نحن وهارون الرشيد١
والنَّاس مُتْلِعون، والعيون منهم محدقة، بهذا الأثر الصناعي العربي البغدادي الأعظمي، والكل معجَبون به، هذه الساعة مَفخرة المعرض، بل مَفخرة العراق. ومن ذا الذي يقول إنَّ العقل العربي عقيم لا يُحسن الاختراع، إنها بيت القصيد في هذا المعرض. وقد قال أحد الشعراء: إنَّ صانعها عبقريٌّ مُتحدِّرٌ من أجدادٍ عبقريين. وقال الآخر: وما أدراك، قد يكون من سلالة ذلك العربي الذي صنع الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى عاهل الفرنجة شارلمان.
إنَّه لشاعر بعيد الخيال، ولكنه ما علم أنَّ الخليفة هارون الرشيد كان في تلك الساعة واقفًا مثله، وقريبًا منه، بين المتفرجين. وقد كان مع الخليفة شاعره أبو النواس، والملك فيصل، وكاتب هذه السطور.
أربعة مُتنكِّرُون في زيِّ التُّجَّار أمُّوا المعرض في تلك الليلة مُتفرِّجين متنزِّهين، وكل واحد منهم طلق المحيَّا، طليق عنان النفس، يرومُ من الزمن ساعة ولا كالساعات، تعودُ فيها الحياة إلى صفائها الأول وطهرها القديم، وكان فيصل طروبًا في اجتماعه بهارون، وهارون مُبتهجًا بلقاءِ فيصل.
وقفنا عند الساعة الأعظمية، ونحنُ مثل غيرنا هناك مُعجَبون بدقَّةِ صنعها، وضخم هيكلها. ولكن الخلفية هارون هزَّ برأسه، وقال: «كأنَّ رقبة الصَّانع من الخيزران، أَوَيظنُّ أن رقاب النَّاس تُمَطُّ لتصيرَ كرقاب الجمال؟ وهل أفك رقبتي — بارك الله فيك — لأُدرك مصير الزمان؟ أين التناسب يا فيصل بين الساعة وقاعدتها؟ هذا نقصٌ في الصناعة وخللٌ في الفنِّ، ما كان أهل الصناعات والفنون في أيَّامِنَا يقترفون مثل هذه الذنوب، بل كانوا يرعون قاعدة التناسب والانسجام. وكنَّا — بارك الله فيك — إذا أخلَّ أحدٌ بها ننبِّهه ونهديه، وإذا استمرَّ في فعلته نُقْصيه. كنَّا ننشدُ الكمال فيما نصنعُ ونخترعُ، وإن كان قليلًا. ولا عجب إن بدت أعمالنا حقيرة في هذا الزمان. إلَّا أنَّنَا، على قِلَّة بضاعتنا، كنَّا ننشد الكمال — ما تسمونه اليوم المثل الأعلى — في كلِّ شيءٍ منها؛ إي والله المثل الأعلى في كل شيء وحتى في التهتُّك. لولا ذلك، بارك الله فيك، لما قرَّبتُ منِّي هذا الخبيث، الذي يتدحرج في أموره من تحت إلى فوق.»
فانتفض أبو النواس وقال: «ولولا ذلك لَشَنَقَ مولاي هارون نفسه. أفلا تذكر — أطال الله عمرك — ما قلتَه لي يوم عدتُ بعد غيبةٍ في الحانة: «شهرٌ في الحانة، يا خبيث!» إني أذكرك بما قلتَ مع بنت الساقي ورفيقاتها، خيرٌ من سنةٍ في القصر مع المعتقات من الحريم.»
– «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومِن تهتُّكك، أيها الأثيم.»
– «وما تهتُّكنا — أطال الله عمرك — إذا قسناه بتهتك أهل هذا الزمن؟! قد لا تجد في هذا المعرض أثرًا منه. في هذه الجادَّات المتألِّقة، وبين هذه الزينات الباهرة، والآثار الصناعية الساحرة، يُخسَفُ الحسن حتَّى في ولدان الجنة. أما إذا خرجتَ من ها هنا وجُلتَ في المدينة، فإنك لَترى العجب؛ هناك في الحانات والمقاهي والمرابع ترى المئات والألوف من تلاميذ الدَّاعي لكم بطولِ العمر حسن بن هاني.»
