من كلامه
من تمام القول في عمرو بن العاص، بل من تمام العلم به، أن نلم بطرف من كلامه الذي يدل عليه.
وقد نسب إليه كلام كثير نسب إلى غيره، وكان شأنه في هذا كشأن الجلَّة من النابهين في صدر الإسلام فيما ينقل عنهم، فربما نسبت الكلمة الواحدة إلى ثلاثة أو أربعة من أبناء عصر واحد أو عصور متفرقة، بيد أننا نعتمد في نسبة الكلام إليه مشابهته لما أثر عن خلقه ونسق تفكيره، ثم شيوع الرواية ومكان رواتها من الثقة والدراية.
فما يشبهه في التعاظم بالنسب، أو في الخصلة التي نسميها اليوم بالنزعة الأرستقراطية أنه قال لمعاوية: «يا أمير المؤمنين! لا تكن بشيء في أمور رعيَّتك أشد تعمدًا منك لخصاصة الكريم حتى تعمل في سدِّها، ولطغيان اللئيم حتى تعمل في قمعه واستوحش من الكريم الجائع، ومن اللئيم الشبعان، فإن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع.»
وكان يؤمن بهذا الرأي كثيرًا، ولا يزال يعيده، فقال في مناسبة أخرى: «موت ألف من العلية، أقل ضررًا من ارتفاع واحد من السِّفلة.»
ويتصل بهذا المعنى وقد يكون فيه اعتذار من حربه لعلي بن أبي طالب، قوله لابنه عن الإمام والحكومة: «يا بني! إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد خطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم، يا بني! مزاحمة الأحمق خير من مصافحته، يا بني! زلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقي ولا تذر، يا بني! استراح من لا عقل له!»
ومن وصفه للرجال: «الرجال ثلاثة: فرجل تام، ونصف رجل، ولا شيء. فأما الرجل التام فالذي يكمل دينه وعقله، فإذا أراد أمرًا لم يمضه حتى يستشير أهل الرأي، فإذا وافقوه حمد الله وأمضى رأيه فلا يزال مضيه موثقًا، ونصف رجل الذي لم يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمرًا لم يستشر فيه أحدًا، وقال: أي الناس كنت أطيعه أو أترك رأيي لرأيه؟ فيصيب ويخطئ، والذي لا شيء من لا دين ولا عقل له، ولا يستشير في الأمر فلا يزال مخطئًا مدبرًا! … ووالله إني لأستشير في الأمر حتى خدمي …!»
ووصف عبد الملك بن مروان، فقال: «آخذ بثلاث، تارك لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدَّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر الأمرين عليه إذا خولف، تارك للمراء، تارك لمقاربة اللئيم، تارك لما يعتذر منه.»
ويتعاطى وصف الأمم على رأيه، كما قال في أقوام زمانه: «أهل الشام أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، وأهل مصر أكيسهم صغارًا وأحمقهم كبارًا، وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها، وأهل العراق أطلبهم للعلم وأبعدهم منه!»
على أنه كان وصَّافة لا يجارى في وصف المناظر الكبيرة بالكلمات القليلة، ومن أبرع صفاته للطبيعة والناس معًا قوله في البحر: «إنه خلق عظيم، يركبه خلق صغير: فدود على عود!»
وكان بليغ البادرة سريع الجواب، سديدًا في توفيق لفظه ومعناه، ولا عجب أن يكون كذلك، وهو مع ذكائه المتوقد عرضه للمسبة، مضطر إلى إفحام من يتعمدونه بالغضِّ والإزراء!
قال له المنذر بن الجارود العبدي: أي رجل أنت لو لم تكن أمك من هي! فسرعان ما ردَّها عليه قائلًا: «لقد فكرت فيها البارحة، فجعلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطر لي عبد قيس ببال!»
وقال له رجل: والله لأتفرغن لك، فقال: «هنالك وقعت في الشغل!» قال الرجل: «كأنك تهددني؟ والله لئن قلت لي كلمة لأقولن لك عشرًا.» قال: «وأنت والله لئن قلت لي عشرًا لم أقل لك واحدة!»
