دعوة إلى الغداء
نظر «أحمد» عبر النافذة … كانت الصَّحْراء تبدو واضحة من بعيد، وهذه الصَّحْراء تمتدُّ من الحدود المصرية الليبية حتى المملكة المغربية، وتنتهي عند المحيط الأطلسي … أكبر صَحْراء في العالم … ففي أيِّ جزءٍ منها يمكن أن يكون هذا المصنع الذي يتحدَّث عنه «بو عمير» …
عاد «أحمد» ببصره إلى الورقة، كانت الشفرة مقسمة إلى نصفين كعادة الشفرة … في الجانب الأيمن الحروف، ثم رقم «الكود» في الناحية اليسرى … وأخذ يقرأ الأرقام: ٣٩٦٤ – ١٥٦٣ ٧٢٦٠ – ٨٨٠٨ – ٣٠٤٣ – ٠٠١٢ وظلت الأرقام تتكرَّر حتى نهاية الصفحة. فقال «أحمد» معلقًا: إنها رسالة طويلة جدًّا، وأرجِّح أنها تعليمات لمجموعة من الرجال، وأنها تتعلق بخطة وليس مجرد تعليمات … فالرسائل الشفرية عادة أقلُّ من هذا طولًا …
إلهام: هل تعتقد أنَّ في إمكاننا حلَّها؟
أحمد: ذلك صعب، وسيقتضي بعض الوقت. و«هدى» — وهي المختصة بالشفرة — في مجموعة «عثمان»، و«ريما» ليس معها أجهزة تساعدها على الحل …
بو عمير: إذن من الأفضل أن نرسلها الآن إلى رقم «صفر» …
أحمد: طبعًا … أعتقد أن خبراء تحليل الشفرة في «ك. س١٠» يمكنهم حلُّها في ساعاتٍ قليلة …
إلهام: أمامي عمل كثير إذن، فاتركاني، وسأكون جاهزة في موعد الغداء …
أحمد: عظيم … وسوف نتجوَّل أنا و«بو عمير» قليلًا حول المكان.
خرج «أحمد» و«بو عمير» إلى ساحة الفندق … كانت محاطة بسور من الطين والأعشاب والزروع، وفي وسطها بعض أشجار ضخمة تظلِّل المكان كله، وتُخفي خلفه مبنى الفندق الخشبي الصغير الذي يشبه الفيلَّا … وبعد السور كان ثمة طريق مرصوف، ثم سور من الصخر، ثم مياه البحيرة الداكنة، وقد وقف على شاطئها بعض الصيادين العائدين من الصيد … ومن بعيد كانت تدوي بعض طلقات الصيادين الذين يصطادون الطيور المهاجرة التي تأتي من شمال أوروبا إلى دفء مصر …
قال «بو عمير»: مكان نموذجي لإجازة.
قال «أحمد» مبتسمًا: ربما مرة أخرى … ولكننا الآن وراء أخطر صندوق يمكن أن يتصوَّره إنسان، صندوق به كمية من عينة اليورانيوم، أثمن مادة في العالم.
بو عمير: أعتقد يا «أحمد» أننا وصلنا متأخرين. إن مثل هذا الصندوق ما دام قد اختفى، فكيف يمكن العثور عليه؟! ربما كان الآن في مكان ما خارج مصر، ونحن نحلم باستعادته.
أحمد: الحقيقة أنَّ هذه مغامرة من نوع جديد، فنحن لا نملك أيةَ معلومات عن عدونا، وكل ما نملكه بعض المعلومات عن الأشخاص الذين يعملون في مشروع استخراج المادة المُشعة من الرمال السوداء …
بو عمير: هل يمكن أن يكون أحد الغرقى من هذه المجموعة؟
أحمد: ليس هذا ببعيد؛ فالرجل الغريق أشقر الشعر وهو في الأغلب ليس مصريًّا، وسوف نتأكد عندما يصلنا تقرير رقم «صفر» عنه، فسوف يقوم رجال الطب الشرعي بتصويره، وسيحدِّد لنا رقم «صفر» عن طريق الصور شخصية الغريق …
سار الصديقان حتى عبرا بوابة الفندق الصغير، ثم اجتازا الشارع المرصوف إلى السور الصخري، ووقفا يتفرَّجان على الصيادين … ولمح «بو عمير» قاربًا يقترب من الشاطئ، فأنعم النظر فيه ثم قال: هناك قارب صيد يقترب إلى يمينك … به شخص أعتقد أنه من الخمسة الذين يعملون في المشروع.
