المقوقس
نعرض الآن ببعض التفصيل لسيرة المقوقس وهو — كما تقدم — من أكبر الشخوص الخلافية في تاريخ مصر، ويندر أن توجد في تاريخ العالم كله سيرة خلافية من هذا القبيل.
وشطر من اللوم في ذلك على المؤرخين الناسخين، وشطر آخر من اللوم على المؤرخين الذين يدخلون أهواءهم الحديثة في مسائل التاريخ الخالية، ويكتبون بخصومات اليوم وأغراضه في شئون لم يكن فيها محل قط لتلك الخصومات والأغراض!
وقد كان تاريخ المقوقس مبهمًا كتواريخ حكام الرومان في البلاد التي فتحها العرب من فلسطين إلى إفريقية الشمالية؛ لأن أحوال الدولة الرومانية البيزنطية كانت في ذلك العصر مبهمة متقلبة، يتولاها الإمبراطور اليوم، فيولي ويعزل ويقرب ويبعد، ويغير المناصب وأصحابها، ولا يستقر على عرشه حتى يثور عليه طامع في الملك يهدم كل ما أقامه من أركان ملكه، وقد يبقي أناسًا من أصحاب المناصب كانوا معه سرًّا أيام ثروته، وقد ينكل بأناس كان يداريهم ويداورهم إلى أن يتمكن منهم، وقد تنظم الدولة وتجري حوادثها على وتيرة معقولة بضع سنوات، ولكنها تصل إلى التاريخ في عصر قد اضطرب فيه التاريخ والمؤرخون، وحالت فيه الأهواء والمنازعات دون ذكر الحقائق والتبعات، فيقع اللوم على غير أهله، ويبذل الثناء لمن لا يستحقه، وتمسخ الأخبار والحوادث مسخًا لمجاراة المآرب والشهوات!
وتاريخ المقوقس كان عرضة للمسخ والإبهام في جميع هذه الجوانب: كان عرضة للمسخ والإبهام من جانب المؤرخين النساخين، وعرضة للمسخ والإبهام من مؤرخي العصور الحديثة الذين نظروا إلى أيام الفتح العربي كأنهم ينظرون إلى فتح يحدث في هذه الأيام، ثم كان قبل ذلك جميعه عرضة للمسخ من تقلقل الأحداث وتغير الدول والحكومات والأحزاب الدينية والسياسية، ويكفي منها اغتيال إمبراطور وجنون إمبراطور بعده، ودخول مصر في حوزة الفرس وخروجها منها، وتنازع الكنائس على العبادات تنازعًا قد استعصى على كل توفيق، فمن دان بمذهب فخصوم ذلك المذهب عنده كفرة مشركون ولا توسط بين الطرفين؛ لأن الخصومة تشمل عقيدة الدين وعصبية الجنس ومطامع السيادة والسياسة، وتطرأ في إبانها غارات من الخارج وثورات من الداخل لا تؤذن في حينها باستقرار!
لهذا اختلف المؤرخون على كل شيء يتعلق بالمقوقس حتى كادوا أن ينكروه!
اختلفوا على اسمه واختلفوا على جنسه، واختلفوا على منصبه، فضلًا عن الاختلاف على مقاصده وأغراضه!
وظن بعضهم أن المقوقس اسم الرجل على أصله، أو مشوبًا ببعض التحريف.
وظن بعضهم أنه لقب وظيفة، ثم اختلفوا في الرجل الذي كانت تطلق عليه، فمنهم من اعتقد أنه «الأجيرج» أو الأعيرج الذي جاء في كلام بعض المؤرخين العرب أنه كان يتحصن في قصر بابليون، ومنهم من اعتقد أنه البطرق بنيامين الذي كان على مذهب الكنيسة الوطنية، ومنهم من اعتقد أنه البطرق فيروش الذي كان على مذهب الكنيسة الملكية، ومنهم من قال: إنه وطني تمذهب بمذهب أبناء البلاد واعتقد الكفر في رؤساء الدين بالقسطنطينية، فأضمر الكيد لهم وأحب أن يستأثر بالحكم دونهم، ولم يتفقوا بعض الاتفاق أخيرًا إلا في أمر لقبه باللغة اليونانية، فليس بين المؤرخين اليوم من يحسب المقوقس اسمًا للرجل.
بل ليس فيهم من يحسب أنه لقب سبقه إليه أحد من ولاة الروم على الديار المصرية.
