الأمير فيصل في الحرب
عندما زار أنور باشا المدينة المنورة في طلائع سنة ١٩١٦، سافر في معيته من سوريا وفدٌ من العلماء، بينهم شابٌّ عربي يناهز الثالثة والثلاثين من العمر؛ خصَّه رئيس الوفد الشيخ أسعد الشقيري بالذِّكرِ لدى معالي الوزير، قائلًا: «ممَّا يثبت لكم تعلُّق الموحِّدين ومكانتكم في قلوبهم أنه بمناسبة هذه الزيارة وُجِد في معيتكم من آلِ الرسول ﷺ الأمير فيصل نجل أمير مكَّة المكرمة.»
وكان الإنكليز قد باشروا باسم الأحلاف مُفاوَضة أمير مكَّة يومئذٍ، الملك حسين اليوم، لينهض بالعرب على الأتراك، فبعث جلالته يعتذرُ لأنور على عَدَمِ تمكُّنِهِ من زيارته في المدينة المنورة، وأرسل سَيْفينِ مُرصَّعَين بالحجارة الكريمة هديَّة منه إليه وإلى رفيقه جمال باشا.
وبينما كانت تُقامُ الحفلات في المدينة لدولتَي «الأنور والجمال»، وكان الوزيران الوَرِعان — وقد ظهرا في مظهر الدين وتردَّيَا برداءِ اليقين — يقومان بالمراسم الدينية ويردِّدَان الصلوات، ويجلسان كالتلاميذ في حضرة العلماء ومشايخ الطرق وهو يتكلَّمون في علم الجهاد ويفسِّرون الآيات التي لها تعلُّقٌ بالعلوم الحربيَّة؛ كان الأمير فيصل بك مُلازمًا لهما مُشاركًا في كلِّ مظهرٍ من مظاهر الحفاوة والإكرام، ولكنَّه لم يكن ليستوقف الأنظار؛ إذ كان ظله الصغير يومئذٍ يضيع بين ظلَّيْ بطلَين من أبطالِ العثمانيين، وهادِمِي مُلْكهم.
بعد ثلاثة أشهر من هذه الزيارة المُباركة كان فيصل أيضًا من المشتغلين في التهديم، ولم يكن ليخطر في بالِ الوزيرَين أو أحدٍ من حاشيتهما أنَّه سيكون كذلك، وأنه سيبدأ في البلد الطيِّب الذي هُم فيه، فيهدم الركن العربي من مُلك بني عثمان. أمَّا أنَّ الأمر كان يجولُ في صدر الأمير نفسه فمِمَّا يَحتملُ الريب؛ لأنه لو أدرك أنَّ أباه سينفر قريبًا في النفير، لَمَا كان رافَق الوزيرَين في عودتهما إلى الشام، وكَادَ يقع هناك في قبضة جمال لولا حيلة دبَّرَها أبوه.
عاد الأمير فيصل من الشام في صيف تلك السنة بأربعة آلاف بُندقية وعشرة آلاف ليرة ليُجهِّز حملة من العرب تشتركُ في الزَّحف مع الترك والألمان على ترعة السويس، فلمَّا وصل إلى المدينة سمع النفير يَستنفر من ظِلالِ الكعبة القبائلَ لمُحاربة الأتراك، «أعداء العرب والإسلام»، فأطاع طبعًا أباه الذي كان قد بَدَأَ بتأليفِ جيشٍ من القبائل تحت قيادة نجله الأمير عبد الله، فانتظم الأمير فيصل في هذا الجيش، ثم أُسنِدت إليه قيادة جيش الشمال المشهور، فباشَر عمله في حصار المدينة وتخريب قِسْم مِن سكَّة الحديد قرب العلا ليؤخِّر في الأقل وصول النجدات من الشام إلى العدو.
