الفصل الأول
مقدمة في جبال أذربيجان
(خسرو أمير إيران وولي عهدها جالس على صخرة في زي بعض التجار بقرب عينٍ
جارية وسط مرج في الجبال ومعه صديقاه باذان وفيروز في زي التجار مثله وكلهم هاربون خوفًا
من
غضب الملك هرمزد.)
باذان
(يهم بالسير)
:
لا تجازف بنظرةٍ عجلاء،
واحذر اللفظ فاللسان جواد،
إن كبا لا تقيله الأعذار.
خسرو
:
لا تخف إننا بدار أمان.
باذان
:
لا تكون الأخطار أفتك إلا
حيثما يشعر المخوف أمانًا.
فيروز
(بإشارة المستهين بالخطر)
:
لو أُسود الآجام ثارت إلينا
ما فزعنا من ثورة الآساد.
باذان
:
نحن نسعى مخافة من مليك
باعه كالشعاع في الآفاق،
فحذارِ الأمان (ينظر لخسرو) يا مولاي!
قد أتاني بالأمس ليلًا غلامي
يستحث المطي، قال سيأتي
بعد حين من طيسفون رسول
بكتاب لا يبغي أن يراه
غيرنا نحن؛ فاستعد لتلقى
من سيأتي، وسوف أمضي إليه
عند رأس الشعاب كيما أراه
في خلاء بنجوة من رقيب، وسآتي به بزي صديق
من تجار البلاد.
خسرو
:
سر بسلام.
حرس الله واديًا أنت فيه.
باذان
(يحيِّي خسرو ويخاطب فيروز)
:
قُم معي، قد يجدُّ أمر خطير؛
وحري بمن يسير لأمر
ذي جلال أن يستعين رفيقًا.
(فيروز ينهض وينظر إلى خسرو مستأذنًا.)
خسرو
(يأذن له)
:
جعل الله كوكب السعد يعلو
ما تسايرتما وعودا بيُمن.
(يخرجان بعد التحية.)
(لنفسه حزينًا)
كيف أهنا وفي فؤادي هموم
تتوالى به كموج البحار؟!
إن تلك الحياة سعي وكدح
في مسير إلى سراب.
(يدخل الراهب سرجيس وهو يعرف خسرو على أنه التاجر بنداد.)
سرجيس
:
صحيح،
قد عرفتَ الحياة من جانبيها.
(ينظر خسرو مبغوتًا إلى الراهب.)
خسرو
:
أنت سرجيس؟ مرحبًا بصديقي (يبتسم له).
سرجيس
:
قد عرفتَ الحياة من جانبيها (يجلس).
وخبرت الأيام حلوًا ومرًّا،
ما تدوم الآلام إلا لحين،
ويلوح السرور مثل السراب.
لِمَ تبقى هنا وحيدًا؟
خسرو
(بتعجُّب)
:
وحيدًا؟!
أنا في الجمع قد أكون وحيدًا،
فإذا ما انفردت كنت بجمع.
سرجيس
:
يا صديقي بنداد، لم أرَ يومًا
مثل تلك الهموم عند الشباب.
خسرو
(بنداد)
:
من يذوق الحياة صرفًا يعاني ما أعاني …
ما الهمُّ إلا وليد.
سرجيس
:
لخيال الأشباح يا بنداد.
خسرو
:
أيها الشيخ لا تُحيِّر فؤادي
في ثنايا المقال.
سرجيس
:
ليس عجيبًا
أن نخاف الذي يُخاف، ولكن
نحن نخشى ما تخلق الأوهام.
خسرو
:
كل ما في الوجود همٌّ وخوف،
وكفى أننا أَسارى المنون.
سرجيس
(ضاحكًا)
:
ليس في الموت ما يُخيف، ولكن
خشية الموت خشية المرء ممَّا
ليس يدري ما تحتويه ستوره.
خسرو
:
لست تخشى من الممات؟ نفاق …
أيُّ حيٍّ لا يرهب الآلام؟
سرجيس
:
ليس خوف الممات من آلامه.