وعندنا أن هذا «اللقب» مفتاح لبعض الألغاز التي أحاطت بتاريخه؛ لأنه يرجح الدلالة على جنسه، وعلى علاقته بالدولة التي كانت لها السيادة الاسمية على البلاد.
لم تجر عادة الدول الأجنبية أن تفخم ألقاب الولاة إلا إذا كان الغرض مرضاة البلد المحكوم بمظهر من مظاهر السيادة.
وكانت الدولة الرومانية على الخصوص تكتفي بأيسر الألقاب إذا أطلقتها على الولاة من الرومان، فكانت تسمي الوالي حاكمًا أو قنصلًأ أو نائب قنصل أو نائبًا أو وكيلًا، من أشباه هذه الأسماء التي تؤدي المعنى الرسمي ولا تزيد، وتعمدت الدولة في أيام العواهل أن تضعف من في الولايات؛ لأنهم كانوا يرشحون أنفسهم للعرش إذا برزوا بين القادة وملكوا زمام الجيش في إقليم كبير.
إنما كانت ألقاب التفخيم مقصورة على الوطنيين ومن هم في حكمهم من المنتسبين إلى البلد؛ لأن هذا اللقب عوض عن التاج حيث لا منازعة عليه، فلا خطر على الإمبراطور في القسطنطينية من رئيس وطني مفخم في بلده بين أبناء وطنه، بل في ذلك دفع لخطر الثورة ورضى بالنصيب المقدور من الرئاسة، وأما الخطر كل الخطر فهو من تعظيم قائد روماني ينازع الإمبراطور على عرشه، ويتخذ من فخامة اللقب ذريعة إلى الاقتراب به من مقام الإمبراطور وجميع الأعوان الذين يحيطون به، كما يحاط بكل حاكم مناظر لصاحب العرش يطمح إلى مكانه.
وقد وجب تعويض مصر عن بعض ما فقدته من سلطان الملك وسلطان الدين بعد القرن الخامس للميلاد.
فقبل ذلك كانت الثورات في مصر لا تنقطع، وكان بعض الثائرين من قادة الرومان أنفسهم، فلما استقرت هذه الثورات بعض الشيء كانت الإسكندرية قد تعرضت لمنافسة شديدة أشد عليها من سلطان السيادة السياسية.
كان الإمبراطور قسطنطين قد دان بالمسيحية في أواخر أيامه، فأصبحت عاصمة الدولة تابعة في العرف الديني لكنيسة الإسكندرية؛ لأنها أقدم الكنائس وأكبرها في المشرق والمغرب.
ثم جاء جوليان المرتد بعد قسطنطين فبقيت للإسكندرية مكانتها الكبرى، ولم تكن للقسطنطينية مكانة دينية كبيرة أو صغيرة؛ لأنها عاصمة دولة لم تعترف بالدين، أو لم تثبت على الاعتراف به، وانقلبت عليه تحاربه وتقصي أتباعه من مراكزها العليا.
وظل مقام الإسكندرية مقامها إلى القرن السادس الذي استقرت فيه المسيحية في عاصمة الدولة وأصبحت كنيستها عاصمة الكنائس على هذا الاعتبار، وأوشكت هذه الصفة أن تثبت لها بعد تسمية القسطنطينية برومة الجديدة؛ تعاليًا بها على رومة القديمة، فلم يبق لبطرق العاصمة مناظر يحسب حسابه غير بطرق الإسكندرية. وإذا كان مذهب الملك هو المذهب السائد في بلاد الدولة الرومانية، فرئيس الكنيسة في الإسكندرية تابع ولا شك لرئيس الكنيسة التي يصلي فيها الإمبراطور ويتولى رئاستها الدينية في عاصمته الكبرى، وبطرق الإسكندرية مرءوس لبطرق القسطنطينية على هذا الاعتبار.
لقد كان البطرق الإسكندري رأس الدين المسيحي في العالم كله قبل رؤسائه في العاصمة الغربية والعاصمة الشرقية، وكان من بطارقتها من يقول: «ماذا يعنيني من الإمبراطور؟ إنني هنا الإمبراطور!» وكان صادقًا فيما قال؛ لأن الناس كانوا يطيعونه ويؤمنون بأن طاعته من طاعة السماء، أما الإمبراطور فمهما يكن من أمر طاعته القسرية فهي طاعة أرضية على كل حال!
