أربع نقاط في التقرير
عندما حان موعد الغداء، شاهد «بو عمير» و«أحمد» صديقهما الجديد الدكتور «باتريك» يخرج إلى الشرفة، ويبحث بعينيه عنهما، وأشار له «بو عمير» بذراعه مُحييًا، فأشار لهما بأنَّ الطعام جاهز … وكانت مائدة صغيرة وُضعت في الشرفة وجلست إليها سيدة، عرف الصديقان على الفور أنها الدكتورة «هيلدا»، وكان معها ابنتها، وقد ابتسمت لهما مُرحِّبة … وقام الدكتور «باتريك» بواجب التعارف بين الجميع، وعرف «أحمد» و«بو عمير» أنَّ اسم الفتاة الصغيرة هو «جيفكا»، وقد كانت «جيفكا» مبهورةً بالحياة في «قارون»، وتودُّ أن تقضيَ بقيةَ عمرها في أرض الفراعنة …
وجاءت أطباق الطيور البحرية المُحمَّرة، وابتسم «أحمد» وهو يقول: ربما كانت رائحة هذه الطيور المُحمَّرة هي أروع رائحة في العالم، وقد قرأت أنَّ «تشرشل» رئيس وزراء إنجلترا و«روزفلت» رئيس جمهورية أمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية، أتيا إلى «قارون» وطلبا الغداء من هذه الطيور.
قال الدكتور «باتريك»: معك حق … خاصة أن الطاهي يُعدُّها بطريقة خاصة يسمونها الطريقة الدمياطية، وتعتمد على البصل والبهارات.
كانت الدكتورة «هيلدا» قد وضعت لتوِّها قطعةً من صدر البطة في فمها، وأخذت تمضغها متلذِّذة، وقالت: نعم، نعم، إن طعمها رائع حقًّا.
ودار الحديث حول الطعام فترة، ثم اتجه إلى مختلف أوجه الحياة، ولاحظ الصديقان أن «هيلدا» و«باتريك» لا يتحدثان مطلقًا عن عملهما. وأراد «أحمد» أن يجرِّبَ اختبارًا مُهمًّا، فقال: لقد وجدوا غريقًا اليوم في البحيرة.
قال «باتريك» بهدوء: نعم، لقد علمت هذا، وسمعت أنه ليس من سُكَّان المنطقة، وهم يُرجِّحون أنه أجنبي.
هيلدا: لقد اتصلت بأصدقائي هنا وتأكدتُ أنه ليس من المجموعة التي أعرفها.
وأدرك «أحمد» أن الغريق ليس من فريق أبحاث اليورانيوم فقال: لعله أحد السيَّاح الذين خرجوا للصيد في البحيرة.
هزَّ «باتريك» رأسه وقال: ربما … ولكن كيف يغرق صياد في هذه البحيرة الساكنة؟
أحمد: هل تظن أنها جريمة مُدبَّرة؟
هزَّ «باتريك» رأسه قائلًا: مَن يدري؟!
وساد الصمت حتى انتهى الطعام، وشكر الصديقان مضيفَهما، ثم عادا إلى غرفتيهما، ووجدا «إلهام» قد تناولت طعامها، وجلست في انتظارهما، وقالت عندما رأتهما: سنتلقَّى رسالة من رقم «صفر» مساءً … وحتى يحين موعدها مؤقتًا سأرتاح …
أحمد: لقد أتعبتِ نفسكِ كثيرًا مع الشفرة والأجهزة، سأراكِ في السادسة …
•••
في المساء خرج «أحمد» و«إلهام» يتمشيان على شاطئ البحيرة في اتجاه جزيرة «القرن الذهبي» … كانت المنطقة مظلمة، فليست هناك إضاءة بعد قسم حرس السواحل، ويمتدُّ الشاطئ بعد ذلك في شبه نصف دائرة غارق في الظلام، لا يُضيئه سوى قمر صغير يظهر ويختفي خلفَ السحب الداكنة التي أخذت تتجمَّع في الأفق الغربي …
كانت هناك نسمة باردة منعشة، وقد استعدَّ كلٌّ منهما ببلوفر وضعه على كتفه، وكان «بو عمير» يجلس بجوار غرفة «إلهام» حيث وضعت جهاز اللاسلكي بمهارة في الدولاب في انتظار تلقِّي رسالة رقم «صفر» التي قد تأتي في أية لحظة …
تجاوز «أحمد» و«إلهام» منطقة القسم، وقد أطبق الظلام تمامًا على المنطقة، وأخذت الرياح تشتدُّ شيئًا فشيئًا، فشدَّ كل منهما البلوفر على كتفيه.
