تجربة الموت والطوفان
كانت قاعة التجارب المجسمة في المقر السِّري تشهد تجرِبةً من أغرب التجارب التي رآها الشياطين اﻟ «١٣» … كانوا جميعًا يجلسون صامتين في القاعة الكبيرة المظلمة، وقد أضيئت بنورٍ أخضرَ خفيفٍ لم يُبدِّدْ تمامًا الظلام العميق الذي فُرض عليها … ولولا أنَّ الشياطين كانوا يدركون أنَّ ما أمامهم ليس إلَّا تجربةً، لظَنوا أنَّ القاعة سوف تنفجر وتطير وهم معها أشلاء في الفضاء … ففي الجانب الأطول من القاعة كانت هناك خريطة مجسمة لمنطقة بحيرة «قارون» في محافظة «الفيوم» … البحيرة من شاطئها الغربي المهجور، حيث كانت الكهوف القديمة تعلن عن الحضارات التي قامت على هذا الشاطئ وبادت، ثم مياه البحيرة الداكنة و«جزيرة القرن الذهبي» التي تتوسَّطها، ثم الشاطئ الشرقي حيث تدبُّ الحياة في مجموعة القرى الصغيرة التي يسكنها المزارعون والصيَّادون من أهالي المنطقة.
وكانت مجموعة من الانفجارات تجتاح المنطقة … انفجارات تشبه مظلة الطيارين وهي تنفتح، تبدأ صغيرةً ثم تتضخَّم وتتضخَّم بشكل سرطاني مُخيف … وكان أخصائي التجارب يتحدَّث: ما أمامكم الآن هو تصوُّرٌ لما يمكن أن يحدث في حالة تفجيرٍ ذرِّيٍّ في المنطقة.
ودوَّت أصوات انفجار كهزيم الرعد رجَّت القاعة … وعلَّق الصوت قائلًا: وهذا نوع وصوتُ الانفجارات مُصغَّرًا بنسبة واحد إلى مائة ألف.
قال «عثمان» ﻟ «أحمد» بصوتٍ هامسٍ: إنني أكاد أسقط من فوق المقعد.
قال «أحمد»: لو كنت في منطقة الانفجارات لأصبحت الآن ذرَّةً في الهواء.
عثمان: هذا شيءٌ مرعبٌ حقًّا.
أحمد: لا أدري ما الحكمة من هذه التجربة المخيفة، ولكن لا بُدَّ من أنَّ رقم «صفر» يريد أن يُثبت لنا شيئًا.
ومضى صوت المُعلِّق يعلن: إن قنبلةً ذريَّةً من النوع المتوسط تكفي لإزالة بحيرة «قارون» من مكانها، وستهاجم مياهها المتدفِّقة الأراضي الزراعية على الشاطئ الشرقي، فتغرق القُرى حتى تصل إلى العاصمة «الفيوم» ذاتها فتُغرقها.
وسكت لحظات، والشياطين يشاهدون على الشاشة الضخمة صُوَرًا مجسمة للانفجار، والأمواج تندفع كالجبال تجتاح كلَّ ما أمامها، وكل قطرة فيها تبدو كأنها كرة ضخمة من الملح أو الماء المتجمد.
كان المشهد يبدو كالطوفان … وقالت «إلهام» هامسة: ترى يا «زبيدة»، هل المطلوب منَّا أن نقاوم هذا الطوفان؟
وجاءها الردُّ من حيث لا تدري، فقد تحدَّث رقم «صفر» لأول مرَّة قائلًا: إنَّ مهمتكم هي منع هذا الطوفان.
ولمعت عيون الشياطين اﻟ «١٣» في الظلام الأخضر … فمَن الذي يستطيع أن يقف أمام هذا الموت الزاحف!
ومرة أخرى أجاب رقم «صفر» على السؤال الذي طاف بأذهان الشياطين: بالطبع فإن هذا الطوفان لم يحدث بعد، ولكن من الممكن أن يحدث في أية لحظة، وسننتقل الآن من غرفة التجارب المجسمة إلى غرفة الاجتماعات، وسوف أُحدِّثكم عن هذه التجارب … والقصد منها … والاحتمالات … ودوركم المقبل.
وبعد لحظة أضيئت قاعة التجارب المجسمة، ولم يبقَ من آثارها شيء، حتى ليحس من كان فيها أنَّ ما جرى من تجاربَ مخيفةٍ لم يكن إلَّا وَهْمًا.
