الجو المكفهر
في صباح اليوم الأوَّل من زيارتي الأولى لبغداد، سَاعة خرجتُ من القطار، عراني شيءٌ من الريب بحُسن نيَّة الشمس المشرقة؛ فقد كانت تبسمُ بسمةً صفراء، وتبصُّ بصيصًا من خلال الغيوم البيض، فتتوارى أشعتها النحيلة هنا وهناك، بين النخيل وعند الأسوار، كأنَّها حقًّا بصَّاصة تتجسَّسُ لمندوب الكون الأعلى.
وما كنتُ الوحيد يومئذٍ فيما أحسستُ به وتشاءمتُ، إلَّا أنِّي رأيتُ ما لا يراهُ أبناء المدينة؛ شمسًا تُخادِعُ الأفق العابس، وهم قلَّما يتوقَّعُون من هذه الشمس التي تنيرُ العالم أن تنيرَ كذلك قلوب الناس؛ لذلك رأيتهم جميعًا — العرب والإنكليز، من ساسة المقاهي إلى الملك، ومن الجنود السائقين السيارات المصفحة إلى المندوب السامي — في حالٍ من الجزع والقنوط انخلعت لها القلوب كما نقول، أو بردت منها الأرجل، كما يقول الإنكليز.
وكان ذلك في مطلع السنة الثانية بعد التتويج؛ فقد ولَّت السنة الأولى بأشهُرِهَا الاثني عشر، وما تمَّ شيءٌ. ما بوشر شيءٌ في المُلك الجديد حتى من مقدمات الأعمال، بل كانت الأمور استطرادًا للعهد السَّابق للتتويج، تنبئ بالتفكُّكِ، وتُنذِرُ بالفوضى. وليس في مراكز السيادة والحكم — لا في البلاط ولا في دار الانتداب ولا في السراي — مَن يُحسن مُعالجتها؛ فقد كانوا جميعًا يشعرون بجمودِ الدمِ في الأطراف، إنَّ الأرجل الباردة لفي كل مكان.
بيدَ أنَّ المدينة بغداد ملكت على ذلك نفسها، مثل سائر العواصم في الأزمات، وظلَّت لها جُرأة الاستمتاع بشيءٍ من اللهوِ والسرورِ، فما خَفَتَ في المقاهي صوت الأراكيل، ولا خفَّ ازدحام النَّاس في أبواب دور السينما، وظلَّت ألعاب اﻟ «بريدج» واﻟ «بوكر» قائمة في المنتديات، وكانت أنوار المآدب تتألَّقُ زهوًا وترحابًا حسب العادة في الفنادق، كما في بيوت القناصل وكبار الموظفين، بل كان بعض أصحاب المناصب العالية يولمون الولائم، ويُقيمون الحفلات، مُتعمدين فيها مُكافحة روح الغمِّ والقنوط؛ تلك الروح التي سادت خصوصًا دوائر السياسة على ضفتي دجلة، وكادت تشل الأيدي العاملة فيها والعقول.
•••
كان الملك فيصل أول القائمين بهذه الحملة التأديبية، حملة المآدب، على جيوش القنوط والجزع، فأقام مأدبة لعددٍ كبيرٍ من رجال الحكومة ودار الانتداب، وغيرهم من رجال المدينة، وشاء أن أكون من المدعوين.
وكان بين الوطنيين — وهم في الأثواب الفرنجية الرسمية — رجلٌ واحدٌ عَصَى الأمر المطبوع على رُقعة الدعوة، فجاءَ في ثوبٍ فرنجيٍّ عادي، وهو فوق ذلك رماديٌّ بريء من لمس المكواة، ومع ذلك فما نظر أحد منهم إليه نظرة احتقار أو استعجاب، بل وقفوا حوله يستمعون إليه وهو يحدِّث عن غزوات الغرب لهذه البلاد العربية.
سمعت مجيدًا تلك الليلة يقول: «وهذا الاستبداد الحديث العهد، استبداد «الموضة»، أَتانا كذلك من الغرب، أمَّا نحن العرب فلا نُضيعُ وقتنا ومالنا في سبيل «الموضة»؛ فقد كان ولا يزالُ خلاصُنا في بسيط عاداتنا، وسذاجة طباعنا. أنتم تبدءون حيث يمكنكم أن تنتهوا — أقول يمكنكم، ولا أقول يجب أو يجوز أن تنتهوا — بهذه الرسميات، هذه الترهات.»
