مناطق الفوضى
عند انتهاء الشهر الأول، أيْ تشرين الأول، من سنة النصر كانت البلاد السورية قد خَلَت مِن جيوش الترك والألمان، فزالت عوامل الحرب الظَّاهرة، ودخلت الأمَّة في طورٍ من أطوارِ السياسة لا يقلُّ بشدائده عن الحرب. أجل، ما كادت تخرج البلاد من مظالم الترك حتَّى دَخَلَت في ظُلُمات الفوضى. ولا أظنُّ أن عوامل السياسة — وسمومها — تَعدَّدَت في بلدٍ من البلدان الصغيرة التي اشتركت في الحربِ تَعدُّدَها وتَزاحُمَها في هذه البلاد السورية، وعلى الأخصِّ في دمشق.
وكانت البليَّة الكُبرى في عوامل السياسة الخفيَّة، جَاءَ الجيش العربي وجاءت معه السياستان العربية والحجازية، وجاء الجيش البريطاني يعضِّدُ العرب ظاهرًا ويُناهِض الفرنسيين سرًّا، فتشعَّبَت سياسة حكومته إلى ثلاث شعب؛ أولُها وأهمُّها وأثبتُها المصلحة البريطانية. وجَاءَ الفرنسيون هائجين ناقمين، وفي مقدمة قافلتهم سياسة لبنان، وفي مؤخرها سياسة الموارنة، وفي أولها ووسطها وآخِرها سياسة فرنسا في البحر المتوسط.
وكان في البلاد ولا يزال سبع طوائف رئيسية، هي سبع ضربات مذهبية، وفي كلِّ ضربةٍ سبع ضربات وطنية. ثم جاءت اللجنة الأميركية تَستفتي هذه الأمة المنكوبة، فزادتْ بنكبتها بسموم سياستها. أضِفْ إلى ذلك كله وُعودَ الأحلاف والعهودَ السرِّيَّة وما فيها من إخلاصٍ كُنْهُه الأخطار، فإذا ما زالت الأخطار زال، ثمَّ حقوق العرب والوَحْدة العربية وما فيها من أحلام تجلَّت ساعةَ العاصفة كقوسِ قزح في سماءِ الحرب العُظمى، فغدت بعدها كالحباحب في مساء الآمال.
إنك إذا تصوَّرت هذه الحالة العجيبة في شكل دائرة نقطتها البلاد السورية وروح النقطة وحياتها الأمير فيصل، ثم تَمثَّلتَ السياساتِ التي ذكرت تحوم حولها وحوله تارة، وطورًا تجري كالضباب المكهرب تحتها وفوقها، دُونَ محجَّةٍ تُعرف، ودون قصدٍ ظاهرٍ يُدرَك، وأضفتَ إلى ذلك فقدان ركنَيْن من أركان العظمة السياسية، وهما الأمة المتحدة القوية والتقليد الوطني الحي؛ تجلَّت لك الصعوبات التي واجهَتِ الرجل.
دخل الأمير الشامَ دخولَ البطل الظافر، والمُنقِذ المحبوب، فاحتلَّت جيوشه العربية ومعهم بعض الجنود البريطانيين البلدانَ التي فَتحتْ لهم أبوابَها وقلوبَها مُهلِّلةً مرحِّبة، ورُفِع العلم العربي الرباعي الألوان فوق دور الحكومة من السويداء إلى حلب، ومن دمشق إلى بيروت، فاضطربت على السواحل وفي لبنان أقوامٌ، وطَرِبَت أقوام.
إنَّ التبعة في ذلك لَعَلَى الأحلاف أصحاب العهود السريَّة، والمطامع الأشعبية، والوُعُود العُرقوبية، إليك من فعلاتهم اثنتين ليسَ بينهما غير شهرٍ واحدٍ من الزمان؛ الأولى منشورهم الذي نُشِر في أيلول قبل احتلال البلاد السورية، والثانية بلاغهم في الشهر التالي، أيْ بعد الاحتلال، ذاك البلاغ الذي ينقض كلَّ ما في المنشور.
إنِّي أُلخِّصُ ما أُعلِنَ قبل الاحتلال فيما يلي: إنَّ الغاية التي من أجلها تُحارِب بريطانيا وفرنسا في الشرق هي تحريرُ الشعوب الرَّازحة منذ زمنٍ طويلٍ تحت ظلم الأتراك تحريرًا تامًّا ناجزًا، وإنشاءُ حكومات وطنية تستمدُّ قوتها من أهالي البلاد عملًا بإرادتهم، ووفقًا لاختيارهم الحر.
