شغل الملك
كان هارون الرشيد يُخاطب السحابة التي تمرُّ به قائلًا: «أمطري حيثُ شئتِ، فإنَّ خراج الأرض التي تُمطرين فيها يجيءُ إليَّ.» وكان الخراج يطيع السحب كما تطيع السحب هارون، فيجيءُ إليه طاميًا، فيتصرف به كيفما شاء وشاءت مكارمه، يبذل منه في تعزيز الجند والقضاء، عملًا بالقاعدة التي لا تزال مرعيَّة عند أكثر حكام العرب: العدل أساس الملك والجند سياجه. ويبذل منه في بناء المساجد ومعاهد الإحسان، عملًا بالقاعدة الأخرى التي تَرفع حتى الخليع إلى منزلة أهل البرِّ والتقوى.
وما سوى الجند والقضاء والجوامع والأوقاف، لا يبقى في المملكة ما يستحقُّ كبير الاهتمام غير الشعراء في البلاط، والجواري في الحريم، فيغدق عليهم وعليهن ممَّا تبقَّى من الخراج.
أمطري حيث شئت أيتها السحب، فإنَّ خراجك لهارون، أسير القوافي والعيون، وإنَّ السماء مع ذلك تخدم أمير المؤمنين، وتجعل السحب من رعاياه المخلصين.
أمَّا الملك فيصل فلا أظنُّ أنه كان يُخاطب السحب، على قربها منه في طيرانه، أو يسأل السماء أسئلة فيما يتعلق بخراج الدولة. لو اتَّسَعَ الوقت لديه لمثل هذه المفاوضات الاقتصادية أو المناجاة الشعرية، وشاءَ أن يتمثَّل بالخليفة العباسي الشهير، لما كان له أن ينتظر من السحب الخير الكثير؛ كان له أن يقول للسحابة ما قاله الرشيد: «أمطري حيث شئت.» ويقف عندها، فإن لم تمطر في مزرعةٍ صغيرة قرب خانقين، أو في الحارثية خارج بغداد — كل ما كان يملكه من أرض العراق — فهي وريح السموم سواءٌ فيما قد يكون له من خراجها. تبارك الدستور، وتباركت آياته، فهو يجيزُ لأحقر النَّاس، إذا صارَ وزير المالية في الدولة، أن يقولَ للملكِ: هذا راتبك، يا صاحب الجلالة.
ومن حُسنِ حظِّ العراق أنَّ عهد الخلافة قد ذَهَبَ، وأنَّ أيَّام السلطان ابن السلاطين وأمير المؤمنين لن تعود؛ إذن مهما أمعنت السحابة في سمائها، فأمطرت في إيران وفي أفغانستان وفيما دونهما من البلدان، فإنَّ بين خراجها اليوم، إذا وصل إلى بغداد، وبين الملك حكومةً دستورية وبرلمانًا. وقد كان، فوق ذلك، بين الملك فيصل وراتبه، خازنٌ حريص على كلِّ دينار منه.
ها هنا أقفُ، ولو فرضنا أنَّ علمي بميزانية الملك الخاصَّة صحيحٌ دقيقٌ، فلا أتعدى حدَّ اللياقة في إذاعة أسرارها. كَفَى بي أن أقولَ إنَّ بعض الذين كانوا يتهافتون على ديوان أبيه الملك حسين ويحومون حوله، وبعض مشايخ القبائل العراقية، كانوا يُشاركون الملك فيصلًا في دخله الخاص.
وقد كان فيصل كريمًا جوادًا، بل كان جوده إبان الحرب وفي سوريا موضوع الأمثال والقوافي. أمَّا في العراق … قلت أن لا يليق التدخل في الميزانية الملكية! ولكنِّي أظنُّ أنَّ فيصلًا في مكارمه وإحسانه، وهو بين راتبٍ محدود ومطالب وواجبات غير محدودة، كان يشكر الله في بعض الأحايين أنَّ اليد القابضة على مفتاح الخزينة هي يد أمينٍ ضنين.