هنالك وجب تعويض مصر، ووجب اجتماع اللقب السياسي واللقب الديني في كرسي واحد، وكان هذا هو حكم البداهة الذي وافقه حكم الواقع، فكان «المقوقس» جامعًا بين صفة الرئاسة الدينية وصفة الرئاسة الإدارية، أو كان هو بمثابة «ولي الأمر» في مصر بالاصطلاح الحديث، وقد تكون رئاسته عند الدولة رئاسة شرف يعززها مكانة «عملية» بين أبناء البلاد.
وإذا كان التاريخ لا يكرر نفسه كل التكرار في جميع الحوادث، فهو لا يخلو كل الخلو من التكرار المتجدد حينًا بعد حين، ولعل لقب «الخديو» أشبه الأشياء بلقب «المقوقس» في أواخر عهد الدولة الرومانية، فهو وال وأكثر من وال في المنزلة السياسية، وهو ولي الأمر بالنيابة عن الخليفة أمير المؤمنين، وباسمه تقام الأحكام الشرعية والإدارية في ظل شاهنشاه، وخليفة الإسلام.
كان لقب المقوقس أو المقوقز كلمة يونانية بمعنى المفخم أو الفاخر، كالحضرة الخديوية «الفخيمة» أو المفخمة كما صححتها اللغة العربية.
وكان إطلاق هذا اللقب على رئيس من المصريين أو المتمصرين معقولًا مفهومًا في تلك الفترة على سبيل التعويض والترضية، ودفع النزاع والتنافس بين سلطان العاصمة الكبرى وسلطان الإسكندرية، أما الغريب الذي قلما يفهم فهو إطلاقه على قائد روماني لا يكبر — إذا كبر — إلا لينتزع العرش من الإمبراطور.
وهذه ناحية من نواحي البحث المنتج في تاريخ المقوقس وتاريخ الفتح العربي على إجماله، وهناك نواح أخرى تضارعها في الإنتاج أو تزيد عليها، ومنها خطاب النبي — عليه السلام — إلى المقوقس، وتلك السمعة «الخارجية» التي جعلت له هذه المكانة، وجعلته أهلًا لأن يخاطبه النبي — عليه السلام — في أمر المصريين جميعًا، مع خطابه لهرقل في الوقت نفسه، كأنه لا يملك من أمر مصر ما يملكه المقوقس.
ومن نواحي البحث المنتج صفة المقوقس التي رشحته للتعاهد باسم مصر، والتزام الإنجاز والتنفيذ بعد ارتحال الجيش الروماني من البلاد، ومنها البواعث النفسية التي تحبب إليه أن يبقى في مصر ويخرجها من دولة الروم أبدًا، غير مبال بانتقال سلطان الدولة إلى أيدي الفاتحين من أبناء دين غير دينه، فكل هذه النواحي المنتجة تؤدي إلى شيء من الترجيح القوي، إن لم يكن من شأنها أن تؤدي إلى القطع والجزم في جانب الإثبات أو جانب النفي والإنكار، ولكنها على ذلك أهملت أسوأ الإهمال، ولم يعرها «المؤرخون النساخون» بعض ما أعاروه كعادتهم للمقارنة بين النصوص والموازنة بين الأرقام، وسرد أقوال الشهود على وقائع ليست من وقائع الشهادة والحكاية في التاريخ، ولا في حوادث كل يوم.
وهذه نماذج من أقوال المؤرخين في هذه المسألة، نحسبها نماذج لأكثر من باب واحد من أبواب التاريخ، فهي مثال لتاريخ النساخين ومثال لتاريخ ذوي الأغراض، ومثال للتاريخ الذي يكتبه المعاصرون وينظرون فيه إلى حوادث الزمن القديم، فيحكمون عليها كأنها تقع اليوم، وتنبعث من دواعي السياسة أو الشعور التي تدور عليها حوادث القرن التاسع عشر أو القرن العشرين.
•••
من أكبر المؤرخين لعصر الفتح الإسلامي الدكتور ألفريد بتلر الذي أقام في مصر زمنًا قبل الاحتلال البريطاني وبعده، واجتهد اجتهاده العلمي في تمحيص الوثائق التي عثر بها في القصور الخديوية وفي المكتبات العامة والخاصة، ولكنك تلمح من ثنايا كلامه كأنه يكتب عن خروج مصر من الدولة الرومانية، وهو يتصورها خارجة من الدولة البريطانية في العصر الحديث، ويحسب أن تدبير هذا الخروج «عمل خائن» يحاط بالشبهات، ويدان بأحكام العلاقات الدولية في هذه الأيام.