لم يكن في هذا البلاغ ما يُرضِي أحدًا من أصحاب السيادة والمصالح في هذه البلاد؛ لم يرضِ الإنكليز وهم يصدرونه مُكرَهين لأنهم لا يرغبون بالفرنسيين في سوريا؛ ولم يُرضِ الفرنسيين لأنهم طامعون بالغنيمة كلها، وكانوا يُفضِّلُون الرجوع إلى مُعاهدة «سيكس-بيكو» التي تضمن لهم أضعافَ هذه المنطقة مساحةً وأهمية؛ ولم يرضِ العرب لأن البلاغ سَلَبَهم مناطقَ هي جزء حي من بلادهم.
وفي ٢٢ تشرين الثاني سنة ١٩١٨ أبحر من بيروت، فاستُقبِل في مرسيليا استقبالًا رسميًّا، وما كاد يصل إلى باريس حتى استحالت شُهرته العربية إلى شُهرة أوروبية، بل إلى شُهرةٍ حَمَلَها البرق على أجنحة الصحافة إلى أقطار العالَم المتمدِّن كافة.
كان الأمير في باريس قطْبَ دائرة باهرة من دوائر السياسة. ولا غرو؛ فهو لطيفٌ في مقابلته، مؤنس في مجلسه، مقنعٌ في حديثه، فأَدهش حتَّى الصحفيين. لا أظنُّ أنَّ الصحافة إجمالًا عطفت على قضيَّةٍ من قضايا الحرب عطْفَها على القضية العربية وحامل لوائها.
وقد أُعْجِب بالأمير كثيرون من السوريين اللبنانيين الذين كانوا يُقاوِمون سياسته العربية بسياسة لبنانية فرنسية. وجَاءَ باريس وفودٌ من سوريِّي أميركا ليُعلنوا رسميًّا أنهم من أنصاره، فكان — والحقُّ يُقالُ — مُوَفَّقًا في أنصاره ومريديه أكثرَ من كبار ساسة ذاك الزمان.
ثمَّ جاءه فاضل أميركي يفتح باب الأمل الأكبر؛ الأمل الجديد الأبهر، فتَمثَّل الأمير الفوزَ على يد أميركا إذا خذلته إنكلترا، ورحَّبَ بمساعي رئيس الجامعة الأميركية السابق الدكتور هاورد بليس، الذي كان يعتقد أنَّ الحكومة الأميركية تقبل الانتداب في سوريا إذا طلب ذلك السوريون.
هو ذا الأمير فيصل تتجاذبه العوامل السياسية العديدة، يحومُ حوله الزعماء وتتزلَّفُ إليه الآمال المائعة، وتشعُّ أمامه مصابيح الصحافة، وتجلس لديه عرائس الشُّهرة والإعجاب، وتهمس في أذنه المقاصد الدولية كلماتٍ لها كل يوم معنًى جديد. ولكنه في باريس، تحت عين الحكومة الفرنسية، وفي ظلِّ ابتسامةِ أمَّةٍ نبوغُها في تهكُّمها، بيْدَ أنَّ هذا النبوغ لا يشمل دائمًا حكومتها؛ فقد أحدث وجود الأمير في باريس ضجَّة أزعجت تلك الحكومة، فصرَّح في ٢٩ ك١ المسيو بيشون وزير الخارجية يومئذٍ بأنَّ لفرنسا حقوقًا تاريخية وشرعية وثقافية في سوريا لا تتنازَلُ قطعًا عنها.
وكان الأميرُ لا يزالُ ينتظر الإذن بالدخول إلى مؤتمر السِّلْم، فرفع إليه بعد يومين عريضة فيها الجواب بما يلي من المطالب على تصريح وزير الخارجية.
-
استقلال سوريا الدَّاخلي التام مع مساعدة أخصائيين من الأجانب تختارهم وتستخدمهم الحكومة السورية. أمَّا الأمور الخارجية فتكون مُتَّصِلة بأمورِ الحجاز؛ أيْ أن تكون حكومةُ الحجاز والحكومةُ السورية حكومةً واحدةً في الأمور الأجنبية.
-
تُشارف على العراق والجزيرة دولةٌ من الدول العظمى.
-
استقلال الحجاز مُقرَّرٌ ومُعترَفٌ به.
