جهاد الملك فيصل
ما قُدِّر لملك من ملوك العرب في هذا الزمان اجتياز ما اجتازه الملك فيصل من غمرات المشاكل الوطنية والدولية، ولا قُدِّرَ لسياسي من ساسة الدول الصغيرة أن يوفِّق مثله بين شتَّى العناصر المُتضاربة التي اكتنفت المفاوضات لعَقْد مُعاهدة كانت تبدو دائمًا في طور التكوين، فلم يكن الوضع ليَثبتْ حتى في أساسه على حالٍ من الأحوالِ. هو وضع ذو أنوار وظلال مُضطربة مُتقلقلة، وضع مُقيَّد بعوامل من التبدُّل والتغير كانت تنبعث ليس من لندن فقط، بل من جنيف أيضًا، ومن أنقرة وطهران والرياض؛ فأين مِن هذا الاضطراب، وتضارب المنافع والأغراض، طريقُ الثقة والاطمئنان؟! أين تلك الطريق التي كان يتلمَّسها الملك فيصل ويتحسَّسها، وقلَّما يجدها سليمةً أمينة؟ ولا غرو، فقد كثر فيها لمع السراب، وتعدَّدَت فيها الحُفَر والأخاديد، فاشتدَّ في الملك الحذر وازداد الاحتياط.
إنَّها لحربٌ سلميَّة، إنها لحرب في الظلام، وقد تخلَّلَت واقعاتها سحُب من الغازات السَّامة؛ فجعلت التقنع، التستر، المخادعة، من لزوم الدفاع. وقد كانت القضية ومعضلاتها في منزلة من الأهميَّة تصغر عندها الشخصيات، وإن كانت مَلَكية، وتَضْؤل المطامح الخاصة، وإن كانت لِأَكْبر السياسيين؛ فمن أهمِّ الواجبات إذن أن تُحل هذه المعضلات، وتسوَّى تلك القضيَّة على مبدأ العدل الثابت، والرضى الدائم، فضلًا عن التأمينات الوطنيَّة والدولية. هذه هي الحقيقة الكُبرى التي قلَّما غابت عن بال الملك فيصل؛ فقد كان — والحق يقال — أشدَّ ملوك العرب شعورًا باشتراك المنافع، وأكبرهم تقديرًا للوضعية الأوروبية في هذا الاشتراك.
على أنَّ همَّه الأول أن يصون حقوق البلاد من غوائِلِ السياسة التي مرَّ ذِكْرُها؛ سياسة المخاتلة واللين، وأن يحفظ المملكة الفتيَّة من عوادي الشقاق والفوضى، التي بَدَأَت تفتِكُ بها في السنة الأولى من حياتها. وقد أَشفَقَ الإنكليز أنفسُهم ممَّا كان يهدِّد يومئذٍ العراق، فكتبَت المس بل إلى أمِّها، في شهر آب سنة ١٩٢٢ تقول: «إنَّنَا نخشى انفجارًا ثانيًا» (وهي تشير إلى الانفجار الأول؛ «أي الثورة الأخيرة»).
ولكان الانفجار لولا صبر فيصل وتعقُّله، لولا حنكته وبُعد نظره. وما بالى أن يُتَّهَم بالعداء للإنكليز، وما بالى أن يُقال إنَّه يؤْثر مصالحهم على مصالح البلاد؛ فقد مرَّ بالتُّهم الإنكليزية والعراقية مرَّ الكرام، ومشى إلى غرضه بقدمٍ ثابتة، وهِمَّةٍ صادقة. وما كانت مهمته هذه ممَّا يَغبطه عليه أحد من السياسيين أو الحكام؛ فهناك الدسائس والمؤامرات والمخاتلات والخيانات يُغالبها ويتغلَّب عليها، وهناك الأقليَّات والعشائر المتهيِّئون دائمًا لمناوأته يُداريهم ويُجاملهم ليستميلهم إليه. وقد كان لكلِّ خطوة اتجاه، ولكلِّ خطَّة مُلابساتٌ يختصُّ بها، وكانت كلها بمجموعها تؤدِّي به من مَوحلٍ إلى آخر أَوْحَلَ منه. مع ذلك كله فقد كان هدفه طول ذاك الجهاد واحدًا، بعيدًا ثابتًا ناصعًا لا يتغيَّر، ولا يُثنيه عنه شيء في مُغالبات النَّاس وحماقاتهم أو في نكد الزمان وعواديه، وهذا الهدف هو عُصبة الأمم؛ سعى وجاهد فيصل ليصل بالعراقِ إلى عصبة الأمم، لا لفضل فيها خاصٍّ، بل للتخلُّص بوساطتها من هذا الشيء الذي ولدته؛ من هذا الانتداب ابنها ومن نيره.