لم يتحدَّثا فقد كان من الصعب أن يسمع أحدُهما الآخر مع شدة الرياح، وبعد نحو ربع ساعة صاحت «إلهام»: أليس من الأفضل أن تعود؟
صاح «أحمد» يرد: في إمكاننا أن نصلَ إلى معسكر «عثمان».
إلهام (بصوت مرتفع): ولكن رسالة رقم «صفر» قد تصل في أية لحظة، وقد تحتاج إلى تصرُّف سريع.
كان «أحمد» يُرهف أذنَيه لسماع «إلهام» ولكن خُيِّل إليه أنه يستمع إلى صوت آخر فأشار لها أن تسكُت، ثم توقَّفا عن السير، وقد صَدَقَه سمعه … وبالفعل كانت هناك صيحة استغاثة واضحة، سمعها هو وسمعتها «إلهام»، وحدَّدا مصدرها على الفور، كانت قادمة من مكان أمامهما لا يبعد عنهما أكثر من عشرين مترًا … وسرعان ما انطلقا يجريان نحو مصدر الصوت، وفي ثوانٍ قليلةٍ شاهدا على ضوء القمر الضعيف ثلاثةَ رجالٍ ينحنون على رجل رابع، وهم ينتزعون منه حقيبةً متوسطةَ الحجم … ولم يحسَّ «أحمد» بالندم في حياته كما أحسَّ في هذه اللحظة؛ فإنه لم يكن يحمل سلاحًا …
اختفي ضوء «القمر». وظهر ضوء رَصاصة أُطلقت من أحد الرجال في اتجاه «أحمد» و«إلهام»، ولكن طاش التصويب، وقفز «أحمد» يمينًا، وقفزت «إلهام» يسارًا، ودار «أحمد» على يديه وقدميه دورةً أشبه بالساقية، وانتهى وهو ينقضُّ على أحد الرجال الثلاثة بلكمة جعلته يدور حول نفسه ثم يسقط … واستدار «أحمد» إلى الرجل الثاني، ولكن الرجل كان قد أسرع يحمل الحقيبة وانطلق ناحية الشاطئ …
انحنى «أحمد» على الرجل المصاب، بينما تولَّتْ «إلهام» الرجل الثالث، مدَّتْ يدَيها وأمسكت بذراعه فثنته حتى كادت تكسِرَ عظامه، ثم دارت به دورةً واسعةً وأطلقت ساقها بضربةٍ مُوجعةٍ أصابت بطنه فصاح صيحةً قويةً، ولكنه لم يقع بل انطلق يجري إلى الشاطئ …
كان الرجل المصاب من رجال الشرطة، وبسرعة ربط «أحمد» بين الحقيبة التي عثر عليها الصيادون في الصباح والحقيبة التي استولى عليها الثلاثة، وأحسَّ أنَّ السرقة ليست سرقةً عاديَّةً، ولا بُدَّ أنَّ لها عَلاقةً بهؤلاءِ الثلاثة … وهكذا ترك المصاب وصاح ﺑ «إلهام»: اعتني به …
ثم انطلق يعدو إلى الشاطئ، وانطلق سيل من الرَّصاص في اتجاهه، فألقى بنفسه على الأرض، وأحسَّ بألم كلسعة النار في كتفه، وأدرك أن إحدى الطلقات قد أصابته، وحرَّك ذراعه، ولم تكن هناك إصابة في العظام رغم الآلام المبرحة، وأخذ يزحف سريعًا علَّه يلحق بالقارب. وفي هذه اللحظة مرَّ به الرجل الثالث يجري وفكَّر أن يهاجمه، ولكن ذراعه المصابة أنذرته بالخطر، فاكتفى بأنْ ينظر إلى شبحه وهو يجتاز حدودَ الرمال إلى المياه، وأخذ «أحمد» يزحف سريعًا حتى اقترب من الشاطئ، واستطاع وهو ينظر في مستوى سطح المياه أن يرى القارب المطَّاط وهو يحمل الرجال الثلاثة مبتعدًا …
لم يكن هناك فائدة من مزيد من المراقبة، فقام عائدًا إلى حيث كانت «إلهام» تُعنى بالرجل المصاب. وعندما وصل وجد «إلهام» واقفةً، وسألها «أحمد» بلهفة: كيف حاله؟
ردَّت «إلهام» بأسف: أعتقد أنَّ إصابته بالغة، ولا أدري إن كان سيعيش أم لا …
أحمد: لا بُدَّ من إبلاغ قسم السواحل القريب …
إلهام: هيَّا إذن بسرعة، فكلُّ دقيقةٍ لها قيمتها في حياة الرجل …
تردَّد «أحمد» لحظات، ثم قال: من الأفضل الاتصال بهم تلفونيًّا من الفندق وإبلاغهم باسم مجهول، فليس لنا مصلحةٌ في الظهور على مسرح الحوادث، بل إنَّ هذا قد يُعرِّضنا لمتاعبَ لا داعي لها.
