المناقب

ما جاء في المعقولِ والمنقول أنَّ الأخلاق النبويَّة تتجلَّى كلها في أحد من سلالة النبي، وإن كان نسبه خلال ثلاثمائة وألف من السنين سليمًا صافيًا، وقد يُعدُّ ذلك من الحسنات في هذا الزمان. ما كان فيصل مثلًا يطمح إلى النبوءة، أو يدَّعِي شيئًا من الوحي. وما كان قسطه من الفيض الروحي أو النور الإلهي كافيًا ليفتح له تلك الأبواب التي تُقفل دون سواه من الناس، فتجعل الرؤيا لديه حقيقةً راهنة، والخيال أمرًا ملموسًا.

ما تراءى النبي محمد مرة لفيصل — على ما أعلم — كما تراءى لأخيه الملك علي ذات ليلة في المدينة، وهو ذاهبٌ إلى الجامع للصلاة. كان علي يومئذٍ أمير المدينة وأسير مِحنةٍ كادت تهدُّ قواهُ وتذهب برجائه، فيمَّمَ الحُجرة النبويَّة، يستغيثُ بالرسولِ ويستنجده، فلاقاه الرسول في الشارع — رأيته والله كما أراكَ الآن، يا أستاذ — وقال له: «مكِّن إيمانك بالله يا علي، ولا تقنط.»

أمَّا الملك فيصل فما رأى النبي مرَّة في حياته الكثيرة التجارب والمحن، وما كان — على ما أعلم — يستغيثُ بالنبي، وما سمعته مرَّة يحلفُ باسمه، وقد تنازَلَ فيصل عن الشَّارة النبوية، أيْ ذؤابة العمامة، بل العمامة نفسها، وتنازَلَ كذلك عن بعض حقوق المسلم وتقاليد الشريف؛ فقد اقتَصَرَ في زواجه على واحدةٍ، ونصر المرأة في بعض حقوقها، وكان يُكرِمُ الشعراء؛ فلا يقولُ إنهم في وادٍ يهيمون. وما كان يستعجلُ ضيوفه في الرحيل، فيردِّدُ الآية: «فإذا طعمتم فانتشروا». ولا كان يرغب بالحرب والقتال، فقد أصلى خصومه النار مرَّة، وكان بعد ذلك مُسالمًا، وعاملًا لتأييدِ السِّلم في العالم.

وقد كان فيصل شريفًا شريفًا، لا ينزعُ إلى القوَّة في التملك، كبعض الأشراف، ولا يدَّعِي ما ليس له، وكان تقيًّا نزيهًا مُتواضعًا، لا يشربُ الخمرَ، ولا يُقَامر، ولا يجنح إلى البدع في الملذات. ولو كان فيصل من الذين يُغالون في تقديرهم النسب النبوي، فيبرز شعورهم به إلى حدِّ الإساءة إليه، لكان في أحكامه مُستبِدًّا مثل أبيه، وفي تشبُّثاته شاذًّا مثل الإمام يحيى، ولو كان مُواظبًا على السنة مثل ابن سعود لكانَ أمره في أكثر الأحايين مُستغربًا مُضحكًا.

كان فيصل مُسلِمًا سُنيًّا حنفيًّا صادقًا وكفى، بل كان لبلورة إيمانه سطوحٌ متعدِّدَة، تنعكسُ فيها أنوار المذاهب الإسلامية الأُخرى انعكاسًا صافيًا، وقد كنتُ أشعرُ في مُحادثته أنَّ لعقيدته الدِّينية بطانة من التساهل الذي يتخلَّله الاحترام لسائر الأديان في العالم. هو رجلٌ من رجال العالم الكبار، وهو مسلم يندر مثله بين حُكَّام المسلمين؛ فقد كان في تعقُّلِهِ واعتداله مثال الحكمة العالية، وفي رحابة صدره وتساهله مثال الحبِّ والإخلاص.

ذكرتُ في مطلع الكتابِ أنَّ فيصلًا تربَّى في المضارب تربيةً عربيةً بدوية، عملًا بتقليد للبيت الهاشمي يُرادُ منه أن ينشأَ أبناؤه أصحَّاء أشدَّاء، أن يخشوشنوا مثل البدو، ويتشرَّبوا في البادية روح الحرية والإخاء، نِعْمَ التقليد، ولكن إقامة فيصل في الأستانة سبع عشرة سنة، في بلهنية العيش، وفيما يجوز أن يدعى الأسر، أفقدته — على ما يظهر — ما اكتسبه في البادية من القوَّةِ والنشاط، فما كان فيصل مستمتعًا على الدوام بتمامِ الصِّحَّة والعافية، وأنَّ تلك القوة التي كانت تمَكِّنه من الاستمرارِ في جهاده السياسي إنَّما هي قوةٌ عصبيَّة ومعنوية، منشؤها الإرادة والعزم، فقد تحمَّل في الحرب ما يتحمله البدو من مشقَّات البادية، وبدت قواه هذه في أشد مظاهرها وأروعها، ولكنه كان يؤثِرُ الرَّأي على الشجاعة، ويقول: «النصر يبدأ بالإدارة والتدبير.»

figure
الملك فيصل الأول في الكوفية.
figure
الملك فيصل الأول كما رسمه الفنان أوغسطس جان وقد اشترى هذه الصورة متحف برمنغهام.

يصح أن نقول إنه ما كان من رجال الحرب الكبار، بل كان أولًا وآخرًا رجلًا مفكرًا، والفكر صنو السلم. وقد كانَ الملك فيصل في حبِّهِ وجهاده من أجْلِ السلم، شُجاعًا غير هيَّاب، وشهمًا كريمًا لا يذكِّر الحساب، لولا ذلك لكان اضطرم الدم العربي القرشي مرارًا في عروقه، وخصوصًا يوم خانه السياسيون وانقلب عليه المعاهدون، فحمله على عملٍ يُبرَّر ولا يُحمد فيه البلاء لخصوم العرب وللعرب أنفسهم، عليَّ وعلى أعدائي، ولكنه كان يأبى أن يكون مُدمِّرًا.

إنَّ التاريخ حافل بالنكبات التي منشؤها عنجهية الملوك وحماقتهم. أمَّا فيصل فقد كانت الحماقة بعيدة منه بُعد العنجهية، وكان حبُّ الذات عنده رمزًا لحبٍّ أسمى، رمزًا لحب قومي، رمزًا لحب أمته العربية. في سبيل هذا الحب، وفي سبيل السلم المؤيد له، كان يتحمل فيصل ما لا يتحمله رجلٌ آخر في منزلته. وكان يكظم الغيظ، ويُنكِرُ النَّفس؛ توصُّلًا إلى أغراضه.

إنَّما هذا شأن الرجل الحكيم الخبير، البارع في مُعالجة الأمور المتوقِّدة، وفي حلِّ المشاكل المتعقِّدَّة، بل هذا شأن الرجل العظيم في السياسة. وممَّا لا ريبَ فيه أنَّ فيصلًا كانَ من أعظمِ السياسيين في الشرق الأدنى، ومن أكبرِ العاملين من أجلِ السِّلم في العالم؛ يكفي ما قامَ به لتوطيدِ الصِّلات السلميَّة بين العراق الجديد والبلدان المُحيطة به؛ فقد تغلَّب بالحكمة والشهامة، وبالإخلاص ليقينه ولوطنه، على النزعات الحربيَّة في جارات العراق الثلاث: تركيا وإيران ونجد.

