الفصل السابع
أقام سباعي وزوجته في بيت وهدان، ولكن وهدان لم يكن يطيق أن يكون البيت مزارًا لعز الدين وابنه شعبان. وما كان يتصور أن أُسرة كهذه تندمج مع أُسرته. وما كان يدور بخياله أن شعبان يمكن أن يدخل إلى بيته في أي وقتٍ من أوقات اليوم، وهجسَت نفسه أن شعبان ربما فكر في الزواج من فاطمة أو عابدة، وإذا مَرَّ هذا التفكير بذهن شعبان فهيهاتَ لوهدان أن يرفض؛ لأنه لم يكن يريد أن يموت مقتولًا؛ فهؤلاء نفر من الناس لا يقف بهم نسب أو قرابة أن يرتكبوا أي جرم.
سارع وهدان فابتنى بيتًا لابنه سباعي ولم يشعر أن كارثة زواج ابنه من ابنة هذا المجرم قد خفَّت حِدَّتها إلا يوم انتقل هو وزوجته الكئيبة إلى البيت الجديد، ومهما يكن البيت قد كلَّفه فكل مالٍ هينٌ إذا قارنه بمصيبة زيارةٍ واحدة من عز الدين، أو إطلالة من شعبان على أخته التي تسكن في نفس البيت الذي يعيش فيه مع نبوية وابنتَيه.
وكان التعليم قد انتَشَر في القرية انتشارًا أتاح لفاطمة أن تجد شابًّا متخرجًا في كلية التجارة هو حسونة الزيني، خطبها بعد أن تم تعيينه بالصعيد مراجعًا لحسابات السكة الحديد بها. ولم يمُر كثيرٌ من وقت حتى خُطبَت عابدة أيضًا إلى ياسين ضيف خريج كلية دار العلوم، والذي عين مدرسًا بالقاهرة. وقد كان ياسين قبل أن يلتحق بكلية دار العلوم شيخًا مُعمَّمًا نال ثانوية الأزهر، ثم التحق بكلية دار العلوم. وكان الأب والأم سعيدَين غاية السعادة بهاتَين الزيجتَين، وكان كلاهما يحمد الله أن عوَّضَهما عن زيجة سباعي.
والواقع أن قدرية لم تكن في أخلاقها على هذا القبح الذي طبعه الله على وجهها، وإن كان بلوغُ هذا القبح عسير المنال على أية حال، إلا أن الفتاة كانت رضية الخلق تُعامِل حماها وحماتها بكل إجلال واحترام. وكان وهدان بحاسَّة العدل فيه وبمشاعر الأُبوة يعلم أن قدرية لا ذنب لها فيما رُكِّب عليه أبوها، وأنها تزوَّجَت برغبةٍ منفردة من زوجها، وبشعور بالسعادة من أبيها وأخيها أن وجدت إنسانًا أيَّ إنسان يقبل أن يتزوَّجها.
وهكذا كانت معاملة وهدان ونبوية لقدرية تتسم بالأُبوة الكاملة وبالحنان الشفوق لا يُفرِّقان بينها وبين ابنتَيهما، وكانت هي تقوم مع أختَي زوجها بشئون البيت في يسر ونعومة. ولم يحدث في يومٍ أن اشتجر خلافٌ مهما يكن هينًا بينها وبين أحدٍ من أهل البيت جميعًا، حتى الخادمات اللواتي استقبَلْنها في وجومٍ وأسًى لقُبحها، وليس لأي سببٍ آخر، هن أيضًا سرعان ما أصبحَت عندهن واحدةً من أهل البيت، لا تختلف معاملتهن لها عن معاملتهن للست فاطمة والست عابدة. والخادمات في الريف يألفن بنات الأُسر التي يعملن بها حتى لتُصبح الصلة بينهن صلةً أقرب إلى الأخوة منها إلى صلة سيدٍ بمسود، فلم يكن غريبًا إذن أن تفرح قدرية بخطبة فاطمة ثم عابدة كفرح البيت جميعًا من سادة وخدم.
