نشأة عمرو بن العاص
نشأ عمرو بن العاص في بطن من البطون القرشية المشهورة، وهم بنو سهم.
والبطون القرشية كثيرة، تتفاوت في الضعف والقوة، والقلة والكثرة، ولكن البطون التي انتهى إليها الشرف — كما قال النسابة الكلبي — عشرة، اتصل شرفها في الجاهلية والإسلام، وهم: هاشم، وأمية، وعبد الدار، وأسد، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم.
والظاهر من بعض أنباء «سهم» أنهم كانوا على كثرة في العدد، وإن لم يحسبوا من ذوي الصدارة في قريش، إلى جانب بني هاشم أو بني أمية أو بني عبد الدار.
فلما انقسمت قريش إلى حزبين، في أحدهما بنو عبد مناف، وفي الآخر بنو عبد الدار، عبئ بنو سهم لبني عبد مناف، وهم أكبر هؤلاء الأحلاف، كأنهم ندٌّ لهم كثرة وقوة في الصلح والخلاف.
وتفاخر بنو سهم وبنو عبد مناف مرة، فقال كل حي منهما: «نحن أكثر سيدًا، وأعظم رجالًا، وأكثر قائدًا …» فكثر بنو عبد مناف بني سهم بعدد الأحياء، ثم تكاثروا بالأموات، فجعلوا يشيرون إلى القبر فيقولون: أفيكم مثل هذا؟ أفيكم مثل هذا؟ ويذكر كل منهم أنه أكثر مالًا وأعز نفرًا، كما جاء في القرآن الكريم، ونزلت في ذلك الآية: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ على إحدى الروايات.
فعمرو بن العاص ينتمي — على هذا — إلى بطن يعد من أكبر بطون قريش، ويطمح إلى مساواة بني عبد مناف بوفرة الرجال والأموال وكثرة السادة والقادة، ويوصل شرفه في الجاهلية بشرفه في الإسلام.
أما حصتهم من شرف الجاهلية؛ فقد كانت إليهم الحكومة، والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم، وهي أموال حبسوها على الأرباب والمعابد وخيراتها، كأنها الأوقاف في العصور الإسلامية، وكان الرؤساء من بني سهم طائفة من نظار الأوقاف يعرفون بحسناتهم أو سيئاتهم التي اتصف بها نظار الأوقاف في جميع الأزمان.
ولا نعلم على التحقيق ما هي تلك الحكومة التي وكلت إلى بني سهم في الجاهلية، كما وكلت الشورى والرفادة والسقاية وغيرها من مهام الحجاز إلى البطون القرشية الأخرى.
ولكننا نستطيع أن نقيسها إلى بعض ما ندب له ابن العاص في الإسلام، على حكم العادة الموروثة التي قلما تتغير في مأثورات القبائل المحفوظة، ويؤخذ من هذه المهام أن المرجع في حكومة بني سهم إلى اللباقة في تناول الأمور، والتلطف في حسم الشقاق، والتغلب على حرج النفوس في الشئون الدقيقة التي تتصل بالمصاهرة ومعاذير الراغبين فيها أو الراغبين عنها من الرجال والنساء، كما تتصل بالإقناع فيما يمس المروءة والعقيدة، أو يرد الإقناع فيه على النفس من طريق التهوين والتسويغ على سنن الدهاة من الساسة بين سائر الأمم وفي سائر العصور.
وجماع ذلك كله أن الحكم على هذه الطريقة هو الرجل «الأريب» الذي يعرف «من أين تؤكل الكتف» ويترفق بعلاج النفوس وتناول الأمور.
خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب، فأجمع على تزويجه، فشق ذلك على عبد الله بن عمر، وشكاه إلى عمرو بن العاص … فها هنا مسألة دقيقة بين أب وابنه في تزويج رجل لا تحسن الإساءة إليه بعد وعده، ولا بد للحكم فيها من رفق وإربة، حتى يرضى الأب والابن والخطيب وما منهم من يسخط على زميله، قال عمرو لعبد الله بن عمر: عليَّ أن أرده عنك راضيًا، وأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده، ثم قال: هنيئًا لك أبا عبد الله! هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك …! فالتفت سلمان مغضبًا وقال: أبي يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدًا.