وقد كان عليه أن يقودَ العراق في اجتيازه المراحل، الواحدة بعد الأُخرى، إلى تلك المحجَّة البعيدة. بيدَ أنَّه كان مُقيَّدًا في القيادة بخطَّةٍ أُخرى غير خطته، بل بخطط غير تلك التي كانت تُوحي بها السياسة الفيصلية. وكيف لا، وللإنكليز وجهة نظر يجب أن تتقدَّم، وإن تغيَّرت كل يوم، وجهة نظره، أو تلتئم بها؟ وكيف لا وللإنكليز حق في الإرشاد، وأساليب في الإرشاد عجيبة؟ فعليه أن يسلك بمُوجبها، أو يتلمَّس سبيله بتعقُّلٍ إنكليزي، كما يتلمَّس الجواد طريقه خلال الضباب في لندن.
بل كان عليه أن يَرَى وراءه كما يرى أمامه، وأن يُحسن فوقَ ذلك شيئًا من علم المناقضات! وها نحن في الفصل الأوَّل من هذا العلم الطريف نَعْقد مُعاهدة تحالف مع حكومةٍ دستوريةٍ نيابيَّة، لا مجلس نيابيًّا لها ولا دستور! ولا بأسَ، فإنَّه من الممكن، في علمِ المناقضات، أن تَجُرَّ العربةُ الحصانَ. وعندما تدنو ساعة الأعجوبة؛ أي عندما تشرع الأمَّة في سنِّ دستورها الأساسي، ينبغي ألَّا يحدث ما قد يمنع الحصانَ مِن السير وراء العربة، وبكلمةٍ عربيَّةٍ مجرَّدة من المجاز الإنكليزي ينبغي ألَّا يكون في دستور الأمَّة — ذات السيادة — ما يُناقض مضمون المعاهدة. حاوَل فيصل أن يسيرَ بنورِ هذه الحكمة الإنكليزية، أن يهتدي بهذا الهدي البعيد الضياء، وأن يفوز فوق ذلك بحب شعبه.
بعد أيَّام من عَقْد المعاهدة، صدر بلاغٌ ملكي بوجوب انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، ليجتمع في الشهر الأول من سنة ١٩٢٣، ولكن المُعارضة المستمرَّة حالَت دُونَ مُباشرة العمل، وكانت تزداد شدَّة في الشيعة؛ إذ أفتى المجتهدون بمقاطعة الانتخابات، وهم يموِّهُون سياستهم الفارسية بما يظهر من عطفهم على الأتراك. وكان آية الله مهدي الخالصي أشدَّ زملائه تطرفًا وأنكرهم مكابرة حتَّى في مُجابهة الملك، فغضب رئيس الوزارة عبد المحسن السعدون غَضْبته الأولى، وأمر بتسفير آية الله.
عندما أُبعد مهدي الخالصي إلى بلاد فارس، صاحَ زملاؤه محتجِّين، وختموا احتجاجهم بأن حَمَلَ كلٌّ منهم عصا الترحال، ونَفَضَ عن نَعلِهِ غبار العراق. راحوا يُشاركون أخاهم الأكبر منفاه في طهران، فحَمْدَلَ السعدون، ولكن العقبات ظلَّت قائمة في سبيله، بل كانت المِحنةُ محنته تشتد بدعاء أولئك المجتهدين، على بعدهم، وبصلوات أتباعهم الحارَّة.