أجل، إنَّ في مُصالحته لحكومات هذه البلدان، وفي زياراته لأنقرة وطهران وباريس، وفي مساعيه الموفَّقة لتوثيقِ عُرَى الولاء بينه وبين خُصومه بالأمس، بينه وبين ابن سعود ومصطفى كمال ورضا خان والفرنسيس أنفسهم، إنَّ في هذه الأعمال الجليلة ما يستوجِبُ الكثير من ترويض النفس، ومُغالبة الأهواء، ومن الشهامة وكرم الأخلاق. إنَّ فيها ما يُوجِبُ علينا أن نقرن اسمه بأسماء شتراسمان وبريان ورمزي مكدونلد، بل إنَّ فيها ما كان يُؤهِّلُ ملك العراق لجائزة «نوبل للسلم».

حدَّثني فيصل عن اجتماعه بعبدِ العزيز ابن سعود قال: «لو كان الخلاف خلافًا شخصيًّا بيني وبين ابن سعود، وتلاقينا واحتربنا، وقُتِلَ أحدنا، وانتهى الأمر؛ فلا بأس. أمَّا أن نجرَّ العرب لقتل العرب من أجل أنفسنا؛ فهذا عيب والله، بل إثمٌ كبيرٌ! نحن الملوك والأشراف أُمناء على مصالح هذه البلاد العربية؛ فمن العيب، بل من الإثمِ، أن نسلك المسلك الذي لا تستقيمُ فيه غيرُ مَصَالحنا الخاصَّة؛ لأنَّنَا ملوك وأشراف. من العيبِ أن نستخدمَ قوَّة الأُمَّة لتعزيز مقام ملكٍ أو مقام شريفٍ فيها. وعندما تتغلَّب مطامع الملك الشخصيَّة على وطنيته يحقُّ للأُمَّة إذ ذاك أن تُحاسبه، بل ذلك واجبٌ عليها.»

عندما اجتمع فيصل وعبد العزيز على المركب الحربي البريطاني في خليج البصرة، في شهر شباط سنة ١٩٣٠، سلَّما سلام الإخوان، وقبَّلَ الواحد منهما الآخر على الطريقة العربية، ثم قال فيصل لعبد العزيز:

«لستُ الآن فيصل بن الحسين يحدِّثُ عبد العزيز ابن سعود، إنَّمَا أنا ملك العراق وأنت ملك الحجاز ونجد. فإذا كنت تنظرُ إليَّ في اجتماعنا هذا بصفتي الشريف فيصل بن الملك الحسين، الذي كان بينك وبينه ما كان، فإنَّكَ تحتقرني، ولكن اجتماعك هو بفيصل ملك العراق، وبصفتي هذه أُحبُّ وآمل أن تكون بلاد نجد والحجاز سعيدة، وأن تكون على ولاء وبلاد العراق.»

وممَّا قاله بخصوصِ المخافر التي بُنِيَت قرب الحدود بين العراق ونجد: «ما بنيناها عداوة لأهل نجد بل مُساعدةً لكم، يا أخي. بنيناها لردع القبائل، قبائلكم وقبائلنا، عن الغزوِ والتجاوُز، فإذا جاءَ الإخوان صائلين نردهم خائبين، فيتعودون الطَّاعة للنظام، فيهون عليكم إذ ذاك ضبطهم. وكذلكَ أقولُ في قبائل العراق، المخافر هي لمصلحة بلادكم — والله — وبلادي.»

الملك عبد العزيز: «أقسم بالله أن ليس في قلبي ذرَّة من البُغض أو من الاحتقار لفيصل، وما فيه لفيصل غير الحبِّ والإكرامِ، والله وبالله ورب البيت، جئتُ تابعًا قلبي إلى هذا الاجتماع، وإنِّي أسألُ الله أن يوفِّقَنَا جميعًا إلى ما فيه خير العرب.»

وعندما كان الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز في أوروبا، وعادَ منها بطريق روسيا وطهران ووصل إلى بغداد في صيف سنة ١٩٣٢، رحَّبت الحكومة به ترحيبًا جميلًا، وشاركها الشعب بمُظاهرات الإكرام والولاء، حلَّ الأمير فيصل ضَيفًا على الملك، فأدب له مأدبةً رسمية، وخَطَبَ فيها مُطريًا الملك عبد العزيز، الزعيم العربي العظيم. وما كان الملك عبد العزيز أقل كرمًا وإخلاصًا؛ فقد أبرَقَ إلى الملك فيصل يقولُ: «إنَّ عروة الإخاء الوُثقَى بين أهل نجد والحجاز وأهل العراق هي من فضل فيصل.» إنِّي على يقينٍ أنَّ هذه العواطف المُتبادَلة بين العاهلَين هي فوقَ السِّيَاسة، هي من القلب.

فقد قالَ لي الملك عبد العزيز، عندما زُرته أخيرًا في جدَّة: «إنَّ الملك فيصلًا صديقٌ مُخلِصٌ، وعربيٌّ شريفٌ كريم الأخلاق، وزعيمٌ مقتدرٌ حكيم.»

وقال لي مرَّة وهو يجنحُ إلى الدعابة: «فيصل يقولُ إنه يحب أن نزور أميركا أنا وإياه، وكيف نسافر إلى أميركا، وحدنا؟ والحريم، لا والله، النساءُ هناكَ سافرات، ونحن متبعون في الحجاب سنة النبي . نُسافِرُ ونترك الحريم، هذا ما يصير. نأخذ الحريم معنا ونُحجِّبُهُنَّ، هذا صعب والله … ولسنا من الذين يقولون بهذا الذي يسمونه روح العصر، فنكتفي بواحدةٍ لا غير. إنَّنَا متبعون السنة النبويَّة، نأخذُ ما يجيزه النبي ونمتنعُ عمَّا يحظره، فقد أَجازَ لنا التمتع بما نشاءُ من النساء، مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيديكم لغيرنا من حُكَّام المسلمين ما يشاءون، فقد لا يلزم بعضهم أكثر من واحدة … أمَّا نحن فإنَّنَا نتمسَّكُ بالحقوقِ التي يتنازلون عنها.»

قد تنازل الملك فيصل عن حقِّ الزواج بغير واحدة، ولكن الملكة زوجته والأميرات بناتها لا يزلن مُحجَّبَات، وما كان يستصوب الدعايات الدينية، والسياسة المبنيَّة على الدين؛ أي إنه كان مُخالفًا للنزعة النجدية الوهَّابيَّة، ولكنه أذن للمبشرين الأجانب بالدخول إلى العراق. وقد استحسن نبذَ الطربوش في تركيا فنبذه في العراق، ولكنه أحجم عن القبعة واستعاض عنها بالسدارة. لقد وقف فيصل إذن بين ابن سعود ومصطفى كمال في بعض الأمور الاجتماعية. وما كان ذلك حِرصًا على كرامةٍ يخشى أن تُذل بالاقتداء، بل عملًا بما رآه حقًّا في مثلِ بيئته وأحواله؛ فقد شَاهدنَاهُ مُقدمًا في بعض المواقف الخطيرة، عندما يتوضَّح السبيل ويتيقَّنُ الحِكمَةَ فيه؛ كالعمل للسلم ولتوطيد الولاءِ بينه وبين جيرانه. فما كان هيَّابًا في هذا الأمر ولا اكترث لما قد يكون في إقدامه من المفاداة بكرامته.

