التعريف بعمرو بن العاص
التعريف بنشأة عمرو بن العاص، تمهيد لازم للتعريف بصفاته وطباعه، والتعريف بهذه الصفات والطباع تمهيد لازم للتعريف بأعماله ومساعيه؛ لأن الأعمال والمساعي لن تفهم على حقيقتها إلا بفهم الطباع التي توحيها والنيات التي تسبقها والغايات التي ترمي إليها، وقد تتشابه الأعمال والمساعي في ظاهر الأمر وهي في الحقيقة مختلفة أشد اختلاف، مفترقة كما يفترق الخير والشر أو تفترق الرفعة والضعة، وإنما مناط ذلك كله بالفرق بين باعث وباعث، والاختلاف بين نية ونية.
وأدنى إلى القصد في هذه السبيل أن نلم بالصفات والطباع، ثم نتتبع الأعمال الصادرة عنها مفهومة واضحة البواعث والأغراض، من أن نلم بالأعمال مبهمة متشابهة، ثم نعود إلى تفسيرها بما نستخلصه من طباع صاحبها ونياته.
لهذا بدأنا قبل سرد الأعمال بهذا التعريف الذي يسبغ الدلالة على تلك الأعمال.
•••
والمحفوظ لنا من صفات عمرو الجسدية قليل، ولكنه كاف إذا لم يكن بد من الاكتفاء منها بقسط له دلالة.
فهو كما يؤخذ من جملة الأقوال التي وصف بها: «أدعج، أبلج وافر الهامة، رَبْعَة، أقرب إلى قصر القامة، يخضب بالسواد» عليه مهابة وشمائل نباهة وسيادة، كما يدل عليه ما تقدم من قول عمر فيه «ما ينبغي أن يمشي أبو عبد الله إلا أميرًا …»
وإذا جاز أن يكون لهذا التكوين الجسدي أثر في أخلاقه ودخائل طبعه، فذلك أثر آخر يعين أثر النسب المغموز من جانب أمه، وهو التماس «التعويض» بكل ما في النفس من حول وحيلة، وحفز الهمة إلى مكان يسطع فيه المرء سطوعًا يداري المغمز في النسب والنقص في المظهر، فيروع القلب بالسطوة والشارة إذا اجترأت عليه العيون أول نظرة، أو اجترأت عليه الألسنة بالثلب والمهانة: رجل متهم النسب قصير، ولكنه لا يضار بذلك في مقام الفخر بين ذوي الحسب والبسطة من عظماء الرجال.
وإذا اعتزم الرجل هذه العزمة، وكان من أصحاب الهمة والشهامة، أو ما نسميه اليوم بالقوة الحيوية، فأخْلِق به أن يبلغ ما يصبو إليه وأن يذهب بعيدًا في مسعاه الذي توفر عليه!
أما أن عمرًا كان من أصحاب «القوة الحيوية» فذلك ظاهر من احتفاظه بحضور ذهنه ومضاء عزمه، إلى تلك السن العالية التي تجاوز بها قوم التسعين، ولم يهبط بها أحد إلى ما دون السبعين، فإنه ليجيش به هذا الطبع وقد أناف على الخامسة والأربعين إلى فتح البلاد وتقليب الدول، وافتتاح المساعي إلى المجد والرئاسة، كأنه ناشئ لما يزل في بادرة الشباب ومستهل المغامرات والمجازفات في سبيل الشهرة والسلطان!
وقد وصفت لنا شارة عمرو هنا وهناك، فإذا هو في كل صفة من هذا القبيل عظيم العناية بما يروع الناس من هيبته وفخامة مرآه، وليست مشيته التي أشار إليها الفاروق بأقل ما احتفل به لتلك الشارة والفخامة.
قال أبو مخنف: «حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا بن عباس! مالك إذا رأيتني وليتني القصرة، وكأن بين عينيك دبرة!» (أي: أعرضت وازوررت عني) … فأجابه ابن عباس جوابًا مقذعًا فيه من الجرأة مثل ما فيه من الدهاء، وانتهى منه قائلًا: «حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطع بحلمه وتسمو بكرمه.»
ولم يشأ عمرو — وقد ذهب دور المفاجأة — أن يبزَّه ابن عباس في الدهاء، فعاد يقول: «أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟»
قال ابن عباس: «حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا!»
ووصفه بحير بن ذاخر المعافري وهو مقبل إلى المسجد يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «… فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت … فقام عمرو بن العاص على المنبر … وعليه ثياب موشيَّة، كأن به العقيان يأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة …»
فهذه الأبهة المقصودة — ولا سيما قبل استقرار السلطان له — هي أثر من آثار ذلك النسب المغموز وتلك القامة المحدودة.