فزع الملك، وفزع العميد إلى السعدون. توحَّدَت قوَّات البلاط ودار الانتداب والحكومة على المُعارضة، ففَتَّتْ في ساعدها، وما تمكنت من القضاء عليها. قد استمرَّت الحال هذه سنةً كاملة، سقطت خلالها، وزارة السعدون، فجاء جعفر العسكري بأمرٍ ملكي يستأنف الجهاد؛ جهاد المعارضين بانتخاب المجلس؛ لأنه — كما ادَّعَوا — سَيَسِنُّ قانونًا للاعتراف بالمعاهدة. مضت وزارة العسكري في سبيلها، وكانت يَمُدُّها البلاط ودار الانتداب بكلِّ ما لديهما من السلطة القانونية والنفوذ المعنوي — غير القانوني — وكانت في النهاية مُوفَّقَة، فَجَرَتْ الانتخابات واجتمع المجلس التأسيسي، الذي فتحه الملك فيصل في ٢٧ آذار ١٩٢٤؛ أيْ بعد سنة وخمسة أشهر من توقيع المعاهدة.
في تلك الاثناء عُقدت وثيقتان، في لندن ولوزان، هُمَا للعراق على جانبٍ من الأهمية؛ الأولى: الملحق الذي جعل مدَّة المعاهدة أربع سنوات بدل العشرين سنة، والثانية: معاهدة الصلح بين تركيا والحلفاء. فجاءت هاتان الوثيقتان مددًا للحكومة في خضد شوكة المعارضة ولو خارج المجلس. أمَّا في المجلس فقد كان الوطنيُّون المتطرِّفُون الأكثريةَ فيه؛ فحملوا على المُعاهدة، وخصوصًا على مُلحقاتها الثلاثة التي تتعلَّقُ بالجنديَّة والمالية والقضاء، حملاتٍ شديدةً، تخلَّلَها نوع من الجَدَل لا يندر في الغرب، ويُستغرَب في الشرق، فدارت رحى القتال، بالأيدي والكراسي، بينهم وبين أنصار الحكومة. وكان حزب العُمَّال البريطاني قد فَازَ في الانتخابات، فتولَّى الحُكم هناك، فناطَ المتطرفون بوزارته كبير الآمال، وأمعنوا بالعصيان. إن أحرار بغداد يُحيُّون أحرار العمال في لندن ويستعطفونهم.
رأى المندوب السَّامي الجديد السر هنري دُوبس شيئًا من البراعة في هذه المناورة، فحاول مُغالبتها بتعديل الاتفاق المالي، وهو غير متيقن ما قد يكون موقف الحكومة الجديدة فيه، وما عتم أن جاءه الخبر اليقين، فلا يزال النور في وزارة المستعمرات نور المستر تشرشل، ولا تزال السياسة في عهدِ العمَّال كما كانت في عهد السَّلف؛ «العربة تجر الحصان.»
أجل، يجب أن تُقرَّ المعاهدة قبل كل شيء، وبعد ذلك «تُعيد الحكومة البريطانية النظر في تعهدات العراق المالية.» كان أحرار بغداد يتوقَّعُون غير هذا من إخوانهم أحرار لندن! فازدادوا تمرُّدًا؛ إذ رأوا عكس ما أملوه، وتفانوا، لَجَئوا إلى الكراسي في سبيل المُعارضة، فأَرْسَلَت إذ ذاك وزارة المستعمرات بلاغها المُصعق: إن لم يتَّخِذ المجلس حتَّى اليوم العاشر من حزيران قرارًا حاسمًا، تَحسب الحكومةُ البريطانية المعاهدةَ مرفوضةً، وتسترعي نظر عُصبة الأمم إلى الانتداب. وبكلمةٍ أُخرى قد أنذرت العراق بالحكم الإنكليزي التام، بالحكم المباشر.
ممَّا شجَّعَ الحكومة البريطانية يومئذٍ في هذا العمل مفاوضتُها والأتراك بشأن الحدود العراقية الشمالية، وقد كانت الموصل موضوع البحث والنزاع. فهل تفادون بالموصل، يا أحرار بغداد؟! نعم، الموصل، ستخسرون الموصل. وسرى التهامس في الدوائر السياسية وفي الأندية؛ سنخسر الموصل حتمًا إذا رفضنا المعاهدة.
