البلاد والسكان
قبل الاسترسال في بقية هذه السيرة إلى نهايتها من أعمال عمرو في مصر، نرى أن هذه السيرة تستلزم بيانًا مفصلًا عن حالة البلاد المصرية كما صارت إليه في الآونة التي تم فيها الفتح وقضى فيها على سيادة الدولة الرومانية، فهذه الحالة من الأسباب التي لا يُغفَل عنها عند تقدير عمل الفاتح العربي، وتقدير العوامل التي يسرت له الغلبة على الرومان.
وقد راجعنا بعض المراجع التي لم نقف لها من قبل، وانكشفت في السنوات الأخيرة نيات فئة من المؤرخين الغربيين الذين كتبوا عن تاريخ الرومان بمصر، كأنهم أناس من الرومان يذكرون مُصابًا لحق بهم، ويلتمسون العزاء عنه تارة، ويلتمسون العلة التي تعفيهم من وصمته تارة أخرى. وقد نظرنا إلى تعليلاتهم وتحليلاتهم بالنظرة التي تنبغي لها فرددنا كثيرًا منها، وهتكنا الحجاب عن كثير مما كان يخفى على من يقرءون تاريخ هذه الفترة على غير التفات إلى هذه الأهواء التاريخية، بل هذه التواريخ العصرية التي تمليها في هذا الزمن «بواعث حية» كما سيرى القراء، ولعلهم يستوضحون ذلك من مواجهة الحقائق في أمر البلاد والسكان، وأبطال التاريخ المشتركين في حوادث الفتح على ذكر من هذه النيات.
•••
كانت مصر في الزمن القديم معروفة بين أهلها باسم «كيم» أو «خيم» بياء تنطق ممالة بين الياء والألف، ويتوهم بعضهم أنها مأخوذة من كلمة خام أو حام بن نوح، على اعتبار المصريين سلالة حامية قديمة، وهو من الأوهام التي لا سند لها من التاريخ ولا من الآثار الباقية؛ لأن معنى الكلمة قديم في اللغة المصرية بمعنى الأرض السوداء، ومنها أخذ اليونان كلمة الكيمياء حين كان علم الكيمياء يسمى بالعلم الأسود أو السحر الأسود؛ لأنه من العلوم الخفية التي يستعان عليها بالأرواح الشريرة في زعم الأقدمين!
والذين يرجحون هذه التسمية يرون أن كلمة «قبطي» مشتقة من النسبة إلى «كي بتاه»، خلافًا لمن يرجع بها إلى قفط أو كوبتوس في طريق البحر الأحمر، وقديمًا قيل: إنها كانت بلدة على البحر الأحمر، ثم نقلت إلى الطريق كله بين البحر الأحمر والبلدة التي اشتهرت باسم قفط في إقليم قنا، ولا تزال معروفة به إلى اليوم ولا تزال طريق القصير وقنا من الطرق الممهَّدة للقوافل في العصر الحاضر! وليس من التعسف البعيد أن يقال: إنها أصل التسمية القديمة للبلاد المصرية؛ لأن عواصم مصر الكبرى كانت في الإقليم القنائي، وظلت فيه قرونًا طوالًا من العصر القديم. ويتوسع بعض المؤرخين في دلالة هذه التسمية، فيردون إليها علاقة مصر العليا بالبلاد العربية القديمة، ويحسبون أن المهاجرين الأوائل قدموا من طريق البحر الأحمر ثم طريق الصحراء في زمن مجهول، ولا يلزم من ذلك أن يكون أصل المصريين جميعًا من هؤلاء المهاجرين؛ لأن ملامح المصريين الأوائل ولغاتهم لا تنحصر في أصل واحد، ولا تنحصر على الخصوص في السلالة السامية، بل يوجد فيها مزيج قليل يسهل تعليله بالنسبة إلى طريق «قفط» من جانب البحر الأحمر أو الجانب الذي يقابله على النيل.
أما الاسم الآخر من الأسماء الباقية، فهو اسمها المشهور في اللغة العربية أو هو اسم «مصر» الذي يحسبه بعضهم مأخوذًا من كلمة «المصر» التي تطلق في العربية على أرض الحواضر أو على الحاضرة الكبرى، حيث تقام معالم الحكم وأحكام الشريعة.