•••
أما صفاته النفسية فنبدؤها بما وصف به نفسه، أو يقول الرواة الذين وصفوه هذا الوصف، وهم يدعون من المعرفة به ما يقوله الرجل حين يصف نفسه بلسانه.
روى هشام بن الكلبي أن أناسًا لاموا معاوية على تقديمه عمرًا فبلغته ملامتهم، فقال بعد استشهاد: «… قد علمتم أنني الكرار في الحرب، وأنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة … ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته، وإني ما ضربت إلا فريت ولا يخبو ما شببت، عرفني أصحاب يوم الهرير (بحرب صفين) أنني أشدهم قلبًا وأثبتهم يدًا، أحمي اللواء وأذود عن الحمى، فكأنني وشانئي عند قول القائل:
وهذا وصف صادق، إذا أغضينا عن جانب الفخر فيه، طابق صفاته النفسية التي تشهد بها أقواله وأعماله ومساعيه، وهي مجموعة محكمة من الصفات القوية، لكنها على قوتها بسيطة متناسبة، يأخذ بعضها ببعض على نحو مألوف غير مستغرب في أمثال هذه النفس الفطرية، وأعمقها جدًّا هو أظهرها جدًّا …! أو هو الذي تعمق حتى بلغ من عمقه أن ينضح على قسمات وجهه وحركات جسده، وهو الطموح إلى الهيبة والثراء، وطلب البسطة في الجاه والمال، ما نخاله وقف في الطموح عند حد، ولا قعد عن الخلافة وهو مختار، بل هو قد طمح إليها وأعد عدَّته لإقصاء بني أمية عنها، فلما أيأسه مغمز النسب ورجحان بني أمية على بني سهم في العصبية القرشية، طوى الصدر على كظم وقعد عنها وهو كاره يعزي نفسه بقوله المأثور عنه: «إن ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة.»
وكان سعيه إلى الرئاسة والمال باديًا منه في الإسلام كما بدا منه في الجاهلية، فلم يعرف له موقف قط نزل فيه عن الرئاسة باختياره.
فلما بعث به النبي — عليه السلام — إلى غزوة ذات السلاسل، أرسل في طلب المدد فجأءه المدد من المهاجرين، وفيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجراح أمير، فقال عمرو: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله أستمده بكم، فأنف المهاجرون أن يؤمروه وفيهم من فيهم من جلَّة الصحابة، وقالوا: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أميرنا … قال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم …
وأشفق أبو عبيدة أن يتخاذلوا وهم على أهبة الحرب، فقال له: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا.» وإنك إن عصيتني لأطيعنك، قال عمرو: إذن أنا أعصيك، قال أبو عبيدة: وأنا أطيعك.
وعاد إلى منازعة أبي عبيدة الرئاسة والإمارة يوم أقدم أبو بكر — رضي الله عنه — على فتح الشام، فسعى عند عمر ليقنع الخليفة بتأميره على الألوية جميعًا، وكان يوشك أن يفلح في مسعاه لولا إكبار عمر لأبي عبيدة، حتى لقد هم بمبايعته بعد النبي — عليه السلام — قال: إنه ليستخلفنه بعده لو عاش.
وقد كان حب المال يملؤه ويتمكن منه حتى لم يبال أن يخفيه، ولم يزل يتكلم — كلما دعاه داعي الكلام — بما يكشفه وينم عليه.
سأله معاوية وقد شاخا وبطلت لذات الشباب عندهما: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: محادثة أهل العلم وخبر صالح يأتيني من ضيعتي.
وفي حديث آخر أنه دخل يومًا على معاوية، وقد كبر ودق ومعه مولاه وردان، فتذاكرا الأيام واستطرد عمرو سائلًا: يا أمير المؤمنين ما بقي مما تستلذه؟ قال معاوية: «أما النساء فلا أرب لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست منها حتى وهى بها جلدي، فما أدري أيها ألين، وأما الطعام فقد أكلت من لبنه وطيبه حتى ما أدري أيه ألذ وأطيب، وأما الطيب فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب … فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بنيَّ وبني بنيَّ يدورون حولي … فما بقي منك يا عمرو؟!» فقال: «مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته!»
