مُعلَّق في الفضاء
أحمد: ماذا حدث بالضبط؟
ردَّ «عثمان»: وقعنا في مصيدة … كنَّا نلفُّ حول الجزيرة حسب الاتفاق، عندما أُطلقت علينا بعضُ الطلقات، وتتبعنا اتجاه الطلقات، فخرج إلينا من المياه بعض الغوَّاصين، وأغرقوا القارب وجذبونا إلى القاع. ولم يكن معنا أقنعة الأكسجين فأُغمِيَ علينا، ثم جرُّونا إلى الشاطئ، وعندما أفقنا وجدناهم يتحدَّثون عن قاربٍ آخرَ يقترب، وعرفنا أنه قاربكم، ولكن لم يكن في إمكاننا عمل شيء، فقد جرَّدُونا من أسلحتنا! …
أحمد: لقد حاولوا نفس المحاولة معنا.
عثمان: كانوا خمسة … اثنان في المياه، واثنان هنا، والخامس أخذ «زبيدة» إلى الشاطئ الغربي للبحيرة؛ يبدو أن مركزهم الرئيسي هناك.
أحمد: إن «إلهام» في القارب عند الشاطئ، ومن الممكن أن نذهب جميعًا، إننا لا يمكن أن نترك «زبيدة» بين أيديهم …
قال «بو عمير» موجهًا حديثه إلى «عثمان» و«فهد»: ألم تسمعا منهم شيئًا عن الصندوق الأسود؟
ردَّ «فهد»: جملة واحدة … «يجب إنقاذ الصندوق.»
أسرع الأربعة إلى شاطئ الجزيرة، وأطلق «بو عمير» بطاريته بإشارة ضوئية، وعلى الفور أخذت «إلهام» تقترب بالقارب من الشاطئ، وقفز الأربعة إلى المياه وصَعِدُوا إلى القارب الصغير، فقالت «إلهام»: أخشى ألَّا يحملنا جميعًا …
أحمد: سيعوم واحد منا فترة. ويركب ثلاثة وهكذا! وبقي «عثمان» في الماء، وصَعِدَ «أحمد» و«فهد» و«بو عمير»، ومضى القارب يشقُّ طريقَه فوق المياه إلى الشاطئ الغربي …
قال «أحمد»: ثمة رجل منهم لم يظهر … لقد قال «عثمان» إن هناك رجلين في المياه، ولكننا لم نقابل منهما سوى رجل واحد.
فهد: لعله انطلق مع الذي جرى أمامنا الآن في قارب مُعَدٍّ للهرب.
أحمد: ممكن جدًّا!
ساد الصمت بعد هذه الجملة، وتولَّى «فهد» و«بو عمير» التجديف بسرعة، واتخذا مسارًا في خط مستقيم إلى الشاطئ الآخر. ومرَّت ساعةٌ قبل أن يقتربوا من الشاطئ الرملي الغامض، حيث قامت حضارة فِرْعونية قديمة منذ آلاف السنين …
على ضوء القمر الخفيف الذي كان يظهر ويختفي كلَّ حين، اختار الشياطين الخمسة مكانًا وراء صخرة كبيرة، ثم رسوا بقاربهم، وقال «عثمان» وهو يصعَد من المياه: من الصعب جدًّا تحديد مكان هؤلاء الرجال على هذا الشاطئ الواسع …
ولكن «عثمان» تلقَّى الرد. فلم يكد ينتهي من جملته حتى سمعوا صوت رَصاصة، ولدهشتهم لم تكن موجَّهةً إليهم، بل كانت على مسافة نحو مائتَيْ مترٍ من مكانهم، ودون أن يتبادلوا كلمة واحدة كانوا جميعًا ينطلقون بأقصى سرعة في اتجاه الصوت، وسمعوا رصاصة ثانية وثالثة … كانت هناك معركة تدور … ولكن مع مَن؟
عندما اقترب الشياطين الخمسة من مكان الرَّصاص، أشار إليهم «أحمد» أن ينبطحوا على الأرض ويزحف هو إلى الأمام … وسرعان ما جاء صوت غريب، أغرب صوت ممكن أن يُسمَع في الصَّحْراء، صوت موتور … أشبه بموتور السيارة أو الطائرة … وتذكَّر الشياطين ما جاء في آخر تقرير وصلهم من رقم «صفر» … أنَّ الرسم الذي كان على الورقة يشبه رسم مُحرِّك سيارة.