كانَ في الأحوال المُريبة والمواقف التي لا يترجَّحُ له فيها اليقين، يُحجِمُ ويتردَّدُ، ويسمع فوق ذلك لكلِّ من جاءه نَاصحًا مُشيرًا. ولكنه في الأحوال المتأكدة، وإن تزاحمت فيها الأغراض والنزعات، كان يستقلُّ بعمله، ويمضِي لغرضه جازمًا حازمًا، فتظهر روح الزعامة فيه طليقةً قوية. وقد كانت السكينة من سجاياه الكُبرى في كل أحواله، بل كانت الركن الأول لقواه المعنوية والسياسية كلها. السكينة وما فيها من الغذاء للنفس، ومن أسباب السيطرة عليها، هذه هي ناحية من نواحي العظمة في فيصل، فقلَّما كان يُرى في حالةِ الغضب أو الاضطراب؛ كأنَّه الأَرز من الأشجار، لا تهزُّه الرياحُ العَاصِفَة، قال لي أحد وزرائه: «أحب والله أن أراهُ مرَّة مُغضبًا أو مُضطربًا، وإن غضب مرَّة فلا يلبث أن يسكن ويروق. لا يمشي مع الغضب إلى النهاية، إلى ما لا تُحمَدُ عُقبَاهُ.»

ومن مزاياه، مع ذلك، شدَّة الإحساس والتأثُّر؛ فإذا كان في مجلسه من لا يحب، أو من لا يثِقُ به، كنتَ تراهُ مُنكمشًا، مُتواربًا بنفسه، ومُقفلًا عليها باب السكوت. يفعل ذلك وهو يشعل السيكارة تلوَ السيكارة؛ أو يلعبُ بسبحته. رأيته مرَّة يلعبُ بزرٍّ من أزرار صدرته كالولد الصغير، كأنه في كلِّ ما ذكرتُ يغالب النفس المأسورة، المضغوط عليها، فلا تشتعل غيظًا. وبكلمةٍ أُخرى كان يسوس جواد النفس فيه، الجواد العربي الأصيل، سياسةَ ماهرٍ مُجرِّبٍ حكيمٍ. بيد أنَّه كان يخشى في أيَّام الانتداب الأولى أن يجمح به فيبعده من تلك الحياة الملكية المكربة.

وما كان الإيمان بالله وبرسوله ملجأ فيصل الوحيد — كما قد يتبادَرُ لذهن الناس — بل كان له ملجأٌ آخر، وقد يكون في بعض أحواله الملجأ الأول؛ وهو الاسترسالُ في التفكير والتساؤل العقلي؛ كأن يجلس ونفسه، فيُطَارِحها الحديث بسكينته المعهودة، فيقول لها: وما هذا الذي نحن فيه؟ تعالي نبحث هذا الموضوع ونتبحر فيه.

كان فيصل توَّاقًا إلى النور في شتَّى المواضيع، وكان يجنح كثيرًا إلى الشكِّ والتساؤل. «لله ما أكثر سؤالات سيدنا!» قالها ذات ليلة أحد الضيوف. قلت: وما أوسع نطاقها! فمنها سؤالات الطالب العلم، ومنها سؤالات الراغب بطريقةٍ للتنفيذ في شئون الملك، ومنها سؤالات للتسلية، وهو لا يجهلها. إنَّ من حقِّ الملوك الجزية، وعلى كلِّ من يتشرَّف بمحلس الملك أن يدفعها، وله بعد ذلك أن يُفاخر ما شاء.

سَأَلَنا مرَّة سؤالًا عن الحروف العربية وهل يمكن إصلاحها مع المحافظة على جمالها، ففتح بابًا عسر بعد ذلك إقفاله. كان الشَّاعر الزهاوي من المدعوين إلى العشاء، فتناوَلَ الحديث وشرع يشرح مشروعه أو بالحري اختراعه الذي فهمتُ منه، وما أظنُّ أنَّ الضيوف الآخرين والملك فهموا أكثر مني، أن ستكون الأحرف العربية ستة عشر حرفًا لا غير، وبشكلٍ يمكن من الكتابة بها، من اليمين إلى الشمال، ومن الشمال إلى اليمين، وكان الضحك مسك الختام.

قلَّما كان الملك فيصل يُبدي رأيًا واحدًا في مسألةٍ من المسائل، بل كان يقلِّب بها ليتسع مجال التساؤل من نواحيها كلها، فيعطيك هو نفسه رأيين أو ثلاثة آراء فيها؛ ممَّا جعلني أظنُّ أنَّ العقليَّة الفلسفيَّة السقراطية هي من طبعه. ولو لم يكن سياسيًّا، لو ظلَّ في مكة بعيدًا عن الدوائر السياسية، لكان عالمًا من علماء الإسلام، له منزلة الغزالي؛ فقد كنتُ أشعر وهو ينتقلُ بِنَا من موضوعٍ إلى آخر أن له رغبة خاصة شديدة؛ هي رغبة العالم الفيلسوف، في مجرد الاطلاع على حقائق الأمور والتبحُّر فيها.

أمَّا المسائل التي تتعلَّقُ بشئون البلاد، سياسيةً كانت أو اجتماعيةً أو اقتصاديةً، فقد كان ينظر إليها من وجهةٍ واحدةٍ هي وجهتها العملية، كيف يمكننا أن نعمل بهذا المبدأ؟ كيف تطبَّق هذه النظرية عندنا؟ وبكلمةٍ أخص — كما كان يقول — كيف نقاوم ما لا يُوافقنا من المدنية الغربية ونتغلَّبُ عليه؟ كيفَ التخلُّص ممَّا هو مُضِرٌّ منها بثقافتنا العربية؟ وما هي الأشياء النَّافعة لنا؟ وما هي المُضرَّة في ثقافَةِ الغربيين ومدنيتهم؟

تقولون: إنها مدنيةٌ ماديَّة، وهل نحنُ بغنًى عن الماديَّات؟ فإذا سلَّمنا أنها لازمة لنا — ولا أظنكم تُنكرون ذلك — فهل ينبغي أن نَتَكَالَبَ في سبيلها مثلهم؟ كيف يمكننا أن نُحسن أحوالنا الاقتصادية ونظل شرقيين؟ هل نتوفق إلى ذلك في اختيارنا النافع، ونبذنا المضر في هذه المدنية؟ هو ذا فيصل في حكمته وفي حيرته.

على أنَّه لم يكُن مُتسائلًا في كلِّ الأمور، وقد كان له من الآراء الوضعية الفاصلة، ومن مواقف الحزم واليقين، ما يسترعي الأنظار: لا ينبغِي أن تتناول الأمَّة دفعةً واحدة أكثر ممَّا يمكنها أن تتصرَّفَ به، ينبغي أن تكون تشوُّقَاتُها الوطنيَّة مُتناسبةً ومقدرتها العملية. الأمر الواقع هو غالبًا مكروه، والشرقي لا يعرف به. ترانا نلجأُ إلى الدِّين نغذِّي به الآمال، أو إلى الشعر فنتلذَّذُ بالخيالِ؛ يجبُ علينا أن نروِّضَ أنفسنا في مُجابهة الحقائق، يجبُ علينا أن ننظرَ إلى الحياةِ مجرَّدة من الزخرف والخيال، هو ذا فيصل الفاصل الجازم، فيصل المعلم، فيصل الزعيم.

إني لأذكره خصوصًا في مجلسه، وقد صفت له ساعة من الزمان، فيمدِّدُ رجلَيه ويدعونا أنا والقسطنطين، لمشاركته في التدخين، فيعلم أنِّي لا أحبُّ السيكارة، فيأذن بالغليون، أو يخرج صُندوقًا من الحشيشِ ويفتحه قائلًا: «دونك والسيكار.»