وقد اشتهر منه هذا الحب للمال حتى عرضه لظنون الخلفاء واحدًا بعد واحد؛ فقاسمه عمر ماله، وعزله عثمان من ولاية مصر وهو يحسب أنه قد استأثر بخراجها دون بيت المال، وقال له معاوية يومًا وهو يذكر له الحساب والعقاب والأوزار التي يثقل بها ميزان السيئات: هل رأيت بينها شيئًا من دنانير مصر؟
ومن ثم تسابق الرواة في تقويم ثروته يوم وفاته، فاعتدل صاحب «مروج الذهب» في وصفها بعض الاعتدال، وبالغ صاحب «حياة الحيوان» فقال: إنه خلف «سبعين بهارًا دنانير» والبهار من جلد الثيران، قيل: إنه يسع أردبين!
ثم عهد إليه في ولاية الصدقة بعمان، فبقيت له إلى أن تولى أبو بكر الخلافة فرغَّبه فيما هو خير منها.
وظل الرجل يسائل نفسه عن حفاوة النبي به إلى آخر حياته، فروى الحسن البصري أن بعضهم قال له — أي عمرو — أرأيت رجلًا مات رسول الله ﷺ وهو يحبه أليس رجلًا صالحًا؟ قال: بلى، فقال محدثه: قد مات رسول الله ﷺ وهو يحبك، وقد استعملك، قال: «بلى … فوالله ما أدري أحبًّا كان لي منه أو استعانة بي.»
•••
ومن خصائص هذا الطموح الذي لزمه من صباه إلى ختام حياته أنه كان كما رأينا طموحًا قائمًا على مطالب الواقع في بواعثه ومراميه، فكانت نظرته إلى الدنيا نظرة معروفة الموارد والمصادر، ولم تكن تلك النظرية الخيالية التي يتَّسم بها أصحاب الحماسة والأحلام من ذوي الطموح.
فلم نعرف قط حكمًا من أحكامه في أجل الأشياء فارقته تلك النظرة العملية، أو ذلك المقياس الموكَّل بالأحوط والأنفع في ترجيح جانب على جانب وطريقة على طريقة.
وحسبك من جلائل الأحكام في أعظم مطالب الحياة حكمه في مسألة العقيدة الإسلامية وحكمه في مسألة الخلافة، وهما أعظم ما عرض له من المشكلات التي تتطلب الترجيح والتفضيل، وكلاهما قد حكم فيه على سنة الأحوط والأنفع بين مختلف الوجوه.
فلما استراب المشركون في ميله إلى الإسلام أوفدوا إليه من يسأله في ذلك، فلم يكاشفه بالحقيقة لأول وهلة، بل واعده إلى مكان منفرد وقال له: أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال صاحبه: اللهم بل نحن، فسأله: أفنحن أطيب معاشًا وأوسع ملكًا أم فارس والروم؟ قال صاحبه: بل فارس والروم، فقال عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أكثر فيها أمرًا، ثم عاد فقال: قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق؛ ليجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا بن أخي الذي وقع في نفسي ولا خير في التمادي في الباطل.
وخلاصة هذا البرهان العملي أن الإسلام أنفع للعرب وأصلح للدنيا والآخرة، فهو أحق بالتصديق وأجدر بالاتباع.
ولبث في مشتجر الخلافة لا يميل إلى طرف من أطرافها، حتى انحسر الخلاف كله عن حزبين اثنين لا ثالث لهما، فوجب عليه أن يخرج من عزلته لينصر أيهما، وهما حزب علي وحزب معاوية.
فدعا بولديه عبد الله ومحمد فقال لهما: إني قد رأيت رأيًا ولستما باللذين ترداني عن رأيي لكن أشيرا علي، إني رأيت العرب قد صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟ قال له عبد الله وقد علمنا تقواه: إن كنت لا بد فاعلًا فإلى علي، قال: إني إن أتيت عليًّا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.
وعلى هذا الأساس في التفضيل بين الطرق سلك أحب الطريقين إليه وأجدرهما عنده بالاتباع.
•••
وأعانه على هذه النظرة العملية أنه كان مالكًا لزمام شعوره، آمنًا أن تضله الحماسة من ناحيتها أو يضله الحنان من ناحيته، قابضًا بعقله على جمحات العاطفة كما نسميها اليوم، أو كما قال هو: «أبلغ الناس من كان رأيه رادًّا لهواه، وأشجع الناس من ردَّ جهله بحلمه.»
فليس في جوامح الشعور ما هو أشد جماحًا ولا أقرب أن ينفلت من قبضة العقل من غضبة الغيور على عرضه، أو حنان الواقف على جثة أخيه، أو نخوة المتصدي للقتال بين معسكرين، فهي هي الجوامح التي قل أن تراض وأن تثوب على المشيئة إلى قوام.
ولكنه عمرًا قد راضها كلها على ما أراده في حينها وبعد حينها، وكانت رياضته لها وهو في عنفوان الصبا كرياضته لها وهو في أوج الكهولة قد أناف على الأربعين.