أمَّا شهادة العرب أنفسهم فأُسجِّلُ منها ما فيه الاعتراف بفضلِ غيرهم؛ فقد أجمَعَ مَن حدَّثْتُهم ممَّن شاركوا في تلك الحملة، وسمو الأمير فيصل في مُقدِّمتهم، على أنَّ الفضلَ الجم في جمع شمل العربان في بداءة النهضة والتأليف بينهم، إنَّمَا هو لشابٍّ إنكليزي يُحسِنُ العربية كأهلها، ويُحسِن كذلك التخلُّق دُون تكلُّفٍ بأخلاقهم، هو الكرنل لورنس. وقد أخبرني بعضُ مَن حاربوا تحت قيادة الأمير زَيد أنه لم يكن ليأمُرَ جُنُوده مرَّة بالهجوم إلَّا كان هو في الصفِّ الأول. فإذا فات ذلك الكونت دي غنطو بيرون، المُتحامِل على العرب والإنكليز تحامُلًا لا يليقُ بفرنسيٍّ كريم، فكيف يفوته ذكر الكرنل لورنس ولو بكلمةٍ في كتابه؟
إنِّي أُسجِّلُ الحقيقة كلها، فلا أنسى مَن له الفضل الأكبر في نجاح النهضة؛ وهو «الخيَّال» الإنكليزي، الذي لبَّى دعوتَه كثيرون من العربان، وفيهم من عشائر القصيم ونجد. قد ينكر جلالة الملك حسين أنَّ أحدًا من نجد اشترك في جهاد الأتراك، ولكنِّي اجتمعتُ ببعض أولئك المتطوعين، فأخبروني بصراحةٍ، عُرف العربيُّ بها، أنهم كانوا يُحاربون أولًا مع الأتراك، فزاد الملك حسين الرَّاتب فانحازوا إليه.
وما كان أمراء العرب أنفسهم ليركنوا دائمًا إلى البدو؛ فقد قال الأمير علي — الذي كان في المدينة عندما وَصَل فيصل إليها، فاشتركا في حصارها — إنَّه لم يتمكَّن، بَادِئَ ذي بدء، من عملٍ كبيرٍ؛ لأنَّ البدو لم يلبُّوه دائمًا، ولم يثبتوا إذا كانوا ملبِّين. وكذلك الأمير فيصل الذي حاوَلَ مُتابَعة الهجوم بعد تخريب سكَّة الحديد عند العلا، فخرج الأتراك من حصونهم في شهر آب، وحَدَثَ بينهم وبين العرب قتالٌ خارجَ المدينة، خَسِرَ فيه الأمير خمسمائة من رجاله، وخسر الأتراك ضِعفَيْ هذا العدد، فعادوا إلى المدينة وطَفِقُوا يضطهدون أشياع الشريف من أهلها وينكِّلُون بهم، على أنَّ الأمير لم يتمكَّنْ مِن مُتابَعةِ ما عدَّه نصرًا في تلك الواقعة؛ لأن قوَّاته لم تكن مُنظَّمة، وبالأحرى لأنَّ قواته كانت لا تزال من العربان الذين لا يأتمرون بغير أوامر شيوخهم وينفرون من التنظيم.
أمَّا اندحار الأتراك في مكَّة، فقد أثَّرَ تأثيرًا عظيمًا في قوى العدو المادية والمعنوية، فتوقَّف جمال باشا عن شنق الأحرار في سوريا، وأمر أنور قائدَ الحامية في المدينة أن يُدافِعَ عنها حتَّى الموت، وضُوعِفت الحامية في معان للاحتفاظ بخطِّ الحديد، واستُؤنِفَت المواصلة بين دمشق والمدينة بالرَّغمِ عمَّا خرَّبَه العرب من الخطِّ قرب العلا.
كذلك أوقف الأتراك الأمير فيصلًا، فاتَّخَذَ لنفسه مقرًّا حربيًّا بين العلا وينبع، ولبث ينتظرُ إنشاء جيش نظامي يُديرُ جيوش البدو؛ إذ إنَّ الإنكليز كانوا قد أَسَرُوا كثيرين من العرب وضبَّاطهم الذين حاربوا في صفوفِ الأتراك، فجاءوا بهم إلى مصر؛ حيثُ بدأ التجنيد لجيش العرب الشمالي. كان أكثر الأسرى من العراق وسوريا وفلسطين، فلبَّوا مُهلِّلِين دعوةَ الشريف حسين، وفيهم من الضباط الذين اشتُهِروا بعدئذٍ في ساحاتِ القتال؛ مثل: جعفر العسكري، وجودت البغدادي، ونوري السعيد، وغيرهم. بيد أنَّ تنظيم هذا الجيش لم يتم حتى أوائل سنة ١٩١٧، فلمَّا ظهر في الحجاز ازداد عدد الفارِّينَ من جيوش الأتراك المنضمِّين إلى جيوش العرب.