وخطب عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت أبي بكر إلى أختها أم المؤمنين عائشة — رضي الله عنها — فقالت له: الأمر إليك! ثم سألت أختها فأبته وهي تقول: لا حاجة بي إليه، فزجرتها قائلة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء …!
وهنا مسألة دقيقة من قبيل ما تقدم: أمير المؤمنين ترفضه أم المؤمنين.
ولا ينبغي أن يواجه بالرفض، وإن كان لا سبيل إلى إكراه أم كلثوم على قبوله.
فلجأت السيدة عائشة إلى عمرو بن العاص ليحتال في الأمر برفقه ودهائه، فجاء عمر وفاجأه قائلًا: بلغني خبر أعيذك بالله منه، قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر؟ قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني! قال: لا واحدة، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟ كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك!
ولا شك أن عمر قد فطن إلى ما وراء هذه الوساطة، وفهم أن ابن العاص لا يقدم عليها من عند نفسه، فسأله كأنه يستطلع ما وراءه: كيف بعائشة وقد كلمتُها؟
قال: أنا لك بها، وأدلك على خير منها: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بنسب رسول الله.
فهي إذن حكومة الإرضاء والتناول الرفيق لكل شائك محرج من العلاقات التي يصعب الحكم فيها بغير هوادة وحنكة …!
وشبيه بهذا — وإن لم يكن من شئون المصاهرة — إيفاد عمرو إلى نجاشي الحبشة لإقناعه بتسليم من قبله من المسلمين إلى مشركي قريش، وهو أمر فيه من المساس بأصول الضيافة ما تصعب المفاتحة فيه فضلًا عن الإقناع به، إلا أن تكون لباقة ورفق مدخل وقدرة على التخلص السريع.
وشبيه بهذا أيضًا إيفاد عمرو إلى أخوال أبيه في عهد الإسلام لإقناعهم بالخروج من دينهم والدخول في الدين الجديد.
ويتفق مع هذا وذاك أن تكون الوساطة على النحو المعهود بين طلاب الوساطات في جميع قضايا الخلاف، فيتخاصم الرجلان على ضيعة أو حق مغصوب، ويرجعان إلى حكومة الحكم المختار لعلمهما بقدرته على فض الخصومات واستلال الأضغان.
أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان! لقد سمعتما من رسول الله ﷺ مثل ما سمعت، وحضرتما من قوله مثل ما حضرت — فيمن اقتطع شبرًا من أرض أخيه بغير حق إنه يطوقه من سبع أرضين! والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه؛ وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ دينه، والمحكوم عليه إذا جير عليه رزئ عرض الدنيا، إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما.
فاصطلحا وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا.
فهذه حكومة معهودة في قضية من القضايا الشائعة التي لا تمس المحرجات النفسية ولا تشوك اليدين في تناول الدعوى بين الطرفين وما هما بعد بخصمين، ولكننا نتأمل هذه الحكومة أيضًا فنلمح فيها حب الاستعانة باللباقة والكيس قبل الاستعانة بالعدل والإنصاف، كأنما كان الخصمان يريدان الوفاق بغير غضاضة على أحد منهما، فاختارا الحكم الذي يمنع هذه الغضاضة وييسر لهما سبيل الوفاق.
وقد جاء في الأثر أن النبي — عليه السلام — أمر عمرًا بالفصل بين رجلين اختصما إليه، فكأنه عرف بهذه المقدرة وبقيت له شهرتها في حضرة النبي — عليه السلام.