وقد يتساءل الشباب: ما هذا الزواج الذي تم بغير حُبٍّ سبقَه ولا لقاءٍ ولا اتفاقٍ بين العروسَين؟ ولو عرفوا الريف في هذه الأزمان لعلموا أن الزيجات التي كانت تتم على حب في الأُسرة المتوسطة تكاد تنعدم؛ ففتياتُ هاتِه الأُسر لم يكُنَّ يخرجن من بيوتهن منذ اليوم الذي ينقطعن فيه عن التعليم، بل إن الكثيرات منهن كن يتلقَّين تعليمهن في البيت إذا كان الأب يريد لبناته أن يتعلَّمن؛ فالدائرة التي تتسع لسجنهنَّ ضيقةٌ غايةَ الضيق، ولكن تفاصيل حياة كل فتاة ومدى جمالها أمرٌ مُشاع بين أبناء القرية جميعًا. والخاطب حين يتقدم إلى الخطبة يكون عالمًا بكل أسرار الفتاة التي يتقدَّم لها ولكن من غيرها وليس منها.
فأحاديث القرية عن القرية، وأمهات هؤلاء الشبان يروين لهم كل شيءٍ عن كل فتاة أو سيدة أو حتى طفلة في القرية، فينشأ الفتى وأبناء القرية جميعًا في كامل وعيه، لا يغيب عن شابٍّ من هؤلاء الشباب خبرٌ عن أي فتاةٍ من فتيات قريته.
والأمر مختلفٌ كل الاختلاف إذا كان الزواج من ابن فلاح يعمل في الحقل وابنة فلاحٍ آخر يعمل. فالفتيات في هذه الفئة يخرجن كل يوم ليذهبن بالطعام إلى آبائهن أو أخواتهن في الحقول وهن يملأن الجرار، وهن يشترين حاجات البيت في أيام الأسواق، فإذا كان الحب قد اندلَع بين وهدان ونبوية حين كان الزمن ما زال في غيبوبة الجهل فهو مندلعٌ أيضًا والزمن قادمٌ على نور العلم؛ لأن الفتيات من مثيلات نبوية حين تزوَّجَت ما زلن كشأنها في الأيام الخالية من طفولتها وصباها وباكر شبابها.
ربما لو كان هناك شابٌّ من أقرباء وهدان أو نبوية يتردَّد على البيت بصلة القرابة وشبَّ حب بين هذا الشاب وبين واحدة من الفتاتَين كان الأمر قد تغيَّر. وقد كانت الفتاتان جميلتَين وكانت كلٌّ منهما تمثل نوعًا من الجمال الذي لا يختلف فيه اثنان، وإن كان هناك مجالٌ لاختلاف فإنه سيكون تقدير مدى هذا الجمال. كانت إحداهما خمريةَ اللون ذات تقاطيعَ منسجمة لها أنوثةٌ جذَّابة وشَعرٌ مناسب فيه رخاء وسيولة ولين. وكانت الأخرى عابدة شديدة البياض في خدَّيها حمرةٌ واهنة، وفي عينَيها سوادٌ داكن يتوسَّط بياضًا ناصعًا، وفي شَعرها عَربدةٌ حبيبة. كلتاهما ممشوقة القوام، وكانت عابدة أطولَ من فاطمة قليلًا، ولكن لا يُشتكَى من فاطمة قِصَر ولا يُعابُ على عابدة طُول.