عندما جئنا ذات ليلة للعشاء وجدناه جالسًا يُطالع بعض الأوراق، وهو مكشوف الرأس، والسدارة، وهي من لون ثوبه الرمادي، على الطاولة الصغيرة أمامه، وبعد أن انتهى من قراءة ما بيده وضمَّها إلى غيرها من الأوراق على الطاولة، قلتُ: «لا نهاية على ما يظهر لشغل جلالتكم.» فقال: «يجيئنا كل يوم شغل يومَين.»

– «أيعني ذلك أنَّه يجب عليكم أن تشتغلوا ليل نهار؟»

– «إذا اقتضى الأمر، ولكن المعدل عشر ساعات، وأحيانًا اثنتا عشرة ساعة.»

– «هذا مُخَالِفٌ لنظام العُمَّال.»

– «سجِّلها إذن لهذا العامل الذي لا يرعى نظام العمال … وما رأيك، يا أمين، في الحكومة البلشفية؟»

عددتُ هذا السؤال منه مُفاجأةً جائرة، وقد سأله عرضًا، وهو يلبسُ سدارته، كأنَّ الجواب عليه ممكن ونحن ماشون إلى غُرفة الطعام. فقصصتُ عليه، إذ جلسنا إلى المائدة، قصَّة كارل ماركس يوم كان مُقيمًا في لندن؛ فقد فكَّر مرَّة بالسفر إلى أميركا، ثم عدل عنه قائلًا: «لو أنَّنِي سافرت لصرت هناك غنيًّا، ولما تسنَّى لي أن أكتبَ كتابي وأؤدِّي رسالتي.»

ثم قلت لجلالته: «إنَّ البلشفية أو حكومة السوفيات هي أعظمُ تجربةٍ اقتصاديةٍ سياسية في تاريخ العالم، منذُ أيَّام أور وآشور إلى يومنا هذا، وإنها كتجربة جديرة بالاعتبار، فقد يكونُ فيها الخير الأكبر المنشود، وهي في كلِّ حالٍ لا تخلو من الخير.»

ثمَّ اتخذتُ خطَّة الهجوم، ولست أدري الآن بأي أسلوب، وبأيَّة حيلة، انتقلتُ إلى فنِّ التصوير، وسألته عن صورتَيه الزيتيتَين اللتين رسمهما اثنان من الفنانين البريطانيين المشهورين لزلوس المحافظ، وأغسطس جان المجدِّد. وأظنُّ أنِّي أسميتُ الأول ملكيًّا والثاني بلشفيًّا.

فأجاب الملك وهو يبتسمُ ابتسامة مَن تذكَّرَ شيئًا يسرُّ ويحزن معًا: «لا يزال الرسمان في لندن، يظهر أنَّ الفنان يريدُ أن يغتني دُونَ أن يُسافر إلى أميركا … لا، ليس في طاقتي أن أدفع ثمن الرسم الواحد ألف جنيهٍ إنكليزي.»

وما أدهشني ذوقه عندما سألته أي الرسمين يفضل على الآخر، فلمَّا شرحت — بناءً على طلبه — الطريقة القديمة والطريقة الجديدة في التصوير، قال: «إذا لم يكن المرءُ مُلِمًّا بفنِّ التصوير إذن، لا يُدرِكُ محاسن المجددين ولا تروقه طريقتهم؛ العين وحدها لا تكفي كما تقول، والعاطفة مع العين لا تعين، بل تضلِّلُ كما هو الأمر في تفضيلي رسم لزلوس على رسم جان.»

– «أوَليس السرور الناشئ عن النظر والعاطفة والمعرفة معًا أكبر وأثبت من السرور النَّاشئ عن العاطفة والنظر وحدهما.»

– «هذا صحيح، يا أمين، وبِوُدِّي لو كنتُ عالمًا بشيءٍ من الفنِّ؛ لأنِّي أحبُّ الرسوم الزيتية الجميلة، ولكنك رأيتَ كيفَ تتراكَمُ الأشغال عليَّ، فأين الوقت لدرس الفنون لنتمكَّنَ من فهمها فيزداد سرورنا بها؟ ما رأيك في الدعاية؟»

– «كانت شرًّا لازمًا من شرورِ الحرب العُظمى، وقد أمست ضربة من ضربات المدنية.»

– «يسرني والله أن أسمع هذا منك، يقولون لي: يلزمك بروباغندا. وأنا أقولُ إنها — وإن كانت مبنية على الحقيقة — من الأباطيل، تذهبُ كالهباء المنثور، وقبيحٌ بالمرءِ أن يُعلِنَ نفسه.»

– «إنَّ لها غير الهباء المنثور نتائج مدهشة، وخصوصًا إذا كان القائمون بها من رجالِ الفكر والفن، المعلن ينفع نفسه في أكثر الأحايين ويزعج الناس دائمًا.»

– «إنِّي أفضِّلُ الضرر بدون دعاية على النفع بها.»

قال هذا بلهجةٍ فاصلةٍ صادقة وهو يضعُ المنشفة على المائدة ويضربها بيده، ثمَّ قالَ ونحن عائدون إلى المجلس: «فضلًا عن ذلك، ليس في ماضي حياتي شيءٌ مهمٌّ، ليس فيه ما تسميه مادةً صالحة للدعاية. الحقيقة يا أخي، الحقيقة وحدها تكفي، هي تنطقُ بخير صاحبها أو بشرِّه.»

– «ولكن النَّاس لا يُدركون الحقيقة إذا لم ينبَّهوا إليها.»

– «ومَن ينبههم إليها؟ الكتَّاب؟! أكثرهم يقفون بين الحقيقة والناس. الكاتب، الكاتب هو الذي يعرف الحقيقة ويُقدِّمُها للناس بأمانةٍ وإخلاصٍ، وعندي أن لا يجوز أن يقدِّم منها للناس غير ما فيه الفائدة وشيء إذا شئت من الفكاهة، هذا شغل الكاتب.»

– «الكاتب الذي يتشرَّفُ الآن بمحادثتكم.»

– «أسؤالٌ منك هذا أم إقرار؟»

– «وهل تأذنون بالاثنين؟»

– «يعني أنك تريد التعاون.»

– «أوَلستم الزعيم الأكبر للقائلين بالتعاون؟»

رفع يديه وقال ضاحكًا: «أحسنتَ التورية.» ثم جَلَسَ مُتبَصِّرًا «وماذا تبغي منِّي، يا أمين؟»

– «ما جئتكم مستوزرًا ولا طالبَ امتياز نفط.»

ضحك ثانية، وهو يشعل السيكارة، ويشيرُ إلى علبة السيكار.

– «وإنِّي استأذنكم في اختيارِ المناسب من الموادِ التي تتعلَّقُ بحياتكم الشخصية، وسأتقيَّدُ من وجهتي الخاصَّة بقاعدتكم؛ الحقيقة قبل كل شيء والمفيد الطريف منها لا غير.»

– «وهل يُحسِنُ الكاتب الاختيار دائمًا؟»

– «لا والله.»

– «وهل يستطيع أن يملك عواطفه وأمياله دائمًا؟»

– «ذلك ممكن، المسألة تتوقَّفُ على مزاج الكاتب وتهذيبه، وهو في كلِّ حالٍ، لسوء الحظ، ولحسن الحظ، قاضي التمييز.»

– «أعوذ بالله من بعض القضاة وتمييزهم.»

– «وإن حسبتموني من ذلك «البعض» فإنِّي مُصِرٌّ على التمييز، وطامعٌ برحابة صدركم.»