والغالب أن كلمة «مصر» عربية الأصل، ولكن في لغة العرب السابقة لهذا الاصطلاح الحديث، وإنما نقول: الحديث بالنسبة إلى الكلام العربي المتداول على الألسنة من عهد الإسلام وما قبله بأجيال قليلة! وقبل هذا العهد — عهد الإسلام — عرف العرب مصر ثم عرفها منهم العبرانيون المنتقلون من أرض العراق، وقد كاد المؤرخون أن يتفقوا على أن العبرانيين قدموا إلى مصر في عهد القبائل العربية من الرعاة وأتباعهم المشهورين باسم الهكسوس، فهم أول من أطلق على «مصر» هذا الاسم وسموها «مصرايم»، فزعم بعضهم أن الكلمة من اسم قديم يدعى مصرايم يحسبونه جد المصريين أجمعين، ولكن الواقع أن «مصرايم» تثنية مصر باللغة العبرية بمعنى المصرَين؛ أي: الوجه البحري والوجه القبلي ولا تزال الكلمة بعد ذلك محتاجة إلى تفسير من اللغات السامية الأولى إن لم يكن لها معنى قديم منقول عن الهيروغليفية.
والبحث في العبرية واللغات السامية عامة، هو الذي قاد الباحثين إلى مادة «صر» في جميع هذه اللغات، فمادة «صر» تفيد في هذه اللغات جميعًا معنى الضم والضيق، والشيء المصرور هو الشيء المضغوط أو المشدود، ومنه الصَّرة والصرار والإصرار، وقيل لهذا: إن المصر يراد به الوادي الضيق المصرور بين الجبلين، وبولغ في تتبع هذا المعنى، فقيل: إن العبرانيين سموا البلد باسم «مصر»، بعد ما أصابهم فيها من الضيق، وبعد ما اعتزموه من الفرار بأنفسهم من هذا الضيق، وهو اعتساف في التأويل لا تؤيده كلمة واحدة توجِّه اشتقاق الكلمة هذا الاتجاه.
أما المصر من «الصر» بمعنى حصر الوادي بين الجبلين، فيلاحظ أن العبرانيين أطلقوا اسم المصرين على الوجهين، ولم يكن الوجه البحري — حيث أقام الأكثرون منهم — واديًا محصورًا بين الجبال، ولم يعرف قط أنهم أطلقوا على مصر اسمًا آخر قبل وفودهم إليها، إلا أن يكون اسم النهر أو بلاد حام.
ولهذا يذهب بعضهم إلى أن كلمة «مصر» هيروغليفية قديمة مركبة من كلمات ثلاث بمعنى «بلد أبناء الشمس»، والكلمات الثلاث هي «ما» بمعنى موضع، و«سي» بمعنى ابن، و«ري» أو «را»، بمعنى الشمس، ومنها «راع» التي ينسب إليها بعض الفراعنة، فإذا صح أن «ما سيري» هي أصل هذه التسمية فلا غرابة فيه، وإنما يعوزه السند الذي يعزز الاستنتاج وليس له الآن وجود، وكل ما هناك أن أناسًا من الثقات يستندون إلى إطلاق اسم «مسرى» على شهر الفيضان أو شهر النيل المنتظر، ويربطون كما فعل العلامة «مسبرو» بين اسم الشهر واسم البلاد.
