فوز الملك فيصل
أمَّا السر غلبرت فقد تغلغل الموضوع في عقله وقلبه معًا. وبعبارةٍ أدق أقول إنه تغلغل في عقله، ودخل على قصدٍ إلى قلبه؛ فقد كانَ ذا علمٍ جمٍّ بالعرب والبلاد العربية، وكان لعلمه جناحان من الحبِّ والحماسة، فاستطاعَ أن يحلِّق والوطنيين في سماءِ الأماني والآمال دُونَ أن يُفادي بعقيدته، وأن يعودَ بهم إلى أرضِ الحقائق العمليَّة دون أن يفقد ثقتهم به. ومِن جميل يقينه وبليغِ حكمته، أنَّ أقصى الأماني الوطنية تتكيَّفُ وتلتَئِمُ والمصالحَ البريطانية، اللهم إذا رُوعيت فيها كرامة الوطنيين.
عندما وصل إلى بغداد في أوائلِ آذار من عام ١٩٢٩ كان الجوُّ السياسي في أشدِّ مظاهر القلق والريبة والخطر؛ فما زَالَت البلاد بدُونِ وزارة، وما زَالت الأزمة في اشتداد. وقد كان العراقيون، على اختلافِ مطالبهم ونزعاتهم، يشكُون كلهم من المستغربات والمناقضات في سياسة الإنكليز وأحوال البلاد؛ فأين السيادة الوطنية من الانتداب؟ وأين الجيش الوطني وأمره في الحقيقة بِيَد المندوب السامي؟ وأين الوزراء المسئولون قانونيًّا لدى المجلس ما دام المستشارون البريطانيون في الوجود؟ وهذا الجيش الضعيف الذي نريدُ أن نقوِّيه بالتجنيد الإجباري، والتجنيد الإجباري غير ممكن بدون جيشٍ قوي، وهذه الحكومة التي يحقُّ لها أن تعلن الأحكام العسكرية لا يحقُّ لها أن تنفذ تلك الأحكام، وهذه الحكومة المتولِّية إدارتَي ميناء البصرة وسكَّة الحديد، ولا تملكهما، وهذه الحكومة التي تدفع نصف نفقات المندوب السَّامي وديوانه دون حقِّ البحث أو السؤال، وبعد ذلك كله، هذه الحكومة العراقيَّة التي يزدريها الإنكليز، وهذه الأمَّة العراقيَّة التي يعبثُ الإنكليز بمقدَّراتها. لولا ذلك لما كانَ هذا التلوُّن منهم، وهذا التقلُّب في وعودهم وعهودهم.
إنَّ أولَ هذه الوُعود وأهمها في نظرِ العراقيين التوسطُ لدخول العراق في عُصبة الأمم؛ فقد قال الإنكليز في وعدهم الأخير: «إذا استمرَّ العراق في رقيِّه، وجَرَت الأمور مَجراها الحسن …» هذا التلون الأخير في الاحتياط دخل على القلوبِ فأفسد ما تبقَّى فيها من حُسنِ النيَّة والأمل، بل زادَ بمَا فيها من الغلِّ والشنآن، فقال العراقيون: «لقد خانَنَا الإنكليز.» وقال بعض الإنكليز أنفسهم: «كدنا بسياستنا نقضي على ثِقَةِ العراقيين بِنَا.»
كانَ السر غلبرت كلايتون سريع الإدراك، سريع العمل. وقد أدرك أن هذه الشكوى هي مفتاح المعضلة المحيِّرَة للألباب، انتهزَ الفرصة السانحة لحلها، أَقدمَ على العمل الذي يضمِّدُ جروح الكرامة العراقية، فيعيدُ إلى قلوب العراقيين الثقة بالإنكليز.
ولكن الشكوك ظلَّت سَائدة حتَّى في البلاط، وقبْل أن أَقدَمَ الملك على تجديد المفاوضات أرادَ أن يسبرَ غور المندوب السامي؛ فما هي مثلًا سياسته العربية؟ ما هي الصِّلَة التي تجمعه بابن سعود؟ فقد أفلحتْ مُفاوضاته في الرياض، وعَقَدَ والملك عبد العزيز باسم الحكومة البريطانية مُعاهدة ولاءٍ، بل معاهدتَين. لم يكن الملك فيصل ليهتمَّ بهذا الأمر في غير تلك الأحوال، وخصوصًا أنَّ العلاقات العراقية السعودية كانت لا تزال متوترة، فقد قاسى كثيرًا مِن حسنِ الظَّنِّ، وكان عليه أن يرعى الحديث: إنَّ سوء الظن من حُسنِ الفطن.
لذلك باشَر العمل متَّئدًا، فكانت الوزارة الأولى، التي تألَّفَت بعد وُصول السر غلبرت كلايتون بشهر واحد (٢٨ نيسان سنة ١٩٢٩) نوعًا من التجربة، وكان توفيق السويدي رئيس الوزارة مثل الجندي الذي يُرسَل إلى ما دُون خطوط النَّار للاستكشاف.
أمَّا السر غلبرت فما عتم أن كشف أمره؛ إذ قال في خطبةٍ له: «قبل أن تنتهي مدَّة وظيفتي، آمل أن أرى العراق متبوِّئًا الكرسي الذي هو جديرٌ به في عُصبة الأمم.» ثم مكَّن قوله في المذكرات مع الوزارة الجديدة، فأعرب عن رغبته الصادقة في تأييدِ العراق في مطالبه، وخطا الخطوة التي فيها كل اليقين وكل الاطمئنان؛ إذ أرسل إلى حكومته يقترح عليها أن «تلغي الشرط الذي يقيِّدُ وعدها بالتوسُّطِ لدخول العراق في عُصبة الأمم.»
