فيصل العرب
كان مجلس العصبة يدرس في ذلك الحين تقرير لجنة الحدود الثانية، فأثبتَ في جلسة كانون الأول ما قررتْه اللجنة الأولى. أيد خط بروسل على شرط — على شرط — أن تعقد إنكلترا والعراق مُعاهدةً جديدة لمدة خمس وعشرين سنة! «المليح قبيح والقبيح مليح …»
كان فيصل قد عادَ إلى بغداد مُتشائمًا، ولكنَّه لم يتوقع مثل هذا الشؤم ومثل هذه الكريهة. ما عدا عمَّا بدا؛ فقد أقرَّت العصبة منذ سنةٍ (في جلسة أيلول سنة ١٩٢٤) المعاهدةَ العراقية الإنكليزية، وأقرَّت الملحق الذي خفَّض مدتها من عشرين سنة إلى أربع سنوات. فما الذي جرى خلال السنة ليبرِّر هذا الانقلاب؟ وما السبب يا ترى في رفض الملحق ونبْذِه؟ هل وقفت العصبة هذا الموقف الجديد لخير بريطانيا أم لخير تركيا أم لخير العراق؟ أم هل كانت قد أُشربت حب الآشوريين والأكراد فهامت بهم، وأغدقت عليهم خمسًا وعشرين سنة من بركات الحماية البريطانية؟
لا شكَّ أنَّ الأقليَّات في ولاية الموصل كانت يومئذٍ في حاجةٍ إلى الحماية، وخصوصًا من غوائل الأتراك. ولكن العراق كان مُستعدًّا وقادرًا، فضلًا عن حليفته العُظمى، أن يقوم بهذه الحماية. أضِف إلى ذلك أنَّ دستور العراق يضمن لهذه الأقليَّات ما لسواهم في البلاد من الحقوق المدنية والدينية، فكيف تبرر عصبة الأمم موقفها الشاذ المحفوف بالغموض؟ إنه لمن الصعب جدًّا أن ندرك الحقيقة في نيتها وأغراضها، فهل هي في عملها إنسانية الشعور، تعطف على أقليَّةٍ مظلومة، وتودُّ أن تخلصها وتضمن لها أسباب العيش والاطمئنان؟ أم هي في عملها أوروبية النزعة، مسيحية الشعور، تفصل بين دولتَين إسلاميتَين من جهة، وبينهما وبين دولة مسيحية من الجهة الأخرى، فتسمح بالدخول على مقرراتها لأغراضِ أقليَّةٍ مسيحية، أو بالحري لأغراضِ الرؤساء الدينيين لتلك الأقلية وأصحاب المصالح من أشياعهم؟
حَمَلَت بريطانيا قرار العصبة الجديد، وسارعت في تنفيذه. فوصلت المعاهدة الجديدة إلى بغداد في أواخر كانون الأول، فوقَّعَها رئيس الوزارة السعدون بعد أن وعده المندوب السامي الوعود فيما يتعلَّق بالاتفاق المالي، وبدخول العراق في عصبة الأمم، ثمَّ جاء الرئيس بالمعاهدة إلى المجلس، فتصدَّت لها المعارضة، يتقدمها ياسين الهاشمي، وطلب أن تُحال إلى لجنةٍ خاصَّة للدرس، فرفض السعدون الطلب، واقترح أن تكون المناقشة سرية، فأيَّد اقتراحه رجالُ حزب التقدم، وكانوا قد رفعوا إليه عريضة يُلحِّون فيها بالإسراع في المناقشة. وعندما أُخرج المتفرجون خرج رجال المعارضة، فلم يُبالِ رئيس الوزارة بذلك.
أُقفلت أبواب المجلس، واستؤنفت الجلسة بكلمةٍ من رئيس الوزارة وجيزةٍ صريحةٍ شديدةٍ: «أيها السادة، إذا رفضنا أن نُقرَّ هذه المعاهدة خسرنا الموصل، وما دام الأمر كذلك، فلا بأس إذا جاملنا المندوب السامي في طلبه، بل في طلب وزير المستعمرات المستر إِمَري، وهو أن يتمَّ الإقرار قبل افتتاح دورة مجلس العموم البريطاني في أول شهر شباط.»