ولا يخفى أن اللغة الهيروغليفية كانت لغة تصوير، تغلب فيها المقاطع على الحروف، وأن المصريين استخدموا الأبجدية اليونانية وزادوا عليها بعض الحروف التي لا وجود لها عند اليونان، حين أرادوا الكتابة باللغة الوطنية، والاستقلال بها عن كتابة الدول الرومانية! وقد وجدت صور الأرض والشمس عليها دالة على البلاد المصرية في الآثار القديمة، أما نطقها بألفاظ تقارب لفظ مسر أو مصر فليس له سند معروف، بل كان الكتاب المصريون المخضرمون بين عصر اللغة الهيروغليفية وعصر اللغة القبطية يذكرون مصر كما يذكرها اليونان باسم وسط بين «جبت» و«قبت» أو قبط، ويظهر أن كُتاب العربية أنفسهم كانوا يطلقون كلمة «قبط» على البلاد أحيانًا، ولا يقصدون بها السكان كما فعلوا بعد ذلك؛ ولهذا كانوا يذكرون المصريين باسم «القبطيين»، وتكررت هذه النسبة بعد الفتح الإسلامي بزمن غير قصير، ولم يلجئهم إلى التفرقة بين النسبة إلى مصر والنسبة إلى «قبط» إلا الرغبة في توضيح الفرق بين المصريين بعد الإسلام والمصريين قبل الإسلام، وقد كان المؤرخون المسلمون يذكرون «المصريين» إلى عهد «معاوية» ويعنون بهم العرب المسلمين المقيمين في الديار المصرية؛ ولهذا كانوا يقولون: إن «المصريين» أيدوا عليًّا في خلافه مع معاوية، وأنهم لم يبايعوا معاوية إلا بعد ولاية عمرو بن العاص الثانية، على أن العرب كانوا يسكنون مدينة «قفط» قبل الإسلام، وقال سترابون: إن نصف سكانها منهم، وربما أخذوا كلمة قبط من النسبة إلى هذه المدينة القديمة في طريق الحجاز.
ومن المحقق بعد جميع التأويلات والاحتمالات أن اسم «مصر» كان معروفًا في أرض كنعان قبل وفود العبرانيين، وأن اليونان عرفوا مصر باسم «إيجبت» قبل عصر الشاعر هوميروس، وأن ألواح تل العمارنة ذكرت مصر باسم «هكبتاه» الذي يرجع إليه الاسم اليوناني، وأرادت به أرض منف وعاصمة بتاه أو فتاح، وأن «مصر» بغير التعريف لم تطلق على قطر غير وادي النيل، وأن العرب هم أول من تسمى بالمصريين، ولم يأنفوا من مساواة أبناء البلاد بالانتساب إليها كما أنف الرومان واليونان من قبلهم! وقد كان المؤرخون قبل الميلاد وبعده يحصون سكان البلاد المصرية فلا يشملونهم بإحصاء واحد، ويفردون كل فريق من السكان بتعداد خاص، كالروم واليهود وأبناء البلاد الأصلاء، ومعظمهم كانوا يقيمون في الصعيد وفيما بين فرعي النيل المعروفين الآن باسم فرع دمياط وفرع رشيد، وكانت الأقاليم التي تقع إلى شرق فرع دمياط وإلى غرب فرع رشيد، مقامًا لقبائل متفرقة تعرف بالأنساب، ولا تعرف بأسماء المدن والقرى في أسمائها الشائعة.
وقد أحصى ديودورس الصقلي ويوسفيوس اليهودي سكان مصر، فلم يجاوزوا بهم ثمانية ملايين، وأولهم من مؤرخي القرن الأول قبل الميلاد، والآخر ممن شهدوا عصر الميلاد في أوائله، وكلاهما فرَّق في التعداد بين المصريين واليهود والروم!
وكانت هذه الأجناس جميعًا في نزاع دائم بينها، وفي نزاع دائم مع الدولة الرومانية، وربما تجرد بعض القساوسة لقتال اليهود بجنود يجمعها من الوطنيين، ويغير بها على الأحياء اليهودية في الإسكندرية، وقد كانت عدتهم فيها وفي عين شمس تزيد على مائتي ألف في بعض الأوقات.
ولما حان عصر الفتح الإسلامي — أي القرن السابع للميلاد — لم يكن في مصر كلها من يود بقاءها في حوزة الدولة الرومانية، حتى الروم، ولم يكن هؤلاء الروم يثقون بدوام ملك الدولة الرومانية بعد تكرار هزيمتها أمام الفرس وأمام العشائر الهمجية في أوروبة الشرقية وأوروبة الوسطى، ومن كان من الروم يدافع الأجانب عن أرض مصر، فإنما كان يدفعهم ليستبقي له ملك الأرض، ويتحين الفرصة لاقتطاعها من الدولة البيزنطية أو الدولة الرومانية الشرقية، فلم يكن حكم الرومان حكم رضى من المحكومين، ولا حكم ثقة بالبقاء والدوام.
