مفاجآت مذهلة!
كانت فرحة الشياطين الستة بالتلاقي أخيرًا غامرة، وارتسمت الابتسامات والضحكات على وجوههم لأوَّل مرة منذ بدءوا الأحداث الأخيرة.
تساءل «أحمد»: أين كنتم؟ كنا نظن أنكم في بقية الأطباق الطائرة التي أسرتنا.
أجابت «إلهام»: لا، لقد تم اختطافنا قبلكما بأحد الأطباق الطائرة الأخرى، ولم يتسع الوقت لنا لنحذركما.
فهد: وما العمل الآن؟
وبلغة العيون والإشارات بدأ الشياطين يتفاهمون، واتفقوا على رواية واحدة بأنهم من علماء الأرصاد الجوية الذين أتوا لدراسة تأثير اتساع ثقب طبقة الأوزون على انصهار الجبال الجليدية بالقطب الشمالي، واتفقوا أيضًا على أن أفضل ما يفعلونه هو الانتظار والترقُّب، وتساءلَ «مصباح»: كان المطلوب منا هو الانتظار، فإلى متى سننتظر؟
ريما: ماذا تقصد يا «مصباح»؟
مصباح: أعني ألا يمكن لهذه المخلوقات أن تتخلص منا في أية لحظة؟
أحمد: لا أظن ذلك، وإلا لفعلوها منذ وقتٍ بدلًا من أسرنا، ولا بدَّ أنهم يريدون منَّا شيئًا ما؛ ولذلك قاموا بأسرنا بدلًا من محاولة التخلص منا؛ من المؤكد أنهم يريدون الحصول على بعض المعلومات منا.
تقلصت قبضة «عثمان» وقال بعينَيْه: إذا حاولوا الحصول على أية معلومات رغمًا عني سوف أنتقم منهم.
أحمد: لا أظُنَّ أنهم يلجئون للعنف في مثل هذه الأشياء، لا بد أن لديهم أجهزة يمكنها قراءة ما يدور في عقولنا بتوصيلها بنا، وكذلك يمكنها قراءة كل ما هو مُسَجَّل ومطبوع في خلايا عقولنا.
إلهام: هذا مذهل! إن هذا معناه نهايتنا المؤكدة إذا افتُضِحَ أمرنا، وكذلك نهاية مُنظَّمة الشياطين اﻟ «١٣».
ريما: دعونا ننتظر ولا نسبق الأحداث.
أحمد: إن ما يدهشني هو سلوك هذه المخلوقات، تُرى لماذا قاموا بسرقة القنابل الذرية وشحنات الراديوم والذهب، وكذلك اختطاف عالم الذرة الهندي؟
لم يردَّ أحدٌ على الفور، وقالت «إلهام» بعد لحظة تفكير: إنَّ لديَّ نظرية خاصَّة قد تحتمل الصواب والخطأ، فلعل تلك القنابل الذرية المسروقة يستخدمونها في الحصول على الطاقة اللازمة في هذا المكان.
أحمد: هذا مستحيلٌ عمليًّا؛ لأنه بانفجار القنابل الذرية لا يمكن التحكم بطاقتها، ولكن قد يكون صحيحًا لو أنهم استخدموا الراديوم المسروق في الانشطار النووي للحصول على الطاقة التي تُدير هذا المكان … الكهرباء، وأيضًا الماء، والذهب المسروق من البنك السويسري.
تساءل «مصباح»: وماذا يُمثِّل الذَّهب لديهم لدرجةٍ تدعوهم إلى سرقته؟
أجابت «إلهام»: مَن يدري؟! إن قيمة الذهب لدينا قيمة مادية، ولكنه قد يعني شيئًا آخَر لديهم، باعتباره مَعْدنًا نفيسًا يصلح لبعض بحارتهم أو لصناعة شيء خاص.