– «الذي يصلح للنشر، يا أمين، والذي لا يصلح.»

وقف عندها مُتردِّدًا، فقلت: «هو ذا شغلي.»

كانت السبحة بين أنامله يتلهَّى بها، فتوقَّفَ فجأة، وهو يضحك.

– «وإنِّي أسألكم فوقَ ذلك أن تمتحنوني بصفتي قاضي التمييز، قُصُّوا عليَّ قِصَّة فأقول لكم بصراحة إذا كانت تصلح للنشر.»

كان صافي المزاج تلك الليلة، متألِّقَ الروح، فرفع السدارة عن رأسه ووضعها على الطاولة، وقال: «سأقصُّ قصَّةً مُضحكة ولكن لا لامتحانك، لا والله. كنَّا بعد الجلوس الأول، أنا والمندوب السامي السر برسي كوكس، مُشتغلين في تأليفِ الوزارة الأولى، فعيَّنَّا كل الوزراء إلَّا واحدًا حِرنا في أمره، بقي عندنا بضعة أشخاص من المستوزرين وليسَ فيهم من يمتازُ عن الآخر بشيءٍ؛ محمد، محمود، أحمد، حمدي — كلهم واحد — مَن منهم نُعيِّن يا حضرة المندوب؟ من منهم تعيِّنُ يا جلالة الملك؟ حرنا والله في أمرنا، ثمَّ خَطَرَ لي خاطرٌ، فقلت للمندوب: «عندي اقتراح، وقد يُضحِك؛ كن مسلمًا لدقيقتَين، وتوكَّل على الله، تعال نعمل يانصيب على الوزارة الأخيرة.» وهذا ما كان، كتبنا الأسماء على وريقات، وضعناها في عُلبة، هززتُها بيدي قائلًا للمندوب: «قُل معي: توكَّلنَا على الله.» ثمَّ سحبنا الورقة الأولى وفتحناها، وكان صاحبها الوزير … وزير اليانصيب!»

•••

اجتمعتُ ذات يوم في الحارثية بالنحَّات الإيطالي المشهور بباترو كانونيكا، فسألتُ نفسي هل وجوده هناك من نعمة «اليانصيب» كذلك؟ ولِمَ لَم يخص «اليانصيب» بصفته نحاتًا إنكليزيًّا؟ أمَّا إبستين فهو من المجددين، وقد يكون مثل أغسطوس جان شغفًا بالمال، ولكن هناك في لندن كثيرين غيره يُجيدون عملهم ولا يطمعون، وهُناكَ النحَّاتون الفرنسيس والألمان، بل هناك النحَّات اللبناني الحويك، فما الذي حمل الملك على تفضيلِ الإيطالي يا تُرى؟

نزا بي القلبُ إلى البحثِ والعلم، وسأذيع الآن سرًّا من أسرار الدولة الإيطالية؛ إنَّ دعاية موسوليني لبلاده تتجاوز التجارة والسياسة، فتشمل كذلك الفنون الجميلة. وهب أنَّ الأستاذ كانونيكا هو صديق حميم للسنيور غراندي وزير الخارجية السَّابق، فهل يدعوه لمأدبَةٍ رسميَّةٍ تُقامُ لملك من الملوك أو لوزيرٍ من الوزراء الأجانب، دُونَ أن يستأذن موسوليني؟ وإن أَذِنَ السيد الأكبر فلغرضٍ ما، ولا حاجَةَ إذ ذاك إلى حركة الالتفافِ في الحديث، لنصل إلى الفنون الجميلة، فنرفع اسم إيطاليا عاليًا في الخارج، ونزيد بثروة أحد أبنائها النوابغ.

وهاكم النحَّات الشهير جالسًا قرب غراندي، في المأدبة التي أقامها موسوليني للملك فيصل وحاشيته عندما زَارُوا روما المرَّة الأخيرة، وهل يُسيءُ الأدب إذا ما فَاهَ بكلمةٍ تتعلَّقُ بمهنته الشريفة، إذا ما أعربَ عن رغبته في تزيين بغداد بأثرٍ من آثاره، يكون موضوعه جلالة الملك، ملك العراق؟ لا بأس بذلك، إنَّما يا أستاذ كُن دقيقَ الإشارة، لطيفها. لا تجارة في مأدبة الوزارة.

بمثل هذا يمهِّد رئيس الحكومة الإيطالية السُّبُل لفنَّاني إيطاليا، فيجيءُ السنيور كانونيكا إلى أنقرة، ليخلد في المرمر والنحاس مصطفى كمال. وبعد ذلك يجيء إلى بغداد ليزين ساحتها الكبرى بتمثال الملك فيصل. أجل لقد كانت المأدبة واسطة التعارف، وكان سلام، وكان كلام، وكان بعدئذٍ العمل في تماثيل فيصل والسعدون.

استقبلنا الملك أصيل ذاك النهار باسم الفن، وهو مثال الأناقة والذوق، يرتدي ثوبًا رماديًّا خَاطَهُ خيَّاطٌ إنكليزي، وقميصًا ناعمًا، وربطة رقبة وجوارب وسدارة كلها من لونِ ثوبه؛ هو التَّنَاسُب مُجسَّمًا. وكان ساعة وصولنا واقفًا أمام الأستاذ، على بضع خطوات منه، والأستاذ واقف وظهره للنور، أمام رأسٍ من الطين يكوِّن ملامح الوجه فيه، ووقفتُ أنا أمام الملك أنتظرُ السؤالات، فنظَرَ إلى الأستاذ ثمَّ إليَّ، وقال: «أنا الآن بين فنانَين، أعوذ بالله.»

– «أوَليس خيرًا من أن تكون بين سياسيَّين؟»

– «والله صحيح، والله صحيح.»

وكان صفوت الخازن الأمين الرصين، واقفًا في زاوية القاعة، مكتوف اليدين، وعلى وجهه مسحة من القلق. «سيتعب الملك من الوقوف.» قال هذا وبادر إلى كرسي قدَّمَهُ له، ولكن صاحب الأمر في تلك الساعة إنَّمَا هو الأستاذ الإيطالي، فهزَّ رأسه عندما جَلَسَ الملك، وقال: «واطي، لا يوافق، يجب أن يكون النور على الوجه بخطٍ مُستقيمٍ وليسَ بخطٍ مُنحَدِرٍ.»

وقد أطنب في الشرح إكرامًا للملك فأبعد الكرسي، وجاء صفوت — الحريص على راحة سيده — بطاولةٍ صغيرةٍ، فكان يجلس عليها من حينٍ إلى حينٍ جلسةً غير كاملة، فيريح رجلًا واحدة من الوقوف.

ما كان فيصل ليرضِي الفنانين؛ لأنه كان يتعب في جلوسه أو في وقوفه ساعة، فتبدو على وجهه سيماء الزعج، وقد كنت في ذاك اليوم مُساعدًا للأستاذ كانونيكا، في شغلي الملك عمَّا كان يزعجه، ولو فهم الحديث لزادَ ارتياحه إلى العمل، مع ذلك كان يتقدَّمُ في تكوين الوجه بينا نحن ننتقل في المواضيع من بلادٍ إلى بلادٍ، وقد ذكَّرَنِي بأبيات لعمر الخيام في الطيان الأكبر، مُبدع الكائنات، وها هو ذا الطيان الأصغر يلطف بإبهامه خطًّا في الجبين، ويرفع من الخدِّ نتوءًا بالسكين، وينقل شيئًا من هذه الناحية فيضعه في النَّاحية الأُخرى، ويحفر ويدوِّر ويبني ويحوِّر حتَّى كادَ الوجه يشبه صاحبه، ولكن هناك في نفس فيصل، ساعة اكتئابه وساعة ابتهاجه، ما أظنه يبرز من بين أنامل النحات الإيطالي وسكينه، عندما كان يعدِّلُ الخطوط والظِّلَال في الجبين مثلًا، ما أدرك شيئًا ممَّا كان يشغل الملك، كنا نتحدث في المدنية الغربية المادية، وكان فيصل حائرًا قلقًا على عادته، لا يدري ما سيكونُ حظ البلاد العربية منها، هل نستطيع أن نغربل هذه المدنية، فنأخذ قمحها، وننبذ زؤانها؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟

أخرجَ من جيبه علبة السكاير، فإذا هي فارغة، فمدَّ بيده إلى صفوت ووجْهه المنقبض يقول: «إليَّ بسيكارة، أنقذني.» فأسرع صفوت يملأُ له العلبة.