خرج مع عمارة بن الوليد المخزومي إلى أرض الحبشة تاجرين، وكان عمارة مولعًا بالخمر والنساء فشرب وهما في السفينة فانتشى، ونظر إلى امرأة عمرو نظرة اشتهاء ثم هم بتقبيلها، بل أومأ إليها أن تقبله في قول صريح، فقال لها عمرو — متقيًا ما يكون من رجل سكران بين الماء والسماء: قبِّلي ابن عمك! فقبلته، فلم يزد ذلك عمارة إلا إغراء بالمراودة وجرأة على القحة، ولمح عمرًا على حافة السفينة — وهو في سكرة من سكراته — فدفع به إلى الماء يظنه غير قادر على السباحة، كما يغلب بين أبناء البادية، فسبح عمرو حتى نجا وسمع عمارة وهو يقول له غير آبه بحقده عليه: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت! فإذا هو قد جمع سوء النية بحياته إلى سوء النية بعرضه ومع هذا كله كظم عمرو ما بنفسه، وظل يصانعه حتى تمكن من الكيد له عند النجاشي، فأرسله في العراء مخبولًا يعيش في الغربة عيش الأوابد حتى مات …!
واشترك عمرو وأخوه هشام في حرب الشام، وأخوه هذا من علم الناس في الصلاح وصدق البلاء، فإذا ثلمة في الطريق يتخطف المدافعون من يهجم عليها بالسيوف، فهابها العرب وأحجموا عنها وطال ترددهم لديها، فإذا هشام يقدم عليها وهو ينادي في الجيش: يا معشر المسلمين إليَّ إليَّ! أنا هشام بن العاص! أمن الجنة تفرون؟ وما زال يتقدم حتى خر قتيلًا متعرضًا في تلك الثلمة المرهوبة، فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يدوسوه كرامة له ولأخيه، فكان عمرو أول من تقدم فداسه وهو يصيح بجنده: أيها الناس إن الله قد استشهده ورفع روحه، وإنما هي جثة ثم أوطأه وتبعه الناس، حتى تقطع وهو مشغول عنه بما هو أجدى وأعظم، فلما انتهت الهزيمة عاد إليه وجعل يجمع لحمه وأعضاءه وعظامه بيديه ثم حمله في نطع فواراه …!
وبرز علي بن أبي طالب يومًا في حومة صفين وقد طال أمد القتال، فقال: يا معاوية! علام يقتتل الناس؟! ابرز إلي أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، وجاء في روايات شائعة أن عمرًا قال لمعاوية يومئذ: والله لقد أنصفك الرجل …! فظن معاوية أنه يغرر به ويدفع به إلى هلاكه طمعًا في دولته؛ فأقسم عليه ليخرجن للمبارزة التي أغراه بها، فلما غشيه علي بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته، فضرب على وجه فرسه وانصرف عنه.
وكل هذه أخبار متوافقة يخيل إليك أنك ترى ابن العاص وهو يفعلها ويروض وقائعها رياضة الرجل الذي يعتز بقدرته على هواه، وكأنه يأنف لدهائه أن يغتر بنزوات الساعة كما يغتر بها سائر الناس، وكلها تعبر عن خليقة لا شك في صدقها عند ابن العاص، وإن تمارى الناس في صدق الروايات، ونعني بها خليقة النظرة العملية وغلبة العقل على الشعور.
ولا شك أن استحضار هذا «الخلق العملي» لازم جدًّا للمؤرخ في كل خطوة يخطوها مع عمرو بن العاص في أحواله الفردية أو أحواله العامة؛ لأنه سرى من مزاجه إلى سياسته وطريقة التفاهم بينه وبين الناس، سواء كانوا من الزملاء أو الرعية أو الأعداء، وقلما تظهر الطريقة التي يقتنع بها الرجل من شيء كما تظهر من الطريقة التي يقنع بها الآخرين.
انظر مثلًا إلى الفرق بينه وبين عبادة بن الصامت في إقناع عظماء القبط ببقاء العرب في مصر، وأنهم لن يتركوها وقد دخلوها، ولن يرجعوا عن فتحها جميعًا لا لرغبة في رشوة ولا لرهبة من قوة.
فإن عبادة بن الصامت لم يزد على أن احتقر الدنيا حين خوَّف المقوقس عاقبة الإيغال في بلده، فكان توكيد حب الآخرة هو فحوى كلامه حين قال: إن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده؛ إنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبيُّنا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.