– «أوَلم ترَ في بغدادنا غير هذا يا أبا نواس؟»
– «عفوك، سيدي فيصل، إنِّي فيما قلتُ مُفاخر لا مُهاتر. وقد شاهدتُ غير ذلك ممَّا يدعو للفخرِ والابتهاجِ أنَّ في هذه البغداد، يا مولانا، من العلومِ والفنون ما يحملُ كبار علمائنا وفقهائنا على الانزواء والاختباء، وكنَّا نحن مع ذلك حاملين مصباح العلم والفلسفة. ما شاء الله، ما نُورُنا إذا قابلناه بنورِ اليوم غير نور الحباحب، يظهرُ لي أنَّ كل شيءٍ في هذا الزمان كبيرٌ ضخمٌ عظيمٌ، مثل هذه الساعة. العلم والفنون والدعارة، كلها جبارة، إنِّي والله أخشى أن أعيشَ في هذا الزمان، فإن قلتُ الشِّعر قاله مثلي مئات، وإن جلتُ في الحانة ضِعتُ بين المتخمرين والمستخمرات، وإن قلت يا غلام قالوا كلهم هات هات. حسن بن هاني تدحرج مرَّة من تحت إلى فوق، في بيتٍ من الشعر، والنَّاسُ في هذا الزمانِ يتدحرجُونَ على الدوام ولا يصحون، على ما يظهر لي، ليُدرِكُوا حالهم؛ ليعرفوا في الأقلِّ هل هم فوق أم تحت … والمزلقات والزلاقات كلها من عند أولئك الفرنجة، الذين كانوا في زمانك يا مولاي مطمورين بالجهل، كانوا البرابرة وكنا المتمدنين. أما اليوم — الله، الله! — هم الأساتيذ في العلمَين والمسيطرون في الخافقَين.»
كنَّا نمشي الهوينا، والأنظار منَّا تسيحُ بين المتفرجين، وتقفُ هنا وهناك عند الآثار المعروضة، بينما كان أبو النواس يحدِّثُ ولا يُبالِي، كأنَّه يخطب في الحانة لكيلا يسمع أصوات الناس، وما أدهش الخليفة فيما قال ولا أدهش الملك، بل كان الاثنان عندما وقف عند «العلمين» و«الخافقين» يتحدَّثَانِ في موضوعٍ آخر.
فسمعت هارون يقول لفيصل: «لو كانَ للفرنجة في أيَّامي جزءٌ صغير ممَّا لأبنائهم اليوم من العلوم، لفتحتُ لهم بلادي، وقصري، وقلبي.»
فقال فيصل: «فتحت قصورك، وفتحت قلبك للبرامكة؛ ورأيت ما كان منهم.»
بُهِتَ هارون، ونظرَ إلى فيصل ملومًا، فقال: «سامحك الله، سامحك الله، أما وقد ذكرت البرامكة فسأصارحك في أمرهم؛ كانَ البرامكة في المُلك أنوار العدل والحكمة، وكانوا في قصورهم من أبناءِ الغرور والحماقة، نقلوا الحكومة إلى قصورهم، وطمعوا ببلوغ ذُرَى البذخ والكرم والمجد، ظنُّوا — بارك الله فيك — أنهم يبارون هارون ويفوقونه، وكنتُ في بادئ الأمر أقول: دعهم يُنفقون في ملكنا ما جاءهم من خراجنا. ولكن، إذ استفحل أمرهم، أدركت خطئي. هذا، بارك الله فيك، ما كنتُ أقوله وأنا الخليفة الرشيد.
أمَّا الآن، وأنا هارون بن المهدي فأقول: أنكرتُ يومذاكَ حكمتي، وما كنت يا أخي فيصل إلَّا بشرًا، فنزا بي القلب — بارك الله فيك — إلى ما نظنُّه واجبًا لإعزاز الكرامة البشرية التي تسترقُّنا. وترددت والله وتحيرت، وقلت غير مرَّة لنفسي: كُن رشيدًا، الصبر أجدر بك، والنصيحة أَولى. فحاورتني النفس قائلة: إنهم من أساطين الحكمة والعدل في الملك، فهُم في غنًى عن النصيحة، يجبُ عليهم أن يكونوا في بيوتهم حكماء، فلا يجعلوها مقرَّ الحكم والسيادة.