مَن أنكر فضل الملك حسين وأنجاله في النهضة لا يستطيع، إذا كان مُنصِفًا، أن يُنكرَ فائدتَين على الأقلِّ فيها؛ فائدة للأحلافِ وخصوصًا للإنكليز، وفائدة لعرب سُوريا وفلسطين الذين أثارت فيهم مظالمُ جمال كوامنَ الضغينة والغضب، فوجدوا في صاحب النَّهضة الأكبر زعيمًا يَتْبعون، وقطبَ ثأرٍ فيثأرونَ، ومحطَّ آمال يحققون.
جاءُوا — كما تقدم — من مصر، يقود قِسمًا منهم الأميرُ لواء السيد علي باشا، فانضموا إلى جيش الأمير فيصل الذي شرع يزحف شمالًا في شتاء تلك السنة حتَّى وصل إلى حدودِ بادية التيه. وكان الأمير علي مُشتغلًا في ضربِ مراكز الأتراك العديدة على جانبَي سكة الحديد، فحمى بذلك مؤخِّر جيش أخيه الذي استولى في زحفه على خطٍّ مسافته ستون ميلًا يمتدُّ من البحر إلى معان. أمَّا إكليل انتصارات العرب في هذه السنة، فهو سقوط العقبة ودخول الأمير فيصل إليها في ٦ تموز، ولم يكن ذلك ليُذكرَ لولا تأثيره الحَسَن في حركة الجنود البريطانيين في هجومهم على غزَّة وبير السبع.
كان الجنرال آلنبي قد استلم آنئذٍ قيادة الجيش، فاعترَفَ بفضلِ العرب في ردِّهِم سريات الأتراك التي كانت تجيءُ من معان إلى بادية سينا، فتَضْرب الإنكليز في مؤخرهم. ولو لم يكن للعرب غير هذا الفضل — أيْ تأمين مؤخِّر جيش الجنرال آلنبي — لَكَفَى به فضلًا؛ فلولا تقدُّم فيصل إلى حدود سينا لَمَا ضَرَب آلنبي غزةَ وبير السبع، ولولا سقوط العقبة لما سَقَطتْ تلك البلدة على البحر التي دَافَعَ عنها الترك والألمان دِفاعًا يستحقُّ الذكر والإعجاب، ولَمَا أعاد الإنكليز الكَرَّة على بغداد لولا ثقتهم بالنهضة العربية ورجالها وجنودها.
جاء في نشرة من نشرات الوزارة الحربية في آب ١٩١٧: إنَّ خطة العرب في بداءَةِ نهضتهم لَخُطَّةٌ وجيهة فيها حذقٌ وحزمٌ ودهاءٌ؛ فقد خرَّبوا أقسامًا من سكَّة حديد الحجاز، واستولَوْا على مراكز الأتراك إلى جانبَي السكة، وكانوا في أعمالهم على جانبٍ عظيمٍ من الجُرأةِ والبَسالة، فيتغلَّبون غالبًا على جيشٍ أكثر منهم عددًا وأوفر منهم عُدَّة.
وجاء في كتاب الكونت دي غنطو بيرون: «لا قيمةَ حربية لجموع العرب، فَهُم يَظهرون ويختفون كيفما يشاءون وساعةَ يشاءون، ولا يستطيعون ردَّ الصدمات الشديدة، بل يتفرَّقُون ويهربون أوَّل مرة تطلق عليهم النار.»
