محاولات ومراوغات
إذا ما جَنَحَ المؤرخ غدًا إلى درس أحوالنا السياسيَّة الحاضرة، يكتشفُ الحقيقة التي تبدو لنا اليوم كبيرة. وهذه الحقيقة هي أنَّ انحطاط الغربيين، لا ارتقاءَ الشرقيين ونهضاتهم، هو الذي عجَّلَ في سُقوطِ السيادة الغربيَّة في الشرق؛ فقد كانت العظمة البريطانية مثلًا مُستمدَّةً من قوى الشعب البريطاني الخلقية والروحية؛ تلك القوى التي تزعزعت بعد الحرب العُظمى، ورزحت تحتَ عِبءٍ ثقيلٍ من الاصطلاحات والمغالطات الاجتماعية والسياسية، ثمَّ تلاشت بين أيدي السياسيين والماليين العاملين ليومهم ولقومهم، بل انسحقت بين حَجَرَي الرحى للمصلحة المباشرة؛ أيْ بين المهاودة والمُساومة، وما يصحبهما من المُحاولات والمراوغات.
منذُ خمسين سنة كان الإنكليزي في الهند مثلًا يقول: إنَّنَا ها هنا بفضلِ أحسابنا السياسية والخلفية والروحية، إنَّنَا ها هنا لأنَّنَا أرفع منكم، وأقدر منكم، وأعلم منكم. موقف جدير بالاحترام.
وما كان بلاغ الجنرال مود، إذ دخل بغداد في ١١ آذار سنة ١٩١٧، غير صدى البلاغات التي كانت تذيعها دول الأحلاف إبَّان الحرب: «ثقوا أيها العرب أنَّنَا لا نطمع ببلادكم، إنما جئنا نُخلِّصكم من الترك، ونقدم البلاد بعد فتحها هدية لكم خالصة لوجه الله.» هذا ما قاله الجنرال مُود في بلاغه. فإنْ صَدَقَ البلاغ فالجنود المجاهدون قد خُدعوا خُدعةً فظيعة، وإن كانَ البلاغ كاذبًا فأهل البلاد المخدوعون.
قد تستغرب هذا الموقف وتستنكره، ولكنَّكَ مُحترِمٌ — ولا شكَّ — الروحَ التي كانت تُوحِي به وتؤيِّده. ومَن لا يحترِمُ القوَّةَ العُليا، قوَّة الذاتِ والأحساب، التي هي مصدر العظَمة الحقيقية، ورُكنها الأوطد؟ ألا، مهما يكن من تغيُّر الأيَّام وتبدل السياسة والحكام، فإنَّ السيادة التي ترتكزُ على القوة الخلقية والروحية — على الصدق والثقة بالنفس والإيمان، وعلى الصراحة والشجاعة والإخلاص — تظل الأزمة في العالم، وتظل محترمة مُعزَّزَة، ويكونُ النصر حليفها عاجلًا أو آجلًا أينما كانت.
هذه هي الحقيقة النَّاصعة في التباين بين أخلاق المسيطرين في هذا الزمان وأخلاقهم في الزمان الغابر، هي الحقيقة فيما يصحُّ أن نُسمِّيهُ مَخْشَلَب الأخلاقِ ودرَّه، أبرزتُها تمهيدًا لما سأطلعك عليه من مظاهرها فيما يتعلق بموضوعنا الآن؛ أيِ المعاهدة البريطانية العراقية.
عندما أَبَلَّ الملك فيصل من مَرَضِهِ استأنف المندوب السامي السر برسي كوكس المفاوضة وإيَّاهُ، وكان على اتِّصالٍ دائمٍ بالنقيب السيد عبد الرحمن، فاتَّفَقَ الثلاثة على تأليف وزارةٍ جديدة يرأسها النقيب للمرَّة الثانية. وما كانت جديدة بغير الاسم؛ لأنَّ أكثر وزرائها كانوا في وزارة النقيب السابقة، قال العميد: «ليسَ لدينا أحسن منهم.» وقال النقيب: «لا يناسبنا غيرهم.» وقال الملك: «على الله الاتكال.» بيدَ أنَّه لم يكن مسرورًا بالرئاسة؛ لأنَّ النقيب — وإن كان قد رَفَضَ التوقيع على المعاهدة الأولى — هو صديق المفوضيَّة الوفي، ويُعدُّ بقاؤه نصرًا لها.