أما عمرو فإنه وقف مثل هذا الموقف فلجأ إلى الطعام؛ ليقنع عظماء القبط بأن العرب غير تاركي مصر وقد دخلوها.
«أمر — كما جاء في الطبري — بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلًا عربيًّا: انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعًا وجرأة، ثم بعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئًا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا وقالوا: كدنا، وبعث إليهم — أي إلى أمراء الجنود — أن تسلحوا للعرض غدًا وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم افتقار العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم ثم حالهم في الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول …»
وإن هذا الضرب من البراهين لقائم عنده أبدًا لا يأتي عرضًا في حادث من الحوادث ثم ينقضي بانقضائه، وكثيرًا ما ذكر الطعام وهو يلجأ إلى الإقناع، فكان من كلامه: «أكثروا الطعام، فوالله ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضيت عزمة رجل بات بطينًا!»
بل هو يقوم الأخلاق والفضائل بقيمتها العملية وفائدتها الملموسة، فالعدل مثلًا فضيلة جميلة محبوبة، ولكنها عند عمرو محبوبة؛ لأنها سياسة حسنة لتوفير المال كما قال: «لا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.»
وإن ذلك لشأنه في تقويم كل قيمة، وتفضيل كل فضيلة.
•••
وفي أخلاق عمرو «عقدة نفسية» لا تفتأ تصادفنا عند المقابلة بين نقائضه، كما تصادفنا في جميع العظماء من أمثاله وأشباههم في الطبيعة والملكة، ونعني بهم أولئك الذين يلتقي فيهم الطموح والحركة وضبط النفس في سبيل المطالب التي يطمحون إليها، فما منهم أحد إلا وجدت له نقائض من الحذر الشديد والاندفاع الشديد، أو من ضبط النفس كأنه لا يعرف جمحات الشعور، ومن المجازفة كأنه لا يعرف الرويَّة، وهي نقائض في الظاهر وليست بنقائض في الحقيقة؛ لأن قوة الطموح تفسر لنا النقيضين، فإذا هما مستمدان من ينبوع واحد وهو قوة الطموح؛ إذ إن هذه القوة الطامحة لا تزال محضرة له الأمل شاخصًا باهرًا نصب عينيه، فيهون عليه أن يكبح شعوره الجامح في سبيل الوصول إلى أمله العظيم، أو في سبيل المحافظة عليه بعد الوصول إليه.
ثم يثقل الكبح على هذا الطماح لقوته فيلتمس الروح منه والمنفس من قيده بالمجازفة، كما يتوق الصائم إلى العيد، والفرس الملجم إلى المراح.
فساعة المجازفة وهي ساعة التسريح من القيد، وهي ألزم له من حالة التوسط التي لا قيد فيها ولا انطلاق.
وقد كان الذين يعرفون عمرًا بالدهاء وكبح الهوى، يعرفونه كذلك بالاندفاع والهجوم على المهالك، فقال عثمان يحذر منه الفاروق — رضي الله عنهما: «إن عمرًا لجريء الجنان، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة فيعرض المسلمين للهلكة!»
وشاعت عنه روايات في المجازفة، يخيل إليك أنها من أطوار الحماسيين أصحاب الخيال، لولا أن العقال يغري بالانفلات من ربقته، فيقدم الرجل الحذور على شطحات قد يحجم عندها صاحب الخيال المشبوب!
قيل: إنه تعرض للموت مرات، لاقتحامه الحصون على أعدائه في هيئة رسول أو محارب من عامة الجند في جيش المسلمين؛ فلما طلب والي قيسارية رسولًا من العرب يكلمه ذهب عمرو إليه، فأعجب الرجل بحديثه وعقله وخطر له أنه قد يكون أمير العرب فيستريح منهم جميعًا بقتله، فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، قالوا: وتنبه عمرو، أو نبَّهه أحد إلى المكيدة فرجع إلى الوالي يقول: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرًا من أن يكون عند واحد، فقال: صدقت! عجِّل بهم، وبعث إلى البواب أن خل سبيله.
ورووا عنه في الإسكندرية قصة تماثل هذه القصة، وهي أنه اقتحم بعض حصونها مع فريق من الجند، ثم ارتدوا وبقي هو وثلاثة من صحبه، فعرض عليهم الروم أن يخرجوا إليهم ليبارزوهم واحدًا لواحد، فتصدى هو للمبارزة، لولا أن منعه صاحبه مسلمة بن مخلد، ووقف دونه وهو يقول له: «ما هذا؟ تخطئ مرتين فتشذ عنك أصحابك وأنت أمير، وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك، لا يدرون ما أمرك حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاءً على أصحابك، مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله.»