«وهل يمكننا أن نُحافظ على ثقافتنا، يا أمين، ونحنُ غائصون إلى الرُّكَب في الثقافة الأوروبية؟! وهل يصحُّ أن ننبذ ثقافتنا القوميَّة، ونقبل ثقافة الغرب كلها بحذافيرها؟!»

كان يجب على الملك في تلك الساعة، من أجل الأستاذ كانونيكا على الأقل، أن يجيب على سؤالاته، فيستمر في الحديث. فطاوعته في الاقتضاب، وتعمَّدتُ إذكاء قريحته، فقلت: «أحد الجوابين على هذا السؤال هو مصطفى كمال، والجواب الآخر هو العلماء، فاختاروا ما تشاءون.»

– «لا العلماء، من وجهة نظري، ولا مصطفى كمال. مدارسنا الدينية قديمةٌ عقيمة. هي مدارس العمائم وللعمائم، تلفُّ وتلفُّ مثل العمامة حول موضوعٍ واحد، ولكنَّنَا لا نزالُ في حاجةٍ إليها، فإذا أبطلناها اليوم وعلَّمنَا أولادنا العلوم الطبيعية لا غير، يصيرون كلهم ملحدين دهريِّين. الولد المسيحي أو اليهودي تُعلِّمُهُ أمه شيئًا من الدين، فتغرس في صدره الاعتقاد بالله، ولكن الأولاد المسلمين لا يتعلمون شيئًا في بيوتهم، أمهاتهم جاهلات، وآباؤهم في أشغالهم، وأكثرهم كذلك جاهلون، فيجيءُ الأولاد إلى مدرسة المسجد وعقولهم فارغة فيملؤها الإمام بقشورِ الدين. أنا من رأيك أنْ ليس من الحكمة ولا من الواجب أن تُعلِّم الحكومة الدين في مدارسها، فإذا علَّمْنا دين الإسلام وَجَبَ علينا أن نعلِّمَ الباقين من الطلاب أديانهم، حتى اليزيديين منهم والصابئة، وهذا غير ممكن؛ لأنَّ العلوم الدينية كلها تستغرق معظم وقت التدريس. أنا من رأيك يا أمين، ولكنني أعدك بأنَّنَا سنصلح مدارسنا الدينية وسيصير عندنا أئمة عصريُّون إن شاء الله! سيتعلم بعض طلاب مدرسة التجهيز العلوم الدينية ويتشرَّبون في الوقت نفسه الروح العلمية العصرية، فيصير عندنا علماء مجدِّدُون، وعندما يتم ذلك، عندما نصلح المدارس الدينية، نبطل تعليم الدين في مدارس الحكومة.»

سأل الأستاذ كانونيكا الملك أن يديرَ وجهه إلى النور، فحدَّقَ بناظرَيه كأنَّه يتحقَّقُ لونهما العسلي، وغرضه الشكل لا اللون، ثمَّ طلب منه أن يغيِّر وقفته، فغيَّرها وهو يسأل النحات: «أَلَا تتعب؟»

ثمَّ أمر بالشاي، وأشعل سيكارة، وأعاد سؤاله باللغة الفرنسية: «أَلَا تتعب؟»

فأجاب الأستاذ وهو يشتغل في اللحية بالإبهام والسكين معًا: «إنِّي مسرورٌ جدًّا.»

وكان الجو يبرد ويقتم، فأحسَّ الفنان وأحسستُ أنا أنْ لا بد من شيءٍ يعيد إليه اللمعة والحرارة، فرويت نادرة من نوادر الفنان الشهير وسلر، فسُرَّ الملك بها، فعادَ النور يتألَّق في وجهه وناظرَيه، فهتَفَ كانونيكا بالفرنسية، قائلًا: «هكذا! هكذا!» ومرَّت يده مُسرعة من اللحية إلى الأذن ومنها إلى مؤخر الرأس.

figure
الملك فيصل الأول في المعرض الزراعي الصناعي الذي أُقيمَ ببغداد سنة ١٩٣٢ ومعه أخوه جلالة الملك علي (من اليمين: داود الشلبي، محمد طيب — بين الملكَين غازي — جعفر العسكري، نوري السعيد، ثابت عبد النور).

وانتقلنا كذلك في الحديث، مُسرعين من لندن إلى الأستانة، فحدَّثَنا الملك عن نفسه يوم كان صفوت العوَّا المعلم الخاص لأولاد الشريف حسين هناك. ثمَّ قالَ: «أنا أعرفُ طعم القضيب وأكثر من الطعم، ما كنتُ مُجتهدًا مثل أخي عبد الله، بل كنتُ مُتأخِّرًا دائمًا في العِلم وكان مُعلِّمُنا (هزَّ صفوت رأسه مبتسمًا) يعلِّمني أنا هكذا (ضمَّ الملك أصابع يده بعضها إلى بعض وطفق يضربها بكفِّ اليدِ الأُخرى) وهذا صفوت اسأله.» والشيخ الجليل المكلل شعره الأبيض بسدارةٍ سوداء، الضام يديه إلى صدره، الواقف في الزاوية كتمثالٍ للحشمةِ والوقار؛ أحنى رأسه ثانية وابتسم.

وبينا نحنُ نتناول الشَّاي انتقلنا من الأستانة إلى باريس. يظهر أنَّ الفرنسيس، خصوم فيصل بالأمس، هم اليوم جانحون إلى الولاء؛ فقد أدركوا أنهم أخطئوا في صيف عام ١٩٢٠؛ لأنهم ما فاوضوا فيصلًا بدل أن يحاولوا القضاء عليه وعلى آماله، فلو فعلوا لكان أمرهم في سوريا اليوم على ما يرام، ولَمَا كانت الثورة التي جرَّت على فرنسا الخسائر الباهظة من مالٍ ورجالٍ، وخيرُ بُرهانٍ على تغيُّرِ موقفِها المأدبةُ التي أُقيمت للملك فيصل بباريس في صيف سنة ١٩٣١، والنَّخْب الذي شربه مدير الوزارة الخارجية يومئذٍ المسيو برثيلو، نخب الملك فيصل، «ملك العراق وسوريا». إنَّ هذا الحدث لا يزالُ حديث الصحافة وموضوع اهتمام السياسيين العرب والفرنسيس حتَّى اليوم.