بيدَ أنَّ المجلس كان قد ارْفضَّ لأجلٍ غيرِ مُسمًّى، فصدر الأمر باجتماعه، فأطاعَ الأمر ثلثان أو أقلُّ مِن أعضائه. وعندما جاءَ اليوم العاشر من حزيران، وأدبر نهاره، وأقبل ليله، لم يكن قد توافرَ النِّصاب، فبادَرَ بعض رجال الحكومة والبلاط لكشف المِحنة، راحوا يفتِّشُون في بغداد عن الأعضاء المتلكِّئين والمختبئين؛ فاهتدوا إليهم وتوسَّلُوا — حاسنوهم بالكلام وجاملوهم وَوَعدوهم وأَوْعَدوهم — وظفروا بعد ذلك بهم. فجاءوا المجلس وكمل النصاب في السَّاعة الأخيرة. كانت تلك الليلة من ليالي فيصل المدلهمة، ولكنه في مُنتصف الليل تنفس الصعداء؛ إذ جاءه الخبر أنَّ المجلس أقرَّ المعاهدة على أنَّه أضافَ إلى الإقرار مُلحقًا يعرب فيه عن أمله بأن تعدِّل الحكومة البريطانية، برًّا بوعدها، الاتِّفاقَ المالي في القريب العاجل، وألَّا تتنازل لتركيا — في أيِّ حالٍ كان — عن ولاية الموصل. وبعد ذلك استأنف أعماله بهدوءٍ وسكينة، فأنجز الدستور وقانون الانتخاب وأقرَّهما، ثم انفضَّ عقده، وتفرق أعضاؤه.
هذه هي المرحلة الأولى التي اجتازها العراق في طريقه إلى عُصبة الأمم، وقد اجتازها على ما كان من مُقاومة الشِّيعة، ودُون أن يحدث ما يُنكِّد عيش المتشرعين والمتعاهدين. ومن الحقائق الأُخرى الثابتة هو أنَّ الحكومة البريطانية سترشح العراق لعضوية العُصبة في سنة ١٩٢٨؛ أيْ بعد أربع سنوات من تاريخ معاهدة لوزان، فماذا عسى أن يكون بعد ذلك شأن المعارضة؟ بل ماذا عسى أن تقولَ في الحكومة البريطانية، وقد برهنت في تلكَ السنة بعد شهرين من إقرار المعاهدة، عن صدق نيَّاتِهَا؟ فوقف اللورد بارمور في مجلس العصبة بجنيف في دورة أيلول يقدِّم المعاهدة العراقيَّة ومُلحقاتها للموافقة، ويقول: «قد تقدَّمَ العراق في السنتَين الأخيرتَين تقدُّمًا سريعًا؛ ممَّا يجعل سياسة الانتداب، وفقًا للمادَّة ٢٢ من ميثاق العصبة، غيرَ موافقة له بعد حين.» ثمَّ أعرب عن يقينه أنْ سيصبح في سنة ١٩٢٨ أهلًا لعضوية العصبة، فترشحه الحكومة البريطانية لذلك. وقد نهجت هذا المنهجَ الحكومةُ البريطانية في تقريرها عن العراق لعام ١٩٢٥، فتكلَّم مندوبها أمام لجنة الانتدابات الدَّائمة بلهجة أَصْرَحَ من لهجة اللورد بارمور عن تقدُّم الحكم الوطني الدستوري. وممَّا لا ريبَ فيه أنَّ بريطانيا كانت راغبة في إنهاءِ الانتداب رغبةَ العراق، رغبةً صادقة، اللهم بعد أن تكون قد أمنت هناك بوساطة المعاهدة والمصالح البريطانية.
ها هنا حد السلامة، ها هنا تقف الحكومتان أمام العقبات التي نشأت عن مسألة الحدود التركيَّة العراقية. ومع أنَّ نيَّات الحكومة البريطانية كانت صادقةً شريفة في هذا الأمر، فقد أخفقت مساعيها لحسمه مُباشرة، فاضطرَّت إذ ذاك أن تحيله إلى عُصبة الأمم، عملًا بمضمون مُعاهدة لوزان. وقد عيَّنت العصبة بناءً على ذلك لجنةً مِن قِبَلها، فزارت العراق في أوائل سنة ١٩٢٥، وقضت ثلاثة أشهر تستكشف الحدود الشمالية وتحققها، وتدرس أحوال الأقليَّات هناك، وتسمعهم يشكون ويتدلَّلُون.