خلال ذلك كانت الأزمة السياسية في إنكلترا قد انتهت بانهزام الأحرار والمُحافظين وبفوز العمَّال، فعاد المستر رمزي مكدونلد (في ٥ حزيران ١٩٢٩) إلى الوزارة؛ إذن ستنظر حكومة العمال في اقتراحِ السر غلبرت، ومع أنَّ الملك فيصل ورجاله لم ينسوا ما كان من تحفُّظ وزارة العمَّال السَّابقة في صيف ١٩٢٤ ومِن تذبذُبِها، فقد توسَّمُوا الخير في الانقلاب السياسي الجديد، وفي رجوع العمَّال للحكم، وأخَذ الجو السياسي في بغداد ينكشف وينجلي.
ولا عجبَ، إنَّ خمس سنوات من زماننا هذا لَتُغيِّر في طباع الأحزاب السياسية، إن لم يكن كذلك في مبادئها. انتفضت آمال العراقيين وحلَّقت عاليًا، ورأى الملك أنَّ الوقت قد حان لتغيير الوزارة السويدية التي استقالت في أواخر شهر آب. ولكن عبد المحسن السعدون، الذي دُعي لتأليف وزارةٍ وطنيَّةٍ قويَّة، تتمكَّنُ من مُعالجة الأمور في تطوُّرِها الجديد، أبى أن يفعل قبل أن تَقبل الحكومة البريطانية اقتراحات المندوب السامي.
نظرت تلك الحكومة في الاقتراحات نظرةً جديدة، فبدت لها هذه المرَّة في غير وجهها السَّابق، أو بالحري بدأت ترى ما فيها من العدل والإنصاف، والحكمة النَّاضجة. وقد تيقنتْ أنَّ العراق تَقدَّم تقدمًا يُذكر خلال السنوات الخمس، فظهر التحسن خصوصًا في إدارته المالية وفي الأمن العام؛ لذلك كان جوابها صريحًا جليًّا مُقنعًا؛ فقد تضمَّنَ الوعد الشَّافي غير المقيد بشرط ما أن ترشح العراق للعضوية في عُصبة الأمم في عام ١٩٣٢، وأن تُعلم مجلسَ العصبة بذلك في جلسته المُقبلة، كما أنَّهَا قرَّرَت العدول عن المعاهدة ١٩٢٧.
على أنَّ الأقدار — وا أسفاهُ! — قَضَت بألَّا يرى السر غلبرت كلايتون نتيجةَ سعيِه الأوَّل في سبيلِ العراق وبريطانيا، فقد صُرِمَ حبل حياته قبل أن يجتازَ المرحلة الأُولى من المشروع الذي تصوره لنفسه؛ ماتَ فجأة في بغداد، وهو في الخامسة والخمسين من سنِّه، مات في ١١ أيلول قبل أن يصلَ الجواب من لندن بثلاثة أيَّام.
لا نكران أنَّ تطور الأحوال أسعف مسعاه، ولا يفوتنا أن نذكر أنَّ سلفه السر هنري دوبس اقترح على وزارة المستعمرات اقتراحًا شبيهًا باقتراحه، بيدَ أنَّ مرجع الأول كان وزارة عمالٍ تجنح ضمنَ دائرةٍ معلومةٍ إلى البدع السياسية، ومرجع الثَّاني وزارةٌ محافظة، رأسها يابسٌ وقلبها متحجِّرٌ.
«رفعت مطالبهم (الضمير يرجع إلى العراقيين) بكاملها إلى الحكومة البريطانية، وقد كنتُ أميلُ إلى الاعتقادِ أنْ لا ضرر للمصالح البريطانية ولا للمصالح العراقيَّة، إذا عُقدت مُعاهدةٌ معدَّلة تبطل أنواع الاستيلاء البريطاني الرسمي كلها، وقد أدركت منذُ البدءِ أن الحكومة العراقية هي مُخلصة في ولائها، ومقدِّرة للمشورة حقَّ قدرِهَا، اللهم إذا لم تجئها بصورةِ التحكم، وما شككتُ قط أنَّها تعمل بالمشورة راضيةً شاكرة، إذا ما جردت من الواجبات التي تفرضها المعاهدة، فإنْ خُففت القيود الظاهرة، تمكنت القيود الحقيقية.»
لو صرَّحَ السر هنري بهذه الآراء على صفحات الجرائد في بغداد بدل أن يبعث بها إلى وزارة المستعمرات لِتخزن هناك، لَسهَّلَ لنفسه سبيل العمل النافع لبلاده وللعراق؛ فقد كان — ولا مِراءَ — إداريًّا قديرًا حازمًا، بَيد أنَّه زادَ بمصاعبه وبنفورِ النَّاس منه، فيما كان من تدخله الجائز وغير الجائز، بأعمال الحكومة. وقد كان في بعض الأحايين، مُستأثرًا مستبدًّا، فيقفُ موقف الحاكم بأمره ليوطِّدَ «الاستيلاء الرسمي»، ليفرض «المشورة» فرضًا، ليُعطي «صورة التحكم» رهبتها، ليمكِّن «القيود الظَّاهرة» مهما كانت عرضية. أسموه في بغداد «الجبار» وهو عكس ما كان عليه السر غلبرت كلايتون قولًا وعملًا، فلا عجب إذا شكرتْ بغداد الله على رحيل الأول، واسترحمته تعالى للثاني.