ريما: ولكن إذا كان هذا صحيحًا؛ فقد كان بإمكان هذه المخلوقات الحصول على مصادر للطاقة والذهب من كوكبهم بلا مشاكل، فلماذا لجئوا للحصول عليها من الأرض؟
أحمد: هذا سؤال جيد، وأعتقد أن الإجابة تكمن في افتراض وحيد، وهو استحالة عودة هذه المخلوقات إلى كوكبها لسبب ما؛ كأن تكون سفينة الفضاء التي تنقلهم إلى كوكبهم قد تعطَّلَت مثلًا، واستحالت عودتهم لكوكبهم؛ فاضطُرُّوا للحصول على ما يُريدونه من الأرض، بالرَّغم مما في ذلك من كشف لوجودهم فوق كوكبنا، وتعريضهم لبعض الخطر.
قالت «إلهام» مُفكِّرةً: هذا احتمال أقرب إلى الصواب.
عثمان: ولكن لماذا اختطفوا عالم الذرة الهندي؟
ريما: ربما ليُشرف على عمليات الانقسام الذري للراديوم للحصول على الطاقة.
مصباح: هذه كلها افتراضات سابقة لأوانها، وأعتقد أننا سوف نكتشف الحقيقة خلال وقت قصير.
إلهام: ما يُدهشني هو تلك الأغنية التي كان يُردِّدها أطفال «الإسكيمو» عن عودة أجدادهم، ولا بُدَّ أنهم يقصدون هذه المخلوقات التي أَسَرَتْنا، ولكن مَن الذي قام بتلقين هذه الأغنية للأطفال؟
أحمد: لا تنسي يا «إلهام» أنَّ هذه المخلوقات كانت تُلقي إلى سكان «الإسكيمو» بالهدايا، والأطعمة، والملابس، من أطباقها الطائرة، ربما يكون ذلك هو مصدر تلك الأغنية.
عثمان: كيف يفعلون ذلك؟ وفي نفس الوقت يقتلون أي شخص يحاول تتبعهم ومعرفة مكانهم، إن الأمور تبدو غامضة ومختلطة.
هزَّ «أحمد» رأسه مؤيدًا: بالفعل، إن هناك بعض النقاط الغامضة، ولا تفسير لها حتى الآن. وكان الشياطين يتفاهمون ويتبادلون حديثهم بلغة العيون والإشارات؛ لإحساسهم أنَّ هناك عيونًا خفية تُراقبهم، وآذانًا حادة تلتقط كلماتهم.
ومَرَّت لحظات من الصمت الثقيل، ثم قالت «ريما»: إنني أشعر بجوع شديد.
عثمان: وأنا أيضًا جائع، ولم آكل منذ ساعات طويلة.
وجاء الصوت المعدني البارد في الحال يسأل: ما الطعام الذي تُفضِّلونه؟ إنَّ لدينا هنا كل ما يتمناه الإنسان من طعام.
قال «عثمان» ساخرًا: ما رأيك في الجمبري المشوي، وشرائح الفيليه، ومعها عصير الأناناس، وبعض الأرز، والسَّلَطة الخضراء، وشرائح البطيخ المثلج؟
ضحكَتْ «إلهام» قائلة: إن لك شهية واسعة يا «عثمان»، هل تظن أنك ستجد هنا مثل هذه الأشياء؟
عثمان: وما الذي نملكه هنا غير التمني! إن أصحاب هذا الصوت الغبي يسألنا عما نريده من طعام كأننا نقيم في فندق فاخر.
– لا أحب مَن يدعوني بالغبي.
جاء الصوت أكثر برودة وحدة، كأنه صليل معدني قاسٍ، مليء بالوعيد والتهديد، وأكمل الصوت كأنه قادم من جوف بئر: إننا لا نقول ما لا نعنيه أبدًا، سوف تحصلون على كل ما أردتموه حالًا.
صاح «عثمان» غاضبًا: لماذا لا تظهر لنا أنت وبقية قومك؟
لم يُجاوِبْه الصوت هذه المرة.
عاد «عثمان» لصياحه الغاضب: ماذا تريدون منا؟ نحن لا نريد طعامكم فدعونا وشأننا، وارحلوا عن كوكبنا.
ومرةً أخرى لم يُجاوِبْه الصوت العميق، الأجش، البارد.
قال «أحمد» ﻟ «عثمان»: لا داعيَ للغضب يا «عثمان»، لن تغير كلماتك شيئًا من الوضع هنا.