لن يحب الأنام ريح المنايا،
ولئن هبَّ في عطور الزهور.
قد يعاني المريض وقْع السيوف،
ويلاقي في السُّقْم طعم الحُتُوف،
ألمٌ دونه الممات، ولكن
سورة البُرْء باسم الآلام.
خسرو
:
كم بهذي الحياة من آلام!
ليس خوف الممات كل الهموم.
سرجيس
:
قد تذوَّقتُ كل حلو ومُر،
ولبِستُ النعماء والبأساء،
وعرَفتُ الورى بغير غطاء،
يخدع الناظرين باللألاء،
فرأيتُ الهموم بنت الأماني،
لا يرى الهمَّ زاهدٌ في الحياة.
خسرو
:
أيُّ قلب خلا من الآمال؟
سرجيس
:
إن من طالَع الحقيقة يومًا،
ورأى نورها بغير غطاء،
لم يجد في الحياة شيئًا جديرًا بالتمني.
خسرو
:
أرى الحياة جحيمًا،
إن تجردت من أماني فؤادي.
سرجيس
:
يا بُنيَّ استمع لقصة شيخ …
كنت أرعى في السهل يومًا، فلاحت
لي رءوس الجبال مثل اللآلي،
تتلألأ في كل لون بهيج،
في سنا الشمس أو ظلال الأصيل،
فأثارت في القلب شتى شجوني
كي أراها.
خسرو
:
فأنت مثلي شجيٌّ،
ليس يخلو من الأماني فؤادك.
سرجيس
:
صبِّر النفس واستمع لحديثي؛
فدعاني الشباب والجهل يومًا
لأروي أُوام قلبٍ فتي؛
فعلوتُ الجبال أسعى حثيثًا،
كلما دبَّ في عروقي كِلال
لاح لي رأسها يُضيء بهيجًا.
وإذا بي من بعد لَأْيٍ وجهد
قد بلغت الذُّرى، ولم ألقَ حولي
غير صخر مهشَّم وثلوج.
خسرو
:
أنت في العلم مُوبَذ يا صديقي.
أي دِين ملأتَ منه فؤادك!
سرجيس
:
علمتني الحياة، لم ألقَ علمًا
من رجال لهم من الدين رزق.
خسرو
:
أيُّ بأس إن كان في الناس قوم
من هداة للدين؟
سرجيس
:
للناس عين
تبصر الكائنات. حسبي بعيني
من دليل على إلهي. ولكن
هؤلاء الأولى تُسمِّي هداةً،
علَّموا الناس أن في النار سرًّا؛
لينالوا من معبد النار رزقًا.
خسرو
:
قد كرهتَ النيران إذ كنتَ ممَّن يعبدون
المسيح يا سرجيس.
سرجيس
:
أنا لا أعبد المسيح، ولكن
أنا عبد الإله رب المسيح،
وسواءٌ من ضلَّل الناس عندي
أن يكونوا موابذًا أو قُسُوسًا.
خسرو
:
هكذا نحن لا نَدين لنار،
ليست النار للأنام إلهًا.
هي رمز لقدرة الله فينا،
والإله المعبود في الكون فرد.
سرجيس
:
هو هذا. لقد سجدنا جميعًا
لإله مدبِّر للوجود.
ألسنٌ عدَّة ومعنًى وحيد،
كاختلاف الثياب والشخص فرد.
خسرو
:
أنت أفسحت لي المقال، وما لي
في مجال الكلام من مقدار.
أنا من أهل سلعة وشراء،
ومجالي في ضجة الأسواق.
سرجيس
:
لا أرى فيك تاجرًا يا صديقي.
لا، فما هكذا يكون التجار.
أنت في القول لوذعي، وتعطي،
وخفيف على ظهور الجياد.
أنت لا شك من جدود قدامى.
لست من أهل سلعة وشراء.
خسرو
(بشيء من الارتياع)
:
أيها الشيخ أخطأتك عيون
لم ترَ الناس.