فبعد أن أورد الأقوال المتضاربة ليضعفها ويفندها، اختار منها قولًا واحدًا لا فضل له على سائرها، غير أنه القول الذي يدين المقوقس ويسفه رأيه!
•••
وأشد من بتلر «بريطانية» في تصوير التاريخ تلك السيدة الإنجليزية «أ.ل. بتشر» التي كتبت الأمة القبطية لتأسف أولًا على أنها انفصلت من الكنائس الغربية، وتثبت ثانيًا أن خروج مصر من حكم الرومان كان خيانة مصرية لا تضارعها خيانة وتمثلت صاحب هذه الخيانة كأنه عائش في زمانها، فهالت عليه من السباب المقذع ما يستحقه عندها الخارجون على سلطان بريطانيا العظمى، وهي — أي السيدة بتشر — على خلاف رأي بتلر في تحقيق شخصية المقوقس؛ لأنها تقول: إنه هو جورج أو جرجس المصري وتتوجع لما حدث، كأنه لو لم يحدث كانت سلمت الدولة الرومانية مما أصابها، وبقيت مصر في حوزتها!
قالت: «لما طرد هرقل الفرس سنة ٦٣٠ وأعاد حامياته في مصر كان أعلم باضطراب الموقف، وتخلخل قبضته على البلاد من أن يندفع متهجمًا، وجعل ينتظر ريثما تبلغ مقترحاته الدينية مبلغها عند الجانب المصري، وكان حكام الأقاليم — ومنهم مصريون وطنيون — يعلمون أن وقت الحساب غير بعيد لا يقبل التسويف الطويل، وكثير منهم كانت له أسبابه الخاصة وأسبابه السياسية التي تخيفه من عاقبة استقرار السيطرة البيزنطية.
ولو أن مقترح التوفيق الذي عرف بالأوطاخي، لقي القبول عند البطرق بنيامين لأصبح هؤلاء الحكام عزلًا من السلطان، ولكن هرقل من طريق نائبه فيرس الذي اختاره بطرقًا للكنيسة البيزنطية أو كنيسة الدولة، كان قد أخطأ فهون من شأن البطرق المصري، فلما بدا لفيرس أن جمهرة الأمة المصرية رحبت بمقترحه لم يتردد في اضطهاد البطرق المصري ونفيه لرفضه وإبائه، فما كان من أثر ذلك إلا أن الرفض والإباء كمنا في طوايا الأمة المصرية جمعاء، وأصبح المقترح محتوم الزوال بعد حين، ومهما يكن من أخطاء الأمة المصرية، فلقد كان من دأبها أنها لم تخذل قط بطرقها، ولعل مقترح الإمبراطور كان يبدو كأنه غاية ما ترومه لولا أن البطرق لم يقره، فليس من حق المصري الصادق أن يباليه ويلتفت إليه، وشيئًا فشيئًا تحولت جمهرة الشعب من جانب الإمبراطور، وأخذ فيرس يدرك أنه أخفق وخاب في مسعاه فتنفس الموظفون الخونة الصعداء، ولاح لهم يوم الحساب غير قريب.
من هؤلاء الموظفين والوكلاء واحد ينفرد بارزًا بالمكانة الشائنة، وقد سمع أكثر الناس بالمقوقس الذي تمارى الكثيرون في اسمه ووظيفته، بل تماروا في وجوده، وتناقشوا طويلًا في أمره، ولكن مجموعة الورق البردي التي في حوزة الأرشيدوق رينر وترجمت أخيرًا، قد يسرت لنا ولو بعض التيسير أن نزيل بعض المصاعب التي تحف بهذه المسألة.
ومعظم المؤرخين متفقون منذ زمن بعيد على أن المقوقس لم يكن اسم علم، ولكنهم حاروا في الجزم بحقيقته بين أن يكون لقبًا أو عنوان منصب من مناصب الدولة، أما الواقع فيظهر أنه لم يكن هذا ولا ذاك، وإنما كان الرجل صاحب عنوان يمكن أن يسمى بالعمدة، ويخطئ بعض المؤرخين فيسمونه نائب الملك، واسمه الأصيل جرجس بن مينا بركيوبس، وقد كان اسم مينا في مصر عامًّا شائعًا يحتاج إلى لقب يوناني لتمييزه، وليس العمدة أو المدير في الأقاليم إلا الحاكم المصري الذي يشرف على جميع أعماله الإدارية كحفظ الأمن، وجمع الضرائب وتسليمها، وتدبير شئون الطرق والجداول والسدود والقناطر، وكل ما يلحق بالنظام الإداري، حتى سك العملة وتقدير المقاييس والأوزان، ولا يخرج من سلطانه غير الجيش، وتمثله في كل إقليم حامية صغيرة والقساوسة، وهم الاستثناء الأهم من استثناء الحامية، وقد كان عدد الموظفين الذين لا يعرفون أحدًا أكبر من العمدة عظيمًا جدًّا، ومن الكشوف الحديثة نعرف أسماء الأقسام الثلاثة التي تولاها العمدة أو المديرون في عهد الغزوة العربية.