لم يكن من الممكن مطلقًا أن توجد سيارة في هذا المكان؛ لأنه لا يمكنها الوصول إليه … فهل هو محرِّك آلةٍ ما تستخدم لغرض مجهول في هذا المكان؟
عندما اقترب «أحمد» تمامًا من مكان الطلقات، كان الصمت يعمُّ المكان، ولكنه استطاع أن يسمع في صمت الصَّحْراء أنينَ رجلٍ جريح … كان الأنين يأتي من يمينه مباشرةً فلم يتردَّد واتجه إليه. وعندما وصل إلى مصدر الصوت وجد رجلًا يرقد على ظهره، وكان من الواضح أنه مصابٌ إصابةً بالغة، وقد امتدَّت ذراعه إلى أقصاها ممسكًا بمسدس ضخم قد تدلَّى بين أصابعه … اقترب «أحمد» على حذر من الرجل ونظر إليه … كان واضحًا أنه يلفِظُ أنفاسَه الأخيرة، قال له «أحمد»: هل يمكن أن أساعدك؟
تحرَّكت شفتا الرجل دون أن يَصدُرَ منه صوت … قرَّب «أحمد» أذنه من فم الرجل ليستمع لعله يَصِلُه إلى شيءٍ … سمع الرجل يقول: الطائرة … الطائرة …
أحمد: هل توجد طائرة هنا؟
الرجل: الطائرة … «كروسمان» … إنه مكاني …
دوَّت كلمة «كروسمان» في أذن «أحمد» کالرَّصاصة. إن «کروسمان» هو المهندس المسئول عن الأجهزة والآلات العاملة في المشروع … فماذا يقصد الرجل بذكر اسم «کروسمان» … ووضع «أحمد» يده تحت رأس الرجل ورفعه إلى فوق، وقال الرجل: ماء … قطرة ماء …
لم يكن في إمكان «أحمد» أن يعثر في هذه اللحظة على هذه القطرة المطلوبة … وكان يتمنَّى رغم أنَّ هذا الرجل عدوه، كان يتمنى لو حقَّق له هذه الأمنية؛ أن يشربَ قبل أن يموت …
تنبَّه «أحمد» إلى يدٍ تهزُّه، والتفت … كانت يد «إلهام»، قالت له هامسة: ماذا تفعل؟ لقد عثرنا على «زبيدة» مقيَّدةً، وفككنا وَثاقها وهي على ما يُرام.
ردَّ «أحمد»: هذا الرجل يموت … وقد ذكر اسم «کروسمان»، أحاول أن أحصل منه على معلومات …
وفي هذه اللحظة سقط رأس الرجل، وعرف «أحمد» أنه مات …
كان صوت المحرِّك قد توقَّف … وساد الصمت الصَّحْراء تحت ظلام كثيف … فقد اختفى القمر تمامًا …
قال «أحمد»: لقد تحدَّث الرجل عن طائرة … هل يمكن أن تدخل طائرة إلى الأجواء المصرية دون إذن من السلطات المصرية؟ إن هذا مستحيل!
إلهام: الحقيقة أن صوت المحرك الذي سمعناه هو صوت محرِّك طائرة، وليس أي شيء آخر.
أحمد: هناك جملة غامضة قالها الرجل بعد كلمة «کروسمان» … «إنه مکاني».
فهد: لعله يقصد أنَّ له مكانًا في الطائرة، اغتصبه «كروسمان».
أحمد: هل تصدِّق أن هناك طائرةً حقًّا؟ … إن …
وقبل أن يُتمَّ «أحمد» جملته عاد صوت المحرِّك القوي يرنُّ في الصمت الجاثم على الصَّحْراء، وبدا واضحًا أنه صوت مُحرِّك طائرة صغيرة تَدرُج على الأرض لتطير، وحدَّد «عثمان» اتجاهها على الفور قائلًا: إنها تَدرُج في اتجاه اليمين مباشرة.