سرجيس
(مطمئنًا)
:
لن تُراعَ؛ فإني
لا أبيع الصديق بالأموال،
لا تحاول إخفاء ما أظهرتْه
نسمات الأنفاس اختلاسًا.
(يهمُّ منصرفًا.)
خسرو
(فازعًا)
:
أي شيء تظن؟ (يتكلف الابتسام.)
سرجيس
:
لا تخشَ شيئًا.
وسلام عليك مني (يخرج).
خسرو
:
إلهي!
أكتم السر ما استطعتُ، وتأبى
نظرات العيون إلا اطلاعًا.
(تدخل شيرين بخفة كمن يريد أن يفاجئ الجالس، ومعها حمَل صغير ترمي
به قريبًا منها.)
شيرين
(تصيح مقلِّدة للحمَل)
:
ماء! ها أنا أرعى بين
المروج وحيدًا (يلتف خسرو مسرعًا ثم يهم مرحِّبًا بسرور).
خسرو
:
زهور تلك أم عيناك إذ تبدين في طهر؟
وصفحة وجهك اللألاء لاحت أم سنا البدر؟
وأنفاسك أم يسري نسيم ساعة الفجر؟
شيرين
:
لم تكن أمس ها هنا.
خسرو
:
كان عندي
بعض صحبي، وجئت بعد الغروب.
شيرين
:
جئت حينًا هنا فألفيتُ أرضًا
غير ما اعتدت إذ تكون بجنبي.
كان لون الزهور غير بهيج،
وخرير المياه غير جميل.
خسرو
(يمسك بيدها)
:
يا حياتي لأنتِ روح حياتي.
إن زهر الرُّبى يهز فؤادي؛
إذ أرى لون وجهك الوضَّاء،
وخرير المياه أسمع منه
همس نجواك في الحديث البريء.
شيرين
(بمرح)
:
أصبح اليوم صاحيًا بسَّامًا.
خسرو
:
ما أحب الزهور والقَطر فيها
مثل حب البلُّور يبعث نورًا،
ونسيم الربيع يحمل منها
نفحات الفردوس في أنفاسه!
شيرين
:
هل بإيران مثل تلك المروج؟
خسرو
:
كان فيها مراتع وجِنان،
يمرح القلب بينهن ويلهو.
شيرين
:
كان فيها؟ واليوم؟ أرض يباب؟
خسرو
:
إن أرضًا تكون منكِ خلاءً
لا تكون الجِنان فيها حسانًا.
شيرين
(ضاحكة)
:
أيُّ قول بنداد؟ هل ذاك صدق؟
خسرو
:
لا تشكِّي فيما أقول.
شيرين
:
ولكن،
كم بإيران من بلاد عظام،
وقصور فيها العجيب العُجاب!
خسرو
(يفكر قليلًا ثم لا يتمالك أن يُظهر التأثر)
:
كم بها من عجائب!
شيرين
(بشغف)
:
بنداد!
أصحيح هناك قصر لكسرى
قد بناه من جوهر؟
خسرو
(بتأثر)
:
قصر كسرى؟
شيرين
:
أنت أبصرته؟
خسرو
:
لقد كنتُ فيه.
شيرين
:
كيف؟
خسرو
:
أهديتُ مرة أهل كسرى
بحرير مذهَّب وعطور،
من بلاد الخاقان.
شيرين
(بمرح)
:
أنت سعيد.
ليتني كنت تاجرًا.
خسرو
(ضاحكًا)
:
شيرين،
ليس كل التجار مثلي، فإني
كنت ذا حظوة وحظ كبير.
شيرين
(بسرور وحماسة)
:
هل رأيت الملوك في المهرجان؟
خسرو
:
سرت يومًا في مهرجان الملوك.
شيرين
:
أنت أبصرت كل شيء بديع.
آه لو لم أكن فتاة!
خسرو
:
لماذا؟
شيرين
:
لأرى هذه البلاد العجيبة.