فقال السيد رستم حيدر: «ولكنك أنت كذلك خاضع لسلطة «الموضة» في ثوبك الفرنجي هذا، وقابل باستبدادها.»
فأجاب على الفور: «وأنا أيضًا حمار!»
فضحك الجميع ضحكة المقتنع المستهتر، وكانت منهم تلك الليلة الضحكة الأولى والأخيرة.
مشينا إلى ردهة الاستقبال؛ حيث كان الملك فيصل واقفًا يُرحِّبُ بضيوفه وهو في الخوذة والثوب العسكري، وقد استوقف نظري صليبٌ على صدره مُعلَّقٌ بسلسلةٍ ذهبيَّةٍ؛ هو وسام الملكة فكتوريا، وكانَ إلى جانب الملك أخوه الأمير زيد في ثوب مُلازم أول وعلى صدره وسام النهضة.
وهو ذا المندوب السَّامي السر برسي كوكس، بِطوله ونحوله وتمهُّله، يلبسُ ثوبًا أبيض وقُبَّعةً بحرية، وقد توشَّح بوشاحِ القديسَين ميخائيل وجرجس عليهما السلام. ولكن ألوان الوشاح، وتحتها الأبيض، بدت باهرةً لاذعة، ما سوى ذلك فكل ما في السر برسي كوكس الظَّاهر للعيان هادِئٌ سَاكنٌ مطَمئنٌّ.
وكذلك قل في القائد العام، مع أنَّه كان يحمل حملَين، الواحد على صدره من الأوسمة المتألِّقة حجارتها، والآخر على عاتِقِهِ ممَّا ترمز إليه الأوسمة من العزِّ والعظمة.
رأيتُ القائد العام يحدث السيد جعفر العسكري، فما أعجبتني صورة الاثنين معًا؛ كانَ الإنكليزي الطويل القامة ينظُرُ من عُلاه وهو يحني رأسه ومنكبيه، ليكلِّم العربي القصير السمين، الحامل كذلك بضعة أوسمة، ولكنه لا يحمل حملها الأثقل، ذلك الحمل الرمزي المخيف.
وهو ذا السيد ياسين الهاشمي، ياسين الصامت، بثوبه الرسمي وأوسمته، وهو صنو جعفر فيما ذكرتُ. مساكين هؤلاء العرب؛ فهُم لا يعرفون قيمة الأوسمة، فيحملونها على صدورهم خجلين، كأنها نقودٌ مُزيَّفة.
أمَّا السيدات الإنكليزيات فقد كنَّ في أثوابهنَّ باهرات، وما كان بينهن غير واحدة جميلة، وواحدة تستلفتُ الأنظار وتستوقفها، دون شيء يبهر في ثوبها أو طلعتها، كانت تؤْثر البساطة في الملابس، والانزواء في الحفلات، ولكنها فيما وجب مشت تتقدَّمُ أترابها، لا تصحُّ اللفظة؛ لأنَّ فيهن من هن أصغر منها سنًّا، وهل يصح أن نقول مشت تتقدم رفيقاتها، ومهنتها فريدة، لا تحسنها غيرها من جميع النساء، وقلَّما يُباريها فيها الرجال؟ فمن هي؟ هي جرترود بل، مشت في تلك الساعة تتقدَّم السيدات الإنكليزيات لتُسلِّم على الملك فيصل، فجثَت أمامه وجَثَون بعدها كما يفعلن إذا ما مَثُلْنَ بين يدَي مليكهن في قصره. وكانت الجميلة منهن ترفل بثوبٍ من الحرير الأخضر المزركش بشيءٍ فضي اللون … خيرٌ لي وللقارئ أن أقفَ ها هنا، وما شأني والفساتين، وأنا لا أعرف الفرق بين اﻟ «تفتا» واﻟ «كريب دي شين»؟!