أشرت إلى العرش والتاج غير مرَّة فيما أسلفت، وما كان ذلك إلَّا كنايةً ورمزًا، فاعلم — رعاك الله — أن ما كان لهذا الملك العربي عرش ولا تاج. ولكن في القيافة العربية ما يشبه التاج، ما يميز صاحبه عن غيره من العرب، وهو العقال المزركش بالقصب. بيدَ أنَّ ملك العراق أبدل تلك القيافة بالملابس الإفرنجية، وصارَ خاضعًا فيها للأحكام الديمقراطية الجائرة في أزياء هذا الزمن.
أمَا وقد كان مشيق القدِّ رشيقه، فأي ثوب لبسه لبق به. وكنت ترى في طلعته ومشيته وأناقته ذلك الامتياز السَّاحر الذي يصعب وصفه، ويصعب على الديمقراطية، مهما تعسفت في أزيائها السمجة وأحكامها المطَّردة، أن تمحوَ أو تتغلَّبَ عليه.
بيدَ أنَّ الأناقة في مجلسه، وهو يحدث أو يستمع، كان يعتريها في بعض الأحيان شيءٌ من الهجنة، فيجلس جلسة القروي وقد ذهل عنها، فتراهُ والظهر منه منحنٍ، واليدان مُرتخيتان فوق الركبتين، وتود أن تقول الكلمة التي يستقيم بها حاله. وممَّا كان يزيد بدهشتي المألومة أنَّ رأسَي رجلَيه، وهو جالس تلك الجلسة، كادا يلصقان الواحد بالآخر؛ أي إنَّ رجلَيه ضُمَّتا في شكل ٨ لا في شكل ٧ كما ينبغي، وهذا الاتجاه في الرجلين، جلوسًا أو وقوفًا، مستقبح عند الغربيين، ومحظورٌ في الجنديَّة.
ولا أكتمك أنِّي في تلك السَّاعة، ساعة كان يجلس الملك فيصل جلسته المستهجنة، كنت أرغب بالمنزلة التي تُجيزُ لي التنبيه والتذكير. وليس لأحدٍ خارج بيته، غير البدوي المدرك لهذا الأمر أو الصديق المُحتظي بالعطف الملكي الخاص، أن يقول إذ يرى رجليه مضمومتَين في شكل ٨: سيدي فيصل، رجليك.
على أنَّ هذا الاتجاه في الرِّجلَين يهون، عند ذكرنا لأولئك العرب، حتى الأمراء منهم والملوك، الذين يلعبون بأَبَاهِمِ أرجلهم وهم جالسون على الأرض، أو متربعون على الديوان.
أمَّا الآن فالبناية ذات الطبقة الواحدة، القائمة في بستان، على طريق الأعظمية، هي المقر الملكي. فيها يشتغل الملك، وفيها يستقبل الناس، تدخلها فإذا أنت في رواقٍ صغير، إلى شماله مكتب لرئيس التشريفات، وهو يستقبل من الزائرين الحضر ذوي السدارات والبرانيط والعمائم، فيقدمهم للملك أو يعيِّن لهم وقتًا للمُقابلة، وإلى جانبِ مكتبه غرفة الحرس الملكي الذي قلَّما يبدو للعيان، وإلى الجهة الأُخرى من الرواق مكتب السكرتير الأول، تحاذيه غرفة الانتظار لرجال العشائر ومشايخ العرب، وأصحاب العباءة والعقال، وبين المكتبَين بابٌ كبير يفتحه حاجب، فإذا أنت في ردهةٍ مربَّعة، هي مكتب الملك ومجلسه، ينيرُ هذه الردهة شباكان في الحائط المقابل للباب، ولكن الأسترة تلطف النور، فلا يُبهرك، ولا يحول بين ناظرَيك ووجه الملك، الواقف لاستقبالك.
أما فرش الردهة فالذوق فيه غالب على الفخامة، وجامع بين الشرق والغرب؛ السجاد عجمي، والديوان عربي، والمنضدة مع الكراسي المنجدة بالجلد أوروبية. وهناك خزانة للكتب، وعلى الحائط فوقها رسوم لبعض أمراء البيت الهاشمي. يجلس الملك على الديوان في الصدر، وإلى جانبه مائدةٌ صغيرة على حرفها بضعة أزرار للأسلاك الكهربائية تصلها بدواوين البلاط.