قالوا: ومثل بين يدي البطريق فعجب هذا من أنفته وقوة جوابه، فالتفت إلى من في مجلسه وقال لهم باليونانية: «يظهر من أنفة هذا الرجل وكبر نفسه أنه من وجوه العرب، وربما كان من كبار قوادهم فلا ينبغي أن نتخلى عن قتله.» وكان مولاه وردان يفهم اليونانية، فأحب أن يريهم خطأهم، وبين لهم أن الذي يكلمهم إنما هو رجل من عامة الجند، فأسرع إليه فلطمه صائحًا به: ما أنت ولهذا يا لُكع! دع هذا المقال لمن هو أولى منك بالكلام عن قومه! فكانت هذه اللطمة سبب نجاته.
ورويت عنه روايات أخرى من هذا القبيل إن صحت كلها أو صح بعضها، أو كانت كلها اختراعًا من تلفيق الرواة، فالدلالة التي لا شك فيها على كل حالة من هذه الحالات أن الرجل كانت له شهرة بالمجازفة تقبل فيها أمثال هذه الروايات، وتدعو إلى تلفيقها بما يشبه الواقع المعهود من أخلاقه.
وهو نفسه كان يقول ما ينم على هذا الخلق فيه، فهو القائل: «عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة.»
ولعله لم يفصح بكلمة من كلماته عن ضيقه بقيود الحكمة والسمت وكبح الهوى، كما أفصح عنه بقوله وقد سئل عن أمتع اللذات، إذ قال: «إسقاط المروءة!»
فهي كلمة الرجل الذي تقيد بالوقار، حتى أصبح طرح الوقار عنده غاية ما يبتغيه من اللذة ويشتاق إليه، وتقيد بكبح الهوى حتى أصبحت المجازفة في المزالق المهلكة هي فرجة نفسه من ذلك الحجر الذي ضربه عليها.
أفنقول إذن: إنه شجاع مقدام، أم نقول: إنه جبان حذور؟
بل نقول: إنه شجاع كما قال معاصروه وقد شهدوه في مواقف الاستبسال ومآزق الحرب والفزع، ولكننا نعود فنقول: إن شجاعته وكل فضيلة فيه إنما كانت في خدمة طموحه إلى المجد الذي كان يسعى إليه، فهو يضن بشجاعته أن يبذلها في غير طائل، ويتخذها وسيلة إلى غاية ولا يجعلها هي الغاية التي تنقطع دونها الوسائل.
وقد سأل هو صاحبه معاوية يومًا: «والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟» فقال معاوية:
وبمثل هذا الجواب يستطيع عمرو أن يجيب من يسأله مثل ذلك السؤال، إلا أنه كان أحوج إلى الوثوب والمجازفة من معاوية، فقد كان نسب معاوية ومكانته في بني أمية مع طول استعداده للملك مغنيًا له عن عجلة الوثوب والمجازفة من حيث لا يستغني عنه عمرو وهو مغموز النسب، مخذول العصبية، مضطر إلى إدراك مطلبه قبل أن يفوته، فلا تسنح لإدراكه سانحة أخرى.
ومن ثم اختلف دهاؤه ودهاء معاوية — كما قال مرة وهما يتساءلان عن العقل — قال معاوية: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه، فقال معاوية: لكنني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه.
كل منهما بدهائه أشبه: عمرو في اقتحام الطموح المغامر، ومعاوية في تؤدة المستقر الواثق، وعمرو في دفعة العبقرية، ومعاوية في رويَّة التدبير الطويل.
ولعل هذه الحيلة الحاضرة التي كانت تجود بها عبقرية عمرو كخاطف البرق في المآزق المطبقة، وهي التي كانت تزين له الهجوم على المورد وهو واثق من قدرته على الصدور، فكان في مجازفته شيء من الحيطة المجهولة، تبقى مجهولة حتى تعلم في الوقت المقدور، فإذا هي مسعفة لا تخيب رجاءه فيها واعتماده عليها.
ولقد أحصى العرب دهاتهم في الإسلام فعدوا أربعة هو منهم، وجعلوا لكل منهم مزية يمتاز بها في دهائه فقالوا: إن معاوية للروية وعمرو بن العاص للبديهة والمغيرة للمعضلات وزياد لكل صغيرة وكبيرة.