وافقت «إلهام» وسارا معًا عائدَيْن، واختارا أن يدورا حول قسم حرس السواحل من خلال المزارع، حتى وصلا إلى الفندق، ومع أول ضوء في الحديقة اكتشفت «إلهام» أنه مصابٌ، فقد كان الدم يُغطِّي ذراعه.
قالت «إلهام» جزعة: أنت مصاب؟
ردَّ «أحمد»: لا شيء ذا أهمية … الرصاصة أصابت لحم الكتف ونفذت منه، المهم أريد أن أدخل دون أن يرى أحد الإصابة.
إلهام: ضع كتفك في كتفي، وسنسير بعيدًا عن الأضواء …
والتصق الكتفان، وصَعِدَا معًا سلالم الفندق الصغير. وقال «أحمد»: اذهبي أنتِ إلى غرفتكِ واتصلي بحرس السواحل، وأبلغي عن الحادث …
سمع «بو عمير» صوت «أحمد» وهو يدخل غرفته فأسرع إليه، وأخذ «أحمد» يروي له ما حدث، بينما قام «بو عمير» بخلع ثياب «أحمد» وأخرج بعض العقاقير المُطهِّرة، وقام بتطهير الجرح ثم ربطه.
قال «بو عمير»: الحمد لله، الإصابة ليست عميقة، ولكن ستحتاج لبعض الوقت.
أحمد: إنني أريدك أن تتصل فورًا ﺑ «عثمان»، أريد أن نقوم الآن بمسح شواطئ البحيرة، إنني أتوقَّع أن نجدَ شيئًا.
بو عمير: ماذا تتوقَّع أن نجد في الظلام؟
أحمد: لا أدري بالضبط، ولكن وجود هذا القارب المطَّاط في بحيرة قارون ملفت للنظر … ثم هؤلاء الرجال الثلاثة الذين سرقوا الصندوق، واعتدَوْا على رجل الشرطة، مَن هم؟ ومِن أين جاءوا؟ وماذا يهمهم في هذه الحقيبة؟! إننا نعرف محتوياتها، لم يكن صندوقًا، كان حقيبةً وليس فيها شيء يستحقُّ أن تُرْتكَبَ من أجله جناية قتل.
وأخرج «بو عمير» جهاز «الووكي توكي» من الحقيبة، وسرعان ما كان يتحدَّث مع مجموعة «عثمان»، واتفقوا على أن يأتيَ «عثمان» ومعه اثنان من الشياطين في قارب على أن يكون اللقاء في منتصف الليل تمامًا …
قال «أحمد»: لقد تأخرت «إلهام».
بو عمير: لعل تقرير رقم «صفر» قد وصل.
وقد صَدَقَ ظنُّ «بو عمير»؛ بعد ربع ساعة تقريبًا دخلت «إلهام» تحمل في يدها ورقة صغيرة وقالت: وصل تقرير رقم «صفر».
- أولًا: الرجل مجهول …
- ثانيًا: ليس في الحقيبة ما يهم …
- ثالثًا: الرسومات والرموز التي وُجدت في الورقة الصغيرة داخل الحزام تدلُّ على عملية تجميع لآلة لا نستطيعُ تحديدَ نوعها … ولكن الأغلب أنها آلة صغيرة قد تكون في حجم موتور سيارة ولكن قوية …
- رابعًا: معلوماتنا تؤكِّد أن الصندوق الأسود الذي به عيِّنة اليورانيوم ما زال في المنطقة …