البرامكة — بارك الله فيك — نصبوا المشنقة لأنفسهم، وأنا الخليفة هارون الرشيد شددتُ الحبل. ومع ذلك أقول لك يا فيصل إني نادمٌ على ما كان، ولو كان لي أن أجلسَ مرَّة أُخرى على عرش بغداد لكنتُ أُرحِّبُ بكلِّ أجنبيٍّ ذكيٍّ نشيط، على شرط ألَّا يتدخَّلَ في السياسة، وأن يحترمَ شرائع البلاد، وأن يروِّض حريمه على الصبر والعفَّة، أو يُدخلهنَّ حلالًا في دين المسلمين … إنَّ في الرجل المتعلم، العامل المجتهد بركتَين؛ بركة لنفسه وبركة للملك. وإنَّ في الرجل الجاهل الخامل الكسول القنوع لعنتَين؛ لعنة تلزمه، ولعنة تلحق بالملك وبالأمة.»
– «في كلامك يا أخي هارون كنوزٌ من الحكمة، وإنِّي مُنتفعٌ بها ونافعٌ لأهل العراق إن شاء الله، ولكن الأجنبي في هذه الأيَّام يحترمُ الشرائع أكثر من الوطني، أتدري السبب؟ إنِّي أُصارحك يا أخي كما صارحتني، الأجنبي يحترم الشرائع؛ لأنه هو الذي يسنُّها، فهل كان البرامكة يسنُّون الشرائع في أيَّامكم؟»
– «لا والله، إلَّا بعض القوانين، وبمشورة الخليفة وإرادته.»
– «وهل حاولوا أن يقتلوا الثقافة العربية بنشرهم الثقافة الفارسية في البلاد؟»
– «بل عكس ذلك، الثقافة العربية — بارك الله فيك — كانت في أيَّامنا الثقافة العليا، الثقافةَ المنشودة في كلِّ الأمم، والمُفاخَر بها في كلِّ الأمم.»
– «ولو حاول البرامكة أن يسنُّوا شرائع البلاد ويستقلُّوا بالعمل، ولو حاولوا أن يقتلوا الثقافة العربية بنشرهم الثقافة الفارسية، ولو كانوا يجيئونك اليوم بعد اليوم قائلين: «امضِ يا هارون هذا الأمر.» و«انشر يا هارون هذا البلاغ.» ثم يدعونك إلى قصورهم ويأدبون لك المآدب؛ فما كنت تفعل يا أخي؟»
– «واحدًا من أمرَين؛ إمَّا أن أنتقلَ إلى الحانة فأقضي فيها بقيَّة أيَّامي أنا وأبو النواس، وإمَّا أن أنصب المشنقة للبرامكة بيدي قبل أن يصيروا أصحاب الأمر والنهي في البلاد. ولا تنسَ، بارك الله فيك، أنِّي ما غمدت السيف مرَّة — سيف الحق — سيف النبي عليه السلام؛ لقد كان دائمًا مسلولًا.»
– «وما قيمة السيف يا أخي في زمن الدبابة والطائرة؟!»
– «فقهتُ — بارك الله فيك — فقهتُ معناك، لكلِّ أجلٍ كتاب، وكتاب هذا الزمان العلم، بل العلوم الطبيعية والفنيَّة، إنَّكَ على حقٍّ يا فيصل، إنك على حق، وإن ثروة العقل لأكبر الثروات وأضمنها، ولكن أجدادنا علَّمُونا أن نحترمَ العلم، ونُكرِمَ النبوغ، إن كان عربيًّا أو عجميًّا، وقد عملنا نحنُ بما علم الأجداد، أليسَ الأمر كذلك يا أبا نواس؟»
قال هذا مُلتفتًا، ثم وقفنا كلنا مدهوشين، أين أبو النواس؟! لقد أضعناه، فقال الخليفة: «من عادته أن يختفي ثم يظهر، أنا أعلمُ الناسِ بأمره هو قافيةٌ شاردة، وقاه الله شرَّ القوافي … أعودُ إلى ما قلت، فهل كنت أصبر على هذا الخبيث، أبي النواس، وأتحمَّلُ شواذه، لو لم يكن شَاعرًا مجيدًا، وعبقريًّا فريدًا؟»
وقفنا أمام كشكٍ يُباعُ فيه التبغ، صاحبه شاب في ثوبٍ إفرنجي وسدارة، وبينما كان فيصل، وقد فتح علبته فوجدها فارغة، يشتري حاجته من السكاير، سأل الخليفةُ الشابَّ رأيه في ملك العراق.