في الشهر الأول من سنة ١٩١٨ استأنَفَ الأميرُ القتالَ والهجوم، فاتَّصلَ جيشه بطرفٍ من جيش الجنرال آلنبي في ناحية البحر الميِّت قرب رجم البحر، وتجدَّدَت الهجمات على معان التي كانت لا تزالُ في حوزة الأتراك، ثمَّ أمعن العرب في الغزوات شرقًا، فوصلوا إلى ناحية الجوف؛ حيث كان الترك يُحاولون مُفاوَضة ابن الرشيد في حايل لِيُغروه بالشريف. استولى العرب على تيماء، وقطع العربُ الخطَّ على العدو، فاستحال عليه بعدئذٍ إرسالُ النجدات من معان إلى المدنية. نسف العرب قطارًا قرب تبوك مَشحونًا بالجنود، فقتلوا كلَّ مَن فيه، وغنموا كل ما فيه مع أربعة وعشرين ألف ليرة.
قد كانت خطة الأمير فيصل في بداءة هذه السنة تنحصرُ ظاهرًا في الاستيلاءِ على معان، ولكنه أراد في إشغال الترك هناك أن يستولي على بُقعةٍ مهمةٍ في شرق الأردن؛ هي الكرك. فأرسل شراذم من جنوده على معان يُداوِمون الهجوم والمفاجآت، وساعده الجنرال آلنبي بما ساقَ من الطائرات على البلد. قد غنم العرب في هجماتهم مِدفعَين جَبَلِيَّين، وثمانية عشر مِدفعًا رشَّاشًا، وثمانمائة بُندقية، ومائتي رأسٍ من الخيل، واستولوا على جوف الدرويش؛ فأحاطوا بالعدو ومنعوه من إرسالِ نجدات إلى المُرابِطين من الأتراك في الكرك.
كذلك تقدَّمَ الأمير — وهو أمينٌ من الغدرِ — إلى محجَّتِه، فقسَّم جُندَه قسمَين؛ قِسمًا مشى من العقبة فاجتاز خط الحديد شمالًا وردَّ العدو إلى مركزٍ يبعد خمسةَ أميال من معان، وقِسمًا مشى من وادي مُوسى فأخرج العدو من مراكزه في الطريق حتى الطفيلة، التي هي على مسافة ثمانية عشر ميلًا من البحر الميِّت. فلمَّا سلمت حامية الطفيلة، اضطرب الأتراك في الكرك وخرجوا بأحد عشر طابورًا وبعض الخيَّالة والمدافع يستعيدونها، فالتقى الفريقان في ٢٦ كانون الثاني على شاطئ سيل الحسا، وهي على مسافة أحد عشر ميلًا شمال الطفيلة، فانهزم الأتراك، وكانت خسائرهم أربعمائة من القتلى وثلاثمائة أسير.
لم يقف الأمير فيصل عند هذا الفوز، بل استمرَّ زَاحفًا حتَّى وَصَلَ بعد يومين إلى البحر الميِّت، فضَرَبَ جيشُه مركزًا للتُّركِ هُناك، فأغرق مركبًا حربيًّا صغيرًا وعدَّة سنابك، وغَنِمَ كثيرًا من الحبوب، وأَسَرَ عددًا من الجنود. ثمَّ أعاد الأمير تنظيم جنوده، بعد أن ثبَّت قدمه على شاطئ البحر شرقًا، ليُواصِلَ الزَّحف على الكرك. وكان الجنرال آلنبي قد استولى على أريحا وعبر بجنوده الأردن فتقدَّمَ نحو عمان. لا شكَّ أنَّ الهجوم البريطاني شرقي الأردن كان عونًا للأميرِ فيما سَعَى إليه، وكان من حظِّهِ أيضًا أنَّ الطائرات التي جاءت تُساعد الجنرال في زحفه إلى عمان ساعدت كذلك العرب في زحفهم على الكرك التي استولوا عليها في ٧ نيسان، فقطعوا عن الأتراك في معان موردَ تموينٍ مهمٍّ.
«خمس سنوات في تركيا»، تأليف ليمان فُن سندرس. Cinq Ans en Turquie, Par Liman von Sanders. Payot, Paris.