وقبل أن تمر عشر دقائق انفتح باب الزنزانة الواسعة، وتقدَّم أحد المخلوقات الخضراء بلوحة معدنية مربعة، وَضَعَها في منتصف الزنزانة، ضغط على جزء بارز منها، وفي الحال برزَتْ منها أجزاء أخرى من كل جانب، فتحوَّلَتْ إلى منضدة عريضة، تستند على وسادة هوائية برزَتْ من أسفل، وخرج من جوانبها ستة مقاعد هوائية متصلة بها.
ترامق الشياطين الستة في صمت ممزوج بالعجب، وأقبل مخلوق آخَر، ووضع عددًا كبيرًا من الأطباق والشوك والسكاكين البلاستيكية الطرية فوق المنضدة، وتأمَّل «عثمان» إحداها بغيظ، وقالت عيناه: من المؤسف أنها لا تصلح كسلاح.
وأخيرًا أقبل الطعام يحمله مخلوقان من «الكاوكي» فوق صينية عريضة … جمبري، وشرائح البفتيك، والأرز، والسَّلَطة الخضراء، وشرائح البطيخ المثلج، وعصير الأناناس.
اتسعت عينا «عثمان» ذهولًا؛ وابتسم «أحمد» قائلًا: إن هذا يُعطينا نقطة لصالحنا؛ فهذه المخلوقات تعني ما تقوله تمامًا، إن الحياة هنا ليست بمثل هذا السوء الذي ظنناه في البداية.
عثمان: ولكن من أين أتوا بمثل هذه الأشياء؟ وكيف قاموا بتجهيزها بمثل هذه السرعة؟
أجابه «أحمد»: إن الأسئلة الكثيرة تُفسد الشهية.
جلس فوق أقرب المقاعد الهوائية إلى المائدة، ولم يكن بقية الشياطين بحاجة لمَن يدعوهم لتناول الطعام؛ بسبب جوعهم الشديد.
وكان الطعام لذيذًا، وكان أكثر الشياطين جوعًا هو «عثمان»، ولكنه برغم ذلك كان أقلهم رغبة في الطعام، وبعد أن تناول لُقْماتٍ صغيرة، غادر مقعده، وتمدَّد فوق الفراش الصغير بركن الحجرة، ورفع بصره إلى سقف الزنزانة.
لم تكن هناك أية عدسات … أو كاميرات خفية … بل كان سقف الزنزانة مصقولًا لامعًا، كأنَّه سطح شاشة تليفزيونية، وابتسم «عثمان»، من المؤكَّد أنَّ سقف الزنزانة كان عبارة عن خلايا خاصة أشبه بالمرآة التي تلتقط كل إشارة أو صوت أو حركة لهم؛ لتنقلها إلى مكان آخَر، حيث يقبع صاحب ذلك الصوت الذي كرهه «عثمان» منذ اللحظة الأولى التي سمعه فيها، واستقر رأيه على شيء.
انتهى الشياطين من طعامهم، وكانت هناك مناديل مُعطَّرة مسحوا فيها أيديهم، وما كادوا يُغادرون مقاعدهم حتى انفتح باب الزنزانة، وظهرَتْ ثلاثةٌ من مخلوقات «الكاوكي» وهي تتقدم نحو المائدة، وبدأت تحمل الأطباق وبقايا الطَّعام، وتستدير خارجة بها.
وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها «عثمان».
وبقفزة واحدة من مكانه صار في منتصف الحجرة، وهو يحمل فراشه المصنوع من لدائن البلاستيك القوية، وقبل أن يفطن أحد الشياطين لما سيفعله «عثمان»، انهال الشيطان الأسمر بالفراش القوي فوق رأس أقرب المخلوقات الفضائية إليه، في اللحظة التي انتبه فيها المخلوق الفضائي، واستدار فيها ليواجه «عثمان».
ولكن حركة «عثمان» كانت أسرع، وقبل أن تمتد يد المخلوق الفضائي إلى مسدسه الإشعاعي سقط الفراش فوق رأسه بقوة.
