قلعة … في قلب الجليد!
انطلق الطبق الطائر بسرعة كبيرة، وبداخله «أحمد» و«عثمان»، بعد أن قامت المخلوقات العجيبة القصيرة بداخله بأسرهما.
وتأمل الشيطانان المكان المسجونَينِ فيه بداخل الطبق الطائر … كان أشبه بمشهد في فيلم عن الخيال العلمي؛ فالجدران مُصفَّحة من الصُّلب القاسي، وهناك بعض الأجهزة الإلكترونية العجيبة الشكل، مزودة بشاشات مغناطيسية، ولمبات دقيقة، تضيء وتنطفئ بترتيب خاص، وينبض فوق شاشاتها أشكال مبهمة، ونقاط لامعة، كأنها نجوم بعيدة، وكان هناك مقعدان صغيران من لدائن البلاستيك القوي، ما إن جلس فوقهما الشيطانان حتى التف حول معصمَيْهما قيد بلاستيك من المقعدَينِ، وكان من الواضح أنَّ القيود مصنوعة من لدائن بلاستيكية قوية كالصلب.
وكان رُكَّاب الطبق الطائر من المخلوقات الفضائية لا يزيد عددهم على أربعة أشخاص، كانوا يتحركون في صمت بدون أن ينطقوا بكلمة واحدة، وإنما كانت خطواتهم وحركاتهم أشبه بالحركات الآلية، وانشغلوا جميعًا في قيادة الطبق الطائر، وتفحُّص الشاشات الإلكترونية المُعقَّدة، والتعامل معها، وكان واضحًا أنهم لا يخشون الشيطانين، ولا يتوقعون شرًّا منهما.
همس «عثمان» ﻟ «أحمد»: أين بقية الشياطين؟
أجاب «أحمد» هامسًا: صَه، ولا تنطق.
وبلغةِ العيون أكمل «أحمد»: لا بد أنَّهم يُراقبوننا بكاميرات خفية، ومن المؤكد أنهم يعرفون لغتنا العربية، بل وأغلب اللغات العالمية المُتداولة، أمَّا بقية الشياطين فأظن أنهم مأسورون في بقية الأطباق الطائرة.
عثمان: ولكن إلى أين سيأخذوننا؟
أحمد: في الغالب إلى مقرهم داخل كرتنا الأرضية، في نقطةٍ ما بالقطب الشمالي.
عاد «عثمان» يُراقب المخلوقات القصيرة الغريبة، وقال بعينَيْه: إنَّ منظرهم عجيب، ومن المُدهش أننا لم نسمعهم ينطقون أو يتحدثون أبدًا!
أحمد: لعل هناك طريقة أخرى يتفاهمون بها فيما بينهم، مثل التخاطب الفكري، وعن طريق إرسال واستقبال الموجات العقلية بطريقة أشبه بالموجات اللاسلكية، وبذلك يتم التفاهُم بين تلك المخلوقات دون حاجة للنطق.
عثمان: هذا مدهش، يبدو أنهم متقدمون علميًّا عَنَّا كثيرًا!
أحمد: هذا مؤكد، ولا بُدَّ أنَّ مكان قاعدتهم الأرضية في قلب الجليد يُمَثِّل قلعة علمية هائلة.
وغرق «أحمد» في أفكار عديدة، كان أهم سؤال يشغله هو: لماذا قامت تلك المخلوقات الفضائية بأَسْرهم؟ ولماذا لم تتخلَّص منهم بحزمة إشعاعية قاتلة من أسلحتهم الفتاكة؟ فكل حوادث المواجهة بين سكان الأرض وهؤلاء الفضائيِّينَ كانت نتيجتها موتًا ودمارًا لمَن تعرَّض لهم من سكان الأرض، فلماذا أبقت هذه المخلوقات الغامضة عليهم أحياء حتى تلك اللحظة؟
وكانت الإجابة الوحيدة المُقْنِعَة هي أنَّ هؤلاء الفضائيِّينَ يبغون الحصول من الشياطين على بعض المعلومات الخاصة، ولكن أية معلومات يحتاجها هؤلاء الغرباء، وهم على تلك الدَّرجة العالية من التقدم العلمي؟
ولفت انتباه «أحمد» رسم كبير يُشْبه الجمجمة، ولكنها جمجمة مُفْزِعة مُخِيفة؛ فتجويف العينَينِ واسع عميق، ومكان فتحة الأنف ضخمة، والفم صغير دقيق، والتفت «أحمد» نحو «عثمان» وكان من الواضح أنَّ «عثمان» أيضًا لاحظَ نفس الرسم، وبلغة العيون قال «عثمان»: لا بد أنَّ هذا الرَّسم يُمَثِّل شكلًا لجمجمة هذه المخلوقات، فرءوسها كبيرة مخيفة الشكل.