عندما يدخل الزَّائر يقف الملك، فيخطو بضع خطوات، ويتقدم في بعض الأحايين إلى وسط الردهة مرحبًا. كان الملك فيصل في استقباله وفي حديثه على جانبٍ عظيمٍ من الرِّقَّةِ والبشاشة، واللطفِ والوداعة، بل كانَ مِثَال النبل وكرم الأخلاق. يقول لك ذلك كلُّ مَن زاره وكلُّ مَن عرفه؛ غربيًّا كان أو شرقيًّا، وضيعًا كان أو رفيعًا، من البدوِ أو الحضر. وكان استقباله شرقيًّا للجميع، يأمر بالقهوة والسجاير، ويقدِّم في بعض الأحايين للزائر سيكارة من عُلبته الخاصَّة، فيشعر بأنه عند أحد أصدقائه، لا في حضرة مليك البلاد، ويخرج مُعجبًا بهذه الروح العربية الديمقراطية الشريفة، فإن لم يكن شاهَد شيئًا من أُبَّهَة الملك، فقد قابل عربيًّا من أماجد العرب، هو حقًّا ملك القلوب.
في ذلك البستان بيتٌ آخر ذُو طبقةٍ واحدةٍ؛ هو منزل الملك في النهار، فيتناول فيه طعام المساء، ويقيمُ فيه المآدب الرسمية والاستقبالات العامَّة، ها هنا في البيتَين كان الملك فيصل يشتغل ويقضي معظم يومه، وما كان في شغله ليرعى نظام الدوام المحدَّد للعمل اليومي، ثماني ساعات لا غير، فيشتغل اثنتي عشرة ساعةً وما يزيد في بعض الأحايين.
أمَّا أشغاله فما كانت تنحصرُ في جلوسه إلى منضدته وفي مجالسه ومحادثاته، وما كانت كلها تظهر حتى لرجال البلاط والحكومة، فمِن أين لهم أن يروها في استقبالٍ عام مثلًا، أو في مأدبةٍ رسمية؟ ألا إن هموم الدولة، ساكنةً أو ناطقةً، وشئون الملك — سافرة أو محجَّبة — لَتتمشى هناك بين الضيوف، ولا يعرفها ويشعر بوطأتها غير الملك. وبكلمةٍ أُخرى إن الملك يشتغل حتَّى في ساعةِ لهْوِه، وإنَّ شغل هذا الملك العربي لَيختلط حتى بطعامه، فقلَّما كان فيصل يأكل وحده، وقد كان شغله مُزدوجًا في ضيافاته على اختلافِ الضيوف؛ فإذا كانوا من مشايخ البدو، أو من الوطنيين، أو من الأوروبيين، من أصحاب الشكوى أو المشاريع الإِصلاحية أو الامتيازات؛ فعلَيهِ أن يستمِعَ إليهم، ويتبصَّرَ فيما يعرضون، فلا يفوته شيءٌ ممَّا قد يكون فيه خير الأمَّة.
قد تسأل بعد هذا: وأين المنزل الملكي الخاص؟ أين بيت فيصل بن الحسين بن علي؟ في شارع صغير في قلب المدينة، إلى جانب الميدان بيتٌ ذو طبقتَين، شبيهٌ بالبيوتِ الأُخرى الملتصقة بعضها ببعض؛ يسكُنُ فيه الأستاذ إبراهيم دبَّاس، معلم الملك فيصل اللغتَين الإنكليزية والفرنسية، بل المعلم اللبناني في الأسرة الهاشمية المالكة، الذي قال فيه الملك حسين: «هذا مُعلِّمُ أولادنا وأحفادنا.»
وما استنكَفَ أن يكون منزله في صفٍّ من البيوت العادية قريبًا من منزل مُعَلِّمِه المسيحي اللبناني، أقول «المسيحي اللبناني» لألفت نظر العربِ في كلِّ مكان، ونظر أبناء لبنان، إلى مزيَّة خاصَّة في فيصل، بل في البيت الهاشمي، فما كان الملك حسين — رحمه الله — يفرِّقُ بين العربي واللبناني، والمسلم والمسيحي، وأنَّ أنجاله كلهم مثله في هذا الموقف العربي الشامل في عروبته جميع سكان البلاد العربية، إنَّما الملك فيصل كان أقربهم إلى اللبنانيين، وأكثرهم إعجابًا بهم، وأشدهم رغبة في استخدامهم، والانتفاع بعلومهم ومواهبهم.