خسرو
:
أتحبين أن تعيشي بقصر
شامخ في حدائق غنَّاء؟
(تفكر قليلًا ثم تقول):
شيرين
:
هل أرى فيه مطلع الشمس صبحًا،
وتهب الرياح فيه شِدادًا؟
خسرو
:
لا، فما دونها حجاب منيع.
شيرين
:
هل يبل الغما شعري إذا ما
نزل الطلُّ في مساء الربيع؟
خسرو
:
لا.
شيرين
:
وهل فيه عين ماء ومرعًى
لشياهي؟
خسرو
(ضاحكًا بحماسة)
:
لا، ليس في القصر مرعى.
شيرين
(مظهرة عدم الرضا)
:
لست أهوى سوى حياة جبالي،
وسط ما اعتدت من رياح وغيم.
إن تلك القصور مثل قبور
عاليات البناء فوق رفات.
خسرو
(يضغط على يدها ضاحكًا)
:
أنتِ شيرين من وعول الجبال،
غير روح خلابة وذكاء.
شيرين
(تُغيِّر مجرى الحديث)
:
يا صديقي بنداد، قلت ستبقى
ها هنا. لا تسير مثل التجار.
خسرو
(مفكرًا)
:
همَّتي للمسير تدعو، ولكن
ها هنا يمسك الفؤاد عناني.
شيرين
:
في بلادي تجارة وشراء.
يا إلهي! لكن أراني برغمي
لا أحب الشراء في الأسواق.
فابقَ في هذه الجبال مقيمًا،
ثم كن راعيًا معي في بلادي.
خسرو
:
حبَّذا أن أعيش قرب حبيبي،
وسط تلك الجبال أرعى سوامًا.
شيرين
:
لم يكن لي أخ، وشيخي كبير
أقعدته السنون يا بنداد.
خسرو
:
ليت أني ملكت أمر قضائي.
شيرين
:
إن قلبي يحس شيئًا عجيبًا.
لست أدري بنداد ماذا أقول.
خسرو
:
أي شيء يحس، شيرين.
شيرين
:
إن قلبي يراك أبعد ممَّا
تدَّعيه في ظاهر الأقوال.
أنت هذا أراك مني قريبًا،
غير أني أحس بُعدك مني.
خسرو
:
إن هذي أوهام قلب صغير،
لا تخافي ممَّا يحدث شيئًا.
شيرين
(بحزن)
:
ونذير الأحلام ماذا تراه؟
خسرو
:
قد تكون الأحلام رؤيا خيال،
خبِّريني ما هذه الأحلام؟
شيرين
:
كلما أغفت العيون أراني
في جنان فسيحة وظلال،
وحبيبي بنداد قربي يغني،
ويشم الزهور في إطراق،
وإذا بي أراه طار بعيدًا،
بجناحين مثل لون السماء،
ثم يُلقي إليَّ زهرة آس،
وأناديه كي يعود فأصحو.
خسرو
:
هو حلم البُشرى بعد قريب،
واجتماع لا يعتريه فِراق.
شيرين
:
حبَّذا لو يكون. قُل بنداد (تقرب إليه).
لستَ مثل التجار يا بنداد.
خسرو
(بارتباك)
:
أنا منهم.
شيرين
:
ربَّاه! إنك تعطي
كعطاء الملوك غير ضنين،
وإذا ما ركبتَ كنتَ خفيفًا،
لا كما يركب التجار ثقالًا.
خسرو
(متظاهرًا بالخِفَّة)
:
كنت في أول الصبا عند قوم من رعاة،
نشأت فيهم صغيرًا،
فتعلمت منهم كيف أنزو،
وتعلمت كيف أرمي بقوسي؛
فدعي ذاك.
(يجعل يده حولها بخفة.)
وانظري العشب يكسو
حاليات الرُّبى بوشي الربيع.
شيرين
:
ما أحَب الربيع! عشب وزهر،
ونسيم وجدول وطيور.
خسرو
:
نِعمَ وصف الربيع! لكن أراه
وصف جسم وليس فيه حياة.
وحياة الربيع قرب حبيب
يدرك القلب كل حسن بقربه.