أحمد: هيَّا بنا بأقصى سرعة ولننتشر على شكل نصف دائرة …
انطلق الجميع يجرون على الأرض الرملية، وأحاطوا بمصدر الصوت دون أن يروا شيئًا. كانوا يخشَوْن إضاءةَ البطاريات حتى لا يُصبحوا هدفًا سهلًا لمن يريد … وهكذا ظلُّوا يجرون في اتجاه مصدر الصوت على أمل أن يرَوْه عن قرب، ولكن القمر منحهم فرصة العمر، فقد ظهر فجأة من وراء السحب المتراكمة فأضاء الصَّحْراء … وعلى الضوء السماوي ظهر شبح طائرة صغيرة تَدرُج على الأرض الرملية، كانت طائرة صغيرةَ الحجم بدرجةٍ لا تُصدَّق … وكأنها لعبةٌ كبيرةٌ نسبيًّا … وقبل أن يُفيقَ الشياطين من دهشتهم كانت الطائرة اللعبة قد وصلت إلى نهاية سرعتها الأرضية ثم أخذت تصعَد تدريجيًّا من فوق الأرض، وسرعان ما مرَّت فوق رءوس الشياطين الستة. وكان أسرعهم استجابةً إلى الموقف «عثمان»، وكانت استجابته من أغرب ما يمكن تصوُّره! …
كانت الطائرة الصغيرة تطير فوقهم تمامًا على ارتفاع لا يزيد على المترين … وكان في إمكان أي واحد فيهم أن يُطلق عليها الرَّصاص، ولكن كان من الممكن — كما فكَّروا جميعًا — أن يكون فيها الصندوق الأسود؛ الصندوق الخطير الذي يَحوي عيِّنات اليورانيوم، وفي هذه الحالة سينفجر الصندوق بما فيه بتأثير صدمة سقوط الطائرة واشتعال النيران فيها …
كان هذا تفكير الشياطين الستة، وقد حلَّ «عثمان» المشكلة بطريقةٍ فذَّة، استجمع قوته ثم قفز في نفس اللحظة التي كانت الطائرة فيها فوق رأسه مباشرة، وأمسك بعجلتيها الصغيرتين … كانت لحظةَ شجاعةٍ خارقة، وقوة ومرونة وحسن توقيت لا تتوفَّر إلَّا لمثل هذا الشيطان الأسمر الممتاز.
انطلقت الطائرة … وعلى ضوء القمر شاهد الشياطين الخمسة «عثمان» وهو مُدلًّى من العجلتين. ثم اختفى القمر خلف السحب المتكاثفة، وساد الظلام …
انطلقت الطائرة «وعثمان» مُعلَّقٌ بالعجلتين، وأحسَّ بلسع الريح البارد ولكنه لم يُلقِ بنفسه رغم الألم … ظلَّ مُصرًّا على التعلُّق بالطائرة، وفي نفس الوقت يفكِّر ماذا سيفعل بعد ذلك …
لم يكن أمامه إلَّا حلٌّ واحد … أن يتسلَّق الطائرةَ إلى حيث قائدها، ثم يجبره على الهبوط.
استجمع «عثمان» قُوَّته ثم ثنى جسده، وسرعان ما أصبح كالكرة مُعلَّقًا بالعجلتين. وكانت المرحلة الثالثة هي أن يُطوِّح بجسده ثم يقفز إلى جناح الطائرة، وبعدها يصبح قريبًا من السائق. ولكن … حدث ما لم يكن في الحسبان.
