقول له: لو كنتَ يا أبا اشتريتَ أرض سليمان لكان محصولها يكفي لشراء نصفها على الأقل هذا العام.
ويصيح الأب في حزمِ آباءِ هذا الزمن: اخرس يا ولد.
ويُضطَر الولد أن يخرس، ثم ما يلبث أن يُكرِّر جملته تلك كلما امتد حديثٌ إلى محصول أو أرض أو شراء أو بيع.
وكان الأب يُحس حسرةَ أن ابنَه يلومه. ولم تكن الحسرة وليدة اللوم، وإنما كان باعثها أن ابنه سباعي على غير خُلقه، وأنه لا يعرف معنى ألا ينتهز إنسان ضائقة إنسانٍ أخيه، ولا يعفَّ عند مقدرة، ولا يتعالى عن خُلق الذئاب.
وكانت نبوية تُهوِّن عليه ما يتداوله من ألمٍ لما جُبل عليه ابنه البكر، فكان يقول لنبوية: أخاف عليكم منه بعدي يا نبوية.
– لا عشنا بعدك يا وهدان، لا عشنا بعدك.
– إنه بلا قلب.
– ابنُكَ لا يمكن أن يكون بلا قلب!
– أتُصدِّقين أن الأبناء يرثون أخلاق آبائهم فيما يرثون؟ هيهات! ليست الأصلاب ولا الأرحام أمينة دائمًا. والذي لا يُقدِّر ما صنَعتُه مع سليمان شخصٌ يُخشى منه يا نبوية.
– اسمع يا وهدان، علينا أن نحمل همَّهُم ونحن أحياء. أما من بعدنا فعلى كلٍّ منهم أن يحمل هم نفسه.
مر العام إذن وكان أثقل الأيام مرورًا، ثم جاء سليمان إلى وهدان وكان ولداه جالسَيْن معه.
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام.
– كل عام وأنت بخير.
– وكل عام وأنت بخير يا سليمان.
– قم يا عم هات الورقة التي عندك.
– أمرك.
وعاد وهدان بالورقة وأعطاها لسليمان.
– خذ يا عم، ربنا يزيدك.
– وأنت خذ هذه.
– ماذا؟ …
– لقد تعلَّمنا القراءة معًا في الكُتَّاب. اقرأ.
وقرأ وهدان فوجد بالورقة عقد شراء باسمه لعشرةِ أفدنةٍ ملاصقةٍ لأرضه، وانتفَض في جلسته.
– وهل أنا مُرابٍ يا سليمان؟
– اهدأ واسمع.
– هدأتُ.
– فلوسك كانت جاهزة معي من السنة الماضية، ولكنني أحببتُ أن أرُدَّ جميلك. قلتُ أتاجر لك بها فإن كسبتُ فالمكسب لك، وإن خسرتُ أردها إليك دون أن تعلم. وقد كسبتُ وجاءني جارك نجيب الجلطة يريد أن يبيع أرضه؛ لأن ابنه الذي أصبح مهندسًا يريد أن يبني بها عمارة في مصر. وانظر إلى الثمن تجده عادلًا، لا ظلم فيه. استخرتُ الله واشتريتُ الأرض باسمك.
وانتصب سباعي واقفًا وأهوى على يد سليمان يريد أن يُقبِّلها. وألمَّت بوهدان غُصَّة أوشكَت أن تُضيِّع عليه فرحته بما صنع صديقه. ما سباعي هذا؟ لا عفَّة عند مقدرة، ولا كرامةَ عند فرحة! حسبي الله ونعم الوكيل.
حسبي الله ونعم الوكيل.