«نانو» … والانتقام الرهيب!
لم يستطع «أحمد» تمالُك دهشته الطاغية، وهتف: أنت … «نانو» … هذا مستحيل!
توقف «نانو» أمام «أحمد»، وقال: ولماذا؟ لا مستحيل فوق هذه الأرض، هكذا يقول أهل «الإسكيمو».
أحمد: ولكن؟
نانو: أعرف سبب دهشتك، كيف يمكن لمجرد مواطن عادي من سكان تلك الأصقاع الشمالية في أقصى قمة الكرة الأرضية … ذلك العالم المنسي الفريد، كيف يمكنه أن يحكم تلك القلعة الجبارة؟ ولكن لا تندهش؛ فكل شيء جائز في هذا العالم.
ووقف الاثنان يحدقان في بعضهما بعيون لا ترمش، ورويدًا، رويدًا بدأ «أحمد» يُفيقُ من هول المفاجأة، ما أكثر المفاجآت التي قابلته هو وبقية الشياطين في ذلك المكان العجيب! وأشار «نانو» ﻟ «أحمد» بالجلوس، ثم جلس أمامه وقال: كنت أظن أن آخِر مرة سأراكم فيها هي المرة التي تركتكم فيها فوق الجليد بعد العاصفة، ولكنكم أثْبتُّمْ شجاعة فائقة، مِمَّا استدعى التقاطكم وسط ذلك التيه.
أحمد: ولماذا كان اختفاؤك، وتركُ فردة حذائك، وبقعة الرماد، والتظاهر بأنَّ الأطباق الطائرة قتلتك بأشعتها المميتة؟
ابتسم «نانو» وقال: إنني مُولَع بالمفاجآت الدرامية، وبالإضافة إلى أنه كانت هناك بعض الأمور العاجلة التي استدعَتْ عودتي إلى هنا في الحال، ولم يكن أمامي غير تلك الحيلة أمامكم لتبرير اختفائي المفاجئ.
قال «أحمد» بجمود: من المؤسف أن البعض منا ساوَرَتْه المشاعر الحزينة لأجلك!
نانو: دَعْكم من المشاعر المُرهَفة؛ فإنها تفسد عمل القلوب الباردة.
أحمد: إذن، فمنذ بداية رحلتنا وأنت على علم بهدفنا النهائي؟
نانو: هذا صحيح، بل إنني سعيتُ لأكون مرشدكم في هذه الرحلة، ولا بد أنك تتساءل عن علاقتي بهذا الأمر كله، وفي الحقيقة فإنه كان عليكم منذ البداية أن تتوقعوا وجود شخص ما من تلك البلاد الباردة له علاقة بتلك الأطباق الطائرة، وكل ما يجرى منها.
أحمد: لقد عشتَ عمرك كله هنا، ولا أظن أنك خبير بمثل هذه الأشياء.
نانو: هذا صحيح؛ فهذا المكان يُشْرِف عليه علماء على درجة عالية من المهارة العلمية، علماء لم يلاقوا التكريم والاعتراف الكافي في بلادهم، بسبب أفكارهم التي قيل لهم عنها أنها أفكار جهنمية، ومن هنا كانوا على استعداد للانتماء لأي شخص يمدُّ لهم يده لتحقيق هذه الأفكار، والإيمان بعبقريتهم الفذة.
أحمد: وأنت كنت هذا الشخص؟
نانو: منذ مئات الأعوام وشعبنا يحس أنه سيد هذا العالم، يحس أنه الشعب الأكثر احتمالًا وقدرة؛ لأنه صارع الطبيعة وغزاها وتغلَّبَ عليها، وعاش شعبنا سيدًا على أرضه، إلى أن جاء الرجل الأبيض بطائراته وأسلحته ومحطات أرصاده، واحتل أرضنا، وأخذ ينهب ثرواتها ويستخرج بترولها، ويجعلنا من الدرجة الثانية في بلادنا، ومن هنا كان لا بد أن نستعيد سيادتنا بأي شكل من الأشكال فوق هذه الأرض، وكان مستحيلًا طرد الرجل الأبيض المستعمر الذي تدعمه حكومات عديدة ذات أسلحة وجيوش هائلة القوة.