أمَّن الملك متوكلًا على الله، وأرسل الفرمان إلى بيتِ النقيب، فقُرِئ هناك في حفلةٍ صغيرةٍ عليها مسحة من أبَّهَةِ الدولة الغابرة، دولة الترك. جاء السكرتير الأول يحمل حقيبةً صغيرة من المخمل الأخضر، فدخل القاعة يتقدمه ياوران يناديان: الفرمان، الفرمان. وكان النقيب واقفًا وسط القاعة يعتمدُ على عصاهُ، وحوله أنجاله الكبار وبعض الأعيان من المعمَّمِين وغيرهم.
أخرج السكرتير من حقيبته طلحية من ورق الدواوين طويلة، وقرأ بصوتٍ مفخَّم أمْر صاحب الجلالة إلى وزيره الأول بتأليف الوزارة، وما كان شيء من تلك الديباجة العثمانية الطنَّانة، المُرَصَّعَة ﺑ «فخر الوزراء، وقطْب الحكماء، وعيْن مجد الأمراء، مدبِّر شئون الدولة بالفكر الثاقب، والرأي الصائب، وزيري … إلخ» ما كان شيء من هذا، ما كان غير «صاحب المعالي»، ثمَّ لأمر المشفوع بأمل العرش الموطَّد بعون الله، أن يسترشد معاليه في تأليف وزارته بما أُعطِيَ من العلم، وبما اتَّصَفَ به من الحكمة والإخلاص.
والنقيب ابن الثمانين السيد عبد الرحمن، سيد العالمين بسخريات الزمان، ابتسم ابتسامةً صغيرةً خبيثة لنفسه عندما سمع الأمر بتأليف الوزارة التي كانت قد تألَّفَت تمامًا بأجمعها. فقال في جوابه المختصر المفيد أنَّه سيتوكَّلُ على الله في اختيار زملائه. وبعد ذلك أُديرت كئوس الشراب ثمَّ القهوة، وانتهت في صباح ذاك اليوم أشغال الدولة.
عندما كان النقيب رئيسًا كانت الوزارة تجتمع في بيته؛ لأنه كان مقعدًا، وكانت المس بل تقول: «ليتَ في رِجْلَيه شيئًا من النشاط الذي في عقله.» ولكن داءً عصبيًّا أَحوجَهُ إلى العصا يستعينُ بها حتَّى في البيت. وقد تكون هذه الحالة في صاحب المعالي أحد الأسباب التي حَمَلَت الملك فيصلًا على تفضيلِ سواه لمنصب الرئاسة، فكان يضطر في المهم من المحادثات أن يجيء بنفسه إلى بيت النقيب، وكأني بالسيد عبد الرحمن — قطب الظرفاء وينبوع الكياسة — يستعين بالتاريخ ليخفِّفَ الأمر على جلالة الملك، فيحدثه عن جده عبد القادر الكيلاني — قدس الله سرَّه — فقد كان يُزارُ ولا يزُورُ، وكان الخليفة نفسه يتنازل مثلكم، يا جلالة الملك، لزيارته في بيته.
أمَّا السر برسي كوكس والمس بِل، صديقاه الوفيَّان، فحسبهما نور طلعته وحلاوة مبسمه. فما كان يرى من حاجة إلى الأمثال والنوادر التاريخية ليُزيلَ من «تشريفهما» ما قد تخلَّلَه من مرارةِ الواجِبِ. نعم، لقد كان من الواجب عليهما أن يزوراه، وكانت المس بل تشرف غالبًا كل يوم لتنير ذهنه، أو لتبلبله بما كان يدور ويحور، ويطفو ويغور، في ذهن صاحب المعالي الأكبر، المستر تشرشل. وممَّا كانَ ينبغي أن يُذكر للنقيب بالحمد والثناء أنه لم يقبل أن يرأس الوزارة الثانية إلَّا بعد أن تعهدت دار الانتداب بتعديل المعاهدة.