(يُسمع صوت الحمَل بعيدًا وتقوم شيرين جارية نحوه.)
شيرين
:
حمَلي!
خسرو
(ضاحكًا)
:
لا تسِر بعيدًا، حِذارًا
من ذئاب الفلاة.
(يدخل فيروز مسرعًا.)
فيروز
:
(يركع فيروز وينظر للأرض.)
أرهف السمع! أي لفظ مريع!
أر بهرام سيد الملك غصبًا،
وغدا الملِك أكلة للذئاب.
(تعود شيرين وتقف مبهوتة وهي ترى فيروز مطرقًا وتتكئ على جذع شجرة
قريب.)
خسرو
:
هكذا قد صحوت، من أي حلم!
(يدخل باذان مع الرسول بفزع وغضب.)
(يركع باذان ويسجد الرسول.)
باذان
:
شاه خسرو (مطرقًا) قد شاءت الأقدار.
خسرو
(بحزن)
:
ما جنى والد على مولود
مثلما قد جنى عليَّ مليكي؛
قد رماني إلى الحياة وليدًا،
قد رماني إلى الفيافي كبيرًا.
أنا بالمُلك في سلاسل قيد،
كنت لولاه مثل هذا الأنام.
غير أني نسيت (يلتفت باحثًا عن شيرين فيراها واقفة).
مهلًا رفاقي (يلتفتون نحو شيرين بفزع)
لا تراعوا؛ فإنها شيرين.
أنظروني حتى أعود. (يقوم إلى شيرين) تعالي،
لا تُراعي شيرين. ماذا دهاكِ؟
(تبقى شيرين واقفة ويُظهر الجماعة التعجب ويغضب باذان.)
شيرين
(بيأس)
:
يا إلهي! تحقق اليوم حلمي.
لست بنداد صادق الأنباء.
خسرو
(برقَّة)
:
أنا هذا شيرين، هيه تعالي.
شيرين
:
أنت خسرو ولست من أندادي.
خسرو
:
لست خسرو. خلعت ثوبًا قديمًا
كنت فيه بذلك العنوان.
باذان
(بغضب)
:
شاه خسرو!
خسرو
:
باذان دعني وحيدًا،
واغربوا بالغرور والمُلك عني،
وتعالي إليَّ شيرين.
شيرين
(باكية)
:
يا أعز المنى وأقصى رجائي!
أفلتت من يدي منية نفسي.
كنت في جنة وكانت خداعًا،
ثم زالت كجنة في منام (تهم بالسير).
خسرو
(يسير وراءها)
:
لا تسيري بحق حبي وقلبي.
شيرين
:
أنا أهواك راعيًا لا أميرًا،
وفقيرًا مثلي يكد ويسعى.
خسرو
:
لست أبقي على غناي ومُلكي.
شيرين
:
كان أقصى المنى حياتك قربي،
وأحب الأوقات ساعة لقيا،
وألذ النسيم ما هب حلوًا
حاملًا منك طيب الأنفاس.
خسرو
:
لا تسيري شيرين عني، فإني
لست أحيا إلا على آمالي.
شيرين
(تسير باكية)
:
سأقيم الحياة أندب حظي،
ثم أقضي حق الهوى من بكائي،
وسميري في كأس دمعي خيال
منك لا أستطيع منه فراقًا (تخرج).
(يرتمي خسرو على صخرة يائسًا.)
خسرو
:
ذلك المُلك مثل نار حريق،
تحرق الأقربين قبل البعيد.
فدعوني فلا أريد دماءً
مهدرات، ولا حياة غرور.
باذان
:
أي قول تقول؟ أين دماء
من جدود بواسل أبطال؟
خسرو
:
وسموا الصخر بالصلابة حتى
جعلوه لكل قاسٍ مثيلًا،
وأرى الماء نابعًا منه يجري
في صفاء النسيم عند الأصيل،
ولكَم في الصدور صخر صليب
لا تُرى فيه قطرة من معين!