كان القبطيون، أو أبناء البلاد من غير الروم واليهود على أشد السخط من الدولة الرومانية، لأسباب دينية وأسباب سياسية؛ إذ كانت كنيسة بيزنطة قد نازعت كنيسة الإسكندرية سلطانها وأرادت أن تفرض عليها مذهبًا في المسيحية لا تقره، وهو المذهب الذي اشتهر باسم المذهب الملكي، واعتقد التابعون له أن المسيح ذو طبيعتين، خلافًا للإسكندريين الذين كانوا يدينون بطبيعة واحدة، ويطلق عليهم خطأ اسم اليعقوبيين، وقد كان المصريون يثورون على الدولة الرومانية قبل دخولها في المسيحية ويقابلون اضطهادها بالإضراب أو بالرهبانية والاعتكاف على الصوامع والأديرة في الصحراء، ثم دان عواهل الرومان منذ أيام قسطنطين بالمسيحية، فتغير سبب الاضطهاد ولم يتغير طغيانه وبغضاؤه التي شقي بها أبناء البلاد عدة قرون. كان الاضطهاد لاختلاف الدين، فتحول إلى اضطهاد لاختلاف المذهب والنحلة، ولم يزل أتباع الكنيسة الوطنية يرمون أتباع الكنيسة الملكية بالكفر والمروق، ويقولون عنهم: إنهم يمزقون طبيعة السيد المسيح ويؤمنون بإلهين مختلفين، ومن قبل هذا كان النزاع السياسي الوطني قد بلغ غايته بين المحكومين والحاكمين، ولكن المحكومين — على الأقل — كانوا يستقلون بالعقيدة في الأمور التي تصطدم فعلًا بسلطان الدولة، فلما دان عواهل الروم بالدين المسيحي فرضوا لأنفسهم سلطانًا روحيًّا إلى جانب السلطان السياسي، ولم يتركوا للمحكومين منفسًا يشعرون فيه باستقلال الرأي والضمير، وقد تفاقم الخطب في عهد الإمبراطور فوقاس — قبل الفتح الإسلامي مباشرة — فصدر أمره إلى ولاته على مصر بطرد جميع الوطنيين من وظائف الحكومة، وإلزامهم طاعة الكنيسة في القسطنطينية، ويكفي لبيان السخط على الدولة الحاكمة أن الخلاص منها أصبح حلمًا من الأحلام التي تساور زعماء الكنيسة الوطنية في يقظتهم ومنامهم، فرأى البطرق بنيامين في منامه أن مصر ستفتح لأناس مختونين ينقذونها من أعدائها المتسلطين عليها، ورُوي هذا الحلم على روايات مختلفة منسوبًا إلى أناس غير البطرق بنيامين.
ولم تكن عداوة المصريين للدولة القائمة خافية على سكان البلاد المصرية من الروم، بل هم كانوا يعلمون أن كراهة المصريين للسكان «المحليين» من الروم أشد من كراهتهم لرؤسائهم في القسطنطينية؛ لأن هؤلاء الروم المحليين يخالفون الوطنيين في العقيدة والجنس كما يخالفهم رؤساؤهم في العاصمة الكبرى، ويزيدون على رؤسائهم بعداوة أخرى هي عداوة المنافسة الشخصية والغطرسة المحسوسة، ويحيك في نفوسهم أن كل زيادة في سلطان الوطنيين نقص في سلطان الولاة والموظفين الرسميين، وبخاصة بعد التجاء الدولة إلى استرضاء الوطنيين ببعض مناصب الرئاسة والقيادة، وتوكيلهم في تحصيل الضرائب والإشراف على حقوق الالتزام في الجهات النائية، فهذه العداوة المحلية تضاف إلى العداوة العامة التي تكون على الدوام بين الدولة الغاصبة والأمة المغصوبة. فلا جرم يتخوف الروم المحليون من أبناء البلاد عند هجوم العرب على تخومها، ويبلغ من تخوُّفهم وسوء ظنهم أنهم يفضلون الانفراد بالدفاع عنها على الاستعانة بجيش من أبنائها، ولم يكن هذا الجيش قائمًا قبل ذلك للاستعانة به في ساعة الخطر المفاجئ. فلما وجد الروم المحليون أن الأمر يحتاج إلى تنظيم جيش جديد مستعد للدفاع في حالة الاطمئنان إليه، عظمت عليهم مشقة التنظيم العاجل، فانفردوا كذلك بشروط الصلح والاتفاق، فكانت شروطهم غير الشروط التي اتفق عليها الوطنيون.