وكان الانتداب شبح المعاهدة المخيف، لا في نظر العراقيين فقط، بل في نظر الإنكليز أيضًا، وكانت الحكومة البريطانية تُحاوِلُ أن تصبغ الشبح بالصباغ الزَّاهي ليلتَئِمَ وألوان المعاهدة الجديدة. فقد صرَّحَت بقصدها؛ وهو أنَّ المعاهدة لا تقومُ مقامَ صكِّ الانتداب، بل تدخل في صلبه وقلبه فتصلحهما.
استمرَّت وزارة المستعمرات تعلِّلُ نفسها بالآمال، وهي واثقةٌ أنَّها تستطيعُ أن ترضيَ عصبة الأمم بما تخترعه وتلوِّنُهُ من الألفاظ، مُستعينة بأقطاب القانون فيها، فتقضي على المخاوف والأشباح كلها.
وهاكم المادة السادسة برهانًا على ما يقول المستر تشرشل، إنَّ في هذه المادة من المعاهدة «يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يستخدم نفوذه لإدخال العراق في عُصبَةِ الأمم بأسرع ما يمكن.» خلال مدَّة المعاهدة وهي (المادة ١٨) عشرون سنة. بأسرع ما يمكن خلال عشرين سنة! إنَّ الله مع الصابرين، وعندما يصير العراق عضوًا في العصبة، كما جاء كذلك في المادة السادسة، تبطل المعاهدة — الفعل لازم — تنتهي حتمًا وتمامًا.
- أولًا: أن توقع المعاهدة.
- ثانيًا: أن يكون للعراق دستورٌ أساسي.
- ثالثًا: أن تُخطَّط حدوده رسميًّا ويُعترف بها.
وبعد ذلك ثق، يا جلالة الملك، بما يقوله المستر تشرشل.
ثم تجيء المس بل مطمئنة قائلة: «سيدي فيصل، المستر تشرشل رجلٌ حرٌّ، والمثل العربي يقول: «وعد الحر دين».»
– «هذا صحيح، وسيبر المستر تشرشل بوعده إن شاء الله.»
ثم تعيد قراءة البرقية الأخيرة أو أنها تتلوها على مسمعه. عندما توقَّع المعاهدة يُباشِرُ المستر تشرشل العمل لتحقيق التعهُّد المتضمن في المادة السادسة. وتجيئه في اليوم التالي وبيدها نسخة البرقية الأخيرة: «سيدي فيصل، يؤكد المستر تشرشل للمندوب السامي ويسأله أن يؤكد لجلالتكم أنَّ حكومة جلالة الملك ستعجِّل في تقرير مسألة الحدود بين تركيا والعراق.»
وكان المندوب السامي يبعث بنسخ من هذه البرقيات إلى النقيب مع مُلاحظاته وإلحافه: «وأملي بسعادتكم …» فقررَت الوزارة في يومها العاشر أن تجدد ثقتها بالحكومة البريطانية — بعد التوكل على الله — وتصدق ما يقوله مندوبها ووزيرها. ثم وقعت المعاهدة (في ١٠ ت١ سنة ١٩٢٢) وصدر بلاغٌ ملكي من البلاط أن تمَّت بعون الله المفاوضات بالرَّغم عمَّا اعترضها من الصعوبات، وأنَّ الفريقَين توفَّقا إلى حلٍّ مُرضٍ، فالمعاهدة مبنيَّة على المصالح المشتركة، والحقوق المتبادلة، وهي تضمن سيادة العراق الوطنيَّة واستقلاله السياسي، كما أنَّها تضمن دُخوله في عصبة الأمم.
ما اطمأنَّ مع ذلك قلب الأمَّة، ولا خَفَتَ صوت المُعارضة. والحقُّ يُقالُ، إنَّ الملك فيصلًا نفسه كان يومئذٍ يحتمي بالألفاظ، ويُحاوِلُ أن يموِّهَ بألوانها الموقفَ المريب، ولا عجبَ إذ سرى إليه من النقيب، ومن المندوب، ومن وزير المستعمرات، شيءٌ من الأملِ بعلاج الزمان، بل شيءٌ من اليقينِ بأنَّ ما يفسده النَّاس تُصلِحُهُ الأيَّام.