على أنَّ النزعات السياسية، والنعرات الحزبية في العراق، كانت تحُولُ دون تحقيق رغباته، من ذلك ما أراده مرَّة لمعلمه إبراهيم دباس؛ فقد كان في نيته أن يعيِّنَه كاتب سرِّه، لولا صوت الاحتجاج في البلاط وخارج البلاط. وما السبب في ذا الاحتجاج؟ إنِّي على يقينٍ — وأنا أعرف بعض المحتجِّين — أن لا أثر للتعصُّب الديني فيه، إنَّما هي السياسة والمآرب الشخصية، التي تشينُ غالبًا الأعمال الوطنية في كلِّ البلدان، وخصوصًا في هذا الشرق العربي.
وما كانت مشاكل المُلك الكُبرى تمكِّن الملك فيصل من الاهتمام بغيرها من المشاكل الحزبية المحليَّة، بل ما كان يُجيز لنفسه تكبير صغائر الأمور، وعنده من كبيرها ما يشغل قلبه وعقله، ومعظم وقته وقُواه.
وعنده فوق ذلك، وهو الملك التلميذ، مسائله الإنكليزية والفرنسية يدرسها. ما كان فيصل بالتلميذ الكسول، المتأخِّرِ في التحصيل، كما كان في صباه بالأستانة؛ فقد بلغ الشأو في الإنكليزية، على قصر وقته للتعلُّم، وعندما زارَ إنكلترا زيارته الأخيرة خطب خطبة بهذه اللغة، وكان مسرورًا بل فخورًا بحسن وقعها، فقد قال لمعلِّمِه الدباس: «كنت أتمنى يا أستاذ أن تكونَ معي في لندن لتسمع تلميذك يخطب بالإنكليزية كأبناء الإنكليز أنفسهم، فإنك ولا شك كنتَ تفتخرُ بتلميذك …»
ملكٌ تلميذ، وقد كان بودِّهِ أن يكون كذلك مُعلمًا؛ فقد خطب مرَّة في دار المعلمين، في واجبات المعلِّم الخلقية والروحية، وقال إنه مستعد لأن يُعلِّم في مدرسةٍ ثانوية ولو بضع ساعات في الأسبوع.
ملكٌ يتعلَّم ويُعلِّم، ويعمل فوق ذلك في وضع أُسُسِ الدولة وتوطيدها، فلا عجبَ إذا كان عمله اليومي يتجاوزُ في بعض الأحايين اثنتي عشرة ساعةً. كان يجيءُ المقر كل يوم في الساعة السابعة صيفًا والثامنة شتاءً فيصلُ، غالبًا، قبل رؤساء الدواوين، ويشتغل من خمس إلى سبع ساعات، ثم يذهبُ في السَّاعة الواحدة بعد الظهر إلى الحارثية مزرعته، وهي على نحو خمسة أميال من بغداد، للغداء وللقيلولة، إلَّا أنه كان غالبًا يُحرَمُ الرَّاحة حتى هناك؛ لأن أشغال المُلك كانت تلحقُ به إلى ذاك البيت الصغير؛ حيث كان يدعو بعض صحبه، فتُعقد الجلسات السياسية حول مائدة الشاي.
وليس فيما عددتُ كلُّ أشغاله؛ فقد كان يقول عندما يجيء الحارثية: إنِّي ها هنا فلَّاح. وقد قال لي مرَّة إنَّ كل ما كان يتبقَّى من ماله، بعد النفقات الخاصة والعامة، دَفَنَه في الأرض، أيْ في مزرعتَيه بالحارثية وخانقين، فقد كان — والحق يقال — شغفًا بالأرض؛ بزرعها، بامتحانها، بتحليل عوامل خيرها، بتجربة الآلات والبدع الزراعية فيها. ما كان يُباشِرُ هذه الأعمال كلها بنفسه، ولكنه كان يُشرِفُ عليها، ويهتمُّ ما استطاع بها. ومع ذلك فما أفلحت مشاريعه الزراعية كلها، وأكثرها لا يزال في طور التجربة.