وينبغي أن نتنبه إلى خطأ يتعرض له المؤرخون في هذا السياق؛ لأنهم يقيسون الأمور في ذلك العصر على أشباهها في العصر الحديث، فيخطر لهم أن الروم سكان مصر كانوا يشعرون مع الدولة القائمة بوحدة الوطنية أو وحدة الجنس والقومية، وليس لهذا الخاطر مسوِّغ من تكوين الدولة، ولا من وحدة العنصر، ولا من شعور الولاء للنظام الحكومي الذي كان قائمًا في دولة الرومان شرقًا وغربًا عند فتح العرب للديار المصرية.
لم تكن الدولة الرومانية دولة روم بمعزل عن اللاتين وسائر الأقوام التابعين لرومة القديمة ورومة الجديدة؛ أي: القسطنطينية، بل كان الروم اليونانيون قلة في مناصب الدولة الشرقية، وكان اللاتين من أهل الغرب يشعرون أن رومة الجديدة قد جارت على مكانة رومة القديمة وعرضتها للهوان والإهمال، وكان الرعايا في الشرق والغرب خليطًا من الأجناس المتعادية المتنافرة، لا تربطهم رابطة غير سلطان القوة والخوف من الغارات المشتركة والقبائل البربرية، ولم يكن نظام الجلوس على العرش قائمًا على وراثة محترمة أو حقوق مرعية، بل كان باب القصر المالك مفتوحًا لكل غالب وغاصب، وكان فوقاس على عرش القسطنطينية وحوله أناس يتآمرون مع هرقل حاكم إفريقية الشمالية في ذلك الحين لإغرائه بالهجوم على العاصمة وانتزاع العرش من صاحبها، فقتل فوقاس في هذا الصراع، وخلفه هرقل بتأييد المنشقِّين على العاهل القتيل، ثم انقلب هؤلاء على هرقل بعد تأييده، فهم بترك العاصمة والانتقال إلى إفريقية حيث كان، ولولا أن بطرق العاصمة خاف على مكانته من منافسة كنيسة الإسكندرية وكنيسة رومة القديمة، لانتقل إلى إفريقية وترك الدولة الشرقية للمغيرين عليها، ولكن بطرق العاصمة فتح له كنوز خزائنه وحشد له أعوانه، واستخدم سلطانه الديني في تهدئة جأشه وتوهين الدعاوى التي ادعاها عليه أعداؤه ومنازعوه، وهذا كله يجري بعلم الولاة الكبار والقادة البارزين، فيضعف في نفوسهم ولاء الطاعة والإذعان، كما يضعف فيها ولاء الإخلاص والوفاء. ولم يكن أحد في الدولة الرومانية يجهل أنها دولة منهارة تتصدع وتؤذن بالزوال، ولم يكن قد غاب عن بالهم هزائم هرقل وأسلافه أمام الفرق وأمام القبائل البربرية، ولا غاب عنهم أن أساطين الدولة يتربصون به الدوائر من الداخل لمنازعته السلطان، أو لتحويل الدفة مع اتجاه الريح، وقد كان لها اتجاه مختلف كل الاختلاف ما بين عام وعام.
فالمؤرخ الذي يقيس موقف الروم المحليين في ذلك العصر على مواقف العصر الحاضر يجهل الموقف ويخطئ القياس، إذ لم يكن هنالك شعور قومية من سلالة اللحم والدم، ولا شعور وطنية من تقاليد النظام السياسي وقواعد الحكومة، وكل ما كان هنالك أن آحادًا من زعماء الروم المحليين في مصر كانوا يعتمدون على قوة القسطنطينية للمحافظة على مصالحهم «المحلية» والتغلب على الوطنيين، وكانوا مع هذا الاعتماد على قوتها يشكون في دوامها ونجاحها، ولا يطمئنون إلى وعودها ولا يأمنون انقلابها، وخطتهم هذه إنما هي خطة مداورة واغتنام فرصة، قد تتحول من عاهل إلى عاهل كما تتحول من فريق إلى فريق.