كان المجلس، أو ما تبقَّى فيه بعد خروج المعارضة، من حزب السعدون، فبالغ بالمجاملة، بعد الحوقلة والاتِّكَّالِ على الله، وأقرَّ المعاهدة؛ إِكرامًا للموصل لا للمستر إمري، في ١٨ كانون الأول، بما يُقارِبُ الإجماع.
وفي هذه المعاهدة عاد الإنكليز إلى تعديل نصِّ عهدهم الذي يتعلَّق بدخول العراق عُصبة الأمم، فجاءَ كما يلي: «عندما تنتهي المعاهدة الأولى، عملًا بالملحق المعقود في شهر نيسان سنة ١٩٢٣، وبعد ذلك في كلِّ أربع سنوات مُتوالية إلى أن تنتهي الخمس والعشرون سنة، أيْ مدة المُعاهدة الجديدة، تنظر الحكومة البريطانية فيما إذا كان ممكنًا أن تتوسَّط لإدخال العراق في عصبة الأمم.» هو المطال والتمحُّل، بل هو العهد المنقوض، وقد رُطم العراق وتضعضع، وأمسى الملك فيصل في حالٍ شبيه بحاله في سنة ١٩٢٢، بل أشد وأنكد، وَاحَرَّ قلباه ممن قلبه شَبِمُ! …
ما وهن مع ذلك العزم منه، ولا ضعفت ثقته بالله وبنفسه، بل كان دائمًا يقول: «سنسير بعون الله من مُعاهدة إلى أُخرى، وسنظفر بالتي فيها حقنا بأجمعه، سنظفر بالمعاهدة التي ستدوم.» وبعد بضعة أشهر أنعشت آماله وآمال العراق المعاهدة الثلاثية — التركية العراقية البريطانية — التي عُقِدَت في أنقرة في الخامس من شهر حزيران ١٩٢٦، فاعترفت تركيا بخطِّ «بروسل»، سلمت للعراق بولاية الموصل.
أدَّب الملك مأدبةً رسميَّة؛ احتفالًا بهذا الحدث وتَفَاؤلًا به، فخطب خطبة أعرب فيها عن رغبته الشديدة بالسِّلم وجيرانه كلهم، وأنه سيبذل ما في طاقته في هذا السبيل. وقد أشار المندوب السامي في تقريره إلى هذه الخطبة، فقال: إنَّه «أعرب عن امتنانه للحكومة البريطانية، وتقديره لجهود ممثليها في سبيل العراق.»
على أنَّ الحوادث التي تتابعتْ بعد ذلك وتفاقَمَت لا تشفُّ عن شيءٍ من روح الامتنان والتقدير، ليصوِّر المندوب صورَهُ السياسية الزَّاهية الألوان، ليموِّه وينمق المحال ما شاء وشاءت السياسة، فإنَّ الحقيقة البارزة النَّاصعة هي أنَّ العراقيين فقدوا الثقة بالإنكليز، فقدوها كلها، وكان احتقارهم لممثلي الحكومة البريطانية يزدادُ يومًا فيومًا، احتقروهم ومقتوهم.
وكانت السنةُ التي عقبت إبرام المُعاهدة الأخيرة أظلمَ ما كان مِن عهد السر هنري دوبس المظلم؛ فقد توتَّرت العلاقات فيها بين البلاد ودار الانتداب وتكاثفت صفوف المُعارضة للسياسة البريطانية، وانتشر في البلاد روح عداء للبريطانيين باصرةٌ عاقلة، فكانت لذلك أبلغ وأسرع في تقويضِ سياستهم المعنويَّة والسياسيَّة. لا عجبَ، وهم هم المخلفون بالوعود، الناقضون للعهود.
أمَّا المعاهدة فما حلَّت من العقد كلها غير عقدةٍ واحدة؛ هي الحدود التركية العراقية. وظلَّت الاتفاقات الإضافية، المالية منها على الأخصِّ والعسكرية، مفتوحة للبحث، للمُحادثة، للنزاع. بيد أنَّ وزارة السعدون كانت تنتظرُ على الأقلِّ تسوية المشاكل المالية وتقويمها في اتفاقٍ جديدٍ، فخابَ أملها، واستعفى رئيسها عبد المحسن حردًا ناقمًا.