•••
وليست حكومة القهر والإكراه على أية حال بالحكومة التي كان العرب يرتضونها ويسعون إليها، فهم إذا لجئوا إلى الحكم لم يلجئوا إليه لأنهم ينتظرون منه أن يقهرهم على سماع حكمه، ويلزمهم أن يتبعوه في قوله وفعله، بل لعلهم يتعمدون أن يختاروا لحكومتهم رجلًا لا يُخشى ولا يُهاب، ولا يقع العار على من يخضع له بالخوف والإذعان، فإذا أطاعوه قيل: إنهم يطيعون كلمتهم وينزلون باختيارهم على الحكم الذي ارتضوه، ولم يقل قائل: إنهم مطيعون عن ذلة، ومستمعون لأمره مسوقون إلى استماعه.
فالحكم الذي يختارونه — على هذا — إنما يكون على خصلة من خصلتين: رجل يأنسون إلى عدله وإنصافه، أو رجل يأنسون إلى لباقته وحيلته وحسن بصره بمواقع الأهواء وذرائع الإرضاء. والثاني ببني سهم أشبه وأمثل؛ لأنهم لم يشتهروا بالعدل والإنصاف، بل كان من زعمائهم من يمطل أصحاب الحقوق، ويلوي الضعيف بديونه ويلج في ذلك لجاجة حملت السادة من قريش على التحالف فيما بينهم ليردنَّ المظالم ويأخذن للضعيف حقه حيث كان، وسموه حلف الفضول المشهور، وهو الحلف الذي قال عنه النبي — عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول: ما أحب أن لي به حُمر النَّعم، ولو دعي إليه في الإسلام لأجبت!»
وسبب هذا الحلف غير بعيد عن عمرو بن العاص نفسه؛ لأن الذي مطل الدين أبوه العاص بن وائل من أغنى السهميين وأشهرهم بالعزة والعصبية، وكان رجل من بني زبيد في اليمن قد وفد إلى مكة معتمرًا، ومعه بضاعة طيبة، فاشتراها العاص ولواه بحقه ولم يجبه إلى رجائه حين سأله ماله أو متاعه، فقام الرجل في الحجر ينشد:
فخف لنجدته أقطاب قريش، وكان ذلك من أسباب حلف الفضول.
•••
تلك جملة المعروف في شأن بني سهم الذين نبت فيهم عمرو بن العاص من بطون قريش.
أما أسرته القريبة فأبوه هو العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، يرتفع بنسبه إلى الذؤابة القرشية.
ويقال في متواتر الروايات: إنه كان من ذوي اليسار، وكان يتجر بين الشام واليمن، ويحتشد لرحلة الصيف ورحلة الشتاء.
وقد كان عمرو بأبيه جد فخور، حتى لقد كان يفخر به على الخلفاء كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان.
فلما أرسل إليه عمر بن الخطاب من يحاسبه ويشاطره ماله، غضب وقال للرسول: «قبح الله زمانًا عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها! وما منهما إلا في نَمِرة لا تبلغ رسغيه! والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزررًا بالذهب …» ثم خشي العاقبة، فاستحلف الرسول ليكتمنَّ عليه ما قال بأمانة الله.
ولما عزله عثمان من ولاية مصر، دعاه فأنبه … وقال له: استعملتك على ظَلعك وكثرة القالة فيك، فقال عمرو: قد كنت عاملًا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض. واحتدم الجدل بينهما، فهمَّ عمرو بالخروج مغضبًا وهو يقول: قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك … فوالله للعاص كان أشرف من عفان، فما زاد عثمان على أن قال: ما لنا ولذكر الجاهلية!
وقد أدرك العاص الدعوة المحمدية، ومات بعد الهجرة بقليل وهو في الخامسة والثمانين، ولكنه — في أشهر الروايات — لم يُسْلم، ولم يزل يناصب النبي وأصحابه العداء، ويكيد لهم في الجهر والخفاء، وهو الذي قال عن النبي — عليه السلام — حين مات ابناه القاسم وعبد الله: إن صاحبكم هذا لأبتر، فنزلت فيه الآية: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وكأنما كان التكاثر بالذرية والاعتزاز بالعصبية شنشنة غالبة على هؤلاء السهميين!