حزن الملك فيصل لمَّا نُعِيَ له السر غلبرت، وحزن لمَّا جاء الجواب المرضي من حكومة لندن، ولا يُستغرب إذا ما سبق الحزن الفرح إلى قلبه وهو كريم الشيَم، رقيق الشعور، فعندما جاءه الجواب قال مُتأسِّفًا: «لو أنَّ الله أمدَّ بأجل المندوب ليرى بعينه، قبل أن يُغمضها الموت، قبولَ حكومته بما اقترحه من أجل العراق.»
عندما أعلن جواب الحكومة البريطانية اهتزَّت له البلاد من أَقصاها إلى أقصاها، وذلك الجو السياسي الخبيث، المفعم بالرِّيبة المثقل بالغلِّ، غَدَا رائقًا نقيًّا مُشرقًا بالآمال، متموِّجًا بالثقة متألِّقًا بالسرور والارتياح. لله هؤلاء الشرقيُّون ما أسرعهم لتقديرِ الحسنى! وما أكرمهم فيه! وإن هذا الكرم وذاك التقدير لَمن تراثهم القومي والخلقي. فإذا ما رقص القلب طربًا، واهتزَّت العواطف عرفانًا بالجميل، أذاعت الأقلام آيات الحمد، ونثرت الألسن درر الثناء.
كان رئيس الوزارة عبد المحسن السعدون في طليعة المبتهجين؛ فقد جعل بيانه الوزاري (١٩ أيلول) خطبةً رائعةً مجنَّحَة، وهو فخورٌ أنَّ وزارته هذه تمثِّلُ البلاد كل التمثيل، ومتيقن أنْ ستُكلِّل أعمالها بالفوزِ الباهر. صدقت كلمته الأولى؛ لأنَّ الوزارة تألَّفت من الأحزاب السياسية كلها، ولكن رحى الحرب إنما هي في البلاط، يديرها الملك ويشرف عليها؛ فقد شاءَ أن تكونَ هذه الوزارة أقوى ما تقدمها، أعمَّها نفوذًا وصَولَةً، فكان من أعضائها ياسين الهاشمي زعيم المعارضة، وناجي السويدي ونوري السعيد، وكلهم قلبٌ واحد وفكرٌ واحد في الرَّغبة بالتعاون والحكومة البريطانية، كلهم متيقِّنُونَ أنْ ستتوفَّق المفاوضات هذه المرَّة، وسيفوز العراق سنة ١٩٣٢ بما يبتغيه.
بيد أنَّ الأقدار استمرَّت في تمردها، وما لبثَ المتفاوضون أن علموا أنَّ قلب المسألة لم يتغيَّر تغيُّرًا يذكر؛ فقد كانت الحكومة البريطانية تظن أنَّ وعدها المطلق بالتوسط لدخول العراق في عصبة الأمم يحمل العراقيين على قبول المعاهدة الجديدة، وإن كَانت بمضمونها لا تختلف كثيرًا عمَّا تَقدمها. فضلًا عن ذلك قد اختلف المتفاوضون مقامًا ومزاجًا؛ فالذي مثَّلَ دار الانتداب — أيِ المندوب السامي بالنيابة — لم يكن بإمكانه أن يحل أو يربط، بل كان عليه أن يُبلغ الحكومة العراقية مشيئة حكومته المتعسِّفَة، كان «جبارًا» بالنيابة، يثيرُ الأحلام ولا يسودها، وكانت الوزارة فيما سوى فكرة التعاون التي مرَّ ذكرها على تباين في العقليَّات والنزعات، رئيسها عصبي المزاج؛ تارة تخمد ناره، وطورًا تحتدم. وياسين الهاشمي جندي المنهاج، يضرب عندما تسنح الفرص ضربته القاضية، وناجي السويدي فِقهي الروح غزير المادة، كثير البوادر القانونية.
أضف إلى هذا أنَّ العقبات الكأداء كانت لا تزال قائمة في طريق المفاوضات. وهذه العقبات هي الاتفاق المالي، والاتفاق العسكري، وقوَّة الطيران البريطانية في العراق؛ فالوطنيُّون المتطرِّفُون، يتقدَّمهم ياسين، استمرُّوا يحاجون بخصوصِ ملكيَّة مرفأ البصرة وسكة الحديد العراقية وثمنها، وأصرُّوا على التجنيد الإجباري بمساعدة القوَّات البريطانية إذا اقتضى الأمر، وظلُّوا يعترضون على إنشاء قوَّةٍ بريطانية للطيران في العراق؛ لأنَّ ذلك يُنافِي السيادة الوطنيَّة والاستقلال.
أمَّا الرئيس عبد المحسن فقد كان يرى، في ساعاته الهادئة، رأيه السديد في التطرف وأضراره، ويُحاول أن يبني جسرًا للعبور بين وزارته ودار الانتداب، وكان في بعض الأحايين يرى عجز دار الانتداب أو تردُّدها في التعاون، فيخرج عمَّا ملك من نفسه، محتدم الغيظ، مُندِّدًا مُهدِّدًا؛ فأثارَ عليه المتطرفين والإنكليز معًا.