ثابر الملك فيصل وانتدب جعفر العسكري ليؤلِّف وزارةً جديدة، فجاء جعفر يُباشر العمل باسم الله، وباسم التفاهم العراقي البريطاني: «هم بَلِيَّتنا، يا أخي، ونحن بَلِيَّتهم، فيجب علينا أن نتفاهم لنحدِّد في الأقلِّ أجل البَلِيَّتَين.»
وكان المندوب السامي، السر هنري دوبس، قد بَدَأَ يشعر هذا الشعور ويدرك هذه الحكمة، ولا سيما أنَّ بليَّته الشخصية أَوجَبَت عليه الإسراع في العمل؛ إذ كانت أسبابها تتصل بوزارة المستعمرات التي طالما أصمَّت أذنها لاقتراحاته وآرائه، ولكنه توفَّق في النهاية إلى شيءٍ من الإقناع، فقَبِل رئيسه الوزير أن يُعاد النظر في المعاهدة لتعديل بعض بنودها.
بدأت المفاوضات فورًا في بغداد، ثم فرَّ المتفاوضون هاربين من حرِّ العراق، واستأنفوا العمل في لندن إبَّان الخريف، وكان الملك فيصل قد تقدَّمَهم إلى أوروبا ينشد العافية، ويستوحي عن كثبٍ مقاماتِ السياسة الدولية. فحطَّ رحاله على مياه «إيكس له بان» المعدنية، وكان اتصاله بوفد العراق في لندن سهلًا، على أنَّ المفاوضات كانت سريعة التطوُّر، فرأى الوفدُ أن يكونَ الملك أقرب إليهم، فأبرقوا بذلك إليه.
غادر الملك فيصل «إيكس له بان» فعرج على باريس في طريقه إلى لندن. ويوم كان في عاصمة الفرنسيس، قَرَأَ في الصحف، في الصفحة الأولى مطبوعًا بالحرف العريض، نَبَأً جاء من العراق، من كركوك، عاصمة النفط، يُنبِئُ بالحدَثِ الخطيرِ. إلا إنَّ «بابا كُركُر» لَمن المرسلين، «بابا كُركُر»؟ بِكرُ الآبار، ينطقُ بالخير، ويبشِّر بالبركات، فبينما كانت الشركة التركيَّة، التي مُنِحَت امتيازها في سنة ١٩٢٥، تسبر غور «كُركُر»، وقبل أن بلغت المائة والثمانين قدمًا إلى قلبه، انفجر انفجارًا هائلًا، وقذف بخيره عاليًا؛ مائة وستين قدمًا فوق الأرض! «بابا كُركُر»، «بابا كُركُر»! تبارك اسمك وتمجَّد! سيساعدنا نَبَؤُك على حل المشاكل والمعضلات. عَبَرَ الملك فيصل بحر المانش، وهو سابح في سماء من أحلام النفط والاستقلال.
ولكن لندن عدوَّة الأحلام، ووزارة المستعمرات فيها تقرأ أنباء «بابا كُركُر» وتمضي في أمورها، ومن تلك ما كان مُهيئًا لفيصل؛ فقد صُدم في وزارة المستعمرات يوم وصوله صدمةً عنيفة، جاءت في مذكرة كانت تنتظره هناك. جاش في صدره الغيظ وهو يقرأ ويتأمل خطَّ كاتبها، عَرَفَ الخط وتأكَّدَه، فازداد تغيُّظًا. نعم، هو خط المندوب السامي السر هنري دوبس نفسه، وفي كلماته التُّهم والتوبيخ؛ الملك فيصل يُناصب بريطانيا العداء، الملك فيصل لا يمثِّل العراق بما يفعل ويقول، الملك فيصل يُناصر المُعارضة ويشجِّع سرًّا المعارضين والمتطرِّفين. ينبغي أن يعلمَ أنَّه ملك دستوري لا يجوزُ له أن يتدخَّلَ في شئون الدولة، فيتركها لرؤساء الحكومة وللبرلمان، ويجب عليه أن يترفَّع عن المنازعات والسياسات الحزبية … سَأَلَ الملك معنى ذلك وبيانه، فقيل له إنَّه جاءهم في التقارير الرسمية من بغداد.