أحمد: أرجو ألا تكون هذه الجمجمة هي شعارهم أيضًا؛ وإلا لكان معنى ذلك أنهم مخلوقات دموية، مثل القراصنة الذين كانوا يتخذون الجمجمة البشرية والعظام المتقاطعة شعارًا لهم.
وارتجَّ الطبق الطائر قليلًا، ثم أحسَّ الشيطانان كما لو كانا يهبطان بمصعد بسرعة خارقة كادت توقف قلبَيْهما.
والتقط «عثمان» أنفاسه وهو يقول: إننا نهبط، لا بد أننا قد وصلنا إلى محطتنا النهائية.
هتف «أحمد»: «من المؤسف أننا لا نستطيع مشاهدة عملية الهبوط»، وما كاد «أحمد» يتم عبارته التي نطق بها رغمًا عنه حتى انزاح جزء من الجدار المواجه لهما، وظهر خلفه جدار زجاجي شفاف.
وعَبْرَ الجدار الشفاف شاهد الشياطين أعجب مشهد يمكن أن تقع عليه عينُ إنسان.
فمن أسفل كانت قمم جبال الجليد بارزة ناتئة، كأنها رءوسُ عمالقةٍ مُتلاصقة منذ آلاف السنين، وقد انتشر اللون الأبيض إلى نهاية البصر، لون الثلج والجليد اللذين يبعثان بالرَّجفة في بدن الإنسان لمجرد رؤيتهما.
وتوقف هبوط الطبق الطائر على ارتفاع يزيد على الألف متر لأعلى تلك القمم البيضاء الشاهقة، ومن الأمام ظهر الطبقان الطائران الآخَران، وقد أخذت الأطباق الطائرة الثلاثة شكل مثلث، وفي وقت واحد خرجت من الأطباق الطائرة ثلاث حزم من الأشعة، تتجه في نقطة واحدة فوق إحدى قمم جبال الجليد بأسفل، وفي نفس اللحظة بدأت قمة الجبل الجليدي تتشقق وتنفصل عن بعضها، كاشفةً هوةً سحيقة بداخلها.
واندفعت الأطباق الطائرة إلى قلب جبل الجليد لتختفي في جوفه، ثم عاد الجبل الجليدي ينطبق كما كان من قبل، تلاقَتْ أعين «أحمد» و«عثمان» في ذهول ودهشة وتعجُّب لا حدَّ لها، وقال «عثمان» بعينه: هذا مُذهل تمامًا! إنَّ هؤلاء الفضائيِّينَ خارقو القوة، وعلى درجة هائلة من العلم.
أما «أحمد» فقطب حاجبَيهِ، وقال: «أعتقد أننا دخلنا مصيدة يستحيل الخروج منها»، وأخيرًا استقر الطبق الطائر فوق الأرض، وتراجعَتِ القيود البلاستيكية التي كانت تُقيِّد أيدي «أحمد» و«عثمان»، واختفت بداخل ذراع المقعد.
عثمان: لقد وصلنا إلى نهاية الرِّحلة، وأعتقد أننا سنشاهد في هذا المكان ما لم يحلم أي إنسان بمشاهدته.
أحمد: من المهم العثور على بقية الفريق أولًا.
فجأةً، دوى صوت عميق، أجش، معدني النَّبرات، كأنه خارج من فوهة بئر حديدية الجدران عمقها ألف متر، وقال الصوت بلهجة باردة متقطعة: مرحبًا بكم أيها الأرضِيَّان في قاعدتنا الدائمة بكوكبكم الأرضي.
تلفت «أحمد» و«عثمان» حولهما مندهِشَينِ، محاوِلَينِ العثور على مصدر الصوت، ولكنه كان يبدو كما لو كان يأتي من كل مكان، بل من الهواء الذي يُحيط بهما.
صاح «أحمد»: مَن أنتم؟ ولماذا أتيتم كوكبنا وأخفيتم أنفسكم؟ وماذا تريدون منا؟
أجاب الصوت: كل هذه الأسئلة ستعرفون إجابتها في الوقت المناسب، وأنتم هنا في ضيافتنا، وأرجو أن تسلكوا سلوك الضيوف، وإلا فأنتم تعرفون كيف يكون ردنا قاسيًا عندما نغضب.