-
أمَّا اليمن ونَجْد فتدير شئونَ كلٍّ منهما حكومةٌ مُستقلة يكونُ لها اتصال مباشر مع الحجاز.٥
-
فلسطين مثل العراق تَقْبَل بوصاية أجنبية.
قد حاول الأمير في هذه العريضة أن يُوفِّق بين سياسةِ بريطانيا وسياسة جلالة أبيه، ولم يغفل فرنسا تمامًا؛ فهو لم يذكر لبنان اعتبارًا لما تدَّعيه فيه واحترامًا لأماني أهاليه، ولكنه عندما طلب أن يَدخل المؤتمر مُمَثِّلًا لجلالة أبيه، أَبَتِ الحكومة الفرنسية ولم تقبل أن يحضر الجلسات إلَّا بكونه قائدًا من قُوَّاد جيوش الأحلاف، فدخل بهذه الصفة وارتقى في مَطالبه إلى الوَحْدة العربية التي تشمل الأقطار العربية كلها من جبال طوروس إلى اليمن، ومن الموصل إلى حضرموت.
أمَّا في سوريا، فبالرغم عن بلاغ الجنرال بلس، ويصحُّ أن أقولَ بسبب ذاك البلاغ كانت الأحوالُ تزدادُ خللًا واضطرابًا. وما عسى أن يُرجى من العوامل المثلثة في الجيوش الثلاثة، والإدارات الثلاث؟ فقد كانت السياسات الرئيسية تتجاوز الحدود الجديدة؛ إمَّا جهلًا من أولياء الأمر، وإمَّا عمدًا، فتصدم في كلِّ حالٍ الإرادات والمصالح، وهي في حال الالتهاب، بل كانت البلاد كلها في تلك الأيام مليئة بالمواد المتفجِّرة، وكان كلُّ مَن تحرَّك فيها ممَّن له شيء من السلطة يَحمل على لسانه وبيده النار والكبريت، فلا عجبَ إذا تعدَّدَت فيها حوادثُ الانفجار.
أضِفْ إليها تلك الضغائن التي ولَّدَتها الحربُ وَنَشَأت بين جنود الأُمَّتَين في الخنادق، فانتقلتْ إلى ساحة السياسة في الشرقِ الأدنى، وكان أهل سوريا فريسةَ شرورها؛ ثم الدسائس العربية على الفرنسيين والتجسُّس لهم أيضًا بوساطة أناس من السوريين عُدُّوا يومًا من كبارِ الوطنيين؛ ثمَّ دسائس المسيحيين على العرب وكانت مصادرها تلك المقامات العالية المحترمة؛ مقامات الورع والتقوى؛ ثمَّ صيحات الفرنسيين أنفسهم واحتجاجاتهم المتواصلة المتعدِّدَة على الإنكليز، وعلى العرب، وعلى الجيش الشريفي، وعلى القيادة العامة، وعلى الأميركيين والجامعة الأميركية، وعلى كلِّ مَن قاوَمَهم سرًّا أو علنًا أو رَفَضَ أن يعترف بحقوقهم «الثقافية والتاريخية والشرعية» في البلاد.
إنَّها لَحالة عجيبة مُحزِنة يندُرُ نظيرها في العالم، وأدْعى منها إلى الحزن أنهم جاءوا إلى سوريا فارِغي الوِفاض يُطالِبون بهذه الحقوق، جاءوا يبسطون سيادتهم في البلاد دُونَ أن يبذلوا شيئًا في سبيلها، أو يستطيعوا في الأقلِّ أن يحفظوا النظام فيها، فلم يكن لديهم في السنة الأولى من المال والرجال والجنود والأعتدة ما يكفي لحُكم مدينة صغيرة، فحاوَلوا الاستيلاء على المنطقة الغربية، منطقتهم، بما تبقَّى من الفرقة الشرقية وببضع مئات غيرها من الجنود، فأُسقِط في أيديهم، وسقطوا في عيون مريديهم.
إنَّ ضَعْف الفرنسيين، والحقُّ يُقالُ، وقِصَرَ ذات يدهم بالنسبة إلى ما كانوا يدَّعون ويطلبون، لَمِنَ الأسباب الأولى في تلك الاضطرابات، ومن تلك الأسباب أيضًا جهل أولياء الأمر من العرب؛ جهلهم السياسةَ الدولية، جهلهم طِباعَ الأوروبيين، جهلهم حتَّى خطة البريطانيين في أطماعهم، تلك الأطماع التي قَيَّدتها وعودهم في الحرب، فاضطرتهم إلى السياسة السرية في تنشيطِ العرب تارة، وطورًا في تثبيطهم. ومن أسبابِ الاضطرابات أيضًا تعدُّدُ الحكومات في البلاد؛ فكان فيها أولًا القيادة البريطانية العامَّة، ثم الانتداب الفرنسي مدعومًا بشرذمة من الجنود البحريين، ثم مجلس إدارة لبنان، ثم الحكومة العربية، ثم رجال الدين والأعيان.