وقد علموا أن العواهل أنفسهم مستيئسون في قتالهم، يحارب بعضهم بعضًا محاربة القانط من الغد، أو الذي لا يهمه أن يكون الغد كيف يكون، وآخر ما عرفوه من ذلك قبيل الفتح الإسلامي أن «فوقاس» قذف بكنوز الدولة وجواهر القصر الملكي في البحر، ضنًّا بها أن تئول إلى منافسه هرقل بعد غلبته عليه، فما كان أحد منهم يقاتل يومئذ قتال الرجال أو الثقة بالعودة إلى النصر بعد الهزيمة.
في السنة التاسعة من ملك هرقل خرج من القسطنطينية يريد بيت المقدس، فلما بلغ طبرية خرج إليه اليهود الساكنون بطبرية وجبل الجليل والناصرة وكل قرية في تلك الناحية، فاستقبلوه بالهدايا ودعوا له، وسألوه أن يعطيهم الأمان، فكتب لهم بذلك عهدًا، فلما بلغ بيت المقدس استقبله رهبان الصوامع وأهل بيت المقدس، ومعهم مودستس بالمجامر والبخور، فلما دخل المدينة ونظر إلى ما دمَّر الفرس وأحرقوه اغتم غمًّا شديدًا، ثم نظر إلى ما بناه مودستس من كنيسة القيامة وكنيسة مار قسطنطين وغيرهما فسره ذلك، وشكر مودستس على ما فعل، وشكا الرهبان وأهل بيت المقدس له ما فعلته معهم اليهود الذين حول بيت المقدس مع جبل الجليل وقت قدوم الفرس، وأنهم كانوا معهم يعينونهم، وقتلوا من النصارى أكثر مما قتله الفرس، وخربوا الكنائس وأحرقوها بالنار، وأروه القتلى الذين في ماميلا، وأعلموه بما فعلوا في مدينة صور من قتل النصارى وخراب الكنائس، فسألهم هرقل: ماذا تريدون؟ قالوا له: نقتل كل يهودي حول بيت المقدس وجبل الجليل؛ لأننا لا نأمن أن يجيئنا عدو أو قوم مخالفون فيكونوا أعوانًا لهم، كما أعانوا الفرس علينا، قال هرقل: وكيف أستحل قتلهم وقد أعطيتهم الأمان، وكتبت لهم بذلك عهدًا كما تعلمون؟ ومتى نقضت العهد والأمان، كان ذلك عارًا علي وأحدوثة قبيحة، ولم آمن إن كتبت لغيرهم عهدًا أن يأباه، فقالوا له: إن سيدنا يسوع المسيح يعلم أن قتلك لهم غفران لذنوبك والناس يعذرونك؛ لأنك في الوقت الذي أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وخراب الكنائس، وإنما خرجوا إليك واستقبلوك بالهدايا مكرًا منهم ولعنة، فقتلهم قربان إلى الله! ونحن نحتمل لك وعنك هذا الذنب ونكفر عنك، ونسأل سيدنا اليسوع ألا يؤاخذك به، أو نجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم الكبير نصومها لك، ونترك فيها أكل الجبن والبيض ما دامت النصرانية، ونجعل في هذا قانونًا وحرمًا بألا يُغَيَّر، ويكتب به إلى جميع الآفاق غفرانًا لجميع ما سألناك أن تفعل، فأجابهم هرقل إلى ذلك، وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الجليل ما لا يحصى من قدر عليه، ومنهم من اختفى، ومنهم من هرب إلى الجبال وإلى مصر.
ثم سار هرقل من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدد ما خربه الفرس منها، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها، وقدموا إليه الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمِّنهم ويحلف لهم على ذلك فأمنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خرابًا، فساءه ذلك وتوجع له، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس، وقاموا قيامًا كبيرًا في قتلهم عن آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسَّنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمَّنهم من غير أن يعلم بما كان منهم وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه، على مر الزمان والدهور، فمال إلى قولهم، وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعًا فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى.
وهذه قصة تدل على مكامن الخطر من نقمة اليهود، وتدل على مكامن الخطر التي هي أبلغ من ذلك وأدهى، فإذا كان هرقل يجهل ما حدث في بيت المقدس حتى يراه بعينه، وكان رعاياه الكبار منقطعين عنه حتى يصل إليهم في عقر دارهم، فتلك دولة ممزقة مهملة مفتوحة للأخطار من مكامنها ومما حولها على السواء.