إنَّ أهم ما يسترعي النظر في هذا الجمع الباهر المتألِّق هو أنَّ الإنكليز والعراقيين، الضيوف الأربعين، تخالطوا وتلاطفوا بسهولَةٍ عجيبةٍ، لا اجتهادَ فيها ولا تصنُّع، لا تنازُل من قِبَلِ الإنكليز، ولا تزلُّف من قبل العرب. هي الحقيقة البليغة التي استوقفتني تلك الليلة وأدهشتني، ولا سيما وقد تجلَّت فيها العقليَّة الجديدة التي بدأت تسود رجالات الشرق والغرب، فلا تفاضُل ها هنا، ولا شيء فيه تصاغر أو تكابر، ولا يخفى عليك أنَّ قاعدة الإنكليز في الماضي هي ألَّا يُخالطوا أبناء البلاد التي يحكمونها، ولا يخفى عليك أنَّ العرب أنفسهم لا يزالون في حاجةٍ إلى شيءٍ كثيرٍ من القوى المعنوية، فضلًا عن السياسية، ليَطْمئنوا إلى كرامتهم الشخصيَّة والقوميَّة، ومع ذلك فقد ظهروا تلك الليلة في مظهرٍ حسنٍ من الاطمئنان والكرامة.
وكان الملك فيصل الذي جمع حوله الشرق والغرب مُتجاملين مُتلائمين، المَثَلَ الأعلى لمحاسن الطرفَين، على أنَّه كان مُمسكًا في كلماته وإشاراته، وما استطاع أن يُخفي ما بدا على جبينه من أثرِ الجو المكفهر. أمَّا أنه ملكٌ ديمقراطي، ومِن أصدق ملوك هذا الزمان في روحه الديمقراطية، فممَّا لا ريبَ به. وما أجملها ديمقراطية يزينها جلال طبيعي موروث، ويكلِّلُها النبل المتسلسل من سدَّةٍ عاليةٍ طاهرة! وما كان فيصل يظهر أنه مدرك ذلك، ولا كان يحب أن يدركه الناس. وعندي أنَّ قليلًا من هذا الإدراك في الطرفين لا يضرُّ، بل هو يمكِّن الثقة بالنفس، فلا يَقلق الملك، ويُمد بالعزة والأمل، فلا ييئس الناس.
يُقالُ إنَّ المآدب الملكية هي دائمًا قاتمةٌ جاهمةٌ، يحفُّ بها السكوت، ويسودها التحفُّظ، ولكنِّي أؤكِّد لكَ أنَّ المآدب الملكيَّة العربية ليست كذلك. ومع أنَّ هناك تقليدًا يستوجب السكوت لدى الخوان، فالعرب لا يفرضونه على الضيف ولا يتقيَّدون به، بل تراهم على عكس ذلك مُحدِّثين، مشجِّعين على الحديث، وهم فوق هذا يحبُّون النكتة ويحسنونها، بل يحسبون المزاح ملح الطعام، والضحك خير المقبلات.
والملك فيصل — وهو من صميمِ العرب — كان في السَّاعة الصَّافية مثل والده الحسين عذب الحديث، مفكهًا، محبًّا للفكاهة، مقدرًا لمن يجيدها. أمَّا في مثل هذه الحال، وهذا الجو المكفهر، فصوتُ أفصحِ المحدثين يَخْفُت، وروح الزهو والمرح تجمد، حتَّى في أمثال أبي نواس.
وما كانت المائدة لتنعم بما حُرِمَته ردهة الاستقبال، نقلنا، ونقل الجو معنا، فجَلَسَتْ إلى يمين الملك فيصل اللادي كوكس، وإلى يساره القائد العام، وما كان الملك يُحسن الإنكليزية في تلك الأيَّام لينجو بنفسه من عربية السيدة المكسرة، وفرنسية الجنرال المتعثِّرَة، على أنَّ المس بل، التي كانت جالسة أمامه إلى يسار الأمير زيد، حاولت أن تخفِّفَ من مُصيبته فيما كانت تتبرَّعُ به، بلسانها العربي العراقي، من قصَّةٍ أو حديث، ولكنها ما أفلحت فيما حاولت.
وفي تلك الدقيقة فرغ صبر الملك فيصل فتثاءَبَ، نعم، تثاءَبَ مرتين، فقلت في نفسي ما أحوج الملوك إلى الندماء أمثال أبي نواس!
وما أحوجنا إليهم نحن الضيوفَ كذلك؛ فقد كان حالنا يزيد ولا ريب بغمِّ الملك، وما كان هذا الملك — وهو سيد بغداد الأكبر — يملك خاتمًا من خواتم السحر التي كانت تُصنع ها هنا عهد الجن، فيفركه ويأمر عبده بأن يُحضر أبا نواس في الحال، ولكنه أَمَرَ بتلك التي كانت لأبي نواس المعشوقة الأولى، نعم، أمر بالخمرة إكرامًا للإنكليز، وغضَّ الطَّرفَ عمَّن استسلموا إليها من العراقيين.