وكانت هذه القاعة التي أُطلق عليها الاسم الكودي «ق. ن. م»، قد أنشئت حديثًا في المقر السِّري للشياطين لإجراء التجارب بأكبرِ قدرٍ من التأثير والقرب من الحقيقة. وقد كانت هذه أول تجربة يحضرها الشياطين … وهكذا عندما اجتمعوا في قاعة الاجتماعات الرئيسية، سألهم رقم «صفر»: ما رأيكم في قاعة التجارب؟
ردَّ «أحمد»: إنها شيءٌ مدهشٌ يا سيدي … لقد نقلتنا إلى قلب التجربة مباشرة.
رقم «صفر»: سوف يتم تزويد القاعة بأنواع متطورة من أجهزة الصوت.
قالت «إلهام»: لقد لاحظت أنَّ الصوت فعلًا لم يكن في مستوى التجربة.
رقم «صفر»: لقد كان ما شاهدتموه مُجرَّدَ تجرِبةٍ أو «بروفة» للقاعة، وسوف تحضرون أول افتتاح لها قريبًا.
وصمت رقم «صفر» قليلًا، ثم قال: والآن سأحدِّثكم عن التجربة … وعن مهمتكم.
وسمع الشياطين صوتَ تنهيدةِ رقم «صفر»، ثم قال: إن المعلومات التي سأقولها لكم الآن على أكبر قدر من السرية … ولكن للأسف، إن طرفًا منها تسرَّب إلى دولة معادية، ونحن الآن نُحقِّق في كيفية تسرُّب هذه المعلومات، وهذا جزء من مهمتكم … ولكن الجزء الهام ستعرفونه بعد لحظات …
زاد شوق الشياطين إلى سماع ما سيقوله رقم «صفر»، فقد أثار شهيتهم بالحديث عن الدولة المعادية … والمعلومات السِّرية التي تسرَّبت … وقال رقم «صفر»: تقوم شركة أجنبية كبرى منذ ثلاثِ سنواتٍ بتحليل مياه بحيرة «قارون» التي أثبت الخبراء المصريون احتواءها على مجموعة من العناصر الطبيعية الهامة، مثل: البوتاسيوم والمغنسيوم والكالسيوم وغيرها … ولكن الأهم من هذا كله …
وسكت رقم «صفر» لحظة ثم ألقى قنبلتَه: أنها تحتوي على اليورانيوم!
وعلى الفور، أدرك الأصدقاء الصلة بين التجارب المجسَّمة التي شاهدوها في قاعة التجارب وبين هذه المعلومات … فإنَّ ما شاهدوه على الشاشة المجسَّمة لم يكن إلَّا تفجيرات ذرِّية فوق بحيرة «قارون».
ومضى رقم «صفر» يقول: وقد تم استخلاص عنصر اليورانيوم من الرمال السوداء في البحيرة بعد مجموعة من التجارب المضنية، وبعد سلسلة التجارب أصبح في حوزة العلماء المصريين كميةٌ من اليورانيوم نصف النقي … وقد كان هذا الخبر — رغم سريته — مَثارَ اهتمام دول العالم، خاصةً أجهزةَ المخابرات الأجنبية التي أبدت اهتمامًا خاصًّا بهذا السِّر بناءً على أوامرَ خاصةٍ من دولها …
ساد الصمت قاعة الاجتماعات … لكن كان واضحًا أن رقم «صفر» سيكشف فورًا عن سر خطير … ولم يَطُل انتظار الشياطين، فقد مضى رقم «صفر» يقول: وكانت الكمية التي حصلت عليها مصر قد وُضعت في صُندوقٍ أسودَ من الرَّصاص، سمك جدرانه ٧ سنتيمترات من الرَّصاص، وأنتم تعرفون أنَّ إشعاع اليورانيوم يمكن أن يخترق جدارًا من الرَّصاص سُمكه ٦ سنتيمترات، ووُضع الصُّندوق على سبيل التعمية والتمويه في صُندوقٍ آخرَ من الجريد ضمن مجموعةِ صناديقَ أخرى ضمَّت عيِّناتٍ من موادَّ أقل أهمية، مثل البوتاسيوم وغيره، كما شرحت لكم عن أنواع العناصر الموجودة في البحيرة.