وقد فَاتَه وفاتَ زُملاءه أنَّ عُصبة الأمم نفسَها تحسن التذبذب؛ فقد ترفض قبول العراق عضوًا فيها بالرَّغم من توسط بريطانيا. هذا الوجه الجديد من وجوه التمحُّل عرضه المندوب السَّامي بالنيابة — «الجبَّار» بالنيابة — فزادَ في الطين بلة. فغمز السعدون قناته في إحدى المحادثات، وقد ذكره في جلسةٍ أُخرى بأنَّ عبد المحسن السعدون هو الوحيد من وُزراء العراق كلهم الذي وقف في أحرجِ المواقف دِفاعًا عن الإنكليز، وما كان «الجبَّار» بالنيابة ليرعويَ، فازداد سخط عبد المحسن. وفي مجلس الملك فيصل، ذات ليلة، ضرب المائدة بيده، وهو يقول للمندوب السَّامي بالنيابة: «لا أَقبلُ هذا مِنك، وإنِّي أذكِّرك بأنك تخاطب رئيس الوزارة العراقية.»
إلا أنه استمرَّ في سعيِه لإقناع المتطرفين، وإِلَانَةِ جانبهم. فكان يُجادِلُ ويُجَامِلُ فيحسن الحجة ويحسن النصح. وكان عند تشبُّثِهِم بغير المعقول يعصف ويزمجر ويرتعد. تنازعت في صدره الوطنيَّة والحقيقة، بل تنازعته حقيقة الوطنية نظرًا وعملًا. وكفى بالمرءِ هذا الاضطراب وهذا الشقاق الداخلي، خصوصًا إذا كان حادَّ الطبع، عصبي المزاج. أضف إلى ذلك مَا جَاءَه من الخارجِ ممَّا زادَ في محنته؛ فقد حملت عليه صحافة بغداد حملاتٍ مُنكرة، وتكاثفت حوله غيوم دار الانتداب وهي مُثقلة بالغلِّ والشنآن.
حدثني الأديب أحمد حامد الصرَّاف الذي كان يومئذٍ مُدير المطبوعات، قال: «كنتُ أُطالِعُ الجرائد كلَّ صباح، وأُلخِّصُ ما يتعلَّقُ به وبالحكومة من الأخبار والمقالات، وكان يسألني عندما أَلفتُ نظره إلى مقالٍ فيه طعن أو تحامُل عليه أن أراجع القانون المختص بالذمِّ والقذف، فأطلعه عليه. ولكنه في الأيَّام الثلاثة التي تقدَّمَت الفاجعة، كان يقولُ عندما يسمعني أقرأ من الطعن المقذع عليه: «سامحهم يا ولدي.» ثمَّ يعظني بالحلم والتؤدة وكرم الأخلاق، ويقول: «إنَّهم إمَّا جهلاء — يا ولدي — وإمَّا فقراء، فهم إذن في حاجةٍ إلى التهذيبِ أو إلى المال، في كِلا الحالين هم جديرون بالرِّثاءِ. ارْثِ لحالهم — يا ولدي — واستغفرِ الله لهم.» وفي اليوم السَّابق ليومِ الفاجعة رُحتُ أنا إليه شاكيًا. كنت قد سئمت العمل في دائرة المطبوعات، وأخذت أُعلِّل النَّفس بوظيفةٍ أُخرى، قلت له: «عيِّنِّي سكرتيرًا أو كاتبًا في دائرةٍ من دوائر الحكومة، أو أرسِلني إلى إِحدى القُنصليَّات العراقية في الخارج.» كان ساعتئذٍ مُضطرب النَّفس كثير الهواجس، فقال لِي وهو يبتسمُ بسمةً رقيقة ناعمة: «وأنا — يا ولدي — سئمتُ الوزارة، أرسِلني إلى الجنة، أرسلني إلى الجحيم».»
وقد كتب عبد المحسن، قبيلَ انتحاره، كتابًا إلى ابنه علي جاء فيه:
«الأمَّة تنتظرُ الخدمة. الإنكليز لا يُوافِقُون. ليس لي ظهير. العراقيون الذين يطلبون الاستقلال ضُعَفَاء وعاجزون وبعيدون كثيرًا عن الاستقلال. هم عاجزون عن تقدير أمثالي من أصحاب الشرف، يظنُّونِي خائنًا للوطنِ وعبدًا للإنكليز. ما أعظم هذه المصيبة! أنا الفدائي لوطني الأكثر إخلاصًا قد صبرت على أنواع الإهانات، وتحمَّلت أنواع المذلَّات، وما ذلك إلَّا من أجل هذه البقعة المباركة التي عاشَ فيها آبائي وأجدادي.»
ثم نصحه أن يخلص لوطنه وللملك فيصل وذريته إخلاصًا مُطلقًا.
كان السعدون، مثل السر غلبرت كلايتون، في العقد الخامس من عمره يوم حمَّه القدر. ولقد فَقَدَ العراق في عبد المحسن كبيرًا من السياسيين الوطنيين، وفَقَدَ الإنكليز كبيرًا من أصدقائهم المخلصين. وقد خسر العراق، بل العرب، في السر غلبرت كلايتون صديقًا كريمًا، وخسرت إنكلترا سِياسيًّا حكيمًا مرنًا نزيهًا. فلو أمدَّ الله بأجله لما كانت على ما أظن الفاجعة، ولو أُتيحَ للاثنين العمل معًا لجرت السياسة في هذه السنة المشئومة، سنة ١٩٢٩، في المَجاري السَّهلة الصَّافيَّة جريًا حثيثًا إلى المقرِّ المنشود، إلى الحلِّ المحمود.
