النسر العربي١
حلَّقَ النسرُ في الفضاء بعيدًا،
رجع النسر في الفضاء شهيدًا،
نسرُ العروبة حبيب الحرم، وربيب البوادي.
البادية مُرضعته، والخيام مأواه،
الرمال فِراشه، وملعب صباه،
نسر العروبة في حمى الحرية
طليقٌ جريءٌ، وديعٌ أبِيٌّ، أنيسٌ وفيٌّ،
نسر العروبة في ظلالٍ قدسيَّة
شفيقٌ كريمٌ، طهير حليم، قوي تقي.
تبارك الحمى، وتباركت المرابع والرمال.
تبارك الإرث، وتباركت الخصال.
فمن جبل النور نوره، ومن المضارب شعوره.
من قمم الهدى٢ شممه، ومن ربيع الطائف زهوره.
•••
كتبت له الهجرة ليتم خلقه فيه.
فكان من العرب، وكان من السراة.
في الصروحِ الفخمة مثله في بيوت الوبر،
وكان في المجالس المهيبة مثله في فسيح العراء.
فمن بساتين يلدز سوسن مبسمه،
ومن مياه آسية٣ حلو شمائله،
من بلوج الفجر على ضفافِ البوسفور بهاءُ طلعته،
ومن ذهب الشفق على حواشي مرمرة ذهب نطقه،
من ظلال السرو في جوار أيوب٤ تلك الوداعة فيه وتلك السكينة.
•••
نسر العروبة ربيب العاصمتَين، عاصمة الرسول وعاصمة الخلافة،
عاصمة الحق والهدى، وعاصمة الدهاء والسياسة.
مزجت يدُ الأقدار شرابه، وفتحت للنبوغ أبوابه،
ثم همست في أُذن النسر تقول:
إن وراءك ثلاثمائة وألف سنة، وأمامك أبديَّة من الآمال.
إن وراءك أمَّة الكهف، وقد هجعت ستمائة سنة،
وأمامك أعلام اليقظة والجهاد.
سمع النسر ووعى، فراحَ يُعزِّي الأماني، ويستنهضُ الهِمَم.
ليُجاهد في سبيل قومه،
امتشق الحسام باسم الله، وباسم العرب.
الثورة، الثورة!
فهبَّت في البوادي رياح السموم،
وهبَّت إليه البدو والحضر،
وكان الجهاد، وكان الظفر.
أمَّة الكهف، تُدهِشُ المستيقظين،
كتب لفيصلها الفوز المبين.
وأجمل ما في دمشق الأغاريد.
هو ذا المُلك العربي الجديد.
فعلى ضفافِ التميس، شهود يذبذبون.
وعلى السين خصوم مُخدِّعون.
فكان التاج، وكانت ميسلون.
حلق النسر في الفضاء بعيدًا،
رجع النسر في الفضاء شهيدًا.
•••
ليس في حقائق الوجود أنصع من حقيقة البعث والخلود.
تهمس الطبيعة في قلبِ السنين فتُحْيي في فصولها الرَّاحلة أملًا أبديًّا.
يضعُ الله في حقيبة الربيع حِفنة من بذوره الخالدة.
يُكفِّنُ الله الشتاء الرَّاحل بكَفَنٍ من الثلج المبطن بالزهور النائمة.
يمرُّ سرب القطا راحلًا راجعًا بين فصلَي القنوط والرجاء.
تغرد القبرة على غصنها الطري وتهجع، ثم تعود إلى التغريد.
رحلة يتبعها أوبة، وأوبة يتلوها رحيل.
ومثل الربيع، ومثل القبرة، ومثل عواصف الشتاء، ما لبث النسرُ أن عادَ، إلى
الجهاد.
•••
عاد فيصل ينشد في العراق الأمل الأعلى — أمل الأمَّة المنكوبة.
عاد يُشيد على ضفاف الرافدين ملكًا عربيًّا جديدًا.
عاد يجدد في عاصمة الرشيد والمأمون عصر العلم والهدى، عصر المدنيَّة والفلاح، عصر
الثقافة والصلاح.
جاهد بعقله، جاهد بقلبه، وجَادَ بعد ذلك بروحه.
جاهد بكلِّ ما استطاع أن يحشد وينظم من جيش السلم والولاء.
من علمٍ وحكمةٍ، من حلمٍ وكياسَةٍ، من ثبات يمده اليقين، من حزم تتناوبه الصلابة
واللين.
حلَّق النسر في الفضاء بعيدًا،
رجع النسر في الفضاء شهيدًا.
•••
زرعتَ بستانًا في العراق، ورحلتَ قبل أن تراه
مُثمرًا.
زرعتَ بذورًا في البلاد العربية، ورحلت قبل أن تراها مُزدهرة نديَّة.
كنت في الحرب العالمية فيصلًا فاصلًا، وفي السلم الوديع الجريء الصفي.
كنت في السياسة عينها الباصرة، وميزانها السوي.
كنت في الكياسة طلعتها الساحرة ونطقها الذهبي.
كنت في الحذق عنوانه، وفي الحزم برهانه، وفي الشدة واللين المثل العلي.
كنت في الدَّهاء معاوية، وفي الصبر والإباء الشريف الرضي.
كنت في الحلم صنو الرسول، وكنت في الوداعة أخا الناصري.
حلق النسر في الفضاء بعيدًا،
رجع النسر في الفضاء شهيدًا.
١
تُلِيَت فى حفلتَى الأربعين فى دمشق والقدس.
٢
جبل الهدى قرب الطائف.
٣
إشارة إلى الينابيع التي تُدعى مياه آسية الحلوة في بحرِ مرمرة.
٤
إشارة إلى الجامع الذي يضمُّ رفات الصحابي أبي أيوب الأنصاري في
إستانبول.