•••
وعلى قدر ذلك الفخر بأبيه كان خجله من نسبه إلى أمه، واجتراء الناس عليه بمسبتها كلما تعمدوا الغضَّ منه والإساءة إليه.
فكان حساده والنافسون عليه يلاحقونه بذكرها وهو على دست الإمارة ومنبر الخطبة، وخاطر بعضهم رجلًا أن يقوم إليه وهو على المنبر فيسأله: من أمُّ الأمير؟ … فأمسك من غضبه وقال: النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان، ووهبها للعاص بن وائل فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئًا فخذه!
ويؤخذ من بعض هذه المعايرات أنها كانت تؤجر للغناء بمكة، فإن عمرًا شتم أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بمجلس معاوية، فانتهرته قائلة: «وأنت يا بن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة؟
اربع على ظلعك واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك، فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به!»
ومن كلامه عنها في بعض ما نقل عنه: «أنها سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عَنَزَة، ثم أحد بني جلَّان، أصابها رماح العرب، فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل.»
ويروى أنها كانت على صلة بالعاص وأبي لهب وأمية بن خلف وأبي سفيان، فولدت عمرًا فألحقته بالعاص، وسئلت في ذلك فقالت: إنه كان ينفق على بناتي.
وأيًّا كان شأن المبالغة في لغة الثلب والتعبير، فالمتفق عليه أنها كانت سبية مغلوبة على أمرها، فلم تقارف البغاء سقوطًا منها وابتذالًا لعرضها، ومثل هذه لا تحسب عليها زلاتها كما تحسب على المرأة التي تزل ولها مندوحة عن الزلل، وتهوي وهي في موضع الصون والكرامة، وإنجاب هذه ومثيلاتها للنوابغ من البنين ليس مما يخالف المألوف من سنن النسب والوراثة.
•••
ولا يظهر من أخبار عمرو أنه تلقى مالًا كثيرًا من أبيه، فقد كان يحترف الجزارة ويعمل بمال غير وافر في تجارة الأدم والعطر بين اليمن والشام ومصر، على ما جاء في إحدى الروايات.
إلا أن القصة التي روت لنا خبر سفرته إلى مصر تروي لنا كذلك أنه خرج في تلك السفرة إلى بيت المقدس، وقصارى ما يرجوه أن يصيب ما يشتري به بعيرًا فتكون له ثلاثة أبعرة.
وقد حاسبه عمر — رضي الله عنه — فقال له في كتابه إليه: «… فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك ألا مال لك!» فلم ينكر عمرو أنه لم يكن له مال، بل قال: «… أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك لا مال لي وإني أعلم أمير المؤمنين أني بأرض السعر فيه رخيص وأني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة.»
فإذا صدقت الرواية عن ثروة العاص بن وائل، فمن العجيب ألا يبقى لعمرو من هذه الثروة نصيب موفور وهو أكبر ولديه، وليس لأبيه ذرية كثيرة من الذكور فيقال: إن الثروة الكبيرة تبددت بالتوزيع والتقسيم، وقد أسلم عمرو بعد موت أبيه فلا يقال: إنه حرمه الميراث لإسلامه غضبًا عليه.
نعم، إن هشامًا — أخاه الأصغر — كان أحب إلى أبيه، وكانت أمه بنت هشام بن المغيرة من كرائم قريش وليست سبية مشتراة كأم عمرو، وكانت إلى هذا محببة إلى زوجها، وباسم أبيها سمى ولده على غير الشائع المألوف في تسمية الأبناء بين القبائل العربية، ولكننا لم نعرف من أخبار العاص ولا من أخبار ولديه أن هشامًا استأثر بالميراث دون أخيه، والأشبه إذا كان أحدهما قد حرم ميراثه أن يكون هو هشامًا؛ لأنه أسلم في حياة أبيه.