قد قُدِّر لَهَا أن تجري في كلِّ حالٍ جريًا مضطربًا بطيئًا مُفجِعًا وتتَّجِه ذلك الاتجاه، وكان الملك فيصل، والقلب منه مُفعم بالغمِّ، يُدير من مركزه العَالِي التيَّار ويُشرِف عليه. إن لكلِّ عاطفة سكينةً تتقدَّمها وأُخرى تلحق بها، ولَكانَ الملك انتدب ياسين الهاشمي ليخلف السعدون لو لم يرَ الحِكمَةَ الرَّاجحة في تعيين السويدي الأكبر ناجي، خلال المرحلة الجديدة، فجَاءَت الوزارة السويدية الثَّانية بعد العاطفة — مثل شقيقتها قبلها — رمز السكينة والسلامة.
رأى ناجي أن يتجنَّبَ المشاكل الكُبرى ويحصر اهتمامه في تمهيدِ السبيل للعراق المتشوِّف إلى سنة ١٩٣٢، للعراق المستقل المعتق من الانتداب، فشرع يشذِّب شجرة الموظفين البريطانيين، ليخفض ما استطاع عددهم في الوزارات وفي دوائر الحكومة الأُخرى، وليفسح المجال للوطنيين فيحرزوا الخبر والعلم في إدارة شئون البلاد.
أمَّا المندوب السَّامي الجديد السر فرنسيس همفريس، الذي جاءَ يتمِّم عمل السر غلبرت كلايتون، فقد بَاشَرَ اهتمامه (ك١ ١٩٢٩) بالمعاهدة التي ستتقدَّم دخول العراق إلى عصبة الأمم. إنَّ للسر فرنسيس شخصيَّةً مشرقةً مُقنعةً غلَّابة، فيمكنه أن يكونَ صريحًا دُون إساءة، قويمًا دُونَ تهجُّم، منفذًا لأمرِ حكومته دُونَ شيءٍ من التحكُّم، وهو يجمع بين الفكر الثَّاقب، الذي كان لسلفه السر غلبرت كلايتون، والعطف المتبصر الموصوف به سلفه الآخر السر برسي كوكس؛ فيرى ما دُونَ الحقائق الواقعة، ولا يذهل عنها، ويتقدَّم واثبًا إذا شاء، دُونَ أن يستسلم للأهواء السياسية، بل هو الجندي السياسي الطيَّار الذي يجمع في شخصه مزايا الثلاثة؛ أي الشجاعة والمرونة والنظر العالي البعيد.
يعتقد المندوب السَّامي الجديد لزوم سياسةٍ بريطانيةٍ جديدة في الشرق الأدنى، وهو مُدرك في الوقتِ نفسه أنَّ النهضات الوطنية في البلدان المختلفة تختلف في أساليبها كما تختلف في نظرها إلى الحقيقة والإصلاح. إنَّه لمن الحكمة إذن أن تكونَ السياسة البريطانية مرنة مطَّاطَة، وهي كذلك. أما الخطة اليابسة المطردة فهي نقيض الحقيقة التي ينبغي أن تكون، في السياسة على الأقل، مرآةً لوقائع الأيام.
إنها كذلك لمسألةٌ نسبية، فقد فاز مثلًا مصطفى كمال فوزًا مبينًا، وانهزم في مثل جهاده أمان الله. كان السر فرنسيس همفريس في كابل أثناء النهضة الأمانية والثورة عليها، وقد قالَ لي في حديثه عنها: «كان الوزراء ورؤساء الدين يشجعون أمان الله في عمله، ويجيئونني طالبين أن أنصحَ له بالاعتدال، وأُنَبِّهه إلى الأخطار المحدقة به.» إن هذا التلوُّن من أصحاب السعادة والفضيلة لا يُستغرَبُ، وهم المُشفقون على مراكزهم، المتوهِّمون الخسارة، إذا هم نصحوا للملك وأنذروه.
على أنَّ السر فرنسيس لا يتسرَّع في الاستقراء والمقارنة، فقد تكون بغداد شقيقة لكابل، وقد يكون الأئمة والسياسيون إخوانًا في كلِّ مكانٍ، ولكن التقاليد والبيئة وسنة الوراثة تختلفُ كلها في الأمم، ويختلف لذلك مفعولها في التطوُّر الاجتماعي، وفي الانقلابات السياسية.
جاءَ السر فرنسيس بغداد ليكمل كما قلت عمل السر غلبرت كلايتون، ولكنه في بداءة أمره ارتطَمَ بأمهر عقليةٍ قانونية في العراق، وما كان مسرورًا؛ فهو لا يزدري الدَّقَائق القانونية ولا يكبرها، ما هو في القانون من أقطابه ولا من أذنابه، إنَّمَا هو رجلٌ مفكِّرٌ متعقِّلٌ على طريقته التي هي طريقة الإداريين المؤسِّسِين للأعمال والمشاريع، فهو يرى الأمور في أشكالها الجامعة، دُونَ أن تفوته الجزئيَّات المهمَّة فيها. وقد كان قويمًا صريحًا بقدر ما تسمح المُحادثات الأولى. أمَّا ناجي فلم يكن على ما يظهر كذلك، فقد قالَ السر فرنسيس للملك فيصل مرَّة إنَّ رئيس الوزارة يدور الدورات، وإنَّه — أيِ المندوب — لا يُفهَمُ غالبًا ما يرمي إليه.