أحمد: ومن هنا كانت فكرة الأطباق الطائرة.
نانو: كانت فكرة عبقرية؛ فهذه الأطباق ليسَتْ أكثر من طائرات هليوكبتر عمودية مُطوَّرة، ذات سرعة هائلة، ولها القدرة على المناورة، والصعود والهبوط، والانقضاض بصورة رائعة، وكان قد اخترعها عالِم روسي، ولكن حكومته لم تكن مستعدة لتنفيذها، وكذلك الطلقات الإشعاعية المُدمرة ليست أكثر من أشعة سينية مُطوَّرة، قام بعض العلماء الأمريكان بتطويعها للاستخدامات الحربية في برنامج حرب الكواكب، قبل أن تقوم الحكومة الأمريكية بإيقافه، مما تسبب في إحباط هؤلاء العلماء، أما إقامة مستعمرة أو قلعة كاملة في قلب جبال جليد «الإسكيمو» بواسطة الطاقة النووية فكانت فكرة عالم فنلندي لم يجد مَن يتبنَّى أفكاره، وهكذا عندما وجد هؤلاء العلماء مَن يمد لهم يد المساعدة ويجمعهم سويًّا، كان هذا الناتج الرائع.
ضاقت عينا «أحمد» وتساءل: وما هو هدفكم النهائي؟
ابتلع «نانو» نفسًا عميقًا وقال: السيطرة على العالم.
أحمد: لا أفهم.
نانو: إن لدينا القنابل النووية، والأطباق الطائرة، والسلاح الإشعاعي، وما إن يكتمل استعدادنا قريبًا حتى تنطلق أطباقنا الطائرة مُهدِّدة العالم كله بأن يترك قيادته لنا، نحن شعب «الإسكيمو»، وبالطبع سنبدو أمام العالم كله بأطباقنا الطائرة كما لو كنا غزاة من كوكب آخَر، وسيخاف العالم من التصدي لنا بعد أن نهزم أقوى الدول في معارك صغيرة بفضل علومنا المتطورة، ولا بد أن العالم كله سيُعلن استسلامه لنا.
أحمد: وبعد ذلك تسودون العالم وتحكمونه من هنا … من «الإسكيمو»!
نانو: ويصبح شعبنا هو حاكم هذا الكوكب، ولن يجرؤ إنسان على تدنيس أرضه مرة أخرى.
أحمد: تُرى … هل يعرف بقية شعبك بما تخطط له؟
ابتسم «نانو» بخبث، وقال: هذا سؤال ذكي وماكر في نفس الوقت؛ لقد اعتاد شعبنا على التحمُّل في صمت، فهو لا يشكو أبدًا، ومن ثَمَّ كان من المستحيل أن أجد المساندة إذا ما كشفْتُ عن مشاريعي، ومن هنا كانت سِرِّيَتُها حتى عن أبناء قومي، ولكنهم سوف يتكاتفون معي عندما تجيء اللحظة الحاسمة.
ضاقت عينا «أحمد» وقال: أنت مجنون، هذا لا شك فيه.
برقت عينا «نانو» وظهر فيها التوحُّش، وقال: سوف تدفع ثمن تلك الإهانة غاليًا؛ فرجل «الإسكيمو» لا يترك مَن يهينه يعيش طويلًا.
بهدوء قال «أحمد»: من المؤسف أنني لا أجد وصفًا أصف به أفكارك غير الجنون، خاصةً أنني لا أجد مبررًا لتصرفاتك الغريبة؛ فالوضع اختلف الآن، لقد أصبحَتْ حياتكم أسهل كثيرًا، واستطعتم التقدُّم في نواحٍ شتَّى، فقد صار حصولكم على الطعام أسهل عندما امتلكتم البنادق، وصرتم تبيعون فراء الدببة والثعالب، وتشترون بثمنها أجهزة التليفزيون والمدافئ والملابس الفاخرة، وأصبحتم تقيمون في منازل حديثة دافئة، وصار أولادكم يتعلمون في المدارس.