في حديث الملك عن برثيلو نذكر سلفه في الوزارة الخارجية بيشون، وشدَّ ما كان الفرق بين الاثنين. بيشون خصم العرب في مؤتمر فرساي أساءَ مُعاملة فيصل وأثار غضبه؛ فعندما سافَرَ من بيروت وحاشيته في الباخرة الحربية البريطانية إلى مرسيليا، استقبلتهم السُّلطة هُناك بأمرٍ يمنعهم من السفر في فرنسا، فأُرسِلَت برقيَّات الاحتجاج إلى لندن، فجاءَ الجواب مُشيرًا على الوفد العربي بالسفر حول الحدود الفرنسية إلى البلجيك، ريثما تتم المفاوضات بين الحكومتَين البريطانية والفرنسية، فداروا تلك الدورة وسُمِحَ لهم بالدخول إلى فرنسا من حدود البلجيك.

وقد اعترضتهم في باريس عقباتٌ أُخرى أقامها بيشون، الذي أَنكَرَ على العرب حق التمثيل في المؤتمر، وبَذَلَ ما في طاقته ليقفل الأبواب كلها دُونَ فيصل، كان الكرنل لورنس يومئذٍ مع الأمير، فاستشاطَ غيظًا لسلوكِ الحكومة الفرنسية، وراحَ يحتج إلى الوفد البريطاني، فاهتمَّ لويد جورج بالأمرِ في الحال، وفي أصيل ذاك اليوم قرع جرس الهاتف في منزل الأمير: «وزير الخارجية بيشون يريدُ أن يكلِّم الأمير فيصل.»

– «تفضلوا، فيصل يُخاطبكم.»

– «قد مَنحْنا العرب حقَّ التمثيل في المؤتمر.»

كان الخبر قد بلغ الأمير — جاءه به لورنس — وأحسن ما فيه أنَّ العرب نالوا الحق بممثلَينِ بدل الممثل الواحد. فقال فيصل لنا، وهو يروي الحادث في الحارثية: «اغتنمتُ الفرصة لإدراك ثأري من بيشون، فقلت له: «جاءنا العلم بذلك، وقد علمنا أيضًا أنَّ المؤتمر مَنح العرب الحق بممثلَين اثنين.» فما أجاب بكلمة.»

ثم أدرك ثأره مرَّة ثانية في موقفٍ آخر بباريس، فرمى الوزير الفرنسي بسهمٍ نافذٍ من سهام التهكُّم، ذلك عندما وقف في المؤتمر يبسط قضية العرب، فذكر المساعدة التي جاءتهم من الحكومة البريطانية، فقال بيشون مُتغيِّظًا: «والحكومة الفرنسية، أليس عند الأمير ما يقوله عن مساعدتها العرب؟» فوقف فيصل هنيهة، وفيه نزوة إلى الصراحة، فأومأ إليه الرئيس ولسون مشجعًا، فقال: «نعم، قد ساعدتْنا الحكومة الفرنسية ببضعة مدافع من زمان نابوليون.» وكانت الضحكة التي زادت بتغيُّظ بيشون.

وما نجا حتى كليمنصو من سهام فيصل، إلَّا أنَّ النصل في السهم هذه المرَّة لم يكن عربيًّا. «عندما سألني ذات يوم المستر لويد جورج رأيي في المؤتمر، قصصتُ عليه قصَّة القافلة وقلتُ إن دليلها يركب دائمًا حمارًا، فقالَ على الفور ضاحكًا: ومن هو حماري أنا …؟»

•••

كان فيصل يروي الأخبار — إن كان عن نفسه أو عن سواه — بسذاجةٍ جميلةٍ وصراحةٍ صادقةٍ، لا يعتريهما شيءٌ من التحفُّظ والاستدراك، فيجيءُ كلامه عفو القريحة دون تعمُّل ودون تنميق. حدَّثنا مرَّة عن أيَّامه الحجازية عندما كانَ يخرُجُ وأخوه عبد الله لتأديبِ البدو: «نحنُ نعرفُ البادية، يا محروث، ونعرف مشقَّاتها ومسراتها.» كان الشيخ محروث الهذال أمير العمارات من المدعوين تلك الليلة للعشاء، وهو الوحيد بيننا في القيافة العربية، وما كان فيصل يهمل أحدًا من ضيوفه، فيختار من المواضيع ما يهتمُّ به ويرتاحُ إليه.

– «أذكر أنِّي كنتُ أُشرف مرَّة على تموين الحملة، فجهَّزناها بما يلزمُ من الدقيق والسمن والأرز والبن والسكر والشاي، ثمَّ طلبتُ شيئًا من العدس، وكان الوالد — رحمه الله — يفحص كل شيء قبل الرحيل، وكان قاسيًا في أحكامه، قاسيًا والله، لا يريدنا إلَّا مثل البدو في عيشنا؛ فلا يكون لنا ما ليس لهم. فعندما جاءَ يفحص المونة وقف عند كيس العدس وسألني: ما هذا؟ قلت: عدس. فقال: وهل يأكل البدو العدس؟ قلت: لا. فقال: وهل أنت أحسن من البدو؟! وأمر بأن يُعاد الكيس إلى بيت المال، ما أذِن لنا بالعدس. ولكن المرء لا يسأل وهو في الغزو، وهذا محروث يشهد على ما أقول، كنَّا نأكل الخبز معجونًا بالتراب — والله — ومخبوزًا بالرماد، ولا نُبالي. بل كنَّا نلتذُّ به كأنه الكعك بعينه.»

ثم انتقل في الحديث إلى التعليم، وقابل بين تربية أولاد المدن والتربية البدوية، وهو يأسف أنَّ الحضر إجمالًا لا يُدركون معنى شظف العيش وفوائده، «فإذا قدَّمنا لهم الكعك قالوا هذا خبزٌ يابسٌ، والأنكى من ذلك أنَّ الطلاب في المدارس لا يقبلون بغيرِ الكعك المسمسم. تراني أتكلَّمُ بالألغاز، وما هو من شأني. من آفات التعليم اليوم عندنا في العراق أن يكون هدف الطلبة كلهم واحدًا، كلهم يتعلمون ليصيروا موظفين في الحكومة، والأولاد يؤمُّون المدارس الأوليَّة والهدف الواحد — الوظيفة — نصب أعينهم، هذا هو المرض في التعليم عندنا، وقد طالما فكَّرتُ في مُداواته وأظنُّنِي اهتديتُ إلى العلاج.»

وما العلاج؟ مدرسة تؤسَّسُ في العاصمة لتجهيزِ الطلاب للخدمة المدنية، فتختار الحكومة الموظفين من الحاملين شهادتها، وسيكون طلاب هذه المدرسة من خرِّيجي المدارس الثانوية في البلاد، الناجحين بالفحص الخاص لهذا الغرض، من كلِّ لواء عددٌ محدود كل سنة أو سنتَين.

بعدَ العشاء استأذن الشيخ محروث الهذال والضيوف الآخرون. وكنت أرى أنَّ الملك تعب وعلى شيءٍ من الاضطراب، بالرغم من أحاديثه الطريفة ومؤانسته، فنهضتُ أستأذنُ كذلك، فأومأ بيده أن اجلسْ فامتثلتُ.

بعد أن ودَّعَ الضيوف انتقلنا في الحديثِ من التعليمِ إلى السياسة، فعُدنا إلى باريس ولندن، إلى عام ١٩٢٧، وإلى المعاهدة المشئومة التي ماتت في المهد. وبينما كان الملك يروي آخر أخبارها، دخل الحاجب يُعلمه بقدوم رئيس الوزارة السيد نوري السعيد، فاستقبله في غُرفَةٍ أُخرى، وعادَ بعد قليلٍ وقد تغيَّرَ وجهه، عَادَ فَرِحًا يتألَّقُ النور في عينه وفي محيَّاهُ. وما الخبر؟! لولا ذاك الخبر، الذي جاءَ به نوري، لَخَبَا نوره، لما نامَ فيصل تلك الليلة. وكيف ينام والجيش العراقي في خطر؟! ويكفي — وإن كان الخطر مُبالغًا فيه — أن تتسلَّح به المعارضة، وتنشط في إسقاط الحكومة.