نسمع الحكومات والمصلحين في أوروبا وأميركا يُنادُونَ النَّاس في الأيَّام ويحذِّرُونهم قائلين: عودوا إلى الحقول، عودوا إلى المزارع. ولكن الشعب العراقي ليس مثل شعوب أوروبا وأميركا في التهافت على المدينة، والتزاحم على التجارة والصناعة، لِيستوجب هذه الدعوة. إلَّا أنَّ اهتمام الملك فيصل بالزراعة نبَّه الكثيرين إلى الأساليب العلميَّة الفنيَّة فيها، ووضع نواة النهضة الزراعية في العراق.
ومن حسنات الديمقراطية فيه أنه كان يكره الأُبَّهة في حلِّه وترحاله، فقلَّما كان يخرج في موكب، أو يظهر في حلقةٍ برَّاقة من أبهة المُلك. ما كان الناس ينتبهون لسيارة الملك أو يعرفونها إذا مرَّت في شوارع بغداد؛ فقد كان فيصل يكتفي بياور واحد يجلسُ إلى جانب السَّائق، ويسوقُ هو نفسه السيارة في بعض الأحايين.
قلت إنَّه كان يؤمُّ الحارثية للغداء ويقضي شطرًا من يومه هناك، ثم يعودُ عند الغروب ليتناوَلَ العشاء في المنزل المجاور للبلاط. وممَّا استحبَّه وأَلِفَه في أوروبا الثوبُ الرسمي في المساء، أمَّا إذا كان ضيوفه من الأهالي فيتناول العشاء — إِكرامًا لهم — في ثوبه العادي. وإذا كان بينهم أوروبيون، فإمَّا أن يرتدي الجوخ الأسود والقميص الأبيض، وإمَّا أن يظهر في ثوبه العسكري بصفته القائد العام للجيش. سَأَلَ أحد السوريين رئيس التشريفات، بعد أن عيَّنَ له وقتًا لمُقابلة الملك، أيَّ الأثواب يجب عليه أن يرتدي، فأجابه قائلًا: «تعالَ في الثوب الذي أنت لابس؛ الملك لا يسأل.»
وإذا كان ضيوف الملك من حاشيته وأهله، أو من أصدقائه في الحكومة ودار الانتداب والسفارات، فقد كان يجلس وإيَّاهم بعد العشاء جلسة بيتيَّة، ويلعبون اﻟ «بريدج» الذي كان يؤْثره على سواه من الألعاب. قيل لي إنه كان في لعب «التنس» كذلك من المجيدين المبرزين. فإن قارنَّا بينه من هذه الناحية وبين زملائه جنوبًا، أيْ بينه وبين ابن سعود مثلًا أو الإمام يحيى، بدا لنا عصريًّا إلى حدِّ المبالغة. أمَّا إذا كانت المُقارنة بينه وبين جارَيه الآخرين شرقًا وشمالًا، أيْ بينه وبين داهية طهران وداهية أنقره، فهو دونهما في ألاعيب هذا العصر؛ لأنه ما كان يحسن لعب اﻟ «بوكر» ولا يرغب فيه. بيد أنَّه كان مُتساهلًا في الأمور الاجتماعية أكثر من أخوَيه عليٍّ وعبد الله، وقد كان يحترم على الأخصِّ عليًّا، ويحرص على كرامته.
أقول هذا لأخبرك بما جرى ذات ليلة في رمضان؛ كان الملك فيصل يتناول العشاء وبعض رجال الحكومة المقرَّبين، احتفالًا بحدثٍ مُفرِحٍ في سياسة العراق، وكان ضيوفه — إخوانه — وهم فرحون مرحون يشعرون بنقصٍ في الضيافة ولا يفصحون، فقرأ الملك الخبر في وجوههم وأمر لهم بالشمبانيا، وفي تلكَ الليلة جاءَ الملك علي يزورُ أَخَاهُ، دُونَ سابق إعلامٍ منه بذلك، فدخل قاعة الطعام ساعةَ كانت سدَّادَات القناني تفرقع وتتطاير في الجوِّ …
إنِّي أذكر قصةً أُخرى سمعتُها في جدَّة، كان الأمير علي وبعض رجال حكومة أبيه الملك حسين مصطافِّين في الطائف، ومعهم شيخٌ مُدمن كان يجيئه الحين بعد الحين صندوق من الوسكي من تاجرٍ مسيحي في جدَّة، فأرسل الصندوق ذات يوم خطأً إلى بيت الأمير علي، ففتحه وأخذ منه زجاجتَين، ثم أرسل الباقي إلى صاحبه يقول: «إنَّ الصندوق فُتِحَ في الجمرك وأُخِذَ الرسم عليه … أمَّا ما كان من أمر الزجاجتَين فالأرض تدري.»
