خاتمة مفسرة
ظهرت في السنوات الأخيرة كتب عدة عن تاريخ مصر، كتب بعضها باللغة العربية، وكتب أكثرها باللغات الأوروبية، ووجهتها جميعًا تشويه الماضي وتصوير الحاضر على الصورة التي توافق أهواء المؤلفين، وتخدم مساعيهم التي لا تخفى … ولا تفهم أهواء أولئك المؤلفين إلا على وجه واحد، وهو أنهم يتمنون لو لم تخرج مصر من حكم الدولة الرومانية، ومن رعاية كنيستها التي كانت قائمة يومئذ في القسطنطينية وفي رومة، وكل ما يأتي بعد ذلك من تصويرات أولئك المؤرخين، فهو مفهوم على هذا الاعتبار.
فمن حقائق التاريخ التي لا تحجبها الأهواء، أن انتشار المسيحية في مصر إنما كان احتجاجًا روحانيًّا على الدولة الرومانية؛ ولهذا لم ينقطع الخلاف بين مصر والدولة الرومانية بعد دخول هذه في الدين المسيحي، فقد ظهر سخط المصريين بعد ذلك في صورة أخرى، فقاوموا المذهب الملكي الذي فرضته عليهم تلك الدولة، وفرقوا بينه وبين مذهبهم بهذه التسمية التي جعلت المذهب الحكومي الروماني في جانب، وجعلت المذهب القومي المصري في الجانب الآخر، ودار النزاع على هذا المحور إلى نهاية عهد الدولة في الديار المصرية.
كذلك ينقض التاريخ كل ما يقال عن التفرقة بين عناصر الوطنية المصرية؛ فمن الحقائق الواضحة أن المسلمين والمسيحيين سواء في تكوين السلالة القومية، ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء في الأصالة والقدم عند الانتساب إلى هذه البلاد، فإذا كان بين المسلمين المصريين أناس وفدوا من بلاد العرب أو الترك، فبين المسيحيين المصريين كذلك أناس وفدوا من سورية واليونان والحبشة، ودانوا بمذهب الكنيسة المصرية أو بغيره من المذاهب المسيحية، ويبقى العديد الأعظم بعد ذلك سلالة مصرية عريقة، ترجع بآبائها وأجدادها إلى أقدم العهود قبل الميلاد المسيحي، وقبل بعثة موسى — عليه السلام.
وحديث المظالم التي يلج المؤرخون المغرضون في التنقيب عنها قد تثبت كل الثبوت أو تثبت المبالغة فيها لغرض من الأغراض، ولكنها إذا رويت على حقيقتها التاريخية مجردة من تلك الأغراض، لم تنحصر في مصر ولا في بلد واحد من بلاد العالم … فمن أجل المظالم وأشباهها ثارت الأمم في الغرب والشرق، ومنها أمم مسيحية تثور على حكام مسيحيين، أو أمم إسلامية تثور على حكام مسلمين، وقد يكون الثائرون والطغاة من أبناء نحلة واحدة تنتمي إلى دين واحد، كما حدث منذ القرون الوسطى إلى القرن الأخير.
وعصمة القارئ والمؤرخ في تمحيص الحقائق أن يلتمس هوى «الدولة الرومانية» في كتابة تاريخ هذا البلد بعد زوالها، فكل من كتب التاريخ كأنه يضع نفسه في موضع تلك الدولة ويتحسر على زوالها، وزوال سلطانها وسلطان عواهلها وأحبارها، فهو «أجنبي الهوى» يشوه الماضي، ثم لا يعنيه تشويه الماضي في الواقع، بل يريد أن يتسلل من الماضي كما يصوره إلى الحاضر كما يشتهيه، ودون ذلك، ويعتصم الحق بحمى الوطن وحمى التاريخ.