نظر «أحمد» إلى حيث قال «بو عمير»، وأخذ يُحدِّق في القارب ثم قال: معك حق … إنه الدكتور «ك. باتريك» أستاذ الموادِّ المُشعة، والرجل الثاني في المجموعة، فها هو «البايب» في جانب فمه، وبندقية الصيد في كتفه، وكذلك سنارة صيد السمك.
بو عمير: تعالَ نتعرف به.
أحمد: إنه ينزل في نفس الفندق. لندع التعرف به للظروف.
قال «بو عمير» باسمًا: سأتعرف به بطريقة جديدة … انتظر أنت هنا.
وقف «أحمد» ينظر إلى «بو عمير» وهو يقفز السور الصخري، ثم يصل إلى الشاطئ في نفس الوقت الذي وصل فيه القارب الصغير … كان الشياطين قد درسوا في المقر السِّري عشراتِ الطرق للتعرُّف على الأشخاص … وأخذ يراقب «بو عمير» ليرى أيَّ طريقة سوف يُطبِّق، وابتسم وهو يرى «بو عمير» يُطبِّق طريقة التعرُّف «بالقوة»، فقد اندفع «بو عمير» إلى الدكتور «باتريك» صائحًا بالإنجليزية: مرحبًا بك يا سيدي!
وبدت الدهشة في عين الدكتور «باتريك»، فهو بالطبع لم يرَ «بو عمير» في حياته … ولكن «بو عمير» لم يتراجع وقدَّم له نفسه باسمه المستعار: إنني «عمر باهي» من المغرب، وقد كنت تُدرِّس لي الطبيعة في المدرسة.
قال الدكتور «باتريك»: آسف يا صديقي … لا بُدَّ أنَّ هناك سوءَ تفاهم، فأنا لم أذهب إلى المغرب، ولم أشتغل بتدريس الطبيعة.
بو عمير: مدهش يا سيدي … يخلق من الشبه أربعين!
باتريك: ومع ذلك … مرحبًا بك، ويَسرُّني أن أتعرَّف عليك.
بو عمير: آسف جدًّا لإزعاجك.
باتريك: أبدًا … إنني أنزل في هذا الفندق، فأين تنزل أنت؟
بو عمير: يا للصدفة الطيبة … في نفس الفندق.
باتريك: وهل أنت من هواة دراسة العلوم الطبيعية؟
بو عمير: نعم … وقد جئت مع بعض أصدقائي هنا لرصد بعض الظواهر الطبيعية في بحيرة «قارون».
في هذه اللحظة وصلت «إلهام» قادمةً من غرفتها، ووقفت بجوار «أحمد» وقالت: لقد أرسلت التقرير، كان في غاية الصعوبة …
أحمد: طبعًا … إنك تُرسلين شفرة، بالشفرة.
إلهام: وماذا يفعل «بو عمير» على القارب؟
أحمد: لقد أقحم نفسه على الدكتور «باتريك»، فنحن في حاجة للتعرُّف على المجموعة التي تعمل في مشروع استخلاص اليورانيوم … نريد أن نتعرَّف إليهم بطريقة طبيعية …
وابتسم «أحمد» وهو يرى «بو عمير» يحمل الطيور التي اصطادها الدكتور «باتريك» ويتقدَّمه إلى الفندق. وعندما وصل الاثنان قرب «أحمد» و«إلهام» أشار إليهما «بو عمير» وقال: يسعدني أن أقدِّم لك زميلَيَّ.