ليس في تلك المذكرة، نظرًا إلى الزمان والمكان، شيءٌ من حُسنِ الذوق، وليس فيها — نظرًا إلى الأحوال — شيءٌ من الأصالة والسداد. وهب أنَّ ما جاء فيها صحيحٌ، فهل تساعد يا ترى في إِنجاح المفاوضات؟ وهب أنَّ اضطراب الجو كان وقتيًّا، وأنَّ حلم الملك فيصل وصبره تغلَّبَا على شعوره؛ فكيفَ السَّبيل إلى التوفيق بين حقائق السياسة وظواهرها؟ كيفَ نستطيعُ أن نوفِّقَ بين مُعاهدة سنة ١٩٢٢ وبين الأحوال الحاضرة؟
ممَّا لا مِراءَ فيه أنَّ العراق — في الخمس السنوات الأخيرة — تَقدَّم تقدمًا يذكر، سياسيًّا واقتصاديًّا، وأنَّ النفقات البريطانية الإدارية والعسكرية هبطت هُبُوطًا جسيمًا. وممَّا لا ريبَ فيه أنَّ كفاية العراق للعضوية في عُصبة الأمم هي أظهر ممَّا كانت يوم رَفَعَ اللورد بارمور صوته في مجلس العصبة، وردَّد تقريره سنة ١٩٢٥ صداهُ أمام لجنة الانتدابات الدَّائمة، تنويهًا بالعراق، وتأييدًا لمطالبه.
أمَّا الوفد العِراقي فقد قاوم هذا التمحُّل وحاوَلَ التغلُّب عليه، مُصِرًّا على تعديلٍ يُعَدُّ تعديلًا. فأخفَقَ في مُحاولاته ومَساعيه، ووقف المتفاوضون أمام العُقدة التي لا تُحلُّ. فغضب العسكري بلندن، كما غضب قبله السعدون ببغداد، وحمل حقائبه وارتحل.
وكان الملك فيصل قد عَقد النيَّة على الرحيل، لولا فُرصةٌ سنحت لإعادة المحادثة والحكومة؛ فقد أُقيمت له مأدبةُ وداعٍ، حضرها بعض الوزراء، فخطب فيها خطبة بليغة بصراحتها. وممَّا قالَ إنه يؤثِرُ العودةَ صِفرَ اليدين على أن يحمل مُعاهدة لا تَفضُل التي سبقتها بشيءٍ، بل هي دونها في بعض موادها. فهزَّ الوزراء رُءُوسهم أنْ صحيح، وأكدوا له بعد ذلك أنَّ الأمل لم ينقطع، وأنَّ المأزق قد يتَّسِعُ للخلاصِ.
توقَّفَ الملك فيصل عن السفر، وأَبرَقَ إلى وزيره جعفر، الذي كانَ قد بلغ مرسيليا، يأمره بالعودة. امتثل جعفر للأمر، فَعادَ أدراجه، ثمَّ استُؤنِفَت المفاوضات وقُبلت المعاهدة دون تعديل فيها يستحقُّ الذكر. فما السبب يا تُرى في هذا الانقلاب الفجائي؟ ما الذي حَمَلَ الملك والعسكري على القبول، بعد أن صرَّحَ الأول ذلك التصريح، وأعرب الثاني عن رفضه بالرحيل؟ هل اعتمد الملك على وعود الوزراء أصحابه ومعها ضمانات رسمية سرية، أم هل كان الملك مُكرَهًا؟
أقف ها هنا لأقول كلمة فيها بيانٌ شخصي؛ ليلة كان الملك فيصل يقصُّ عليَّ قِصَّةَ هذه المعاهدة، أو ما كان قسمته فيها من المفاوضات المفرحة والمفجعة، من «بابا كركر» في صحف باريس إلى تلك المذكرة في وزارة المستعمرات بلندن، جاءه رئيس الوزارة نوري السعيد بالخبر السارِّ من منطقة القتال ببارزان، فتحوَّل الحديث من لندن إلى بلاد الأكراد، وما سنحت بعد ذلك الفرص. سنحت الفرص؟! إنما هي كلمةٌ باطلة لا يجوزُ أن أموِّه بها ذنبي؛ فقد ذهلت عن الموضوع فيما كانَ بعد ذلك من المَجَالِس والأحاديث، وما عَادَ الملك إليه. وقد يكون شريكي في الذنب — رحمه الله — فشغلني مرارًا عن السياسة بتلك الأحاديث الحافلة بالعبر وباللطائف البشرية.
