رسالة إلى فيصل

أخي فيصل

كنتُ في هذه الفانية المثلَ الكريم للإخاء الإنساني، ومن أجمل الكلمات التي كنت تفوه بها، في محادثتك الناس، تلك الكلمة العذبة الصادقة، «يا أخي.»

وكنتُ أنا أحجم التشبُّه بك، وبينك وبيني تقاليد المُلك والنسب، فلا أدعوك بالكلمة التي تفصح عن أصدق العواطف في قلبي.

أمَا وقد أصبحت روحًا صافيًا علويًّا، وأنا في عزلتي روحٌ طليق على الأقل، فليس ما يحظر عليَّ ما كانت تحول دونه التقاليد.

لذلك أصدِّر رسالتي بالكلمة التي تحلو للقلب، وتصفو للروح فأدعوك أخي، وأكتب إليك كما يكتب الأخ إلى أخيه، لأطلعك على بعض ما جرى بعد فراقك؛ ممَّا يزيد بيمنك وحبورك.

وقبل ذلك أحبُّ أن أكشف عن لوعةٍ في قلبي. من الأماني التي كنتُ أتمنَّاها أمنيتان وَضَعَهما القدر في حقيبتك عندما دعاك للرحيل؛ الأولى هي أن أراك ها هنا في الفريكة، لا لِمَا في الزيارة الملكية من الشرف والمجد — وأنا لا أزال في القيد الذي يحببهما إلى الناس — بل ليكون في الزيارة ما يستبشر به لبنان، جبلنا التعس المحبوب، فيلطف الله بحاله، وينعش بعض آماله.

والأمنية الثانية هي أن أرى هذا الكتاب الذي كتبته فيك، بين يدَيك، تقرؤه لتعيدَ عَلَى الأقل ذكرى جلساتنا وأحاديثنا، فتبسم تارة، وتجهم أُخرى، وأنت تقول: ما شاء الله! أو سامحك الله. ثم تشعل السيكارة وتمدُّ رجلَيك وتعود إلى صفحاته تقلِّبها، فتضحك مُستهجنا أو مُستحسنًا، وتأخذ القلم لتكتب على الهامش كلمة فيها إصلاح خطأ أو فيها شيء من الحبِّ أو من التوبيخ.

أمنيتان من الأماني التي يسفيها الزمان كما تسفي الرياح رمال النفود، وينثرها كما ينثر الإعصار أوراق الخريف.

هذا القليل أقف عنده، والقليل من حديث المرء عن نفسه كثير، فإن هناك أمَّةً بأجمعها تودُّ لو كان لها أن تُخاطبك لتبثَّك لوعتها، وتشكو إليك شجوها، بل إنَّ أصوات الحزن وأنَّات الأسى لا تزالُ تتصاعَدُ من القلوب، في كلِّ قطرٍ من الأقطار العربية.

ولكنِّي وأنا الآن واقفٌ بينك وبين هذه الأمة سأحجبُ عنك سحب الأشجان ووابل الدموع، وأبعثُ إليك بطائفَةٍ من الأخبار المُفرِحَة.

أولها، يا أخي فيصل، هو أنَّكَ في انتقالك إلى رحمة الله، فتحتَ فتحًا مُبينًا؛ فقد كنت ملك العراق فصرتَ ملك الأمَّة العربية، كنت سياسيًّا عاملًا في العراق فصرتَ قوة للعمل في قلوب الناطقين بالضاد في كلِّ مكان، كنتَ تجاهد في سبيل العرب فصرت علمًا للجهاد في كلِّ قُطرٍ، في كلِّ بلد، في كل رَبع عربي.

فما أجمل الموت الذي أتى بروحك حتَّى على القلوب الغريبة القصيَّة، فأحيا فيها حب العرب، والإعجاب بالعرب! ما أجمل الموت الذي حمل بين جناحَيه تعاويذ اسمك إلى ما وراء الآفاق، إلى كلِّ قطرٍ عربيٍّ صالت عليه الأجانب! ما أجمل الموت الذي طَافَ بنورِ وجهك في الخافقَين وهو يشعل مصابيح اليقظة العربية!

وما أجمل الموت الذي أشعل نورَ الحقيقة، في قلوبِ العراقيين جميعًا، فاجتمعوا حول جثمانك يذرفون الدموع السخيَّة، وينثرون أزاهر الحبِّ والإجلال في طريقك إلى المقرِّ الأخير.