عثمان: وأين بقِيَّتُنا؟
قال الصوت: سوف تجتمعون معًا بعد دقائق، هيا، فلتتفضلوا إلى الخارج.
تقدَّمَ «أحمد» و«عثمان» نحو باب الطبق الطائر في اللحظة التي تقدَّم فيها نحوهما مخلوقان من المخلوقات البشعة التي أسرتهما، وكانت أيدي المخلوقَينِ فوق مسدساتهما الإشعاعية.
تلاقَتْ نظرات «أحمد» و«عثمان»، وكان عليهما التزام الهدوء التام.
وعاد الصوت الخفي يقول: هذا أفضل كثيرًا.
وبدا كأنه استطاع بطريقة ما قراءة أفكارهما.
سار الشيطانان خارجَينِ من الطبق الطائر، ووجدا نفسَيْهما بداخل ساحة واسعة لا يقل قطرها عن ألف متر، وكان هناك عدد من الأطباق الطائرة يزيد على الخمسة، وقد انهمَكَتْ بعض المخلوقات الغريبة الشكل في صيانة بعضها والكشف عليها.
وعلى مسافةٍ كانت هناك قضبان حديدية تأتي من فوهة بعيدة، وتنطلق إلى مكان ذي إضاءة مُعتمة لا تُبيِّن تفاصيله، وكانت الإضاءة كلها في المكان قليلة شاحبة لا تُفصح عن كثير من التفاصيل.
وألقى «أحمد» نظرة لأعلى، فشاهد السقف مُرْتفعًا لا يقل علوه عن ألف متر، وقد بُطِّنَ بألواح بلاستيكية، كان واضحًا أنها مصنوعة بطريقة تجعلها أشد قسوة من الصلب، وعازلة للحرارة بطريقة مدهشة، كما كان يلمع بين ألواحها شرائط عريضة ذات لون برتقالي لامع، تبدو مُتوهِّجة وذات حرارة كبيرة.
وأحس «أحمد» و«عثمان» بالحرارة الشديدة بسبب ملابسهما الثقيلة التي تم أسرهما بها، فبدءا يخلعانها.
وتقدَّم أحد المخلوقات منهما، وتناول ملابسهما الزَّائدة في صمت، وسأله «عثمان»: هل سننتظر كثيرًا هنا؟
ولكن المخلوق انصرف كأنه لم يسمع شيئًا، وجاء الصوت يقول: لا فائدة من محاولة التَّعامل أو التَّفاهم مع مخلوقات «الكاوكي»، فليس لها القدرة على التفاهم معكم أو الحديث.
أحمد: هذا معناه أن هناك طبقة أرقى في أيديها الأمور بهذا المكان وفوق كوكبكم؟ – هذا صحيح تمامًا؛ ففي كل كوكب هناك السادة، وهناك الخدم، حتى في كوكبكم … وأقبلت قاطرة صغيرة فوق القضبان الحديدية وتوقَّفَتْ أمام «أحمد» و«عثمان».
– تفضَّلوا … جاء الصوت العميق البارد يدعوهما للدخول.
وتَقَدَّم «أحمد» و«عثمان» واستقرا بداخل القاطرة الصغيرة التي لا قائد لها، ولا مُحرِّك لها، والتي اندفعت بهما إلى داخل نفق الجليد.
قال «أحمد» (كأنه يختبر شيئًا ما): أعتقد أن هذه القاطرة تسير بالطاقة الكهرومغناطيسية.
ووافقه الصوت المعدني: هذا صحيح تمامًا.
ابتسم «أحمد»؛ فلم يكن بتساؤله يبغي الحصول على إجابة، وإنما ليتأكد من أنَّ ذلك الصوت المَعْدني يستطيعُ مرافقتهم في أي مكان، وهو ما تأكد منه.
وفكَّر «أحمد» … كان كلُّ ما شاهده الأطباق الطائرة … الطلقات الإشعاعية … القاعدة الخفية بداخل جبال الجليد … الطاقة الكهرومغناطيسية بصورة عملية … كل هذه أشياء يُمكن أن يصل إليها سكان الأرض في غضون خمسين عامًا أو أكثر بجهود العلماء، وهذا يعني أنَّ هذه المخلوقات الفضائية الغريبة ليست مُتقدمة عنهم كثيرًا.