فالفتاتان كانتا جديرتَين أن تُحَبَّا، ولكن لم يكن هناك حبيبٌ؛ فالذين يرونهما من الرجال لا ترتقي آمالهم إلى حُبِّهِن. وكلتاهما كانت تعلم أنها ستجد الزوج اللائق بها فقد كانت كلٌّ منهما تعلم أنها جميلة، وأن أباها ممن يألف الناس ويألفون، وأن أمها قريبةٌ إلى مشاعر الأمهات في القرية لم تمُدَّ يدها لإحداهن بغير المعروف والمكرمة. كلتاهما كانتا تجدان المتعة في كتاب من الكتب الكثيرة التي كان يشتريها لهما خليل، وفي الراديو ما وُجِدَت البطارية وفي الأسطوانات. وقد تزوَّجَتا كلتاهما وهما في مطالع الشباب فلم تضِق منهن نفس، ولم تشعر واحدةٌ منهما في حياتها برهبة المستقبل، ولم يُهدِّد إحداهما شَبحٌ من عنس.
وما هي إلا سنواتٌ قلائل حتى امتلأ البيت بأبناء فاطمة وعابدة يأتون جميعًا إلى بيت وهدان في الإجازات والأعياد، وكان الجَدَّان يشعران بمجيئهما أن الحياة التي عاشاها كانت مثمرةً خصيبة، ولم يشعر واحدٌ منهما بالأسف أن سباعي لم يُنجب وقد استطالت سنوات زواجه. وكان سباعي في هذه السنوات تواقًا إلى ابنٍ وليس ابنة ليضمنَ وارثًا لماله الذي سيئول إليه من أبيه، والذي ينوي أن يُنمِّيه بكل الخطَط التي كان يُعِدُّها طَوال حياته وما سترثه أيضًا قدرية من أبيها وهو نصيبٌ إن يكن نصف نصيب شعبان إلا أنه يظل مع ذلك موفورًا. ولم يكن قبح زوجته بالنسبة إليه يُشكِّل أي أسفٍ لزواجه منها؛ فقد سرعان ما تعوَّده حتى لم يعُد يرى فيها ما رآه في أوَّل يومٍ دهمه فيه رؤياه، وهو أيضًا كثيرًا ما يُروِّح عن نفسه مع شعبان. ولم يكن شعبان يجد أيَّ غضاضةٍ أن يصحب زوج أخته في لياليه الصاخبة، بل لعله كان يعتقد أنه إذا لم يصحب شعبان، فإن شعبان سيجد وسيلةً أخرى يُخفِّف بها وطأة أخته عليه، وهي وطأةٌ لا يُطيق احتمالها إلا ذو قوةٍ وأيدٍ.
وكان العرب قد بدءوا يَرُودون ملاهي شعبان وسباعي. وكانوا حريصين أن يجدوا لأنفسهم أصدقاء في القاهرة. وكان شعبان يتمتع حيث يسعى بأنه ابنُ أحدِ النواب، وبأنه ثري. وأَحسَّ أميرٌ عربي أن مثل هذا لن يطمع في ماله، وأنه يستطيع أن يتخذ منه صديقًا، فاتخذه صديقًا، وأصبح الأمير نمر من أقرب أصدقاء شعبان. أما سباعي فكانت الصلة بينه وبين الأمير صلة تَعارُف لا تصل إلى الصداقة. وكثيرًا ما دعا شعبان الأمير إلى شقته بالقاهرة، وكم سَعِد أبوه عز الدين حين دعا الأميرَ إلى بيتهم في القرية؛ فأيُّ مجدٍ ينالُه وهو يصيح في خدَمه: القهوة لسمو الأمير يا ولد، الشاي لسمو الأمير يا ولد؟! إنه لم يحلم بزيارة وزير فكيف بأمير؟! كان فخورًا عز الدين بابنه وبصداقته هذه الأمير فخرًا لم يعرفه حياتَه كلها.
ودعا الأمير شعبان أن يزوره في بلده فلبَّى الدعوة وحده طبعًا؛ فالدعوة لم تُوجَّه إلا إليه. وحين سافر شعبان لم يكن يُفكِّر إلا في رؤية هذه البلاد، وحين استقر به المقام هناك، ووجد الثراء الفاحش الذي يعيش فيه الأمير انتهز فرصةً خلا فيها به وسأله في شبه مداعبة: أتقبلون في أُسرتكم غير الأمراء.