وما كانت حتَّى الخمرة مفلحة، فلا البيضاء منها ولا الذهبية، لا الهادئة في سِحرها ولا المترقرقة، استطاعت أن تحلَّ العقال، أو تزيلَ شيئًا من سوءِ الحالِ، فقد ظلَّ الحديث باردًا جامدًا يسيرُ بحذرٍ وبطءٍ كمن يمشي في نومه، وكلٌّ يودُّ أن يرسل فيه شيئًا من حرارة الحياة، فيحاول ثم يحاول، ثم يسكت.
وهاكَ القائد العام، وقد ولَّى وجهه عن الملك، يحدث جارته الجميلة في موضوع إحدى الروايات التي ظهرت أخيرًا في لندن، وقد انجذب جعفر العسكري إلى الحديث، فتركني أنا الجالس أمامه، تركني وحدي لأحلَّ مُشكل السيدة الحزينة إلى يساري.
وما مشكلها؟ إن حضرة الفاضلة النجيبة لَفِي شوقٍ مُحرقٍ إلى البيانو، وكيف تستطيع مُحبَّةُ الموسيقى أن تعيشَ — خصوصًا في بغداد — بدون بيانو؟! إنَّها تشتهي بيانو من الطراز الأول، ولا تجدُ في هذه المدينة المفتقرة إلى الموسيقى بيانو واحدًا للبيع أو للأجرة، حتَّى من الطراز العاشر. قلت: «ولمَ لا تطلبينه من لندن؟»
فأجابت: «لأنَّ أُجرة الشحن تبُلغُ ضِعفَي ثمنه.» وراتب زوجها المستشار لا يُمكِّنُ من ذلك، إنَّه حقًّا لأمرٌ مُحزن. فيمَ الإقامة بالزوراء ولا بيانو فيها، ولا صدى صوتٍ للموسيقى؟!
ليتَ شِعري بحديثِ المآدب الملكية ماذا يكون، لولا الطقس والرواية الأخيرة والبيانو؟ لولاها لتمَّ فينا التقليد العربي، فنتجرَّع، بين الغُصَّة والغُصَّة، كئوسًا مترعة من الصمت المهيب.
•••
كنت مُقيمًا تلك الأيام في محلَّة الشيخ، في جوارِ مولانا عبد القادر الكيلاني — قدَّسَ الله سرَّه — وعلمتُ تلك الليلة، بعد رجوعي من المأدبة الملكية، أنَّ المنزل قريبٌ من مقامٍ قدسيٍّ آخر لِلْوَلي عَيدَروس الذي تعرَّفتُ به يوم كنت في عدن، فشاءَ الله أن أُقيم في ظلِّه كذلك في بغداد.
إنها لنعمة سابغة هذه التي تلحفك، وأنت نائم بين وليَّيْن كريمَين، فأسلمت إليهما الروح المؤمنة حتى بحسن نيَّات مَن يؤدبون المآدب، فأعيدت إليَّ صباحًا وهي لا ترى في هذا الوجود كله غير الفجر، الفجر الفضِّي، الدري الذهبي، وكأنها رأته لأول مرة في حياتها الدنيا، فهتفت مُهلِّلَة مُتغزِّلَة.
ليتَ الحياة كلها فجرٌ، وليت غيومها كلها بيضاء مطرزَّة بخيوطٍ ذهبية، مثل هذه الغيوم الصغيرة الوديعة، فوق قباب الجامع الكيلاني، وهي تبدو حينًا كقطيعٍ من الغَنَمِ يلكأُ في كَنَفِ الشَّمس متدفئًا، وحينًا كأمواجِ البحر المتكسِّرة على الشَّاطئ الضَّاحك بين الصخور القاتمة. وما هي إلَّا لحظة فيستحيل القطيع مرجًا زَهَت ألوانه، والأمواجُ بحرًا ساجيًا طفا دره ومُرجانه، وهَاكَ الشَّمس بجيشها غازية فاتحة، تهدم صروح الخيال، وترفع فوق معاقل الآمال أعلام النهار الجديد، وقد باركها الوليَّان، عبد القادر وعيدروس، فما خوفك وما همُّك بعد هذا؟
إنَّ خوفي وهمِّي لفي ما جاءني ذاك الصباح، دعوة لمأدبةٍ أُخرى، ولكنها هذه المرَّة في النادي العراقي.