فقال وهو يبتسم: «هو أحسنُ مُلُوكِنا.»
فقال هارون لفيصل: «ومَن كان قبلك؟ إمَّا أنَّ هذا الفتى أبله، وإمَّا أنه ذكيٌّ ظريفٌ.»
ثم وجَّه إلى الشاب سؤالًا آخر: «هل الملك فيصل مُسلمٌ سليم العقيدة تقي؟»
– «وهل أنا إمام لأعرف هل عقيدته سليمة أم فاسدة؟! إمَّا أنه تقي، فعندنا من هم أتقى منه، وعندنا من هم دُونه. الكفَّارُ يملئون البلاد — لعنة الله عليهم — ولكن جلالة الملك يُصلِّي الجمعة في الجامع، ويصومُ رمضان أو بعضه، ويُحسِنُ إلى الفقراء وإلى من يحتاجون إلى المال لتعليمِ أولادهم، وبعد ذلك … ألا يكفي؟»
فقال فيصل: «وماذا بعد ذلك، قل لنا بالله عليك.»
– «لا والله لا علمَ لي بشيءٍ مُحقَّق، وإنَّ من الظنِّ لإثمًا.»
وقف عندها ليعنى بحاجة رجلٍ آخر ثم استأنف كلامه: «أظنكم غرباء، لهجة الشيخ بدويَّة، ولكنها غير عراقية، هي أقربُ إلى لهجة أهلِ الحجاز.»
فقال هارون: «إنَّمَا أنا حجازي، والرفيقان من بلاد الشام. قل لنا الآن ماذا يقول أهل العراق في ملكهم فيصل؟»
– «يقولون إنه كان أول عهده، منذ عشر سنين، مُسلمًا تقيًّا زاهدًا يحفظ الشرع ويرعى التقاليد، لا خَمرَ في القصر، ولا مَطامِعَ دنيويَّة، ولا مكاتيب سريَّة، ولا قيلَ وقالَ.»
رمق هارون فيصلًا بلحظة فيها غمزة، وسأل بائع التبغ سؤالًا آخر، فقال مُتبَرِّمًا: «اعفوني بالله عليكم، أنا لست من حزب المُعارضة.»
استأنفنا السير، واستأنفَ الخليفة الحديث، فقال: «إنَّ الفتى لَنجيبٌ وإنه لأديب، وقد ذكَّرتني كلمة قالها بمسألَةٍ مهمَّة يا فيصل، استرعِ لها نظرك، هي مهمة وهي مزعجة، ولكنك سيد البلاد — بارك الله فيك — وقطبٌ من أقطاب الحكمة في زمانك، فوجبت عليك القدوة، ووجب على الرعية الاقتداء، يتغيَّرُ كل شيءٍ في الحياة، يا فيصل، إلَّا أوليَّة في الرجل والمرأة؛ فالرجل يظلُّ رجلًا، والمرأة تظلُّ امرأة، إلى آخر الدهر والصِّلَة الجنسية تظلُّ هي هي، مهمَّا تبدَّلَتِ الشرائع، وتلطَّفَت النزعات والنزوات، وليسَ بين الحكماء والأنبياء مَن أدرك هذا السر إدراك نبينا عليه السلام، ولا حاجة إلى أن أُذكِّرَك بالآية.
قد يكون لبعض المسلمين — بارك الله فيك — أسبابٌ شخصيَّة أو ماليَّة أو صحيَّة في احتذائهم حذو النصارى، أو هي «الموضة» في هذا الزمان — زمانك يا فيصل — أن يكتفِي المسلم بواحدةٍ شرعية، ويسلك مسلك النصارى في سدِّ الفراغ. قبيحٌ بنا، نحن المسلمين، أن نأتي الأمور من غير أبوابها الشرعية، وخصوصًا أنَّ في شرعنا ما ترتاحُ إليه الحكمة البشرية، وتتبجَّحُ فيه الأماني الطبيعية؛ لذلك أقولُ: خيرٌ للمسلم أن يستمتع بحقِّهِ كما هو في الآية، وينزِّهَ نفسه — بارك الله فيك — عمَّا دقَّ ورقَّ من أساليب الزنى عند النصارى، هذي هي نصيحتي لكلِّ مسلم، وخصوصًا لملوك المسلمين، هي نصيحة خبيرٍ مجرِّب، بل نصيحة من يستمد حكمته من شمس الإسلام، من حكمة سيد البشر عليه السلام، ولا تنسوا حتَّى وما ملكت أيديكم … إنَّ بي شهوة للقهوة.»