وقد قال ناجي للمؤلف: «كُنَّا نتحدثُ ذات يوم في المعاهدة، فسألت المندوب السامي إذا كان قد تمَّ نصها، فأجاب: قد تقرَّرَت المواد المهمة كلها، ولكن ينبغي أن ترسل إلى لندن ليحرِّرها الثقات والإخصائيُّون في الوزارة. فقلت: وهذا ما نخشاه؛ فقد نتَّفِقُ وإيَّاكم في هذا البند أو في تلك المادَّة، ولكن أوضاعها تُقلب علينا إذا اختلفنا بعدئذٍ في تفسيرها … ويظهر أنَّ عندهم دائرةً مخصوصة لتحرير المعاهدات، سمِّها إذا شئت دائرة المط، أمَّا نحن فليسَ عندنا غير عقولنا على فقرها، وقد طالما قلتُ لجلالة الملك إنَّ المعاهدة، قبل أن يقرها المجلس، بل قبل أن توقَّع، ينبغي أن يطَّلِعَ عليها أحد الإخصائيين المتضلِّعين خصوصًا بالشرائع الدولية.»
لم تكن المعاهدة الحَاضِرَة قد بلغت تِلكَ المرحلة التي تستوجب عناية الإخصائيين، بل كانت لا تزالُ في طورِ النشوء البطيء، فلزمها لتَخرج منه مساعدةُ وزيرٍ قويٍّ جريءٍ حكيم؛ قوي يُغالب المتطرفين ويتغلَّبُ عليهم، وجريء يُجَابِهُ الحقائق ويهتدِي بها، وحكيم يدرك أنَّ المساعدة البريطانية لا تقدَّم للعراق مجانًا لوجه الله.
كان الملك فيصل أكثر عِلمًا بذلك من المندوبِ السَّامي، ولكنه مشى مُتَمَهِّلًا على عادته، وإن قيلَ إنَّه مُتباطِئٌ مُتردِّدٌ، فكان يتحيَّن الفرص لتغيير الوزارة، فلا يُفاجئ صديقًا له، ولا يتنقَّصُ حقَّه. وفي أواسط آذار من هذه السنة أفسحت وزارة السويدي الكبير، كما أفسحت وزارة السويدي الصغير قبله، للعمل الذي كان الملك يتجهَّزُ له؛ للوزارة التي علَّقَ عليها آماله الكُبرى. والأمل بالله إنَّنَا سنجتازُ الأزمة هذه المرَّة بخيرٍ وسلامٍ، فإنَّ في وجه المندوب المشرق وفي خطواته الوطيدة، كما في عافية رئيس الوزارة نشاطه، ما يضمن سلامة الاثنين، فلا يتعثَّرُ الواحِدُ بالقدرِ، ولا يتأثَّر الموت الآخر إبَّان العمل، إن شاء الله.
إنَّ لنوري السعيد من المزايا العقليَّة والنفسيَّة ما يُجيزُ المقارنة بينه وبين السر فرنسيس همفريس؛ فهو جنديٌّ سياسيٌّ طيار، له شجاعة الأول، ومرونة الثاني، ونظر الثالث البعيد، يرى وهو على الأرض ما دون الأفق الذي لا يتَّسِعُ إلَّا لِمن كان في الفضاء عاليًا، ولا يزال ممتَّعًا بحسنات الشباب، بريعانه وإقدامه ونزاهته، أَضِف إلى ذلك ما جَنَاهُ من الخُبر والعلم كوزير في أكثر الوزارات السابقة، فَصَارَ سريع الإدراك للفُرصة السَّانحة، فينتهزها ويثب خلالها إلى فصل الأمور.
تولَّى نوري رئاسة الوزارة في ١٩ آذار سنة ١٩٣٠، وفي الشهر التالي أقدم والسر فرنسيس همفريس على العمل الخطير؛ وثبا الوثبة الأخيرة إلى المحجَّة العليا، ثم في الشهر الثالث من عهده السعيد تمَّت المفاوضات ووُقِّعت المعاهدة الجديدة؛ مُعاهدة التحالف البريطاني العراقي، التي يحقُّ أن تُدعى باكورة العهد الجديد في العراق.
كان الملك فيصل يومئذٍ في أوروبا ينشد العافية، وهو مُتيقِّنٌ نتيجة ما دبَّر قبل سفره، مطْمئِنٌّ إليها. وقد خطب خطبة هناك، شكر فيها الحكومة البريطانية على ما بذلتْه نهائيًّا في سبيلِ العراق، وأَعرَبَ عن أمله أن تحظى بلاده بمُساعداتٍ أُخرى منها، بعد أن تُسوَّى المسائل السياسيَّة كلها. إلى أن قالَ: «إنَّ في العراقِ مجالًا مُتَّسِعًا للمشاريع البريطانية، وعندما يجيئنا البريطانيون مرشدين مُعاونين، نافعين منتفعين، نرحِّبُ بهم كلَّ الترحيب، ونتعاون وإيَّاهم فرحين شاكرين.»
بقي أن تجتاز المعاهدةُ المرحلةَ الأخيرة؛ أي المجلس النيابي. ولا بدَّ ها هنا من كلمةٍ في الأسلوب الذي تتخذه في مثل هذه المواقف حكومةُ العراق، عندما يكونُ لدى رئيس الوزارة مُعاهدة للإقرارِ مثلًا، فهو يزن مجلسه، إذا صحَّ التعبير، أو يسبر غوره إذا آثرنا هذا المجاز، فإن كَانَ غير مُوافق يحله في الحال. ثم تجرى بعد ذلك الانتخابات، فيجيء المجلس — سقيًا للأساليب الانتخابية ورعيًا — وفق الطلب. كذلك عمل السعدون في سنة ١٩٢٨، وكذلك عمل نوري في صيف هذا العام.