لقد كانت اليونانية لغة البلاد الرسمية، وكان لقب التمجيد الذي يمنحه المديرون كلمة تقابل عندنا في الإنجليزية كلمة الفخم أو المجيد كما تعودنا في تقديم سفرائنا بألقاب ذوي السعادة، ولكن العرب حسبوا هذه الكلمة اسمًا شخصيًّا للعمدة الخائن الذي فاوض عمرًا على تسليم البلاد، وقد أصبح جرجس الخائن من ثم مشهورًا خلال القرون بوصف ما أقل انطباقه عليه، وهو وصف المقوقس أو الفخم المجيد.
كان عمدة الوجه البحري آمون مينا رجلًا، كما وصفه يوحنا النخوي مدعيًا غبيًّا، يمقت المصريين أشد المقت، بقي في منصبه بعد دخول مصر في حوزة العرب، وكان عمدة مصر الوسطى على أحد شواطئ النيل من ناحية المنيا يسمى فيرس ولا نعلم عنه شيئًا إلا أنه اشترك في تسليم البلاد للمسلمين، وأما عمدة مصر العليا — أو بابليون — فاسمه في أوراق البردي جورج أو جرجس الذي نسميه المقوقس، وهؤلاء كانوا المديرين على أهم الأقاليم مع الدوق العسكري والحامية التي تتبعه، وإلى جانبهم قديمًا — أو بعد دخول العرب — مديران آخران أقل شأنًا منهم، وهما: فولكسينوس بالفيوم، وشنودة بالريف.
وثلاثة من هؤلاء العمد مصريون وطنيون، بدليل أسمائهم التي لا تقبل الشك، وإن لم يكونوا من أتباع الكنيسة الوطنية، وإلا لما أمكن أن يشغلوا هذه المناصب، وإن المؤرخين الذين يذكرون المقوقس على أنه قبطي مصري لعلى صواب، ولكنهم مخطئون في زعمهم أنه تابع للكنيسة الوطنية التي تعرف الآن باسم الكنيسة القبطية، ولعله كان في قلبه يشايع كنيسة آبائه ولا يستطيع أن يصرح بالانتساب إليها، فهو موظف بيزنطي من أبناء مصر وهو من ثم خائن لإمبراطوره وخائن لبلاده وخائن لكنيسته.
وكان قد مضى عليه عهد بعيد في وظيفته على أيام الغزوة العربية، فأصبح أقوى المديرين جميعًا لدخول بابليون في إقليمه على أقصى حده الشمالي، وتعود المصريون نحو عشرين سنة أن ينظروا إليه كأنه وحده حاكم وادي النيل، وقد علمتهم غارات الفرس أن البيزنطيين بغير حول ولا قوة، ثم ذهب الفرس وعاد البيزنطيون، واحتلت طائفة من جنودهم حصن بابليون وبعض الأمكنة في بني سويف والفيوم، ولم يشعر أبناء البلاد إلى الجنوب بآثار هذا التغيير، ولا فرقوا بين الجنود في ملابس الفرس أو الجنود في ملابس الرومان، وإنما كانوا يؤدون الضرائب بحكم العادة للعمدة أو المدير، ويكلون إليه أن يسلمها لمن يشاء، وانقضى زمن طويل والمدير القوي يتصرف فيها على أيسر وسيلة، فيستبقي له كل ما بقي من الأموال بعد توزيع المرتبات وتكاليف الحكومة في الإقليم، ولكنه ما عتَّم أن رأى هرقل يظن أن مقترحات التوفيق قد جمعت أبناء البلاد، ويريد الدليل المحسوس على سلطانه ويشدد في استقضاء الأموال حتى شهد الخطر فاغرًا فمه أمام عينيه، وكان من قبل قد نظر إلى بعيد، وأرسل إلى الشمس الطالعة سفارة ودية تحمل الهدايا من العسل والعبيد إلى محمد زعيم القوم، وها هو ذا محمد قد مات، وها هي ذي وقائع النصر التي أحرزها هرقل تغمه وتشغل باله، فإذا نهضت الدولة القديمة وهزمت العرب أمامها كما هزمت الفرس، فهو أول من يساق لتقديم الحساب.