وقال الأمير: يا أخي وما البأسُ؟ كلنا أبناء آدم، وكلنا مسلمون.
– أحقًّا ما تقول يا سمو الأمير؟
– نعم هو الحق.
– ألكَ أخواتٌ لم يتزوَّجن بعدُ؟
– تسع أخوات تزوَّجَت منهن اثنتان.
– فإذا طلبتُ منك أن تُزوِّجني إحدى السبع الباقيات.
– أيهن؟
– وهل أعرف؟ إنها أول مرة أعرف أن لك أخوات؟
– وكيف تريد أن تتزوج إذن؟
– بالإنابة.
– الإنابة تكون في زوجةٍ محددة.
– إنني أوكِّلُكَ عني في الاختيار، أما العقد فلا داعي فيه للإنابة؛ فأنا حاضر بين يدَيك.
– أتُريد أن تتزوج في هذه الزيارة؟
– وأعود إلى أبي بالعروس.
– وهل هذا معقول؟
– وفيم نحتاج إلى الزمن؟ أنا بيتي موجود في البلدة، وفي ساعات أختار للأميرة أحسن شقة في القاهرة، والأميرة قطعًا لا تحتاج إلى جهاز، ففيم الانتظار؟
– أسألها.
– هل اخترتَ لي؟
– قد اخترتُ.
وتزوَّج شعبان من الأميرة العربية، وعاد بها إلى أبيه، وأُقيم الفرح في القرية ثلاثَ ليالٍ سويًّا. ولم تكن الأميرة على كل حالٍ في قبح قدرية، وهو حين طلبها إنما سعى إلى لقبها وثرائها، وما سعى إلى جمالها أو أنوثتها. قدَّر أنه لا بد أن يتزوَّج وقدَّر أن مثله لا يعرف للحب معنًى إلا هذا الذي يمارسه في لياليه في القاهرة، وعندما تنطفئ الأنوار تتساوى جميع النساء.
•••
اشتد المرضُ بوهدان؛ فقد داهمَه الكبر فجأة وتوالت عليه علائمه، وأحسَّ أنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته. وكانت نتيجة البكالوريوس على وشك الظهور، فكان كل دعائه حين كان يصلي وهو نائم من شدة الوهن أنْ ربي لا تضُمَّني إليك حتى أعرف نتيجة خليل، أريد أن أقول له يا دكتور مرةً واحدة قبل موتي. ومن العجيب أن قدرية كانت حاملًا في هذه الفترة، وكانت قابَ قوسَين أو أدنى من الولادة. ولم يدعُ وهدان ربه أن يرى سباعي قبل أن يموت، وإن كانت نبوية تدعو له دائمًا بطول العمر ثم تهمس وكأنها تناجي الله في علياء سمائه: وإن كان لا بد يا الله فأفرحه بنجاح الدكتور خليل، وبحفيدٍ من ابنه البكر.
وفي يومٍ أصبح خليل الدكتور خليل، وقبَّله أبوه وعيناه تنهمران دموعًا، وراح ينظر إلى السماء وهو يقول: الآن إذا شئتَ يا رب، الآن ولك ألف شكر وألف حمد. وأبَتِ السماء إلا أن يأتيه الخبر الآخر في نفس اليوم أن ابنه سباعي قد رُزق بولد، وكان سباعي هو من سعى إليه بالنبأ، وقبَّل يده وسأله: لن يختار له الاسم إلا أنت يا آبا، أطال الله عمرك.
وقال وهدان وهو يلتقط أنفاسه: ليكن اسمه صلاح، وليكن صلاحًا بإذن الله.
وفي المساء فاضت روح وهدان وهوَّمَت في سموات القرية كلماتُ الآية الكريمة: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ. سبحانه!