إنِّي أرجوك ألَّا تصدِّق التقريرَ الرَّسميَّ في الموضوع؛ فقد وقَّع نائب الملك الأمر بحلِّ المجلس، وبعد ذلك؟ جاءَ في التقرير: «وقد جَرَت بعد ذلك الانتخابات العامَّة لتتمكَّن الأمَّة من الإعراب عن رأيها بالمعاهدة.» هو اللغو بعينه. إنَّ مثل هذه السذاجة، ومثل هذا التمويه لَيندر في من يكتبون التقارير الرسمية، فإذا كَانَ الكاتب لا يستطيع أن يذكر الحقيقة، فلِم لا يختارُ — هداهُ الله — نوع الشجاعة الآخر؛ أي السكوت؟
اجتمعَ البرلمان الجديد — الثالث — في أول تشرين الثاني، وقد فاقَ في وطنيَّتِهِ تصور نوري وآماله؛ إذ إنه أقرَّ المعاهدة بما يقرب من الإجماع.
أمَا وقد ماتَ الانتداب، فيليقُ بِنَا أن نقولَ كلمة فيه، نعم إنَّه لجديرٌ مثل عِظَام الأموات بالرثاء، وقد يكون أكثر من أكثرهم أهلًا له. ليسَ الانتداب بِذَاتِهِ شرًّا صافيًا، ولا هو في وضعه على شيءٍ من الشرِّ، قبْل أن نذكر الغرض الأوَّل منه ينبغي أن نقولَ إنَّ مقاصد الأحلاف، فيما يتعلَّق بالأراضي المُنسَلِخَة عن الدولة العثمانية والمستعمرات المسلوبة من ألمانيا، لم تكن على شيءٍ كبيرٍ من الطَّهارة والنبل، بل كانَ قصدُ الأحلافِ في مُؤتَمَرِ فرساي أن يتمتَّعوا بتلك الأراضي والمستعمرات على الطريقة التاريخية، بحسبِ التقاليد المرعيَّة؛ الغنيمة للغالبين، الأرض للفاتحين.
بيدَ أنَّ الرئيس ولسون والجنرال سمطس، المُجنَّدين بالمثل الديمقراطي الأعلى، وإن ازدراهُ أقطاب السياسة القديمة، تغلَّبَا على مطامع الدول الاستعمارية فيما ابتدعاه وأسمياه الانتداب. وفي هذه البدعة السياسية تمثَّلَا خلاص الشعوب التي كانت رازحة تحتَ نيرِ الأتراك، وتيقَّنَا — يومئذٍ — فوز أولئك الشعوب عاجلًا أو آجلًا بالحريَّة والاستقلال.
ضحك أساطين السياسة القديمة في سرهم من هذه السذاجة الديمقراطية، وقد جهروا بما عراهم من الريب، بالرغم عن المادة ٢٣ من مُعاهدة فرساي، في أنَّ العمل بالانتدابِ ممكن، أمَّا المادة ٢٢ فهي، والحقُّ يُقَالُ، مثال العدل والنبل في المعاهدات، هي مُنقطعة النظير فيما تنطوي عليه من الآمال العالية بشرفِ الدولِ العُظمَى، وبمقدرة الشعوب التَّائقة إلى الحُكمِ الذَّاتي المستقل، على أنها لا تختلفُ عن القاعدة الذهبية، وعن الآيات المنزَّلَة بشيءٍ، نردِّدُها مكبرين متورِّعِين، ونقفُ عند العملِ بها عاجزين مُتذبذِبينَ. أجل إنَّ بين القاعدة والتطبيق وهدةً عميقة نَرَاها اليوم، وقد اشتدَّ ظلامها، في سوريا وفلسطين وشرقي الأردن.
بيدَ أنَّ ذلك لا يضير بالانتداب في قَصدِهِ الأول؛ أي في وضعه الأساسي، فهو محقَّقٌ في نهاية الأمر مهما طَالَ، هو محقَّقٌ لأن تطبيقه غير ممكن، وقد يستغرب أن يكون هذا المثل الديمقراطي الأعلى، الذي استهوى الشعوب الطالبة الاستقلال، صحيحًا بليغًا في عكسه كما هو في وضعه الأساسي.
لستُ أدري إذا كَانَ الرئيس ولسون أَبصَرَ أو تصوَّرَ شيئًا من هذا الانقلاب في أمرِ تعليمه هذا. لستُ أدري إذا كان قد أدرك ما سيكون من عجزه المحمود، ومن فوزه الأحمد. هاكه واقفًا على رأسه، ومتمِّمًا لقصد خالقه، هاكه ممثلًا أعجوبة السياسة في هذا الزمان.
وهل أزيدك بيانًا، أيها القارئ العزيز؟ هذه هي الحلقات المنطقية: الحكومة البريطانية مقيَّدَة بالانتدابِ في العراق، يستحيلُ العمل بالانتدابِ بحسب أوضاعه «كأمانة للتمدن مقدسة»، ليسَ بالإمكانِ أن نحوله إلى استعمار. إِذَن، ينبغي أن يُلغَى الانتداب، أمَّا الشعب الذي انتدب له، فبما أنَّه قد خطا خطوات تُذكَرُ في سبيل حريته، وأحسن شيئًا من علم الاستقلال والتطبيق، فينبغي أن يظلَّ سائرًا سيره هذا، ولا بَأسَ بمُعاهدة بينه وبين الدولة التي كانت صاحبة الانتداب يَلتَئِمُ مضمونها وأسباب رقيِّه المستمر.