بيد أنِّي أستعينُ، وأنا أعود الآن إلى تقصِّي الحوادث، ببعضِ الوثائق والتَّقَارير الرسميَّة؛ علَّني أستطيع أن أجلو للقراء خبر ذلك الحدث أو أزيل شيئًا من غُموضه.
أُعيدُ إِذَن السؤال: هل كانَ الملك فيصل مُكرَهًا في قبولِ مُعاهدة سنة ١٩٢٧؟ يُسارع بعض الكتَّاب والسياسيين العرب، في مثلِ هذه الأحوال، إلى اتِّهام الحكومة البريطانية بالمكرِ والخداع، دُونَ أن يتحقَّقُوا الحوادث، ودُونَ أن يُثبتوا التُّهم. وقد قالوا في الحادث الذي نحنُ بصدده إنَّها أثارت عرب نجد على العراق في ذلك الحين لتنفِّذ سياستها فيه؛ لتجبر الملك فيصلًا على قبول المعاهدة. وفي ظاهرِ الأمر ما يُبرِّرُ الظَّنَّ على الأقل؛ فقد أغارَ عرب نجد على العراق في خريف سنة ١٩٢٧ ثم في شتاء السنة التالية.
ولكن ذلك لا يُثبت الحقيقة كلها، فهل كان عرب نجد، أو بالحري هل كان الملك عبد العزيز بن سعود مدفوعًا من الحكومة البريطانية في تلك الإغارات لإكراه العراق وإذلاله؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيفَ اتفقت يا ترى تلك الإغارات وانقطاع تلك المفاوضات بتاريخها الواحد؟ فهل هي الصدف؟ هل هي الأقدار التي أضرمت النار على حدود العراق عندما كان العسكري يتجهَّزُ للرحيل؟ فإذا كانت الصدف أو الأقدار بريئة من هذا الاثم، فهل الإنكليز بريئون؟ وإذا لم يكونوا بريئين، فهل الإنكليز وحدهم ملومون؟ أوَليس اللوم الأكبر على العرب الذين يَقبلون بأن يُذِلُّوا إخوانهم العرب لإعزاز الأجنبي؟ إنِّي أجلُّ ابن سعود عن مثل هذه المعرَّات. وإنَّ الحقائق الرَّاهنة في هذه المسألة لا تبرر حتى الظنون؛ فقد كان لحوادث نجد وإغارات أهله أسبابُها النجدية العراقية، وكان للإنكليز كذلك يدٌ فيها، ولكن الصِّلَة مفقودة بين سياسة الأمن وسياسة المعاهدات. وبكلمةٍ أُخرى إن للسلسلة التي تربط البادية بوزارة المستعمرات حلقةً مفقودة، ولا نظنُّها، فيما يتعلَّقُ بموضوعنا موجودةً.
أمَّا الملك فيصل، فإنِّي أميلُ إلى الاعتقادِ أنَّه كان يُجاري الوزراء أصحابه ويتبع في الوقت نفسه سياسة خاصَّة به، فيوصل الخيوط ويقطعها عملًا بتطوُّرِ الأحوال. أَذكر كلمةً بليغة لأحد العرب وفيها حكمةٌ رائعة: «غلبتمونا ولكنكم جهلتم أنَّنَا شِئنا هذه الغلبة لكم.» ولا عَجَبَ إذا انتهج الملك فيصل هذا المنهج، بعد تلك الوليمة، وهو متيقِّنٌ أنَّه سيرطم الإنكليز برطمة المعاهدات التي تتابعت السنة بعد السنة، فتزداد العقد تعقيدًا، ويقنطون إذ ذاك من الغلبات غير المفيدة.