ثم قدَّمهما له باسمَين مستعارَين، وقدَّم الدكتور «باتريك» لهما، ووقف الجميع يتحدَّثون عن الصيد … ولاحظ الشياطين الثلاثة أن دكتور «باتريك» لم يتحدث عن عمله في المنطقة، وفهموا طبعًا أنها تعليمات من جهات الأمن.
دعاهم دكتور «باتريك» إلى غداء من طيور البحر، وقال: إنه يتوقَّع أن يكون الغداء جاهزًا بعد ساعتين … ونظر «أحمد» إلى ساعته، ووجدها قد اقتربت من الثانية عشرة، فقال: يسعدنا أن نلبِّيَ هذه الدعوة يا دكتور …
وانصرف «باتريك» وعلَّقت «إلهام» قائلة: إنه رجل بسيط واجتماعي جدًّا …
وفجأة بدا على «إلهام» نوع من الاضطراب ثم قالت: سأصعد إلى غرفتي.
أحمد: ماذا حدث؟
نظرت «إلهام» إلى ساعتها وقالت: هناك رسالة! وأسرعت إلى الفندق وتبِعَها «أحمد» و«بو عمير»، وعندما وصلا إلى غرفة «إلهام» وجداها قد أغلقت الباب فدخلا إلى غرفة «أحمد»، وأخذا يتحدَّثان محاولَيْن استنتاجَ فَحْوى الرسالة، وقال «بو عمير»: لا أظنُّ أنَّ رقم «صفر» يمكن أن يردَّ بهذه السرعة، فمن المؤكد أنَّ التحقيقات حول الرجل الغريق لم تصله بعد …
لم يَطُل انتظار الصديقين. فقد سمعا ثلاثَ دقَّاتٍ ثم دقَّةً واحدةً على الحائط الخشبي الذي يفصل بين غرف الفندق، وأسرع «أحمد» يفتح الباب، وبعد لحظات ظهرت «إلهام» وفي يدها ورقة صغيرة … قال «أحمد»: ماذا هنالك؟
إلهام: رسالة من مجموعة «القرن الذهبي» …
أخرجت «إلهام» من جيبها ولَّاعةً صغيرة، ثم قالت: هل أقرأ الرسالة مرة أخرى؟
أحمد: لا … لقد استوعبت ما فيها.
قامت «إلهام» بإشعال الورقة حتى احترقت تمامًا، ثم ألقتها من النافذة، وقال «بو عمير»: أعتقد أنَّ لهذه الحقيبة عَلاقةً بالرجل الغريق.
نظر إليه «أحمد» طويلًا ثم قال: ممكن … لقد دفعت الأمواج بجثة الرجل إلى الشاطئ الشرقي، بينما رست الحقيبة الثقيلة بما فيها من أدوات على قاع البحيرة، وخرجت مع شباك الصيادين.
إلهام: علينا أن نرسل تقريرًا آخر إلى رقم «صفر».
أحمد: ليس هذا فقط … علينا أيضًا أن نرسل هذه المعلومات إلى مجموعة «فهد»، وأن نرسل إلى مجموعة «عثمان» بموضوع الرجل الغريق …
ابتسمت «إلهام»، ولكنها لم تكن ابتسامة راضية. فمعنى هذا كله أنها ستظل تعمل على جهاز الإرسال ساعاتٍ طويلة …
قال «أحمد» يشجِّعها: لا بأس، إن المهمة تستحقُّ هذا التعب …
هزَّت «إلهام» رأسها ثم عادت إلى غرفتها، بينما وقف «أحمد» و«بو عمير» صامتَيْن … لقد تحرَّكت الأحداث بسرعة كبيرة، ومن المتوقَّع أن يتمكَّنوا من وضع أيديهم على شيء. ولكن السؤال المهم الذي لا يمكن الإجابة عليه هو … هل الصندوق الأسود ما زال في المنطقة؟
لقد جاءوا للإجابة على هذا السؤال … فإن كان بالإيجاب، فلن يقفَ شيءٌ في طريقهم حتى يحصلوا عليه، فماذا تحمل الساعات القادمة؟ …