هذا ما حدث في العراق؛ فقد أدركت الدولة المنتدبة وعصبة الأمم أنَّ من العبث المُحاولة — ولا سيما أنَّ النفقات باهظة — للتأليف بين القاعدة والتطبيق في الانتداب. هذا إذا سلمنا أنْ قد كانَ هُناكَ قصد للتأليف. أمَّا أنَّ النتيجة لم تظهر قبل مرور العشر سنوات، فذلك أمرٌ يسير. وقد كانَ في هذا الإبطاء — على ما أظن — شيءٌ من الخير للفريقين. ممَّا ينبغي أن يُذكر كذلك أنَّ العراقيين، منذ بداءة الأمر حتى النهاية، لم يقبلوا بالانتداب قطعًا، واستمرُّوا جميعًا، المعتدلون والمتطرفون، في الجهاد للقضاء عليه.
ولكننَّا نُخطِئُ إذا ظنَّنَا أنَّ المرحلة التي بَلَغَها العراق في تطوُّرِهِ السياسي ورُقيِّهِ هي نتيجة جهاد العراقيين وحدهم. فالحقيقة كلها، نسجِّلُها دُونَ أن نغمط حق الوطنيين، هي أن المفاوضات مع الحكومة البريطانية ما كانت توفق هذا التوفيق، وفي مدَّة يجوز أن نعدها قصيرة، لو جرت بوساطتهم أو بوساطة لجان من أحزابهم. إنَّ هناك إذنْ عاملًا آخر هو من الأهميَّةِ بمكان، بل هو من وجهة خاصَّة أهمُّ العوامل كلها؛ فسيد البلاد الأكبر، خصوصًا في هذا الشرق، لا يزال — وهو ولي الأمر — قادرًا أن يسيِّرَ الأمور ويصرِّفها بما قد يكون فيها من الخير أو من الشر. وعندما تكون الدولة في طور التكوين، مثل العراق، تتضاعف الآمال وتتضاعف الأخطار؛ فالرجل الذي يدير شئون البلاد يستطيع أن يكون عمَّارًا، ويستطيع أن يكون هدَّامًا.
لقد أسلفتُ القول إنَّ الملك فيصلًا لم يكن موفور الحظِّ في بداءة عهده؛ فقد جاء العراق تُقيِّدُهُ التعهدات، وتبوَّأَ عرش العراق تحفُّ به الصعوبات. ومع أنَّه كان يعلم أيُّ المناهج يجب عليه أن ينهجها، فقد رأى بأمِّ عينه العقبات التي ينبغي أن تُذلَّلَ قبل أن يبلغ أول الطريق.
ما أحب فيصل تاجًا يجيئه من يدٍ أجنبيَّة (وقد همَّ مرَّة بالنزول) وما كان من شيمته أن يغمط النعمة، فيدعو الأمة لتنقذ التاج من قيوده، هذه هي المعضلة الكبرى التي وجب عليه حلها، هو ذا الطريق الوعر الذي كان عليه أن يسلكه، فقد رآه واضحًا بكلِّ مشقَّاتِهِ، وتقدَّمَ فيه بخطواتٍ ثابتةٍ؛ تارَةً بطيئةً، وتارَة حثيثة، وهو على الدوام الرجل الأبي الجريء الخبير الصبور.
قلت: المُعضلة الكُبرى، وما فصَّلتُ؛ فقد كانت تنحصرُ، عندما جَلَسَ على العرش، في أمرَين: الفوز بثقة أهل العراق، والمُحافظة على صداقة الإنكليز. وقد مشى إلى غرضه بما أكسبته تجارب الزمان، مُتمهِّلًا متحذِّرًا، واثبًا عاديًا، مُستعينًا تارَة بصراحة الفكر، وطورًا بالكياسة واللباقة؛ تارة يبرز عقله، وطورًا يفتح قلبه؛ فيتغلَّب إمَّا بالإقناعِ، وإمَّا باللطف والمعروف، هذه هي الطريق التي سَلَكَها فيصل، وكان فيها العامل الأكبر — القوة المرنة النافذة المحترمة دائمًا — في نجاح المفاوضات بين العراق وبريطانيا. وإنَّ إدراكه لتلكَ المحجَّة في خلالِ عشر سنوات فقط — نظرًا لما اعترضها من العقبات الوطنيَّة والدولية — لَممَّا يدعو للإعجاب والثناء.
أمَّا المعارضة فما كانت لتؤخِّر في سيرِ الملك فيصل، ولا كان هو يؤخِّر في سيرها؛ فبينا هي كانت تشحذ السلاح لتُجاهد الانتداب وأصحابه، كان هو يجتازُ العقبات، من مُعاهدة إلى مُعاهدة، وهدفه وهدف المعارضة واحدٌ لا يتغيَّر؛ فلو أنَّه سلَّم التسليم التَّام للمتطرفين، لأضاعَ الفرص التي انتهزها ليخدم أغراضهم، ولو أنَّه بالَغَ في تقديرِ الجميل لأصحابه الإنكليز، لَمَا تمكَّنَ قطعًا من التأليف بين مصالحهم ومصالح العراق. فقد رفع الميزان بِيَد الحكمة وبِاسمها، وقلَّمَا اهتزَّت اليد في حفظ التعادل بين كفتَيه، وقلَّما شطَّ البصر. هو ذا الفوز السياسي العظيم «وفيه فوزٌ شخصي للملك فيصل، وفوزٌ وطني للعراق.»