ولا تفهم قلة المال عند عمرو — مع ما اشتهر به أبوه من الثراء — إلا على فروض كثيرة يصح الأخذ بها جميعًا؛ لأن الاكتفاء بواحد منها غير معقول، وهي أن ثروة العاص كانت أقل من شهرتها، وأنه كان ينفق ولا يمسك، وأنه أصيب في تجارته قبل موته، ولا سيما بعد قيام المسلمين على طريق الشام، وأن عمرًا كان كأبيه من المنفقين ولم يكن من المقترين، وقد يؤخذ هذا من ظهور شكواه بعد عزله من ولاية مصر بأقل من عام، فقال له عثمان وقد سبه لما بلغه من تحريضه عليه: «ما أكثر ما قمل جُربَّان جبتك — أي طوق جبتك — وإنما عهدك بالعمل عامًا أول!»
فلا يبعد أنه أصاب شيئًا من الميراث فأنفق منه ما أنفق بعد يأسه من تجارة الحبشة والشام، ولم يبق له عند ولايته على مصر إلا اليسير.
•••
والاهتمام بنسب المترجم لهم واجب لازم في كل سيرة من السير، وهو في سيرة عمرو أوجب وألزم؛ لأن أثر الوراثة فيه أقوى من المعهود الشائع في العظماء عامة، وليس الأثر الذي استفاده من تلقين البيئة وفعل الرياضة النفسية بأقل من أثر الوراثة التي لا اختيار له فيها.
فمن أثر الوراثة مشابهة عمرو لأبيه في الخلقة والخليقة، ولولا قوة الشبه في الخلقة لما عرفت نسبته إلى أبيه وهو وليد.
ومن المشابهة في الخليقة حبه للمال والسيادة، واعتداده بالعصبية ونخوة القبيلة.
إلا أن المغمز الذي كان يؤلمه من نسبه إلى أمه قد كان له من قوة الأثر في تكوين فكره وتوجيه نفسه ما يعدل الوراثة، أو يزيد.
فاحتياجه إلى مداراة هذا المغمز، والغلبة على من يفاخرونه بكرم الأمومة، هو الذي أغراه فبالغ في إغرائه بالمال والرئاسة.
وشعوره بهذا المغمز هو الذي أعز أباه عنده، وعلقه بفخره وألهجه باسمه وسمعة ثرائه.
وكان لاعتداده بأبيه دخل في تعويق إسلامه وتأخير شهادته للدين الجديد إلى ما بعد موته، وقد كان يعلم ذلك من نفسه ويجهر به إذا فوتح فيه، فسأله رجل: «ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟!» فقال: «إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم، وكانوا ممن يوازي حلومهم الجبال، فلما بعث النبي ﷺ، فأنكروا عليه فلذنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام!»
بل أصبح اعتداده بأبيه اعتدادًا للعصبية بالقبائل الأولى، كَمَن فيه من أيام جاهليته إلى ما بعد إسلامه، وعالجه أحيانًا فلم يستطع أن يجتثه من أصوله.
وقع بينه وبين المغيرة بن شعبة كلام فسبه المغيرة، فقال: يا آل هُصَيص! أيسبني ابن شعبة؟ وكان ابنه عبد الله حاضرًا، وهو من أتقى المسلمين وقد أسلم قبل أبيه، فقال: إنا لله! دعوت بدعوى القبائل وقد نهي عنها! فأعتق عمرو ثلاثين رقبة.
وسمع معاوية مرة يأذن للأنصار، فأحب أن يأذن للناس بأسماء قبائلهم ويردهم إلى أنسابهم.
وكان من إعزازه لأبيه وحضور العصبية في ذهنه أنه فكر في الانتقام من عمارة بن الوليد المخزومي لاجترائه على تقبيل زوجته أمامه، فلم يقدم على الانتقام منه — وهما في طريق الحبشة — حتى بعث إلى أبيه أن يخلعه لكيلا تحيق به أو بأحد من أهله ترات العصبية التي تدين بها القبائل فيما بينها.