فيروز
:
شاه خسرو أجب، وإلا فمن ذا
غير خسرو يجيب عند الخطوب!
خسرو
:
قد ألاقي العدو بالسيف حتى
يحكم السيف بين بعض وبعض؛
وأعاني الحرمان والفقر، حسبي
ما يقيم الحياة من أزواد.
غير أن الجوى المُمِضَّ إذا ما
خاب قلب في والد أو صديق.
قد رماني أبي فلما رماني
ضاع منه حسامه البتار،
وإذا ما أضاع مُلك جدودي،
عاد لي كي أقيم صرحًا صديعًا.
باذان
:
لم تكن يا بنيَّ يومًا طليقًا،
كنت للمُلك مُذ وُلِدت رهينًا.
ليس حمل التيجان زهوًا لَعَمْرِي،
أثقل الحِمل فوق رأس الملوك.
خسرو
:
ليتني كنت راعيًا في جبال،
أبعد الناس عن هموم الملوك.
باذان
:
لا تقل قالة السقيم إذا ما
أجهضته الأوجاع.
خسرو
(غاضبًا)
:
يا باذان،
ليس للمُلك في فؤادي مكان،
قد كرهت الغرور.
باذان
(غاضبًا)
:
وا ذُلَّاه!
إن تكن بالهوى قنعت، فجرِّد
من دماء الملوك مجرى عروقك،
وتقنَّع بالذل مثل فتاة
حولها كل حولِها في البكاء.
(يقف خسرو غاضبًا.)
خسرو
:
قَدْكَ باذان، لو سواك رماني
لم أجبه بغير حد حسامي.
باذان
(يقف عالي الرأس غير متردد)
:
قد تعرضتُ للهلاك بنفسٍ
تجد الموت أهون الأخطار.
لم أكن أفتديك بالروح لولا
نصرة الحق.
خسرو
(يقل غضبه)
:
مثل هذا خطابي؟ (يغيِّر لهجته إلى تودُّد.)
أترى يوم أدركونا بشِعبٍ
في ثنايا الجبال بين الفيافي؟
قد تعرضت للعدو بصدري،
باذلًا في الولاء مهجة نفسي.
خسرو
(تتغير لهجته إلى المسالمة)
:
لست أنسى ما كان منك، ولكن
يُفسد المنُّ بالغ الإحسان.
باذان
:
لم يكن ما أقول منًّا لَعَمْرِي.
أنا أفديك في الخطوب بنفسي.
ليس لي مطمع سوى أن سيفي
ينصر الحق ما بدا في جهاد.
خسرو
(يفكر قليلًا صامتًا ثم يقول لنفسه)
:
هي تلك الحياة، ما دمتَ فيها
فاضطرب في خضمها الفوار (يمد يده إلى باذان).
أي صديقي، تناسَ ما كان مني.
باذان
:
أنا مولى الأمير، ليس بقلبي
غير ما يحمل الولي المحب.
خسرو
:
ما بهذا شككت يومًا، ولكن
غلب الهم همتي فاعتذارًا،
ستراني من بعدُ غير كليل.
باذان
:
يا مليكي، أثلجت قلبي بقولٍ
فيه عزم الملوك.
(ينظر لصحابه بصرامة) هيَّا رفاقي!
خسرو
:
أسرعوا واركبوا الخيول؛ فليست
تُستحب الأناة عند الكروب.
(يسرعون بالاستعداد ويخرجون بعد التحية.)
خسرو
(بحزن)
:
أنا هذا في عُدتي ولباسي،
وسأمضي لكي أبلَّ أوامي
من وداعي، ولا يلمني صديق.
باذان
:
لا يلوم الصديق لكن يواسي.
(يقوم خسرو ويركع باذان.)
خسرو
:
موعدي ساعة لأقضي حقوقًا
لفؤادي من مدمعي ونحيبي (يخرج).
باذان
(ينادي في أصحابه الذين في الخارج)
:
أسرجوا، والبسوا، وهمُّوا سِراعًا!
(نهاية الفصل الأول.)