نهض «نانو» في غضب شديد قائلًا: ومَن قال لكم إننا كنا نريد مثل هذه الأشياء؟ لقد أفسدتم حياتنا بهذه الأشياء، سوف تنشأ بعد ذلك أجيال ضعيفة من أهل «الإسكيمو» لا يجيدون حتى صيد الدببة بالحراب، أو بناء البيوت الثلجية، ويومًا ما سيضيق أهلنا بحياتهم الصعبة؛ فيهاجرون إلى الجنوب الدافئ، ويتشتتون في بقاع الأرض، ولم يَعُد هناك بعد ذلك شعبًا يُسمى بالإسكيمو، ووقتها وعندما يأتي أجدادنا مرةً أخرى بطيورهم المعدنية كما جاءوا منذ آلاف السنين لكي يجعلونا نسود على العالم، فلن يجدوا أحدًا في تلك البقاع غير الرجل الأبيض، فتضيع فرصتنا إلى الأبد.
اندهش «أحمد» عندما سمع كلمات «نانو» الأخيرة، وتأكَّدَ بما لا يدع مجالًا للشك بأنه يُعاني من نوع خاص من الجنون يسيطر عليه، فكيف يمكن له أن يتصور مجيء مخلوقات من كوكب ما بعد آلاف السنين لتجعل سكان «الإسكيمو» يسودون على العالم حتى لو كانت هذه المخلوقات قامت بتقديم المساعدة لذلك الشعب من قبل؟
وتحولت عينا «نانو» بلون الدم وهو يقول: لم يَعُد هناك مجال لمزيد من النقاش، وعليكم أن تستعدوا لأداء الشيء الذي أبقيتكم أحياء إلى هذه اللحظة من أجله.
أحمد: وما هو ذلك الشيء؟
نانو: سوف تكونون عيوننا في العالم كله، إلى أن تحين اللحظة الموعودة بعد وقت قريب، سوف نُطلِقُكم ونعيدكم إلى المكان الذي جئتم منه؛ لتكونوا عيوننا، وآذاننا البشرية؛ فتُرسلون إلينا كلَّ ما تسمعونه من العالَم عنا، والاحتياطات المأخوذة ضِدَّنا، وأية خطط قد تستعد بها حكومات الأرض لصدنا.
ابتسم «أحمد» في قسوة قائلًا: أنت مجنون — بلا شك — إذا ظننتَ أننا سنساعدك في هذا الأمر.
نانو: ليس لكم حيلة في الأمر، إن لدينا أجهزة متطوِّرة في غسيل المخ، سوف تزيل هذه الأجهزة ماضيكم ومشاعركم العدائية نحونا، ثم تغذيكم بمشاعر ودية تجاهنا، فالعالِم الهندي الذي اختطفناه من أجل أن يساعدنا حاول الهرب؛ فكان نصيبه طلقة إشعاعية قضت عليه، وهذا هو نصيب كل مَن لا يقوم بتنفيذ أوامرنا، أو يرفض التعامل معنا، والآن عليكم أن تطيعوا كل أوامرنا، وتصيروا مثل تلك الربوتات الآلية.
هتف «أحمد»: أنت مجنون بالفعل، هذا لا شك فيه.
بان الجنون في عينَيْ «نانو»، وصاح بصوت كالرعد: لا تزال تصر على إهانتي، لقد حكمتَ على نفسك بالموت أيها البشري، وسوف تموت الآن.
وأشار بيده فاندفع من باب خلفي ثلاثة آليِّينَ، ضخام الجسم كأنهم عمالقة، واندفعوا نحو «أحمد» وعيونهم الزجاجية تبرق بضوء أحمر دموي.