ونظن أن لو تكلم العرب باصطلاح هذه الأيام لقالوا: إن حيلة عمرو هي حيلة العبقرية المطاعة التي تتفتق له من حيث يعلم ولا يعلم وآيتها أنها عبقرية معبرة تلهم الخاطر السريع وتلهم التعبير عنه في كلم وجيز، وهذه هي العبقرية التي يختلط أمرها أحيانًا على من يراقبونها فيتهمونها بالطياشة، ويرمونها بدفعة التهور؛ لأنهم يسلسلون أسبابهم في بطء وتثاقل، وهي تسلسل أسبابها في سرعة وخفة، فيبدو لها ما يظل خافيًا عليهم ملتبسًا في أعينهم، ولولا أنها واضحة عند صاحبها كل الوضوح لما تسنى له التعبير عنها بأسلوب يلائم ومضاتها في السرعة والنفاذ.
قيل لعمرو: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما سيكون بما قد كان، وذلك هو الظن الذي يقول فيه القائل:
والأصح أن يقال: إن التعريف بالعقل هنا هو التعريف بعقل عمرو نفسه؛ لأنه كان يجمع بين الفطنة والخبرة، وبين التخمين واليقين، ويأخذ من أمامه بالنظرة الخاطفة فإذا هو قد وصل، والذي أمامه لا يزال يتحرى سبيل الوصول.
قيل في غير الرواية التي قدمناها: إنه هو الذي وصف نفسه ووصف الدهاة الثلاثة معه على تلك الصفة، وأنه اجتمع مع معاوية بن أبي سفيان مرة فقال له معاوية: من الناس؟ فقال: أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد، قال معاوية: كيف ذلك؟ قال: أما أنت فللتَّأني، وأما أنا فللبديهة، وأما المغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير … قال معاوية: وأما ذانك فقد غابا، فهات بديهتك يا عمرو! قال: أوتريد ذلك؟ فأجابه نعم، فسأله أن يخرج من عنده فأخرجهم، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، أسارُّك، فأدنى معاوية رأسه منه، فقال عمرو: هذا من ذاك! من معنا في البيت حتى أسارك؟
وتصح هذه الواقعة أو لا تصح فهما يستويان، إذ الغرض الذي ترمي إلى إثباته صحيح، وهو أن تفكير عمرو تفكير بديهة حاضرة، وأن تفكير معاوية تفكير روية بطيئة، ومرجع ذلك كما قدمنا إلى سببين: أحدهما أصيل والآخر عارض، فالسبب الأصيل أن عمرًا يصدر عن وحي العبقرية، وأن معاوية صاحب عقل من العقول الوسطى التي أفادتها المرانة وتمثلت أمامها قدرة الآباء، كأنها السِّجل المحفوظ الذي ينقل عنه نقل المحاكاة، والسبب العارض أن عمرًا مضطر إلى الوثوب والاقتحام؛ لأنه لن يفتح له باب بغير اقتحام، أما معاوية ففي موضعه وانتظار ساعته على هينة ووثوق، فإن وصل فذاك وإن لم يصل فالذي في يده يغنيه، والعجلة لا تغني عنه ولا تنفعه كما تنفعه الأناة.
•••
والبديهة الحاضرة في أعمال عمرو لا تحصى شواهدها، فإنها تلازمه في جميع حالاته ولا تبدو منه في حالة دون حالة: تذكيها المآزق والخوف من الخطر، ولا تخمدها الطمأنينة والأمان في سرية، ويستخدمها لغيره كما يستخدمها لنفسه كما شاء.
خرج يعس بالليل وهو أمير على مصر، فسمع أناسًا يقعون فيه ويتوعدونه وعلم أنه إن تركهم إلى غده لم يعرفهم ولم يظفر بأجمعهم فأقبل عليهم إقبال الخائف الطريد، وأوهمهم أنه يلوذ بهم ويضرع إليهم ألا يسلموه إلى الأمير؛ لأنه يتعقبه ويمعن في طلبه، فاستبقوا إلى تقييده وساقوه إلى باب قصره لا يتخلف أحد منهم طمعًا في المثوبة، فأوصلهم إلى حيث أراد!
وقتل الروم رجلًا من المسلمين حول الإسكندرية، واحتزوا رأسه وانطلقوا به إلى داخل الحصن، فأقسم أبناء قبيلته لا يدفن إلا برأسه، قال عمرو: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم! احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلًا، ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم، فلما فعلوا إذا برأس صاحبهم يسقط عليهم، فقال: دونكم الآن فادفنوه برأسه.