توقف «أحمد» عن التفكير، وساد صمتٌ ثقيل، ولم يُجبه الصوت البارد المعدني هذه المَرَّة على أفكاره، وابتسم «أحمد» ابتسامة واسعة؛ كان هذا يعني أن تلك المخلوقات غير قادرة على قراءة أفكارهم، وهو ما أراد التأكد منه.
انتهت القَاطِرة من عبور النَّفق المظلم، وتكشَّفَت مساحة أوسع في الأمام، لها نفس نمط هبوط الأطباق الطائرة، غير أن مُسطَّحها كان أقل ارتفاعًا، وهناك بعض المباني القليلة المُتناثرة، وكلها — كما يبدو من شكلها — مصنوعة من لدائن البلاستيك المُقَوَّاة بخيوط الصلب، وكانت درجة الحرارة في ذلك الجزء أعلى من سابقتها، لدرجة جعلت «أحمد» و«عثمان» يشعران بالحرارة والعرق فوق جبهتيهما.
قال «عُثمان» باسمًا: عرق وحرارة شديدة في قلب القطب الشمالي، هذا أمرٌ لم تصل إليه أفلام الخيال العلمي.
توقَّفَتِ القاطرة الصغيرة، ولم يكن الشيطانان بحاجة لمَن يدعوهما إلى مُغَادرتها فغادراها، وتَقَدَّم مخلوقان من تلك التي دعاها صاحب الصوت المعدني البارد بمخلوقات «الكاوكي»، وكان واضحًا أنَّ هناك أوامر مُسبقة لها باستقبال «أحمد» و«عثمان» وقيادتهما إلى مكان مُعيَّن، سار المخلوقان في الأمام وخلفهما الشيطانان نحو أحد الأبنية القريبة، وهمس «عثمان» ﻟ «أحمد»: لأول مرة أشاهد الحراس يسيرون أمام الأسرى، سوف أحاول شيئًا.
توقف «عثمان» وانحنى على الأرض متظاهرًا بربط حذائه الذي لا رباط له، وفي نفس اللحظة استدار المخلوقان وعيونهما تومض ببريق لامع، وقد شَهَّر كلٌّ منهما مسدسه الإشعاعي؛ فرفع «عثمان» يدَيْه هاتفًا: لا تُطْلقا مُسدسيكما، لقد كنت أربط حذائي.
جاء الصوت البارد المعدني يقول: في المرة القادمة سيكون ثمن أية حيلة هو نهاية حياة أيٍّ منكما، ليس لحذائك رباط لكي تتظاهر بربطه، إنَّ الأوامر المعطاة لدى «الكاوكي» هي قتلكم عند أية محاولة منكم للهرب أو المقاومة.
عاد «عثمان» يمشي صامتًا مع «أحمد» … وبدهشة سأله «أحمد» بلغة العيون: إنني لم أفهم سر ما فعلت! كان يمكن أن تصيبك طلقة إشعاعية.
أجابه «عثمان»: لقد أردتُ أن أتأكد إن كانت هذه المخلوقات من نوع «الكاوكي» قادرة على رؤيتنا حتى بظهورها، وهو ما تأكدتُ منه، من المؤكد أنه لديها أجهزة خاصة للرؤية من الخلف غير عيونها، وهو ما يجعلها تسير أمامنا بلا خوف.
قَطَّبَ «أحمد» حاجبيه في صمت، كان أهم ما يشغله في تلك اللحظة هو العثور على بقية الشياطين، ووقتها فقط يمكن لعقله أن يفكر في كيفية الخروج من ذلك المأزق الرَّهيب، وتلك المصيدة الثلجية.
مَرَّةً أخرى ظهر رسم كبير لتلك الجمجمة البشعةِ الشكل على جدار أحد الأبنية البعيدة، فتلاقَتْ أعين «عثمان» و«أحمد»، وتوقَّفَ المخلوقان أمام أحد الأبنية المنخفضة، وكان هناك حارسان آخَران من نفس المخلوقات، تسلَّما «أحمد» و«عثمان» وقاداهما في ردهة صغيرة، وانتهيا أمام بابٍ من لدائن البلاستيك المُصَفَّحة، وأدارا مفتاحًا في قفله وفتحا بابه، ثم دفعا بالشياطين إلى داخله، وعاودا إغلاق الباب.
وبالداخل، كانت الزنزانة تحتوي على باقي الشياطين: «إلهام» و«ريما» و«مصباح» و«فهد».