وعصبيته هذه هي التي أنسته أن الإسلام ينهى عن كراهة الذرية من البنات، فأنف أنفة الجاهلية حين رأى معاوية يقبل ابنته عائشة، قال: من هذه؟ قال معاوية: هذه تفاحة القلب! فقال له: «انبذها عنك، فوالله إنهن ليلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن!»
ولا شك أن الألم من ذلك المغمز في نسبته إلى أمه كان من أشد الحوافز النفسية تغلغلًا في سريرته، وأصلحها لتفسير ميوله وبدواته ومنها الحسن والمفيد.
فقد كان خوفه من التعيير به عقل لسانه عن فحش القول، ويلزمه سمت الجد والتوقر في مخاطبة الناس.
ولم يبالغ حين اعتذر لمسلمة بن مَخْلد، وقد ناله بلسانه في ساعة حدة، فقال له يسترضيه: «ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات، مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا ندمت وما استحييت من واحدة منهن أشد ما استحييت مما قلت، ووالله إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة.»
كذلك كان يتحرج من إسقاط هيبته ونسيانه سمته، حتى قال عمر بن الخطاب وقد نظر إليه وهو يمشي: «ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا!»
فهي بلوى في طيِّها نعمة كما قال أبو تمام:
ولم يجزم المؤرخون بتاريخ مولد عمرو ولا قاربوا الجزم فيه، فهو عند بعضهم عاش سبعين سنة، وعند بعضهم بلغ المائة.
وإذا صح أنه كان يذكر الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب، وأنه كان له يومئذ من العمر سبع سنين فالأرجح أنه ولد قبل الهجرة بنحو أربع وأربعين سنة، حوالي سنة ٥٨٠ للميلاد.
على أن المؤرخين مختلفون في سن عمر بن الخطاب يوم وفاته، فبعضهم يؤكد أنه قتل وله من العمر خمس وخمسون سنة، وبعضهم يؤكد أنه كان يومئذ في الثالثة والستين، ونحن نميل إلى الاقتراب من التاريخ الثاني؛ لأن عمر — رضي الله عنه — كان يشكو الكبر في سنة وفاته، ويسأل الله أن يقبضه إليه؛ لأنه شاخ وانتشرت رعيته، والمرء في بنية عمر وقوته لا يشكو الهرم في الرابعة والخمسين أو الخامسة والخمسين، فذلك بما بعد الستين أوفق وأقرب إلى القبول.
وعلى هذا تكون السنة التي رجحنا ولادة عمرو فيها هي أقرب التواريخ إلى المعقول، ويكون عمرو قد جاوز الثمانين بسنوات ولم يرتفع إلى المائة؛ لأنه عاش بعد عمر عشرين سنة، وولد قبله بسبع سنين، فإذا كانت سن عمر عند وفاته حوالي الستين فقد عاش عمرو بن العاص إلى قريب من السابعة والثمانين.
وإذا شككنا في سن عمرو يوم مولد عمر، وحسبناها دون السابعة فهو إذن قد جاوز الثمانين بقليل.
ويدعونا إلى الشك في هذه السن أن اعتذار عمرو من تأخر إسلامه باتِّباع كبار قومه لا يقبل من رجل في نحو الخمسين، وهي سنه عند إسلامه وإن كان مع ذلك ليستغرب حتى ممن بلغ الأربعين.
وليس في نشأة عمرو من تاريخ يستوقف المترجم له بعد سنة ميلاده غير سنة زواجه، ويظهر أنه كان من المبكرين بالزواج؛ لأن ابن قتيبة يقول: «إن الفارق في المولد بينه وبين ابنه عبد الله اثنتا عشرة سنة.» وهو فارق غير معقول، ولكنه يدل على صغر سنه حين بنى بأم عبد الله، وهي فتاة من قبيلته اسمها ريطة بنت منبه بن الحجاج.