وهناك في فسيح العراء، قرب القصر الذي كان مهد الجهاد وعرشه، اجتمعت الوفود من الأقطار العربية كلها، واحتشد الألوف من العراقيين لِيَبْكوا فيصل العرب، وليمجدوا فيصل العرب، وقالوا جميعًا — قالوا أخيرًا — إنه مات في حومة الجهاد، وإنه سيد الشهداء.

وليس في العراق اليوم مَن ينكر أنك كنت فيه الكل في الكل، وكنت تُذْكي نار الجهاد، وتُنيرُ مصباح الهدى في أحزاب الأمة كلها، وفي جهاز الدولة بأجمعه؛ فكنت الملك، وكنت الزعيم الأكبر، كنت النائب والوزير والمعلم، كنت الهادي، وكنت الفيصل في جميع الأمور.

وما كان خارج العراق بعد فراقك؟ ينبغي أن نعود سبعمائة سنة لنجد ملكًا آخر توحَّدَت في حبِّهِ وإجلاله قلوب العرب في كلِّ الأقطار، وقلوبِ المسلمين في كلِّ مكان، فمنذ أيَّام صلاح الدين إلى اليوم ما رفع العرب، ما رفع الإسلام، علمًا واحدًا فوق الأعلام، وما مجدوا ملكًا كما مجدوك.

لستُ أدري يا أخي فيصل، لماذا يخاف الناس الموت؛ فالذي يموتُ في جهله وخموله يرتاحُ من ذلَّة الخمول والجهل، والذي يموت في مجده وجهاده يزيده الموت مجدًا ويشعل مصباح جهاده في قلوب الناس.

وهذه حفلات الأربعين التي أُقيمت لذكرك الخالد في كلِّ بلدٍ عربيٍّ، بل أُقيمت في الشرق وفي الغرب، في قارات الدنيا، في نيويورك، في البرازيل، في بونس أيرس، في لندن، في جنيف، في باريس، في برلين، حتى في السنغال، صلَّى الناس على فيصل، وترحَّمَ الناس عليه.

قُلتُ الناس، وما قُلتُ العرب وما قُلتُ المسلمون. الناس، وفيهم المسيحي واليهودي والوثني، وفيهم العربي والأميركي والأوروبي؛ اجتمعوا في أربعة أقطار العالم ليترحَّموا على فيصل، ويُمجِّدوا ذكر فيصل، ويرفعوا اسم العرب، وعلم القضية العربية. وهذا ما يسرك، ولا ريب، كما يسرني، كما يسرُّ كل عربيٍّ، كما يسر كل امرئٍ ينشد الحرية والاستقلال والوحدة والسلام، لأُمَّتِهِ ولسواها من الأمم.

وهناك، خبرٌ يُبهجك كثيرًا، وقد لا يُدهشك بقدر ما أظن، ذكرت جنيف، والذكر ذو شجون، فإنَّنَا لَنذكرك فيها مُجاهدًا، ونذكرك في سويسرا مستشفيًا، ونذكرك في يومك الأخير، وقد نضوت عنك ثوب هذه الحياة الفانية، وكنَّا نتوق دائمًا إلى أخبارك، وأنت هناك، في شتَّى أحوالك، ولا نأمنها، ومضارها صحافة أوروبيَّة تلوَّنت أغراضها والْتَوت. فلولا الأمير شكيب هناك في منفاه، لَفَاتنا الكثير من أخبارك المهمَّة التي فيها للعرب العبرة والذكرى. لولا الأمير شكيب — صوت العرب المدوِّي، وعقل العرب الأفهم — في هذا الزمان، لَمَا علم العربي بما كانَ من جهادك واستشهادك في آخر أيَّامك.١

أما الخبر المبهج الذي أشرتُ إليه، فهو يتعلَّقُ بفتنة الآشوريين، تلك الفتنة التي قطعت عليك ذلك الاستشفاء، وعجَّلَت بأجلك؛ فقد انتصرَ العراق في جنيف، انتصرَ في القضية التي أثارت عليك وعلى العراق ثائرة الصحف الأوروبية الاستعمارية، وتلك الصحف نفسها، التي حملتْ عليك باسم الإنسانية والدين، ولها في الدين والإنسانية أغراض لا تخفى على الناس، ذكرتْك بالخير بعد وفاتك، بل اعترفتْ بفضلك وعبقريتك.

وفي دفاع العراق لدى عصبة الأمم في مسألة الآشوريين، أظهرت حكومة العراق حصافة ومقدرة في سياستها، وعدلًا وصدقًا في إدارتها، في الكتاب الأزرق الذي صدَّرته، وفي دفاع وفدها لدى العُصبة هناك. إنَّ ذلك الدفاع لَيُبهجُك حقًّا، ولَيزيدُ بحبك لثلاثة من رجالات العراق، لياسين ونوري ورستم، فتباركهم من عليائك، وقد أثبتوا للملأ ما كنت مُستعدًّا أنت لتثبته٢ فعيَّنت العصبة لجنة للاهتمام بإسكان الآشوريين هؤلاء خارج العراق.