وكان النادي أو مكاننا منه مُتألقًا زاهرًا، كأنه شُقَّ من فجر ذاك النهار؛ فقد مُدَّت المائدة عند حاشية بستان من الورود والرياحين، تحت مظلات النخيل، في باحةٍ على ضفة دجلة، أُنيرت بالكهرباء وازدانت بالمصابيح الملوَّنَة.
وكان المضيف الكريم، الخفيف الروح في عرضه وقصره، رءوف الجادرجي، يُرحِّبُ بالضيوف مُبتسمًا ابتسامة هي ضياء الحبِّ بعينه، وقد سلَّم الآخرونَ علينا سَلامًا بابتسام، بأعذب كلام، وبعد ذلك — بعد السلام والابتسام والكلام — وإلى أن وقفنا للوداع، خَيَّم الجو المشئوم، وسادَ روح الهموم.
وأين روح البستان مطاردة مبددة، وأين للمشهد الجميل يدٌ تُعين؟ هذه وردة لقلبك أيها الفاضل، ولكن القلب ما رأى أغصان الورد المنورة، هذه نسمة من هواء المساء العليل، هواء دجلة، تنعش جناح روحك، يا صاحب المعالي، ولكن دجلة لم يكُن باديًا، فقد كان بيننا وبين البستان حجابٌ أسود كثيفٌ، وقد كان بيننا وبين دجلة جدارٌ قاتمٌ من الهواجس والقلق.
إنِّي لَأذكُرُ أولئك الأفاضل جميعًا، وأكثرهم اليوم في حال تضحكهم، إذا ما عادت الذكرى، من تلك الأحوال، فمضيفنا الجادرجي الذي كان يومئذٍ متشرِّعًا بلا شراعٍ، تتقاذفه رياح السياسة وتتجاذبه رياح القانون، هو اليوم ذُو مركبةٍ مقطورة إلى كوكبٍ من النور والذهب؛ أيْ شركة النفط العراقية.
وهذا رُستم حيدر الكاتب الأول يومئذٍ في البلاط، الحامل أعباءه، العامل ليل نهار في وصل الخيوط المتقطعة بينه وبين دار الانتداب، الذائق مُرَّ ساعات ولا أمرَّ منها كانت تنذر بالخراب، قد صار بعدئذٍ وزيرًا ثم عيِّن في مجلس الأعيان.
ومِن ضيوفِ تلك المأدبة ذلك الإسرائيلي الجامع بين الأدب والنسب، ساسون حزقيل، الذي كان يُديرُ مالية العراق بما لا يُرضي غير دار الانتداب وبعض البيوت التجارية، فقد اعتزل بعد ذلك السياسة، وساحَ في الأرض يَنْشد الصحَّة ورحمة الله، فلقيهما معًا بعد عشر سنوات في باريس.
وياسين الهاشمي الرجل القاتم غير الكاتم، العنيف الصَّريح، الذي كان يومئذٍ خارج الحظيرة، يدهش حتى المسْ بِل بتصرفه، ويروِّعها بتطرُّفه، فقد صعد بعدئذٍ في الجبل فأدرك القمَّةَ منه، وتنقَّل في الوزارة حتَّى صارَ رئيسَها، وهو اليوم زعيم المُعارضة في البلاد.
أمَّا فخري آل جميل فما كان في ذاك الحين ولا بعده جاحدًا نعمة ربه، أو ضانًّا على الوطن بحُبِّه؛ فقد كان يومئذٍ وطنيًّا من أصحاب الأملاك الواسعة، وهو اليوم من أصحاب الأملاك الواسعة، ومن الأعيان في المجلس.
وإنِّي لأذكرُ الضيفَين الآخرَين من العراقيين، ناجي شوكت وحكمت سليمان، وفي الاسمَين تاء تركيَّة لا تخفى على اللبيب، وفي الاثنين من العطفِ القومي ما لا يُستغرب، وممَّا كان في تلك الأيَّام دُونَ الريب، وقد كانا مع ذلك من الموظفين في الحكومة العراقية التي لم تكن والأتراك على ولاء، فلا عَجَبَ إذا أسدلا على نفسيهما في تلكَ المأدبة سِتارًا من الصَّمت الواجم، ولكن ناجي النجيب، الذي كان يومئذٍ متصرِّف الكوت، صعد بعدئذٍ مثل ياسين في جبل السياسة، وبعد أن جَرَّب الوزارة حنَّ إلى الرئاسة، وظفر بها. وأمَّا الثاني فلعله لِبُطئه في التصعيدِ اختار المُحافظة على اسمه صورةً ومعنًى — حكمة سليمان — وانضم إلى حزب المُعارضة في الأمة.