والكل سارَعوا كالأولاد إلى احتلال كراسي السيادة والمجد؛ فقد تسرَّع الفرنسيون في تعيين وُكلاء لهم في الشَّام وحلب، كما تسرَّع العرب في تعيينِ حاكمٍ عربي في بيروت. وكيف لا والقيادة البريطانية العامَّة صاحبةُ الأمر رسميًّا في البلاد، فلم تعترف حتَّى بالمندوب الفرنسي السامي إلَّا كمستشار سياسي لديها، فماذا عسى أن تكونَ العلائق مع مُستشارين صغيرين.
بدأ البركان يتفجَّرُ في أواسط كانون الثاني سنة ١٩١٩؛ إذ عندما علمَت الشَّام بتصريحِ المسيو بيشون فيما يتعلق بفرنسا وحقوقها في سوريا، ضجَّت المدينة غَضَبًا واحتجاجًا، وكان النَّادي العربي رأسَها ولسانَ حالها، فأضرم في الجرائد نارَ العَدَاءِ للأجانب، وبَعَثَ الخطباء في أنحاءِ البلاد يُحرِّضُون الوطنيين على التظاهرات ضد الاحتلال والانتداب، وخطب خطيبٌ في الجامع الأموي يدعو النَّاس للتجنُّد دفاعًا عن الوطن.
في هذا الشهر أيضًا ألقى المسيو بيكو خطابًا في دمشق فُهِم منه أنْ قد تمَّ الاتفاق بين الأمير والحكومة الفرنسية بشأن سوريا، فغضب لذلك المسيحيون وهم يظنُّون أنَّ فرنسا تُفضِّل المسلمين عليهم، وقد تُفادِي بهم في سبيل السياسة والمصلحة. فما كانت فرنسا فيما صرَّح به وزيرها ومندوبها لِتُرضيَ أحدًا، لا الخصم ولا الصديق.
ثم خطب في سراي بعبدا رئيسُ الوفد اللبناني الأول داود عمون مُفصِحًا عمَّا كانت نتيجة مَسْعاهم في باريس، فقال: «إنَّ بين لبنان وسوريا علاقاتٍ تجارية، وصِلَاتٍ متينة، تستوجبُ ألَّا يُفصَل الشقيق عن شقيقه؛ فاجتمعت كلمتنا، كلمة الوفد، على وجوب انضمام الاثنين تحت مُراقَبةٍ واحدة.»
فجاء كلامه ضغثًا على إبَّالة. قال زُعماءُ العرب: إنَّ الحكومة الفرنسيَّة ترومُ احتلالَ سوريا بوساطة أصدقائها اللبنانيين. واتَّفَقَ أنَّ يومَ خَطَبَ عمون خطبته عُقِدَ اجتماعٌ في دمشق احتجاجًا على تصريح بيشون، فعقبت عليه المدن السورية الأُخرى، وحَدَثَت أثناء هذه التظاهرات في ٢٨ شباط سنة ١٩١٩ مذبحةُ الأرمن في حلب.
لا حاجةَ ولا مجالَ ها هنا للنظر في تلك الحادثة المُحزِنة، بيد أنَّه من المؤكَّدِ أنْ لو كان في المدينة حكومةٌ متيقظة مُنظَّمة، عربية كانت أو بريطانية أو فرنسية، لَمَا كان عُتُوُّ الأرمن يحمل بعضَ العرب المسلمين على المفاداة بسمعتهم الطيبة، خصوصًا بعدما كان من إحسان الأمير فيصل وجنوده إلى مَنْكوبي الأرمن في الكرك.
أما الذي أمر بإنزاله فهو قائد جيش الاحتلال البريطاني. ولمَّا رفض الأيوبيُّ ورفض كذلك رئيسُ البلدية ومديرُ الشرطة أن يُنزِلوا العلم، أرسل القائد بعض الجنود الأستراليين فأنزلوه في الساعة الثانية بعد نصف الليل.