وكان بعض السياسيين قد بلغوا هذه المرحلة، فقامت صحافتهم تندِّدُ بالحكومة — هذه هي الدعاية التي رحَّبَ فيصل بها — فقالت إنَّ الحالة أمست لا تطاق، وإنها «من أنكر الحالات في العلاقات الدولية الحاضرة» وعندما يرفض المجلس النيابي العراقي المعاهدةَ غدًا، فماذا عساها أن تقولَ في «الحالة المنكرة»؟ إذن سنورد هذه المعاهدة حتفها، سنشيعها إلى القبر، وسيكون في الجنازة النَّصر الباهر للمُعارضة … للبلاد!
أمَّا الحكومة البريطانية فقد أعدَّت كذلك العدَّة للعمل، وكان المندوب السامي السر هنري دُوبس متأهِّبًا للسفر والجهاد. واحد يريد دفن المعاهدة وآخر يريدُ تتويجها. انتقل المسرح من لندن إلى بغداد، وجاءَ المُتصارعون — الملك والعسكري والسر هنري — يستأنفون الصراع، من مدينة الضباب جاءوا إلى مدينة الغبار، وفي الحالَين حال الستار، دُون الأبصار.
ما كان المندوب السامي لِيَطمئن إلى وزارة العسكري فباشر لإسقاطها، ولو كان له أن يرى شيئًا من مُناورة جعفر الأولى لكفى نفسه مئونة المناصبة. جاء جعفر بالمعاهدة للدفن لا للتتويج، وأول ما كان من مناورته عند وصوله إلى بغداد أنه أذاع مضمونها، فأثار عليها الرأي العام. حَمَلَت عليها الصحافة حملاتٍ شديدة، وقامت المعارضة تندِّدُ بها وبالوزير حاملها. رمى جعفر بالمُعاهدة إلى الأُمَّة تمزِّقُها قبل أن تصل إلى المجلس وهو يضحك في سره، ثم استقال. وقد عُدت استقالتُه النصرَ الأول للسر هنري دوبس.
ثم دُعي عبد المحسن السعدون لتأليف وزارةٍ جديدة. وعبد المحسن صديق الإنكليز، وهو الذي حمل المجلس منذ سنة على إقرار المعاهدة القائمة. لبَّى عبد المحسن الدعوة، فعُدَّ ذلك نصرًا ثانيًا للسر هنري.
وهذا البرلمان لا لا يُعوَّلُ عليه فينبغي أن يُحلَّ، وكان عبد المحسن يرى هذا الرأي فحلَّ البرلمان، وفاز السر هنري فوزَه الثالث.
ثمَّ جَرَت الانتخابات؛ وكان لحزب التقدم — حزب السعدون — الأكثرية السَّاحقة في المجلس، الذي اجتمع في أيار سنة ١٩٢٨، فتمَّ النصر للسر هنري دوبس.
أمَّا الملك فيصل فَقَد سارَ في الوقت ذاته سيره، ودبَّر تدبيره. أليس السعدون وزيره الأول، وزيره لا وزير سواه؟ أوَليس هو فضلًا عن ذلك من أشراف العرب، ومن كبار الوطنيين في العراق، والزعيم الأول المهيمن على حزبه، الممتَّع بثقةِ أنصاره؟ كان السر هنري عالمًا بذلك، وعالمًا فوق ذلك بأمورٍ كثيرةٍ، ولكنما فاته الشيء الذي فيه العلم كل العلم؛ وهو أنَّ صديقه السعدون قد غيَّر خطته السياسية، فلا يرى الآن من حاجةٍ إلى الضغط على المجلس، بل لا يرى أن يعرض المعاهدة عليه قبل أن يتمَّ تعديل الاتفاقَين المالي والعسكري. وهو إذا أصرَّ على ذلك يكفي نفسه شرَّ المُعاهدة، فتظل مدفونة في مكتبه؛ ذلك لأنَّ في الاتفاقَين عُقَدًا استعصى حلها على أسلافه وسلف السر هنري. وما كانت شروط الحكومة البريطانية هذه المرَّة أخفَّ ممَّا سبقها؛ فقد قُيِّدَت ملكية العراق لميناء البصرة ولسكة الحديد بقيودٍ ثقيلةٍ، وتمحَّلَت على عادتها في مسألة التجنيد الإجباري.