وممَّن أذكرهم من الضيوف الإنكليز المستر دراور الطويل الباع، في علمَي القانون والصراع. أقول الصراع؛ لأنَّ مهنته في تلكَ الأيَّام كانت نوعًا من الصراع القانوني؛ فقد كاد يُسحق بين حَجَرَيِ الرحى — أيِ الأخوَين السويديَّين؛ ناجي الكشَّاف وتوفيق النسَّاف — فقد كان المستر دراور مرةً رئيسًا ومرَّةً مستشارًا للواحد منهما وللآخر.
وكان يرجو الله على الدوام أن يَخرج من الصراع وقد سلم على الأقلِّ كرسيَّه في العدلية. ومن عجائب الدَّهر أن يسلم هو كذلك في مُصارعة الأخوَين السويديَّين، فلا يزال المستر دراور بخير ونعمة، صاحبَ كرسيٍّ وصاحبَ صوتٍ في البرج العالي للعدلية العراقية.
وللمستر دراور زوجةٌ أديبةٌ كاتبة، كانت تنشد في الأماكن القصية، وبين الأديان الأثرية، مصادر العلم والوحي. وإنها في فلسفتها السياسيَّة دوليةٌ إنسانية، لا يُعارض بها المستر دراور ما دامت خارج القانون، أمَّا شغفها الخاص فكان ينحصر في تلك الأيَّام بالصابئة واليزيديين، وبالتغلغل في علومهم الغامضة، ومع ذلك فقد كتبت كتابها، ونشرته بِاسمٍ مُستعار؛ لتظلَّ هي وزوجها وبيتهما في بغداد بعيدين — على ما أظن — من تعطُّفات أصدقائها عَبَدَة الشيطان.
إيه كوك الدين، سليل عظام الكلدان، ونُكتة المستشارين في هذا الزمان، فمهما يكن من شذوذك في سِفْر خروجك، ومن عثارك في خفاء آثارك، فقد كنتَ في حبِّكَ للعرب من العرب، وكنتَ في غيرتك على الأوقاف من الأشراف، وإنهم جميعًا لمحزونون؛ لأنك لم تُشعرهم بيوم أو بليل السفر، ليقوموا بواجب توديعك وتشييعك، وشكر صنيعك. وإنِّي واثقٌ — وهم الموصوفون بالكرم — أنهم لا يَرضَون بما حملت، ولكانوا أهدوك، لو أدركوك، ما هو أثمن من تحف أُور، وبابل وآشور، ولكان الشعراء من المودعين، وهم يذرفون الدمع السخين، وينظمون القوافي، بمديح كوك الدين الأوقافي.
•••
إي وربِّ حمورابي، إي وأجنحة رب آشور، إنَّ للنطفة جناحًا، وللرياح يدًا، وللآلهة كلمةً خالدة. سماعِ، سماعِ. إنَّ المؤذن في جامع عبد القادر يدعو المؤمنين للصلاة، فلو كان بإمكانه أن ينشر السنين المطويَّة، ويستطلع خبرها السابق للتاريخ، ولو كانت له عين ترى الأجنحة الطائرة، والأيدي الزَّارعة، التي تستحيلُ بعد عملها ترابًا، ولو كانت له أذن تسمع صدى الكلمات الخالدة، لكان يدعو للصلاة غيرَ المؤمنين كذلك، وغير المقيمين ببغداد، في محلة الشيخ. ولو كان له مقدار ذرَّة من الإيمان الأعلى، لَنَزَلَ من مئذنته، وأذَّنَ في سِرِّه، في مخدعه، فيسمعه الذي بيده أمر هذا المخلوق ابن آدم، ويحمل الأذان إلى أربعة أقطار العالم.
إيه، أيُّها المؤذن التقي، قل: حيُّوا على الفلاح، حيُّوا على الصلاة حيثما أنتم، في محلة الشيخ ببغداد، أو في محلَّات البؤس والنعيم في لندن وباريس؛ فإنَّنَا جميعًا، يَابْن عمي، من نطفةٍ واحدةٍ، وإنَّنَا جميعًا مُفتقرون إلى ربٍّ يرأفُ بحالنا، وإلى نبيٍّ في هذه الأيَّام يَدُلُّنا على الطريق — يهدينا الصراط المستقيم — ويبعثُ فينا ما ضاعَ من الرَّجاء، وما مات من الحبِّ والإيمان.