وما كان أحدٌ من أساطين السياسة هؤلاء ليجسُرَ على الأيَّام فيقوم مقامها، وما كان أحد يجرُؤُ أن يفكك — بعد الاتِّكالِ على الله — قيود الأحوال والمناسبات؛ فقد كان المستر تشرشل مسئولًا لدى عُصبة الأمم، وكان السر برسي كوكس مسئولًا لدى المستر تشرشل، وكان الملك مسئولًا لدى السر برسي كوكس، وكان النقيب مسئولًا لدى الملك؛ إنه لجوٌّ مُفعَمٌ بعوامِلِ الخوف والجزع، فيتذبذب فيه تيار المحاولات والمراوغات، ويلوص في كلماته وميضٌ خفيٌّ ينعَكِسُ في قلوب المتفاوضين. إنَّ السبيل ضيِّقٌ، أيها السادة، ولا مفرَّ فيه من المسئولية، على أنَّه قد ينفرجُ، وسينفرج إذا مضينا مُستمرين في أيَّةِ جادَّة تنفسح أمامنا، وخيرُ الجادَّات أهونها.
مَن مِنَ السياسيين ينكر ذلك؟ مَن من السياسيين الممرَّنين على عقد المعاهدات الدولية يزدري الحكمة التي تفرضها المناسبات، ولا يختارُ من السبل أهونها وإن طَالَ؟ وسنعطيك الأمثلة من المقارنة بين المعاهدتَين؛ الأولى المنبوذة والثانية المنفَّذة.
المقدمة في نصِّ المُعاهدة الأولى سلسلة من «حيث إن» مُسندة إلى مُعاهدة سيفر، وميثاق عصبة الأمم، وصكِّ الانتداب.
أمَّا في النَّص الثاني فقد ضرب المتعاقدان بالمقدمة عرض الحائط، وسارا توًّا إلى قلب الموضوع فقرَّرَا ما يلي: يرى الملك فيصل أنَّ من مصلحة العراق أن يعقد مُعاهدةَ ولاء وتحالُف مع الملك جورج، والعاهلان واثقان مُطمئنان بأنَّ الصلات بين البلدَين ستقيَّم بما تبيِّنه وتحدده هذه المعاهدة.
المادة الأولى في النَّص الأوَّل: «يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يمدَّ العراق بما يلزم من المشورة والمساعدة خلال مُدَّة المعاهدة.»
ويتلو هذا في النَّص الثاني: «دُون أن يضرَّ بسيادته الوطنية.» ولكن المادة العاشرة تذهب بكلِّ مَا هو مقصودٌ في هذه العبارة من الاحتياطِ. وهاك نص المادة العاشرة في المعاهدتَين:
«يتعهَّدُ الفريقان المتعاقدان أن يُقَرِّرَا في اتفاقٍ خاصٍّ مُنفرد ما يراه صاحب الجلالة البريطانية لازمًا في العراق من عقود أو اتفاقات أو امتيازات، ويتعهَّد ملك العراق بالحصول على ما يلزم من التشريع لتنفيذ هذه الاتفاقات.»
المادة ١٦ في النص المنبوذ:
«يتعهَّد صاحب الجلالة البريطانية بقدر ما تسمح واجبات الملك، بألَّا يُعارض في أيِّ اتفاقٍ جمركي أو سواه يعقده العراق والحكومات العربية الأُخرى.»
المادة ١٩ في النصِّ المنفذ:
«يتعهَّدُ صاحب الجلالة البريطانية، بقدرِ ما يتناسَبُ وعلاقاته الدولية بألَّا يعارض … إلخ.»
أنت ترى أنَّ في النص الأول تنحصر الجُملة الاحتياطية بالدولة البريطانية، وفي النص الثاني تنبسط حتى تعمَّ الدول كلها، فأين منها سيادة العراق الوطنية واستقلاله الاقتصادي؟! فهو في النَّصِّ المنبوذ أقل تقييدًا منه في النص المنفذ. والاثنان يعلِّلانه، بدل أن يتعهدا له، بحريته في عقد الاتفاقات والمعاهدات الجمركية.