وكان الآشوريون أشد تلك الأقليات المزعجة إزعاجًا، مع أنه لم يكن لهم، في ذلك الحين على الأقل، ما يبرِّرُ الشكوى، بل كانوا — عكس الأمر — مغمورين بالعطف مدلَّلِين. عطفت عليهم حكومة العسكري، ودلَّلَتهم حكومة الهاشمي، وجاءهم حتَّى من الملك فيصل الكلمة التي فيها كل الضمان والأمان؛ فقد تعهدت الحكومة العراقية أن تقدم الأراضي لأولئك الذين يضطرون بعامل التحديد الجديد أن يَخرجوا من بلادهم، وأن تُنشِئ إدارات محليَّة تضمن لهم الحريَّة في مُزاولة أعمالهم، وفي المُحافظة على تقاليدهم وثقافتهم، وقد كان لموقف الحكومة العراقية الوقع الحسن في نفس اللجنة، فخطَّطَت مطمئنةً الحدودَ التي ضمنت ولاية الموصل للعراق.
غضب الأتراك لذلك، وبعد أن أعلنت الحدود الجديدة التي دُعيت «بخطِّ بروسل»، اخترق جنودُهم تلك الحدود، وهجموا على بعض القرى، فذبحوا أهلها الأكراد والآشوريين، وتقدَّمُوا في إِغارتهم جنوبًا، وهم يُهدِّدُون بالاستيلاء على الموصل، فروَّعُوا حتى عُصبة الأُمم التي عَيَّنَت لجنةً أُخرى لإعادة النَّظر في تلك الحدود. جاءت اللجنة الثانية، وساحت، ودرست، وحققت، وقدمت تقريرها إلى العصبة في جلسة كانون الأول ١٩٢٥.
بينما كانت اللجنة قائمة بعملها في الشمال، انتخب العراق مجلسه النيابي الأول، ففتحه الملك فيصل في غُرَّة تموز، وهو مُستبشر بهذه الخطوات التي تقرب منه تلك المحجَّة القصيَّة بجنيف، فهاكم دستورنا، وهاكم مجلسنا النيابي، وهذه حدودنا الشمالية قد تحدَّدَت، فماذا تبتغون بعد ذلك منَّا؟
سافر الملك فيصل إلى أوروبا في الشهر التالي، وهو — على توعُّكه ووهن جسمه — فرحٌ مبتهجٌ؛ فقد رَاحَ في هذا الصيف مُستشفيًا، ومُستكشفًا جو السياسة، وكان أمله أن يصل بالعراق إلى العصبة قبل اليوم المنشود. وما المانع، ونحن نجتاز المرحلة بعد الأُخرى بسرعة مُدهشة؟ فراسَل وحادَث وقابَل مَن لهم النفوذ الأكبر في السياسة الدولية وفيهم المخلصون والمحبون، وظلَّ على اتصال بهم وهو يستشفي بأحد الينابيع المعدنيَّة بجنوب فرنسا.
بيد أنَّ هناك كذلك، في حومة السياسة الدولية، غير المخلصين والمحبِّين وغير العاملين في سبيل السلام، وغير الآمرين بالمعروف، وهم من أصحاب الأمر والسلطان. وقد كان لأصواتهم ولهمساتهم — وحتَّى لأنفاسهم في الجوِّ المضطرب — مكانٌ؛ أيُّ مكان، فلا بد أن يكون قد سمع فيصل — كما سمع بكلِّ الرواية مَكْبث — بعضَ أصوات الحقيقة في ذاك الصيف مِن فَمِ «بنات الديجور»؛ بنات عمِّ النفَّاثات في العُقَدِ. وأَخْلِقْ بهن أن ينطقن، إنْ في هذا الشرق أو في ذاك الغرب، بِاسم زمان عُتُلٍّ زنيمٍ.
إيه أيتها السواحر الشقيقات، النَّافخات والنافثات، إيه بريطانيا وتركيا وجنيف، انفخن في النار السياسية، انفثن في العقد الدولية، وقلِّسن، قلِّسن في غابات الأسرار، حول النار، وتنبَّأنَ لهذا الملك العربي، المتحدِّر من صلب النبي.