عفوك، أيها القارئ العزيز، إذا ما وقفتُ هنيهة في الفجرِ لأنسى الجو المكفهرَّ في النهار وفي الليل. عفوك، إذا ما لُذْتُ بالحقائق الخالدة لأستريح، ولو هنيهة، من الحقائق الزائلة في السياسة وفي الحياة، ومن مآدب اليأس والغمِّ. حيوا على الفلاح، حيثما أنتم، حيوا على الصلاة …
•••
وهذه دعوةٌ أُخرى لمأدبة في الفلاة، بل هي نزهة مع الملك في ضواحي بعقوبة، على شواطئ ديالَى، في البساتين الجميلة لفخري آل جميل، ولكنها لا تختلفُ كثيرًا عن سواها في العراق.
هي بساتينُ شرقية؛ بتبسُّطها واكتظاظها، بغياضها وأدغالها، بخصبها وعقمها، بزواياها المهملة، وخباياها المدهشة، بمياهها الراكدة والفائضة، وبما يسود كل ذلك من الفوضى. فإنَّكَ لترى عرائش العنب مثلًا وأشجار التُّوت والرُّمَّان بعضها في حضنِ بعض، مُلتفَّة مُتعانقة، خانقة بعضها لبعض، ومع ذلك مُثمرة، وإنك لترى الكثير من الأشجار المتكاثفة، التي يفتقرُ قلبها إلى نور الشمس، ولا تمسها يد التشذيب، لا باطنًا ولا ظاهرًا، وهي تستمرُّ مع ذلك في الازدهار والإثمار، ليتَ شعري بما يمكن أن يكون خصب هذه الأشجار، وإنتاج هذه البساتين، لو سادَ فيها النظام بدل الفوضى، واقترن النظام بالاعتناء الدائم، وبعلم الزراعة الحديث.
ومع كلِّ ما هناكَ من دلائل الجهلِ والإهمال، فقد كان روح البستان حيًّا زاهرًا، مُنعشًا بطيبِ رياحينه، مُبهجًا بزهو زُهوره، مطربًا بتغريد الأطيار، مدهشًا بجود ثماره المتعددة الأنواع والألوان، ولكن جوَّنا المكفهر، جو بغداد، جو السياسة، كان لنا الرفيق الدائم، والظل الملازم، حتى في البساتين.
مشينا على الطنافس المفروشة إلى السرادق الملكي بين أشجار الليمون والرمان، وكلنا يشعر بثقل ذاك الظل، وحرارة ذلك الجو، كانت الأجساد في البستان، وكانت القلوب بعيدة منه، بعيدة من أطياره وأزهاره، ورياحينه وثماره.
وكان قلب الملك فيصل أبعد هذه القلوب كلها، لله من غمٍّ يأبَى الحصر في القصور، فيرافق صاحبه إلى البساتين! لله من غمٍّ يجلس فوق العرش، ويلصق بصاحب العرش حيثما حلَّ ورحل! لله من غم يستبد حتى بالإنكليز، وقد يكون له من الإنكليز ما يمده ويقوِّيه! أظنُّ أنَّ المس بِل كانت تُدرك ذلك، فتحاول بما لها من لطفٍ وبيانٍ أن تخفِّفَ وطأته، أو تبدِّدَ على الأقلِّ ظلاله من حول الملك، وهل تطردها من قلبه بعنقودٍ من العنب أو بغصنٍ مثقل بالرمان؟
كأنِّي الآن أراها، رحمها الله، تجثو أمام فيصل وبإحدى يديها عُنقودان كبيران مُبهجان من العنب الذهبي والأرجواني، وبيدها الأُخرى غصنٌ صغيرٌ من الرمان تزينه ست رُمَّاناتٍ كبيرة مُدهشة، فيشكرها الملك باسمًا، وفي البسمة كما في كلمة الشكر ما يُشيرُ إلى شيءٍ مفقودٍ.