وترنَّح المخلوق الفضائي بشدة، واندفعت قبضة «عثمان» كطلقة المدفع نحو وجه المخلوق الفضائي، وما كادت أصابع «عثمان» تلمس وجه المخلوق حتى أحسَّ كأنه اصطدم بجدار من الصلب، وسرى ألم شديد في قبضته، في اللحظة التي تهاوت فيها المخلوقات الفضائية فوق الأرض.
وعلى الفور امتدت يد المخلوق الفضائي الثاني نحو مسدسه، وقبل أن يتمكن أحد من إيقافه أطلق مسدسه الإشعاعي نحو «عثمان».
وتوقع «عثمان» ما سيفعله المخلوق الفضائي؛ فألقى بنفسه على الأرض، وصوَّب المخلوق مسدسه مرة أخرى نحو «عثمان» الذي اصطدمت قدمه بشدة بالمخلوق الأول، فأحسَّ بألم شديد فيها، ولم يقدر على الحركة، وهو يشاهد المسدس الإشعاعي مُصوَّبًا إليه.
وتدخَّلَتْ «إلهام» في اللحظة المناسبة، وبضربة من قدمها أطاحت بالمسدس من يد المخلوق الفضائي، وبضربة أخرى منها أطاحت به إلى الخلف مصطدمًا بالجدار، في نفس الوقت الذي أحسَّتْ فيه «إلهام» بألم شديد في قدمها كأنها صدمت جدارًا من الصلب.
وصاح «أحمد» في «عثمان»: لماذا تهوَّرْتَ يا «عثمان»؟ سوف ندخل معركة غير متكافئة، وما كاد «أحمد» يُكمل عبارته حتى اندفع مخلوقان فضائيان آخَران شاهرَينِ مسدسَيْهما، ولم يكن أمام الشياطين غير عمل واحد، كان عليهم الدفاع عن أنفسهم ما داموا قد صاروا في قلب المعركة، وكان وجودهم بداخل الزنزانة أشبه بالفئران في المصيدة.
وبلا تفكير التقط «أحمد» المسدس الإشعاعي لأحد المخلوقِينَ المصابِينَ على الأرض، وصوَّبه نحو أقرب مهاجِمِيه وأطلقه.
واندفعت حزمة من الإشعاع الأصفر اللامع كالذهب لتُصيب المخلوق الفضائي في رأسه، وما كادت الطلقة الإشعاعية تلمس رأس المخلوق حتى دَوَّى صوتٌ يُشبه صوت الانفجار، وانبعث شرر معدني هائل، وتحوَّلَت الرأس إلى كتلة متفحِّمة، انصهرَتْ مثل شمعة تحترق في جهنم، وتهاوى المخلوق الفضائي على الأرض بلا حراك، ومرة أخرى أطلق «أحمد» مسدسه الإشعاعي على المهاجم الثاني؛ فأصابه في صدره، فتهاوى المخلوق الفضائي البشع على الأرض، وقد ظهر تجويف عميق مكان الطلقة، كأن مكانها قطعة من الثلج تبخَّرَتْ في لحظة.
وقبل أن يفكر بقية الشياطين في اللحظة التالية، انغلق باب الزنزانة وحده في عنف؛ ليصد عنهم أي هجوم قادم، وجاء الصوت البارد غاضبًا يقول: لقد تصرفتم بحماقة شديدة، ستدفعون ثمنها.
مال «أحمد» على «إلهام» يسألها في قلق: هل أصابك شيء؟
قالت «إلهام» مُتألمة: «هذه المخلوقات القبيحة عندما ضربتُها أحسست كأنني …» ولم تكمل «إلهام» عبارتها؛ فقد وقع بصرها على المخلوق الذي أصابته طلقة «أحمد» في رأسه فمحتها. وشاهدَتْ «إلهام» مكان الرَّأس في نهاية العنق أسلاكًا كهربائية دقيقة، وموصلات ومحولات صغيرة محترقة.
وصاح «عثمان»: إنها مخلوقات آلية.
تلاقت نظرات «أحمد» و«إلهام» في نظرة ذاهلة غير مصدقة.