أمَّا التعديل الذي أُدخل على مادتَي ١١ و١٤، فلا تذبذُب فيه ولا مراوغة، هو صريحٌ جليٌّ قويمٌ، ولا عجب؛ فالحكومة التي طلبته وأصرَّت عليه ليست بحكومة العراق؛ بل هي حكومة الرأسمالية والديمقراطية — مهد مناقضات الزمان — هي الحكومة التي كانت تفرض مشيئتها وقتئذٍ على العالم الاقتصادي والمالي، هي الحكومة التي رفضت أن تنضمَّ إلى عُصبة الأمم، وما رفضت أن تشاركَ بالمنافع والحقوق التي لأعضائها.
وقد استمع السر برسي إلى المستر أُوِن يومئذٍ بالأُذن التي تسمع لممثل دولة من الدول العُظمى، ونَقَل كلامه برقيًّا إلى المستر تشرشل؛ فكان التعديل بعد ذلك في مادتَي ١١ و١٤.
جاء في نصِّ المعاهدة الأولى: «على العراق أن يُعامِل بالمساواة وبدون تمييز مواطنِي الدول المشتركة في عصبة الأمم.»
وقد أُضيفَ إلى هذه الكلمات في النصِّ المنفَّذ: «وأيَّة دولةٍ أُخرى يتعهَّد صاحب الجلالة البريطانية باتِّفاق أو مُعاهدة وإيَّاها بأن يكون لها الحقوق نفسها كما لو كانت عضوًا في عُصبة الأمم.»
«أية دولة أُخرى» هي أميركا بعينها، التي أحرزت قسمتها في نفط العراق، ومعها بضعة امتيازات في التنقيب عن الآثار القديمة. ألا يهم أميركا، بلاد الرئيس ولسون من البلدان المشمولة بالانتداب، غيرُ ما فيه منفعتها الماديَّة وشيء من المجد؟!
لِنَعُدْ إلى العراق؛ ليس في نصِّ المعاهدة الثانية من التغيير والتعديل غير ما ذكرتُ؛ فقد نُزع منها اسم الانتداب، وأُضيفَ إليها كلمةٌ مُبهمة في السيادة الوطنيَّة، وبدلت ﺑ «واجبات الدولة» و«الواجبات الدولية». أمَّا ما تبقَّى من المواد فهي بمعناها واحدة في النصَّين. وإن عَدَدْناها لِندركَ مقدار ما تضمَّنتْه من «المصالح المشتركة» و«الحقوق المتبادلة»، رأينا أنَّ أربعًا منها مع العراق، وتسعًا هي عليه. أضف إلى هذه المواد التسع الاتفاقاتِ الثلاثةَ الملحقة بالمعاهدة، أيِ التي تتعلَّق بالجندية والمالية والقضاء، تَرَ العجب في المساواة.
يوم وُقِّعَت المعاهدة قام بعض الوطنيين يحتجُّون، فاجتمعوا وخطبوا، وجاءَ فريق منهم إلى بيت النقيب، فأَذِنَ لهم بالدخول، وسمع خطيبهم يخطب، ثمَّ سألهم قائلًا: «وبِاسم مَن تحتجُّون؟» فأجابوا: «باسم البلاد.»
فنهضَ إذ ذاك عن الديوان يهزُّ عصاه ويقول: «ومَن أنتم لتحتجوا باسم البلاد؟ أنا صاحب البلاد، وأنا أعلم منكم بحاجات البلاد وأغراضها. عُودوا إلى بيوتكم وأشغالكم.»
خرجوا ساكتين.
وبعد شهر سَكَتَ صاحب البلاد نفسه. بعد شهر سقطت وزارة النَّقيب الثَّانية، وسكتت دار الانتداب، ولم تكترث للأمر. فتساءل النَّاس قائلين: «أين وفاء الإنكليز؟» وقال البغدادي بلهجته العريضة المعروفة: «يُسَخِّرونه، ويُضَجِّرونه، ويهجرونه!»
كان السر برسي كوكس يومئذٍ في العقير عاملًا وابن سعود في تصفية الجو المتعكِّر بين نجد والعراق، وتسوية العلائق النجدية البريطانية، فيبرزها كلها جليَّة صافية في مُعاهدة أو مُعاهدتَين، ولا سيما أنَّ مُدَّته كمندوبٍ سامٍ كادت تنتهي، فَكَرِهَ أن يترك مسائلَ متوقدة، ومشاكلَ معقَّدة، إنْ في العراق أو في نجد؛ لذلك كان جادًّا في إطفاءِ النَّار، وفي حلِّ العقد هنا وهناك، فيستطيع إذ ذاك أن يحمل إلى لندن النبأ السار أنَّ كل شيء هادئ في الميدان العربي.