وقد كانت لليهود ترات غير تراتهم عند العاهلين؛ لأنهم كانوا قبل ذلك يهاجمون أبناء البلاد ويتعرضون لهجومهم في كل فترة من فترات الثورة والانتفاض، وكانوا إذا سلموا من ضربات الدولة واستهدف لها أبناء البلاد وحدهم، خامر هؤلاء الظن أنهم يمالئون الدولة عليهم، وأنها تحابيهم وتستعين بهم سرًّا وعلانية على اضطهادهم، فإذا أمنوا طغيان الدولة لم يأمنوا الشبهات والتهم من رعاياها الموتورين!
وكان لليهود موقعان من أهم المواقع في البلاد المصرية من الوجهة العسكرية، فكان لهم حيان بين أحياء الإسكندرية الخمسة، وحي كبير في عين شمس بجوار منف عاصمة البلاد الداخلية، وكل من هذه المواقع له شأنه الخطير في أوقات الهجوم على البلاد من بحرها وبرها.
وكانت للبشموريين في شرق الدلتا مواقع استطلاع وعبور لا تقل خطرًا عن مواقع اليهود في العاصمتين؛ إذ كانوا يسكنون المراعي الواسعة على تخوم الصحراء بين البحيرات الشمالية وأودية الجنوب، وكانوا عربًا منحدرين على أرجح الأقوال من سلالة العمالقة الأقدمين، وكانوا يعاونون العرب الفاتحين، كما عاونهم عرب الصحراء في الشام على اختلاف العقيدة والمقام، وإذا لاحظنا أن بادية الفيوم كان يسكنها أناس يتكلمون بلهجة بشمورية علمنا أن أقسام البادية العربية لم تتغير كثيرًا من قديم الزمن، وأن عمرو بن العاص قصد إلى الفيوم قبل فتح منف على علم بأصول هذه السلالة.
وانقضى عهد هرقل كله ومصر تسمع بأخبار الفتوح الإسلامية، وتتوقع مصيرًا كمصير جاراتها في المشرق القريب، ولم يكد أعوان هرقل يستعيدون بعض الثقة بدولته بعد خروج الفرس من مصر حتى تبين لهم أن قوة أقوى من الفرس والروم معًا قد ظهرت في ميدان النضال العريق بين الدولتين، وسمعوا بهزيمة الفرس كما سمعوا بهزيمة الروم في فلسطين، ومنهم من ذهب إلى فلسطين نجدة لهرقل، فلم يكد يدخل الأرض باحثًا عن العاهل الذي استنجده حتى سمع بفراره وتوديعه البلاد توديع اليائس المفارق إلى غير رجعة، كما تناقل عنه الذين قفلوا من ركابه عند تخوم آسيا الصغرى.
وأوشك العهد الذي كتبه الخليفة العربي لبطارقة بيت المقدس أن يصبح من محفوظات السياسة ورجال الدين في منف والإسكندرية بالرواية المتواترة، وعلموا أن الخليفة حضرته الصلاة وهو في صحن الكنيسة الكبرى ببيت المقدس، فخرج منها وصلى على درجها منفردًا؛ لئلا يطلبها المسلمون ذكرى لصلاة الخليفة عليها، وأنه كتب في عهده أنه أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم: لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ومن خرج من الروم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصُلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.
•••
وسيرى القارئ فيما يلي كيف خاض المؤرخون في حديث المقوقس كبير مصر، وكيف تخيلوا أنه احتال للصلح بشروط غير شروط الروم من جند هرقل في الإسكندرية، وسيرى أن هؤلاء المؤرخين نسَّاخون يتخبطون في صناعة النسخ فضلًا عن التأويل والتخريج؛ لأن اتفاق المقوقس بشطريه لم يكن إلا نسخة من اتفاق بيت المقدس بين العرب وأبناء البلاد، وكانت سياسة العرب أن يتفقوا مع أبناء البلاد، ثم لا يعنيهم من أمر الدولة الحاكمة إلا أن تنجلي بجنودها حيث تشاء، فإذا قبل أبناء البلاد شرطًا متفقًا عليه لم يكربهم أن يقبله الروم، ولم يأبوا عليهم الخروج إلى ديارهم آمنين مع من يتبعهم من رعاياهم المتعلقين بهم في موقف الرحيل.