تلبَّدَ جو دار الانتداب بالغيوم؛ فقد تمرَّدَت لجنة المجلس المُعيَّنَة لدرس الاتفاقَين، فضربت باقتراحات المندوب السامي عُرْضَ الحائط. وتمرَّدَت الوزارة، فأصرَّت على تعديلٍ كُلِّيٍّ جوهريٍّ، وتمرَّد المجلس الذي أصبح حزب التقدم — حزب السعدون — أشدَّ تطرفًا من المتطرفين أنفسهم.
صُعقت دار الانتداب، تبلبل السر هنري دوبس، فالإذعان لإرادة العراقيين مستحيل، والرضوخ لمطالب العراقيين خيبة له، هو الطَّامع الآمل بإبرام المعاهدة، فعمل المكره عليه، قَبِل بالخيبة ثم استقال السعدون، وقد كان النصر الأكبر، في رفض المعاهدة والاتفاقَين، للأمَّة وللبلاط، فَهَتَفَ الملك بشُكرِ الله وحمده.
ولكن الحساب لم يَنتَهِ بينه وبين المندوب السَّامي، فلا يزال هناك دَينٌ صغير؛ تلك المذكرة في وزارة المستعمرات، المكتوبة بخط يده، لم يَنْسَها الملك فيصل. وعندما سقطت وزارة السعدون (كانون الثاني سنة ١٩٢٨) وأخفقت المساعي المكرَّرَة لتشكيل وزارةٍ جديدة، وأقبل السر هنري إلى البلاط يطلب مُقابلة الملك، حان وقت الحساب.
وعندما جاء المرَّة الثانية بالمُهمَّة نفسها أبرز تلك المذكرة، وقال: «هذا ما تريده أنت يا حضرة المندوب، يجبُ على الملك الدستوري ألَّا يتدخَّلَ بشئون الدولة، أليس كذلك؟ إنَّ شئونها الآن بيدك، ولكَ أن تُعيِّن من تشاء.»
مرَّت ثلاثة أشهر، والبلاد بلا وزارة، والملك فيصل في موقفه لا يتحوَّل عنه، فانكسفت دار الانتداب بعد انهزامها مرتَين متواليتَين، واستُرجعت المعاهدة التي كانت أصل الأزمة، وحانت أن تنتهي مُدَّة السر هنري دوبس كمندوبٍ سامٍّ في العراق، فانتهت قبل أوانها، وكان من الممكن أن تنتهي بأوانها وبسلام.
يتعهَّد صاحب الجلالة البريطانية بأن يتوسَّط لإدخال العراق في عُصبة الأمم بأسرَعِ ما يُمكن.
ينتهي أجل المُعاهدة بدخولِ العراق في عُصبَةِ الأمم، ولا يتأخَّرُ ذلك في أيِّ حالٍ عن الأربع سنوات من تاريخ عقد الصلح وتركيا.
عند انقضاء مُدَّة مُعاهدة ١٩٢٢ والملحق بها، تنظر الحكومة البريطانية فيما إذا كان العراق قد بَلَغَ الرقي الذي يُؤهِّلُهُ للعضوية في عصبة الأمم.
إذا استمرَّ العراق في رقيِّه الحاضر وظلَّت الأمور جارية مجراها الحسن، يؤيِّد صاحب الجلالة البريطانية في سنة ١٩٣٢، ترشيحه لعضوية العصبة.
«إنَّ هذا التقلُّب في موقف الحكومة البريطانية بَعَثَ الريبة في نفوس العراقيين بحسن نيَّات إنكلترا، ومكَّن فيهم الاعتقاد أنَّها لا ترغبُ في تأسيسِ دولةٍ مُستقلة في العراق، بل إنَّ قصدها الحقيقي هو أن تستعمرَ البلاد.»