وكأني الآن أراه، رحمه الله، والسبحة بين أنامله، وهو لا يُدرِكُ أنَّها لا تلتئمُ وثوبه العسكري، والسيكارة في فمه، يدخِّنُ الواحدة تلوَ الأُخرى، ويُحاول في بعضِ الأحيان أن يستعيدَ بِشرَ مُحيَّاه، ويستنهض أُنس نفسه، فيسأل سؤالًا عن بعض الشئون الخاصَّة، أو يستخبر عن صديقٍ له غائب، أو يفتح الباب لحديثٍ طريفٍ ولا يُشارك بعدئذٍ به، فينهض عن الديوان، ويتركنا، والباب مفتوح، ساكتِين واجمين. هي السياسة وهموم العرش الجديد، ومن أهمها في تلك الأيام ما جاءَ من الشمال؛ فقد كان لانتصارات مصطفى كمال وقعٌ في العراق ما سَرَّه، ولا سَرَّ الحكومة، وكان بعض الموظفين في الموصل يُفاوضون الترك في الأناضول.
وهؤلاء الإنكليز يلزمونه كالظل، ويزيدون بما هو فيه، رأيت أحدهم جالسًا في حضرته ذاك اليوم جلسةً لا أظنه يجلسها إلَّا في بيته إذا كان وحده، فيمد رجلَيه ولا يُبالي، وكان فوق ذلك لابسًا قبعته وهو في ثوبٍ مدنيٍّ، فهل يجلس هذه الجلسة في حضرة الملك جورج يا ترى؟ ومَن يدرك أكثر من الإنكليز الحقيقةَ أنَّ الملك ملك، أيًّا كان وأينما كان.
لم يكن الصلف ولا العنف من طباع الملك فيصل، ولكنه كان دقيقًا وكيِّسًا في حفظ حرمته، وفي فرض مشيئته، ولا أظنُّ أنَّ ذلك الإنكليزي أدرك أنَّه في إكرامه له كان يحاول تأديبه؛ فقد قدم له سيكارة، فاضطرَّ أن يقف ليأخذها، ثم عاد إلى كرسيه، فجلس جلسةً لائقة، ولكنه لم ينزع القبعة عن رأسه، فاستمرَّ الملكُ في التأديب، قائلًا وهو يرفع الخوذة عن رأسه: «الحَرُّ شديد.» فردد الإنكليزي: «الحر شديد.» وما كان بعد ذلك حالَ دُون كمال الأمثولة؛ فقد جاء في تلك الدقيقة فخري آل جميل يقول للملك الطعام حاضر، فنهضْنا بعده نلبِّي الدعوة، ومشى الإنكليزي وقبعته بيده.
مُدَّت المائدة في ظلال النخيل ضمن ساحةٍ رحبة، تحيطُ بها شُجيرات من الليمون والرمان، وبينها شتَّى الأزهار والرياحين، وكانت الألوان كثيرةً دُون إكثار، شرقيةَ الروح، أوروبيةَ الذوق. والخدم بلباسهم الأبيض يَظهرون من خلال عرائش الورد والياسمين، حاملين أطباقًا تتقدمها روائحها الطيبة.
ما كان في طاقتي، ولا حاولتُ، أن أتخيَّلَ مطبخًا بين الليمون والرمان وراءَ عرائش الورد والياسمين. وما سرَّني أنِّي في مأدبةٍ ملكية في بستان فخري آل جميل بالهُوَيدِر على ضفَّة نهر ديالَى، بقدر ما سرَّني الخيال الذي تخيَّلتُهُ في تلك الساعة، فما كنتُ في ذلك البستان، مع ملكٍ من ملوك هذا الزمان، ورهط من الأمراء والأعيان، بل كنت مع حسن البصري، بطل الرواية في كتابنا العربي الخالد، كتاب ألف ليلة وليلة.
نعم، كنت مع حسن في روضةٍ ساحرة، جالسين إلى خوانٍ ساحر، يخدمنا عبيد الخاتم العجيب، وهم يحملون إلينا، من بين عرائش الورد وأشجار الرمان، أطيبَ المآكل وأفخرها. وما تخيَّلتُ هذا الخيال، ورحتُ سابحًا فيه، إلَّا لأنجو من الحقيقة البشرية في تلك الساعة، ومِن جوِّها المكفهر. وعندما عُدنا إلى المدينة ما كنتُ في السيارة مع وزيرٍ من وزراء الدولة، لا، بل كنت راكبًا وأخي حسن البصري بين جناحَي ذلك المارد الكريم، الذي طار بنا، راجعًا من وادي الكافور في بلاد الصين، إلى مدينة بغداد.