وقال له سلام بن روح الخزاعي: كان بينكم وبين الفتنة باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: «أردنا أن نخرج الحق من حظيرة الباطل، وأن يكون الناس في الحق سواء.»
ومن أشبه الأجوبة به وقد سئل: ما السرور؟ فقال: «الغمرات ثم تنجلي …» فهي كلمة رجل يقدم على المغامرة، ويحسن جلاء الغمرات.
وشبيه به كذلك قوله: «ما وضعت عند أحد من الناس سرًّا فأفشاه فلمته …» فسئل: ولم؟ قال: «أنا كنت به أضيق صدرًا حين استودعته إياه.»
وشبيه به على هذا النحو قوله: «لا أملُّ دابتي ما حملتني، ولا زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا جليسي ما لم يصرف وجهه عني.» لأن الذي يصطنع الناس ويشتري الصدقات، ويتجمل للرئاسة لا بد له من هذه الخصال.
•••
وقد اشتهرت القبريات في آداب الأمم، وشاعت الكلمات التي حفظت عن العظماء في ساعاتهم الأخيرة، فلو جمعت كلمات المحتضرين ومن يواجهون الموت، لما كان في عظماء المسلمين أحفل من عمرو بن العاص نصيبًا من هذا الأدب الذي يدل على حظ قائليه من الحياة، وميزانهم في الحسنات والسيئات، ومعظم المنقول عنه في هذا الصدد يوائمه أن يقوله، ويشبه ما يستقبل به آخرته ويودع دنياه!
فكان في أخريات أيامه يدعو الله قائلًا: «اللهم آتيت عمرًا مالًا فإذا كان أحب إليك أن تسلب عمرًا ماله ولا تعذبه بالنار، فاسلبه ماله! وإنك آتيت عمرًا أولادًا، فإن كان أحب إليك أن تُثْكل عمرًا ولده ولا تعذبه بالنار فأثكله ولده، وأنك آتيت عمرًا سلطانًا، فإن كان أحب إليك أن تنزع منه سلطانه ولا تعذبه بالنار، فانزع منه سلطانه.»
ويرحمه الله! لقد دخل الإسلام وهو يشترط أن يضمن له إسلامه سقوط العقاب على آثام ماضية وهم بمفارقة الدنيا فلم يبال أن يخسر ماله أو ولده أو سلطانه إذا ضمن شيئًا واحدًا في الآخرة: ألا يُعذَّب بالنار!
وكان يقول لبنيه، كأنه حسب نصيبه من جانبيه، ورفع ميزانه بيديه: «إني لست في الشرك الذي لو مت عليه أدخلت النار، ولا في الإسلام الذي لو مت عليه أدخلت الجنة، فمهما قصرت فيه فإني متمسك بلا إله إلا الله.»
وكان يقول: «اللهم لا قوي فأنتصر ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت.» ولم يزل يرددها حتى مات.
وردد في سرير موته استغفاره الذي يقول فيه: «اللهم أمرت بأمور ونهيت عن أمور، فتركنا كثيرًا مما أمرت، ووقعنا في كثير مما نهيب … اللهم لا إله إلا أنت، اللهم لا إله إلا أنت.»
ودخل عليه ابن عباس في مرض موته، فسأله: كيف أصبحت؟ قال: «أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلًا وأفسدت كثيرًا، فلو كان ما أصلحت هو ما أفسدت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت، فعظني بموعظة أنتفع بها يا بن أخي!» قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله … فأجابه بكلمة يجري بها لسان من يحضرون السلطان ويردون الوقيعة عنده، كأنه أراد أن يستجلب رحمة الله بكلمة ابن عباس، فقال: «اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى!»