أما البديهة الحاضرة في تعبير عمرو، فمسطورة الشواهد في مساجلاته وأجوبته ورسائله وأوصافه، فهي جميعًا مثل من أمثلة الإيجاز والمضاء، كأنها ضرب من الاختزال لولا أنها واضحة وضوح التفصيل، وقد رويت له مقطوعات من الشعر تسلكه بين طبقة من الشعراء، لولا أن كلمات البديهة التي أثرت عنه قد غلبت على نظمه ونثره، فكانت أولى بالدلالة على العارضة القوية فيه وهي أنبغ ملكاته، وحسبك من نبوغ هذه الملكة فيه أنها كانت عند الفاروق من آيات قدرة الله، فكان إذا رأى رجلًا يتلجلج في كلامه قال: آمنت بالله! … خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد!
•••
وإذا اجتمع للرجل ذكاء ماض، وعزيمة ماضية، ولسان ماض، وهوى يمضي في زمامه وينثني بعد عرامه، فذلك الرجل الذي يحسب له حساب في كل زمان وجد فيه.
ولكنه أحرى أن يحسب له كل حساب في أيام الفتن والقلاقل واختلاف الدعاوى والحقوق؛ لأنه يستطيع التفريق والتوفيق ويستطيع التأليب والتغليب، وعسير جدًّا أن يهمل شأنه بين الشيع والأحزاب، وإن لم يكن إهماله في غيبة الشيع والأحزاب جدَّ عسير.
لهذا لم يظهر لعمرو بن العاص شأن ذو بال في الترشيح للخلافة بعد الفاروق، بل عُد دخوله في هذا الأمر من الفضول والتظاهر بما ليس من قدره؛ فلما اجتمع رهط الشورى في بيت عائشة لانتخاب الخليفة أقبل هو والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما من مكانهما وهو يهزأ بهما قائلًا: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في الشورى؟!
فما زالت الأيام تدور دوراتها حتى أصبح هذا المحصوب الذي استكثر عليه الجلوس بباب أهل الشورى، فإذا هو قبلة القصاد في مشكلة الخلافة، وكل من عداه لائذون بالأبواب …!
ولا نختم الكلام في التعريف بعمرو حتى نومئ إلى تعريف له طريف من كلام مجالد عن الشَّعبي عن قبيصة عن جابر في رواية النجوم الزاهرة، حيث قال بعد كلام في وصف نفر من الصحابة: «… وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت أنصع ظرفًا منه، ولا أكرم جليسًا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.»
والطريف في هذا الوصف مشابهة السريرة والعلانية في الرجل الذي لم يشتهر بشيء كما اشتهر بالدهاء.
فهل فرط الدهاء خيل إلى الرجل الذي وصفه بتلك الصفة أنه أشبه الناس سرًّا بعلانية؟
أو هو الصدق رآه الرجل الطيب فوصفه كما رآه غير مبال بمن يستغرب هذه الغريبة أو تخامره الشكوك فيها؟
إننا في الحق لا نستبعد أن يكون عمرو بن العاص شبيه السر بالعلانية في جميع الأمور التي لا يعنيه أن يكتمها أو يلوذ فيها بحيطته ودهائه!
ومعظم هؤلاء الدهاة يحبون إرسال النفس على السجية، ويشبهون المهرة من اللاعبين الذين يلعبون «على المكشوف»، كما يقولون في عرفهم، ثقة منهم بالقدرة على الإصابة والسداد، أو يشبهون الفارس الذي يخلع شكَّته من حين إلى حين مباهاة ببأسه واقتداره، ولا سيما إذا كان هؤلاء الدهاة ممن امتزجت بهم نزعة المغامرة والطموح البعيد.
ويلوح من جملة أخبار عمرو مع معاوية على التخصيص أنهما كانا في الصلة التي بينهما يؤثران اللعب على المكشوف، ولا يضيعان الوقت في مراء يعرفانه ولا يجهلانه، وقد كانت مساومة عمرو لمعاوية صريحة لا مداجاة فيها، فقال له: «أترى أننا خالفنا عليًّا لفضل منا عليه؟ لا والله! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنَّك …»
وعلى هذا النمط كانت المساومات بينهما في معظم الأحاديث المروية عنهما، فإذا عمد أحدهما إلى المداورة لم يلبث أن يرتد إلى الصراحة وقد رأى عين صاحبه واقعة على أخفى خفاياه!
فغير بعيد إذن أن يكون عمرو من الظرفاء الصرحاء في أحاديث المجالس وعروض الكلام المشاع، وليس في شيء من هذا ما يناقض صفته التي خرجنا بها من جملة أحواله ومساعيه، وهي صفة الرجل العملي، الطموح الذكي الذي يكبح هواه وينفلت منه بين الحين والحين في نوبات مجازفة تغريه بها وثبات العبقرية وضرورة الاقتحام، ويهونها عليه اقتداره على رد الزمام إلى يديه، وابتداع الحيلة المسعفة حيث شاء.