دخلنا المقهى فإذا هو حافلٌ بالناس في شتَّى القيافات، تُكلِّلها العمائم والعُقُل والطرابيش والسدارات وبعضُ القُبَّعَات، فجلسنا إلى طاولةٍ صغيرةٍ نحن الثلاثة، فصفَّقَ الخليفة كفًّا على كفٍّ صفقةً خفيفة، أولًا وثانيًا وثالثًا، فقال له فيصل: «نسيتَ أنك في مقهًى.» وضرب الطاولة بعصاه، فجاء الخادم مُسرعًا، فقال هارون: «ونسيتَ أن تقول إنَّنَا في زمانٍ لا يفهم أهله بغير العصا.»
كان جالسًا إلى جنبنا شيخٌ جليلٌ بهي الطلعة، كبير العمَّة، أبيض اللحية، ومعه غلامٌ أمرد مكحول العين، يرتدي بزَّة من الدمقس، ورأسه مُكلَّلٌ بعقالٍ ضخمٍ عراقي، فألقى الخليفة عليه السلام، وتبادلا بعد التحية بضع كلمات عن المعرض — زين والله زين — أطالَ الله عمر جلالة الملك!
أمسك الشاب بجبَّة الشيخ وهو يتكلَّم، كأنه يقول له أكثرتَ الكلام، قُم بنا. فنهض إذ ذاك مُعتذرًا، وقال: «إنَّنَا مضطرون أن نحرم أنفسنا أُنسَكُم، قد حانَ وقت الصلاة.»
ومشى الشاب سَبهللًا، كما يقول أصحاب المقامات، وراحَ الشيخ يتدعدع وراءه.
ثم جاء الخادم يرفَعُ الفناجين وهو يبتسمُ ابتسامة تهكُّم وازدراء، فسأله الخليفة أن يُفصِحَ عمَّا في باطنه، فقال: «أنا أعرف هذا الشيخ التقيَّ النقيَّ؛ هو متزمِّتٌ والله، نقطة القهوة تنقض وضوءه، وهو يقيمُ الصلوات الخمس كل يوم، ويصوم رمضان، ويزكِّي ماله، ويحسن إلى الناس، والله العظيم، ولكنه، وقد رأيتُم، من اﻟ «بو غلام».»
فقهقه الخليفة وقال للملك ونحن خارجون: «يظهر أن بغدادك، يا فيصل، مثل بغدادي، ولكنها تقيَّةٌ نقيَّة — بلغة هذا الصعلوك — إذا قابلناها بغيرها من المدن في الشرق وفي الغرب، وخصوصًا بتلك المدينة التي جاء ذكرها في كتاب النصارى. وهذا أبو النواس، قلتُ لكم إنه يختفي، ولا يلبث أن يظهر.»
الْتقيناه في الباب وهو يمسح جبينه برُدنه: «عرقتُ من الطواف، وأنا أنشدكم.» ثم أخبرَنا أن ظمأً به خفَّف خطاه، وجنح هواه. «ما لقيت في المعرض كله غير هذا الذي يسمونه صودا، وهو يحرقُ اللهاة، ويفسد النيات، هو شراب البُله، لا شراب الشعراء.»