كان الملك فيصل — عملًا بمهنته وبتقاليد بيته في الأقل — من المحافظين، بيدَ أنه لم يتقيَّد بالقيود كلها، وما استولى الماضي عليه استيلاء العقل والحكمة؛ فقد كان مُدرِكًا ما للتطرُّف السياسي والاجتماعي في زمانه من الشيوع والسطوة، وكان مُدركًا كذلك أنَّ العرب وإن كانوا بطبيعة الحال مُحافظين، ينزعون إلى التمرد، ويُقبلون على النعَّارين فيهم المشاغبين. فعلى من يتولى أمرهم ويدير شئونهم أن يقرن في مبادئه وأساليب عمله شيئًا من المصلح، شيئًا من الحاكم المستبد؛ لذلك كان الملك فيصل يتحرَّى الوسط في الأمور.
وقد سمعته يقول مِرارًا: «كم من تقليدٍ مُفيدٍ يفسده الغلو!» أَحبَّ أن يقتدي بملوك العرب وأمرائهم في الجلوس للناس، بل باشر الأمر، فكان يجيئه الناس من بدوٍ وحَضَرٍ في يومي الأربعاء والسبت من كل أسبوع، مسلمين عارضين شكاويهم، فيسمع لهم ويقضي ما استطاع بينهم، وقد كان يرتاح إلى هذه الاجتماعات ويرى فيها ما يزيد بخبره، ويصحِّحُ علمه بطبائع الناس، فضلًا عن أنها تُقرِّبُ بينه وبين الرعيَّة.
ولكن الحكومة نظرت إليها بغير عينه، وقد تكون عدتها من البدع؛ فهناك محاكم وقضاة، وهناك دستور، وهناك … فلا يجوز للملك التدخُّل في شئون المواطنين الخاصَّة، ولا يليقُ بالنَّاس أن يحمِّلُوا الملك فوق طاقته. ظلَّ الملك مع ذلك يُقابل كلَّ من جاء زائرًا في ذَينك اليومَين، ولكن العادة المثمرةَ خيرًا في صنعاء وفي الرياض أمست عقيمة في بغداد، وقد تبطل قطعًا، فيذكرها الناس كما يذكر الحاج حجة لا تعاد أو كما يذكرون تقليدًا مهملًا.
وهذه السدارة هي اختراع الملك فيصل، وهي اليوم تدعى باسمه اﻟ «فيصلية»، إن هي إلَّا دليلٌ آخر على أنَّ حب الوسط كان من طبعه. أمَّا الكلمة المأثورة: خير الأمور الوسط، فلا تمثل الحكمة دائمًا ولا حسن الذوق. وما السدارة؟ لا قبَّعَة هي ولا قلبق، هي احتجاج على الطربوش، وما هي في الصيف أخف من الطربوش، ولا هي صحيًّا أحسن منه. إنَّ في خطوطها، في شكلها، شيئًا من الظرف، ولا تخلو طريقة لبسها من شيءٍ يتحدَّاك، ولكنها في المواقف الرسمية — على الأقل — رمز الخفَّة والدعابة، أرادَ الملك فيصل عمرةً جديدة لأهل العراق، أو للعصريين من أهله، وأبى أن يقلد الأمة التي نبذت الطربوش كما نبذه، فيختار مثل مصطفى كمال القبعة كاملة؛ لذلك اضطرَّ أن يقف عند الحدِّ الوسط، اكتفى بنصف قبعة.