وممَّا هو جديرٌ بالذِّكر أنَّ مُهمته كانت كثيرة العقبات، شديدة المشقَّات، خُصوصًا وقد كان عليه أن يُرضي العرب والحكومة البريطانية وعصبة الأمم، وحتى الولايات المتحدة. فمهما قِيلَ في المُعاهدة والدَّور الذي مثَّله على مسرحها ووراء مشاهده، فممَّا لا ريبَ به أنَّه كان من المُشِيدين للملك الجديد، وممَّا هو دُونَ كل ريب أنَّه وضع أسس السِّلم والولاء بين البلدَين، نجد والعراق. لكَ أن تقولَ في سوى ذلك إنَّه ماهرٌ في الترقيع، ولكَ أن تقول كذلك إن قطباته في الرَّتْق غير مُحكَمة، يبدو عليها أثر السرعة والتعب. هذا صحيح، وهو نفسه عالمٌ به، وقد كان مُدرِكًا ما في المعاهدة من الغبن للعراق، وغير راضٍ بأن تستمر عشرين سنة.
عاد من العقير يحمل في صدره، وفي مذكراته، من المعلومات الخاصَّة بنجد والعراق ما لا يستطيع أن يرسله بالبرق أو بالبريد إلى وزارة المستعمرات، فوجب عليه أن يُسافر إلى لندن قبل أن تنتهي مدَّة وظيفته، وقد وَعَدَ الملكَ فيصلًا أنه سيبذل كلَّ ما في طاقته ليجعل مدة المعاهدة خمس سنوات بدل العشرين.
بَيْدَ أنَّ الأمور في وزارة المستعمرات تجري في مجاريها الخاصَّة المحدَّدَة، وأنَّ للعقل القانوني فيها قوالب لا بدَّ منها؛ فهي إذا تكارمت مثلًا تختارُ لكرمها القالبُ الذي يليقُ ظاهرًا به، ضيِّقًا كانَ أو وَاسعًا. ومن هذه القوالب الألفاظُ الشرطية والاحتياطية.
فقد قرَّرَت تلك الوزارة بعد أن سمع رئيسها المستر تشرشل إلى السر برسي أنْ تعدِّل المادتَين ٦ و١٨ في مُلحق للمعاهدة، وهذا الملحق يقولُ: «إنَّ المعاهدة تنتهي عندما يصير العراق عضوًا في عصبة الأمم، وفي كلِّ حال لا تتجاوز المدة أربع سنوات من تاريخ إبرام الصلح مع تركيا.»
هو العقل القانوني بتنطُّعه وتحوُّطه؛ فقد أبدل بوعد غير مقيَّد بشرط — وإن بَعُدَ يوم تحقيقه — وعدًا مُحدَّدًا ومُقيَّدًا بشروط، ومن هذه الشروط أنَّ المعاهدة لا تنتهي إلَّا بموافقة عُصبة الأمم (المادة ١٨)، فإن تمَّ الصلح وتركيا، ومرَّت بعد ذلك الأربع سنوات، ورفضت عصبة الأمم أن تعترفَ بانتهاء المعاهدة، ظلَّ العراق مكانه، بل عاد إلى الجهاد حيثما بدأ به.
ومع ذلك كله فقد رحَّب الملك فيصل بهذا الملحق، وأذاعَ بلاغًا على الأمَّة قال فيه إنَّ الحكمة تمكَّنَت «أن تخطو خطوةً كبيرة أُخرى في سبيل تحقيق أماني العراق؛ وذلك بعقدها الملحق الجديد للمعاهدة العراقية البريطانية، وكان من جُملة الأسباب الرئيسية المبني عليها الملحق تلك الخطوة السريعة التي خطتها حكومتنا في سبيل التقدم والاستقلال.»
كلام الملوك، مثل كلام الوزراء! ولكن الأمة، وإن كانت لا تدرك ما يدركه الملوك والوزراء، تقرأُ ما في قلبها، قبل أن تقرأَ ما في البلاغات الرسمية.