– «وأين وجدت ضالَّتك، يا خبيث، ومَن هَداكَ إليها؟»
– «ملَكٌ في صورة إنسان، وهو من الفرنجة، وربِّ الكعبة. سلمتُ عليه وقلت: أنتَ من الكرام. فرد بالعربية: والهمد لله. فضحكت وقلت: وأنا من البصرة، وبي ظمأٌ لا يرويه ما في هذا المعرض من شراب، فهل أنت من الهادين والمشاركين؟ فقِهَنِي والله فقال: وأنا من بلادٍ دونَ البصرة، والمثلُ عندكم يقول: الغريب للغريب نسيب. فقلت: هيا بنا إذن. فأخذ بيدي وهو يردِّدُ كلمتي. ما رأيتُ والله ألطف منه وأظرف. مشينا في زقاقٍ إلى جانب الشارع الكبير، نوره ضئيل، وسره ظليل. ودخلنا حانة فرحَّبَ بنا شابٌّ أمرد مثل رفيقي الفرنجي، قيل لي إنه يهودي، ولكنني عففتُ، والله يا مولاي، عففت. علَّمَنِي الفرنجي العفَّة. شربتُ وإيَّاه الأول والثاني والثالث من الشرابَين الذهبي والفضي، وكان إبليس واليهودي ينصبان الشرك لأبي النواس، ولكنني لزمت صاحبي، وخرجنا من الحانة، وتهنا في ذاك الزقاق.»
وكان الخليفة أوَّل من انتبه إلى ازْرِقَاقٍ وورمٍ حول إحدى عينيه. فسأله مُستخبرًا، فقال وهو يمسح عينه برُدنه: «تعثرت في ذاك الزقاق، فارتطم وجهي بالحائط.»
– «ولم لا تقولُ زلقتُ يا خبيث، الحمد لله أنها في العين الواحدة، لا في الاثنتين. وما كانَ حالك يا ترى لو كان يحمل ذاك الإنكليزي خنجرًا؟ ولكن الإنكليز، على ما أُخبرت، لا يحملون السلاح في سهراتهم وسكراتهم؛ فهم يستعملون بدلها الأيدي، مضمومة هكذا.»
ضمَّ الخليفة يده، ودنا بها من وجه شاعره، وأغرق ثانية في الضحك.
فقال الملك فيصل لي: «هذا ملكٌ يعرفُ كيف يُعامِلُ الشعراء.»
ثمَّ أشاح الخليفة بوجهه إلى الملك، وقال: «هل عندك شاعرٌ في البلاط، يا فيصل؟ يلزمك شاعر إكرامًا لأصدقائك الإنكليز على الأقل.»
كُنَّا قد وصلنا إلى بوابة المعرض، فوقف الملك فيصل يشعل سيكارة ثمَّ قال: «عندنا من الشعراء كثير، ولكنهم كلهم خارج البلاط والحمد لله، وقد كنت مرة حبيبهم جميعًا، كنت يا أخي هارون، سيدهم ومليكهم المفدَّى، ذلك عندما شاعَ أنَّ في نيَّة الملك أن يعيِّن واحدًا منهم للبلاط، شاعرًا يتولَّى مديحي! شيءٌ سخيفٌ يا أخي، ولكنها عادةٌ ملكية، أظنها سَرَت من الشرق إلى الغرب، وهي تعودُ اليوم إلينا؛ لا ليكونَ لنا فيها شيءٌ ممَّا لك من السلوى في أبي النواس، بل لتزيد في همومنا، كدتُ والله أقعُ في الشرك، فعندما انتشر الخبر أنَّ التعيين مرجَّحٌ لواحدٍ من اثنين، تنازَعَ هذان الاثنان وتخاصما، وساءني أن أكونَ السبب في ذلك، فقلتُ لا هذا ولا ذاك، فانقلبَ الاثنانِ عليَّ، وعَمِدَا إلى القوافي يرميان بها من كان بالأمس سيدهما ومليكهما المفدَّى، فعينَّا واحدًا منهما في مجلس الأعيان، والآخر في مجلس النوَّاب فسكتَا، واطمأنَّا، وشرعا ينظمان القصائد في مديح الربيع!»
ولكنِّي قبل الوداع أقولُ هذه الكلمة؛ سيمدحونك كلهم غدًا، وسيتغنَّون بذكرك، وسيرفعون اسمك عاليًا — بارك الله فيك — ليكون نور هدًى لأهل العراق، وللعرب جميعًا. أمَّا الآن فهُم كلهم أولادك يا فيصل، العَقُوق منهم والبار، وقد يكون في العقوق ما يساعدك لتصل إلى الذروة العليا، فيعمُّ إحسانك ويشمل الجميع إلَّا نفسك، إلا نفسك، سُنَّة الله في أصفيائه المصلحين لعباده.
وكلمتي الأخيرة — بارك الله فيك — هي هذه: تمسَّك بحبل الإنكليز ولا تُفلت حبل المعارضة، أستودعك الله.»