جَلَسَ الملك ونزع السدارة عن رأسه، وهو يحمد الله، ثمَّ أشعل سيكارة وهو يحمد الله، «ما نمتُ ساعة، الليلة البارحة، يا أمين، ولا الليلة السابقة.» قال هذا، وأخرج من جيبه ورقة بَسَطها على الطاولة، فإذا هي خارطةٌ مرسومة بقلم الرصاص لناحية كردستان القائمة فيها الثورة.

– «ها هنا قرية برزان تحيطُ بها الجبال، ليسَ من خطتنا أن نهجمَ هجومًا مباشرًا على الشيخ ورجاله، بل هي خطَّة الْتفاف، إنَّنَا نُطوِّقهم تدريجًا، ونحن خلال هذا العمل نفتح الطرق ونعبِّدُها، وقد أسَّسنا مخافرَ عسكرية في تلك الجبال الوعرة، ومراكزَ حكومة في القرى التي نحتلها. إنَّ هذا العمل، يا أخي، هو الأوَّلُ من نوعه في بلاد الأكراد وفي تاريخهم.»

رسم بقلمه على الخارطة خطًّا وهميًّا يُمثِّلُ نصفَ دائرة هي الطرق المعبَّدة، وفيها نقط هي مخافر الجيش ومراكز الحكومة، ثمَّ رسم خطًّا آخر يبدأُ في جبال عقره ويتَّجِهُ شرقًا، وقال: «علينا أن نتمَّ حركة الالتفاف من هذه الناحية، فندفع بالشيخ أحمد البرزاني إلى الشمال، فيضطر إذ ذاكَ أن يقبل شروطنا أو يلجأ عند الحدود إلى الأتراك.»١

كنت أشعر، وفي القلب انكماش، بأنَّنَا عدنا إلى الحرب العُظمى ندرس الخرائط، ونتبع حركات الجيوش. بعد أن رسم الملك الخطة على خارطته قال: «ولكَ أن تسأل عن الخبر الذي أقلقني وحرمني النوم منذ يومَين؛ في السَّاعة السابعة مساءً، جاءتنا برقية تقولُ إنَّ جنودنا نحو ألفين تقدموا في مضيق زازوك — ها هو — واحتلُّوا القرية، ولكن البرقية التي وصلتنا في صباح اليوم التالي تقولُ إنَّ العصاة استولوا على الحملة، وإنَّ المكارين خلصوا بغالهم، بعد أن تركوا أحمالها للعصاة وفرُّوا هاربين، ثمَّ جاء في البرقية الثالثة الخبر الأسوأ؛ عاد رجالنا ليخلصوا الحملة فوجدوا رجال الشيخ في الأماكن التي كانوا قد أخلوها؛ أي إنَّ العصاة استولوا على قمم الجبال، وباتَ جيشنا في الوادي بخطر، كأنَّه في شَرَك، ومنذ ذاك الحين ما جَاءَنَا خبر. تصوَّر حالتي يا أمين، هل مُحِقَ الجيش، وما بَقِيَ واحدٌ منه يبعث إلينا بالخبر؟ ما نِمتُ والله الليلة البارحة، وفي هذا النهار كله، في هذه الساعات السود، تراني أُحاول الابتسام وأستقبل الضيوف وأستمرُّ في العمل، كأنَّ الأمور في أحسنِ حالٍ، هذا شغل الملك يا أمين، ومن يغبطني عليه؟! وإنما الله سبحانه وتعالى يمدنا بالصبر والقوة، لنظلَّ واقفين على الأقلِّ موقف الدفاع في هذه الحياة، ويفتح لنا من حينٍ إلى حينٍ باب الفرج، كما فعل الآن سبحانه وتعالى؛ فقد انتصرَ جيشنا على العصاة، واستردَّ القسم الأكبر من الحملة.»

لقد حاولتُ في هذا الفصل أن أُقدِّمَ للقارئ صورًا قلميَّة تجمعُ بين الظَّاهر وبعض ما تراءى لي من الباطن، فيحيطُ بمناقب الملك فيصل إذا ما تأملها، ويدرك شيئًا من السر في عظمته، لا يمكنني أن أقولَ إنَّ هذه العظمة كانت كامنة فيه حتَّى في تلك الأيام التي انتهت بنكبة دمشق، ولا أقول إنها ثمرة التجارب والمحن، فإنَّ رأس السرِّ في العظمة البشريَّة لا يزال غامضًا.

بيد أنَّ في قصصه وأخباره منافذ للنظر لا تنكر قيمتها، ولا يخفى جمالها، وسأختمُ هذا الفصل بما أحسبه أجمل هذه القصص؛ فهي تُرِيكَ نفس فيصل في جمالها واتضاعها، في صدقها وسلامة طبعها، في حَالَتَي الكدر والسرور. سألتُ الملك ذات ليلة أن يخبرني بما يحسبه أَشْأم أيَّامه وأسعدها في عهده العراقي؛ أمَّا أشأم الأيام يوم الجراحة ومجيءُ السر برسي كوكس بذلك الأمر ليُمضيه — الأمر بنفي الزعماء الوطنيين — فقد أسلفتُ ذكره في الفصل الرابع، وهاكَ قصَّة أسعد الأيام:

«كنَّا في الأستانة نذهبُ مع الوالد لنسلِّم على السلطان، فندخُلُ ردهة العرش مكتَّفين محنيِّي الرءوس، فنجثو أمام الباديشاه ونقبِّلُ يده، ثمَّ نرجع بضع خطوات مُواجهين العرش، ونقفُ ساكتين، وبعد ذلك نخرُجُ كما دخلنا، والقلوب تنبض بالخوف — والله — والخشوع. ولَّت الأيَّام، وولَّى السلطان، حاربنا الأتراك وانتصرنا عليهم، ثمَّ رجعتُ إلى الأستانة وأنا ملك العراق، وعندما وصلنا إلى حيدر باشا قادمين من أنقرة، كان في انتظارنا عند المرسى مركبٌ بخاري، هو اليخت الذي كان للباديشاه، فأقلَّنَا إلى غلطة.

وعندما نزلنا في الشاطئ الأوروبي، رُحنا نزورُ القصر، قصر طولمه بغجه، القصر الذي كنَّا ندخله خائفين مرتعبين، بين صفوفٍ من الجند، لنقفَ مثل العبيد أمام الباديشاه، فدخلناه هذه المرَّة بسلام، وكانت الأروقة والقاعات كلها خاليةً خاوية. أما ردهة العرش، فقد هالني فراغها عندما وقفت في الباب، ولكن العرش، العرش الفارغ المهجور، لا يزالُ فيها. فمشيتُ إليه هذه المرَّة بخطواتٍ ثابتة، وصعدت درجاته سامد الرأس، وجلستُ في الكرسي! وكان سُروري والله عظيمًا، فحمدتُ الله رب العروش، مُشيِّدها وهادمها، وقلتُ لنفسي: لقد أدركتَ ثأرك اليوم.»

١  بعد ثلاثة أشهر، في حزيران ١٩٣٢ أخمدت الثورة، فلجأ الشيخ أحمد وبعض رجاله إلى تركيا ثمَّ عفي عنهم؛ فعاد الشيخ إلى العراق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