بقي الخبر الذي يُبهجك، ولا غرو، أشدَّ الإبهاج أجعله مسك الختام. هو يتعلَّقُ بمن كان بالأمسِ قرَّة عينك، وهو اليوم قرَّة عين العراق. إنَّ الآمال بالغازي كبيرة، وقد برهن حتى الآن في موقفَين على ما فيه من نجابَةٍ وشجاعةٍ وإقدام. فأثنى عليه الوفود الذين حضروا حفلة الأربعين ببغداد، وأعجبوا به كلَّ الإعجاب. وعندما وقف على المنبر مكان سعيد الذكر والده ليفتح البرلمان كبرت قلوب الناس به واهتزت لخطابه، وعندما وصل فيه إلى الكلمة «سنظلُّ سائرين إلى الأمام.» وقالها بصوت الزعيم المقدام، وهو يضربُ المنصَّة بيده؛ هَتَفَ النوَّاب «عاش الغازي!» وصفَّقَ له استحسانًا جميعُ الحاضرين، وفيهم النساء الأوروبيَّات وسفراء الدول وقناصلها.

وقد قال الغازي إلى كلِّ من حدثه إنه سيحذو حذو الوالد العظيم، ويهتدي بنور هداه، وفَّقه الله.

آمين.

حاشية: إنَّ أمنيتي الكبرى، عندما تجيءُ نوبتي، هي أن تكونَ أنت يا أخي فيصل أوَّلَ من أجتمعُ بهم هناك، فنجلس جلسة الأحباب ونُعيدُ ذكرى مجالسنا وأحاديثنا في هذا العالم.
١  ولمَّا حدثت حادثة الآشوريين كنتُ عند المرحوم في «برن»، فأطلعني على الخبر وقال لي: «إنَّنِي ذاهبٌ إلى بغداد ولا يسعني غير ذلك؛ لأنِّي أخشى أن يهيج الشعب العراقي على الآشوريين؛ نظرًا لِمَا بدا منهم من إنكارِ الجميل، ومن الغدرِ بالعسكر العراقي.»
قلتُ له: «وما يدعوك أن تذهب بالطائرة؟ فما لكَ إلَّا أن تذهب إلى «برنديزي» ثمَّ تركب الباخرة إلى مصر … فإنَّ الرحلة هكذا تكونُ أخفَّ تعبًا عليك.»
قال لي: «لا بل سأذهب بالطائرة من «برنديزي»، وسأكون اليوم الرَّابع في بغداد.» فقلت له: «أنت تعمل إذن عمل قائدٍ عسكري، لا عمل ملك.» فقال لي: «نعم، أنا لست بملك، وإنَّما أنا جندي في خدمة أمتي.» فعند ذلك ودَّعته، ورجوته أن يتذكَّرَ صحته، بعد أن يسكن هذه الثائرة، ويعود للاستشفاء في أوروبا. وكان هذا الحديث بينه وبيني بحضور جلالة أخيه الملك علي.
من مقال للأمير شكيب أرسلان
٢  قال جلالته في صَدَدِ الحملة على العراق: «إنَّنِي أَعجبُ لقومٍ يستحلُّون دماءَ الأبرياء، فيخرِّبُونَ المدن والقرى على رءوس أصحابها، باسم الإرشاد والتمدين، ورعاية للمصالح الدولية، بينما يقيمون النكير، على شعبٍ يُدافع عن كرامته واستقلاله ويتظاهرون بالغيرة على من كان جزاؤهم القتل؛ لأنهم كانوا يحرقون الجنود العراقيين أحياءً. وأحمد الله أنَّنِي مُستعدٌّ أن أُثبِتَ للملأ أنَّنَا لم نقتل بريئًا، وإنَّا لَقومٌ تأبى كرامتنا أن نستحلَّ دماء الأبرياء.»
وتحدَّث لنا كثيرًا عن اهتمامه بقضية الجزء الثاني من بلاده «سوريا»، وأنَّه شارعٌ في وضع أسس المفاوضات مع حكومة باريس، وقضى آخر ليلة من ليالي حياته يُسامِرُ جلساءه ويُمازحهم بدون كلفة، وكان يداعبني بقوله: «إنَّكَ هرم، وإنك تكبرني كثيرًا.»
من مقال للأمير شكيب أرسلان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