وليس بين العظماء في صدر الإسلام من استقبل الموت بكلام أجزل من هذا الكلام، وأدل منه على شعور صاحبه في مفترق الدنيا والآخرة، وجملة ما يدل عليه أنه كلام رجل ملأته الحياة ودوافعها القوية، فلم يخطر الموت بباله حتى خطر له مرة واحدة، وهو بين يديه لا منصرف عنه.
•••
تلك أمثلة عابرة من كلماته المأثورة غير ما تقدمت الإشارة إليه في سياق الكتاب.
وقد رويت له آثار في الشعر والخطب الطوال تسلكه بين الشعراء والخطباء، فنسب إليه من الشعر هذان البيتان:
ونسبت إليه أبيات قالها لعمارة الذي راود امرأته، بعد أن أوقع به في الحبشة:
ومن الشعر المنسوب إليه وصف فرسه في قوله:
وكل ما نسب إليه من شعر فهو من هذه الطبقة التي لا تسف، ولا تعلو إلى الذروة بين بدائع الشعراء.
يا معشر الناس إياي وخلالًا أربعًا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذل بعد العز: إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل والقال، في غير درك ولا نوال إنه لا بد من فراغ يئول المرء إليه في توديع جسمه، والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وشهواتها، فمن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلًا، وعن حلال الله وحرامه عادلًا، يا معشر الناس: قد تدلت الجوزاء وارتفعت الشعرى، وأقلعت السماء وارتفع الوباء، وقل الندى وطاب المرعى، ووضعت الحوامل ودرجت السخائل، وعلى الراعي حسن النظر … فحيَّ بكم على بركة الله إلى ريفكم، فتنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنها جنتكم من عدوكم، وبها تنالون مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا، وإياكم والمشمومات المعسولات، فإنهن يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدثني أمير المؤمنين عمر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الله سيفتح عليكم مصرًا فاستوصوا بقبطها خيرًا، فإن لهم فيكم صهرًا وذمة.» فكفوا أيديكم وفروجكم وغضوا أبصاركم، فلا أعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أنني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حولكم ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال، والخير الواسع والبركة النامية. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا، فذلك الجند خير أجناد الأرض.» فقال أبو بكر: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.» فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم، وأقيموا في ريفكم ما بدا لكم، فإذا يبس العود وسخن العمود وكثر الذباب وحمض اللبن وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحي على فسطاطكم على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله، على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
وهذا نموذج نادر من الخطب المنبرية التي كان الخطيب فيها يتولى «وظيفة» الوالي والواعظ والوالد والزعيم، وكان فيها مسحة من البرامج السياسية، والخطط الإدارية ونفحة من الشعر وقبس من الدين والحكمة.
•••
ومن لواحق هذا الباب أن نأتي ببعض الأحاديث التي رواها عمرو عن النبي ﷺ؛ لأن عقل الرجل ودينه قد يظهران مما يجري على لسانه من كلام غيره، كما يظهران من كلامه.
قال رجل من بني بكر بن وائل: لئن لم تنته قريش ليضيعن هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب سواهم، فقال عمرو بن العاص: كذبت! سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة.»
واختصم رجلان إلى النبي ﷺ، فقال لعمرو: «اقض بينهما.» فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله! قال: «وإن كان.» قال: فإذا قضيت بينهما فما لي؟ قال: «إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.»
وقال عمرو: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد — وكان في غزوة ذات السلاسل — فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله ذكرت ذلك فقال: «يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟» قلت: نعم يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله — عز وجل: وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: ٩٢]. فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئًا.
•••
واستأذن على فاطمة — رضي الله عنها — فأذنت له، فسأل: ثَمَّ عليٌّ؟ قالوا: لا. فرجع، ثم استأذن عليها مرة أخرى، فسأل كذلك: ثم علي؟ قالوا: نعم فدخل، فقال له علي: ما منعك أن تدخل حين لم تجدني ههنا؟ قال: إن رسول الله نهانا أن ندخل على المغيبات.
•••
وإن الرجل في حديثه مع النبي لهو عمرو بن العاص في كل ما ثبت له من رواية أو عمل أو مقال.