تنبَّه قائد الطائرة إلى «عثمان» عندما تعلَّق بالعجلتين وأحسَّ به وهو يُطوِّح جسدَه ليتكوَّر عند العجلتين. وقرَّر شيئًا خطيرًا … أخذت الطائرة تهبط سريعًا إلى أسفل، وفي نفس الوقت تتأرجح يمينًا ويسارًا حتى لا تسمح ﻟ «عثمان» بأية حركة … وكانت خطة الطيَّار واضحة … أن يصل ﺑ «عثمان» إلى الأرض ليسحقه بين الطائرة والرمال! …
وفي دقائقَ قليلة، وجد «عثمان» نفسه يقترب من سطح الأرض سريعًا، ولم يبقَ سوى ثوانٍ قليلةٍ وينسحق على الأرض. وهكذا في ثانية كان قد اتخذ قرارَه وألقى بنفسه وبينه وبين الأرض أقل من متر واحد … تدحرج على الأرض ونظر فوقه … كانت الطائرة تترنح قريبًا منه، فقد اصطدمت العجلات بالأرض، ولم يستطع قائد الطائرة أن يستعيدَ توازنه، فمالت الطائرة وكاد جناحها الأيمن يلمس الأرض، ثم مالت الناحية الأخرى، ودارت حول نفسها ثم نزلت على الأرض، وانقلبت مرةً ثم عادت تقف وانقطع صوت المحرك.
قام «عثمان» واقفًا بسرعة، وانطلق ناحية الطائرة، خشيَ أن تشتعلَ فيها النيران وأضاء ضوء بطاريته، ولحسن الحظ وجدها ما زالت تعمل، وشاهد على ضوئها قائد الطائرة يخرج منها، ويقف على جناحها لحظة. كانت المسافة بينهما لا تزيد على الثلاثين مترًا، وأخرج «عثمان» کرته المطاط الجهنمية، وأطلقها كالرَّصاصة فأصابت رأس الطيَّار فسقط على الأرض … وفي أقل من الدقيقة كان «عثمان» يصل إلى الطائرة ويفتح بابها ويدخل … وبنظرة واحدة شملت جوف الطائرة شاهد الصندوق الأسود وانقضَّ عليه، فقد شاهد شرارة تنطلق من محرك الطائرة، وعرفَ أنَّ النار سوف تشتعل فورًا …
ابتعد «عثمان» سريعًا عن الطائرة. ثم أخذ يجرُّ الرجلَ الذي أصابه بكرته الجهنمية حتى أبعده عن النيران، وبعد لحظات وصل الشياطين الخمسة وشاهدوا ما يحدث … أسرع «أحمد» إلى الرجل وأطلق ضوء بطاريته ثم صاح: «كروسمان»! والتفت إلى «عثمان» الذي رفع الصندوق الخطير بين يديه وقال: يا لك من شيطان لا مثيل له … كيف نجوت من الموت؟!
عثمان: قل كيف نجونا جميعًا … لقد كاد الصندوق ينفجر.
زبيدة: إنني لا أكاد أفهم شيئًا من كل ما حدث.
أحمد: المسألة أصبحت واضحة … «كروسمان» خائن … لقد كان هو المهندس المسئول عن الصندوق … وبدلًا من أن يضعه ليُرسَل إلى السلطات المسئولة، وضع الصندوق المزيف، ثم أخذ هذا الصندوق إلى هؤلاء الرجال؛ ليهربوه خارج مصر.
زبيدة: والطائرة كيف دخلت؟!
أحمد: في حقائبه.
زبيدة: غير معقول!
أحمد: إنكم لم تقرءوا النشرة الأخيرة عن نشاط أجهزة المخابرات العالمية … لقد استطاع أحد هذه الأجهزة أن يخترع طائرةً صغيرةً يمكن أن تُفَكَّ وتوضعَ في ثلاث أو أربع حقائبَ متوسطة الحجم … وهذه الطائرة يمكن تركيبها في ساعة، ثم الطيران بها لمسافة كبيرة.
ساد الصمت الشياطين، وعاد «أحمد» يقول: كان واضحًا أن تركيبَ الطائرة كان في الحزام الذي وجدناه مع الرجل الغريق … ولم يستطع بقية الرجال تركيب الطائرة، وهكذا لَجئوا إلى «كروسمان» الذي أدرك عندما رآنا في المنطقة أنه في خطر، وقرَّر أن يقوم بتركيب الطائرة والهرب بها … وهكذا قضى على الرجل الذي لحقتُ به وهو يلفِظ آخرَ أنفاسه. وركب مكانه …
فهد: سنعود ومعنا «كروسمان» …
أحمد: أهمُّ من هذا … معنا الصندوق الخطير!