وصمت رقم «صفر» لحظات ثم قال: وقد أحيط هذا الصُّندوق بإجراءاتِ أمنٍ خفيَّة … وكان هناك حزام من الرجال يرقبه من بعيد … وقد وصل الصندوق فعلًا إلى «القاهرة»، ولكن المفاجأة أن وجدوا بداخله صُندوقًا من الرَّصاص بنفس ثقل الصندوق الحقيقي، ولكنه خالٍ من اليورانيوم.
مرة أخرى ساد الصمت قاعة الاجتماعات، ولم يعد الشياطين يسمعون سوى صوت تنفُّسِهم … انطلق رقم «صفر» يقول: وقد قامت مجموعات من رجال الأمن ببحث الموقف، وقد تأكَّدنا أنَّ احتمال سرقة الصندوق وإخراجه من منطقة «قارون» مستحيلة … فليس هناك سوى طريقين يربطان بحيرة «قارون» بالعالم الخارجي؛ الأول الشرقي البري، ويؤدِّي إلى «الفيوم» أو «القاهرة»، وهذا كان موضع رقابة شديدة … والثاني الغربي البحري، وهذا يؤدي إلى الصَّحْراء الغربية المترامية الأطراف … ومن المستحيل أن يستطيعَ شخص اختراقه مهما فعل، فهو طريق من الرمال غير مطروق ولا توجد به مياه.
قال «فهد» مقاطعًا: ربما كان يركب طائرة مثلًا.
لم يستطع رقم «صفر» كتم ضحكته، رغم وقاره المعروف، وقال: وكيف يمكن أن تأتيَ طائرة، وتهبط قرب البحيرة، ويتم سرقة الصندوق ووضعه فيها، ثم تطير بعد ذلك دون أن نراها؟! … إنه يا رقم «٨» احتمال بعيد جدًّا، بل هو في حكم المستحيل.
وارتفعت همسات الشياطين مُعلِّقةً، ولكن رقم «صفر» أنهاها بقوله: إننا نريد مجموعة من الشياطين تذهب لمسْح المنطقة والحديث إلى المزارعين والصيادين هناك، وفحْص جميع المناطق بين البحيرة و«وادي الريَّان» حيث تعمل بعض «الشركات الأجنبية»، وأرجو أن تتمكنوا من الوصول إلى شيءٍ …
لم يُعلِّق أحدٌ لبضعِ ثوانٍ، ثم قال «أحمد»: إننا نريد معلوماتٍ أوفرَ عن الصندوق الأسود، وعن الظروف التي أدت إلى اختفائه … وعن آخرِ شخصٍ شاهدَه … وآخرِ مكانٍ كان فيه، لإمكان تتبُّعه.
رقم «صفر»: بالطبع … وسيجد كلٌّ منكم عند عودته إلى غرفته ملفًّا كاملًا يحوي كلَّ التحقيقات التي جرت في هذا الموضوع.
عثمان: أرجو أن تكون هناك مجموعة من الصور لجميع الأشخاص الذين اشتركوا في استخلاص مادة اليورانيوم، والذين أشرفوا على وضعها في الصندوق الأسود، فقد علَّمتْنا التجاربُ أنَّ صورةً صغيرةً قد تؤدي إلى الكشف عن أسرار لا يَكشفُ عنها الكلامُ ولا الكتابة.
تحدَّث رقم «صفر» وقد بدت في صوته رنَّة اهتمام: لقد اهتممنا بذلك يا رقم «٢»، وسيكون مع ملفِّ المعلومات ملفٌّ كاملٌ من الصور.
أحمد: هل ثَمَّة ترتيباتٌ قد وُضعت لسفرنا وإقامتنا هناك؟
رقم «صفر»: لقد قام قِسم الخدمات بحجز مجموعة من الغُرَف في أوبرج الفيوم، وفي فندق آخر صغير على شاطئ البحيرة يُدعى «البافيون دي شاس». كما تمَّ إعداد قارب سريع للإبحار في البحيرة، وفي مكانٍ سرِّي من القارب مجموعة من الأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى الأسلحة الخفيفة التي توجد في حقيبة كلِّ واحد منكم … هل هناك أسئلة أخرى؟
لم يرتفع أيُّ صوت بسؤال … وسمع الشياطين اﻟ «١٣» خطوات رقم «صفر» الثقيلة وهي تبتعد … فقاموا جميعًا من أماكنهم.