لا أظنُّ أنَّ السدارة تدومُ طويلًا، فالعمرة التي لا حافة ولا رفَّ لها إنَّمَا هي مبتورة ناقصة، قد تكون بليغة فيما تقوله وطنيًّا، ولكن الوطن إذا توطَّدَت أركانه يستغني عن الرموز، والعمرة التي لا رفَّ لها تفضح الوجه إذا كان قبيحًا، ولا ترمقه إذا كان مليحًا بشيءٍ من الظلِّ يزيدُ الملاحة فيه. لقد أدرك العرب ذلك، وأدركوا الناحية الصحيَّة في العمرة، فلبسوا فوق العرقية الكوفية، وربطوها بعقال للزينة والفائدة معًا، فإذا نبذنا العقال والعمامة فيليقُ بنا أن نَظهر، في المواقف الرسمية على الأقل، مكشوفي الرأس، وهذا مكروهٌ عندَ المسلمين المُحافظين ومُخالف للتقاليد المرعيَّة.
على أنَّ الملك فيصل تعدَّى التقليد في صورته الأخيرة، وهو فيها مكشوف الرأس، جهم المحيَّا، بعيد غور الفكر، تعلو سيماءه مِسحةٌ من الكآبة. عد إليها، وتخيَّل السدارة على الرأس، يبدو في الوجه شيءٌ مُستغرَبٌ مُستهجَن؛ هو التناقض بين ملامحه وما تخيلته على رأسه. ما كان يخفى على الملك فيصل أنَّ التناسب هو السر في الحسن والأناقة، فعندما يبدو أثر التفكر بليغًا في الوجه، أو عندما يكون الوجه مُتجهِّمًا، فالرأس المكشوف هو أكثر تناسبًا من الرأس الذي تعلوه قُبَّعَةٌ صغيرةٌ محقرة.
خذ عمرة الملك فيصل في صيده ترَ فيها ما تفتقده السدارة من أسباب الحسن والأناقة، فالسدارة تحقر الوجه التعب، الوجه العابس، وتسلبه محاسنه، بينا أنَّ عمرة الصيد تظلل بعض الخطوط فيه تزيده قوةً وجلالًا. عد إلى صورته في الصيد وتأمَّلها، فإنَّ هذه المحاسن لَتبدُو واضحةً بليغة، ويبدو حتَّى في ظلال خطوط التعب شيءٌ من النشاط المذَّخر.
كان الملك فيصل في الصيد، مثله في كلِّ شيءٍ، مثالَ البساطة والاتضاع، ينبو عن الكلفة كما ينبو عن الأبهة، فيخرج بعض أصحابه يُرافقهم واحد أو اثنان من الحرس الملكي، وكلهم في المطاردة إخوان، لا تَفَاضُلَ بينهم بغيرِ المهارة. وأمَّا الذين كان يؤثر اصطحابهم فمنهم رئيس التشريفات تحسين قدري، ومُستشار الدَّاخلية السر كينيهان كورنوالس. والاثنان إذا حدَّثا عن الملك الصيَّاد لا يغمطان حقَّه كما أنهما لا يسترسلان في الغلوِّ، فالسر كينيهان يعترفُ بمهارة الملك في الإصابة، ولكنه يبسم إذا سُئل عن قوَّة الملك في المطاردة في المشي.
أمَّا تحسين فهو يعترفُ بأنه لا يستطيع أن يُماشي الملك، وأمَّا أنه دونه في الصيد، في الإصابة، فمسألة فيها نظرٌ. كذلك كانا يفاخران الملك فيسمع ويبتسم، ثمَّ يمشي مجدًّا وراء غزلانه، فيُدهِشُ في العدْو رفيقَه الإنكليزي، وإذا عرض له سرب من الحبارى، يجيءُ بالدليل على مهارته في الإصابة، فيدهش الرفيق الآخر.
على ذكر الصيد أقولُ إنَّ الملك فيصلًا خرج فيه عن تقاليد السلف، وعن عادات العرب التي لا تزالُ مُتَّبعة حتَّى في العراق؛ فقلَّما كان يستخدمُ الصقر في صيده، وقلَّما كان يصيد بالسهام الخنزير البرِّي. ولو أنه رغب بهذا النوع من الصيد، لما أظنُّه كان يتشبَّهُ ببعضِ الخلفاء الذين كانوا يحملون سهامًا في الحرب وفي الصيد نِصالُها من ذهب.
أمَّا جود الملك فيصل عند العودة من صيده، فقد كان يبعثُ البهجة والسرور في بيوت الكثيرين من أصدقائه في بغداد.