وقد التقت جيوش هرقل وعمر خليفة محمد في فلسطين، وأيقن جرجس أن مصر ستكون لا محالة نصيب الظافر من الفريقين، ولاح له من وقائع هرقل الأخيرة أنه قد يكون صاحب الكفة الراجحة، فبادر إلى العمل على حسب هذا التقدير، وكانت له فتاة حسناء تسمى أرمانوسة فخطر له خاطر بارع: أن يزوجها من قسطنطين بن هرقل ووارث عرشه الذي ماتت زوجته، وأن يزودها بجهاز يغريه بإهمال موضوع الأموال المتأخرة، وكان قسطنطين يومئذ في قيصرية، ويظهر أنه استراح إلى هذه الفكرة، وعلى هذا خرج من بابليون في أواخر سنة ٦٣٠ موكب فخم يزف العروس المصرية إلى قرينها الملكي، وقيل: إن حراس الموكب بلغوا ألفي فارس عدا الحشم والخدم وحملة الذخائر والتحف المهداة، وما كاد يقترب من الحدود المصرية وينحو ناحية القنطرة فالعريش حتى نمى إلى أرمانوسة نبأ انتصار العرب ومحاصرتهم لقيصرية، وتأهبهم للهجوم على البلاد المصرية، فتصرفت المصرية الشابة بالشجاعة والفنطة الجديرتين بأسلافها العريقين، وقفلت إلى بلبيس مستعدة هنالك للدفاع، فأنفذت على الأثر حراسها إلى الفرما للمقاومة فيها إذا قدم العدو من جانبها كما كان مرجحًا في تلك الأحوال، وأرسلت إلى أبيها تنذره، ولم تبرح بلبيس لتشجيع السكان على الثبات في وجه الكفار، على أن عمرًا قائد المسلمين تجنب الفرما وتقدم رأسًا إلى بلبيس، فضرب حولها الحصار فلبثت الفتاة الباسلة شهرًا تصد العرب بفرقتها الصغيرة التي لم تدرب على القتال، وبعد خسارة عظيمة في الأرواح وقعت المدينة عنوة في قبضة عمرو، ومعها أرمانوسة وكل ما لديها من ذخائرها وكنوزها، فبعث بها إلى أبيها معززة مكرمة، إما لإعجابه ببسالتها ومحاولتها الدفاع والمقاومة، وإما لإدراكه جلالة العاقبة من ترك كل عمل يسيء إلى العمدة المقتدر في بابليون، فانحلت مشكلة المقوقس وبرح الخفاء في أمر الشمس الطالعة منذ ذلك الحين.»
وعلى هذا المنهج من تشويه الوقائع تمضي المؤرخة «المترومنة» وتتكلف من التحقيق والتمحيص ما يعينها على غرض واحد، وهو الحسرة على خروج مصر من الدولة الرومانية، وإلقاء التبعة في ذلك على المقوقس، وتعليل خيانته بجمع الضرائب لنفسه في الآونة التي انقضت بين استيلاء الفرس على مصر وخروجهم منها، وهي علة لا يعقلها جاهل بظواهر الأحوال، فضلًا عن مؤرخ يتصدى لتفسير التواريخ واستخلاص الحقائق من وراء الشبهات، فإن الفرس لم يفتحوا مصر ليتركوا ضرائبها وخيراتها غنيمة للمقوقس، يعطي منها ما يعطيه ويستبقي منها ما يستبقيه، وإذا كانت علة الخيانة خوف المطالبة بالضرائب المتأخرة فأيسر شيء على المقوقس أن يقول: إن الفرس نهبوها ولم يعطوه «إيصالًا» بما نهبوه بطبيعة الحال، وإذا عز عليه في دهائه — أو في بلاهته — أن يعتذر بهذا العذر الواضح، فقد كان خيرًا له أن يبذل المال لهرقل أو لقسطنطين بدلًا من إرساله تحفًا وهدايا وجهازًا وصداقًا مع بنته المزعومة أرمانوسة، وهو لا يأمن أن تخرج مصر من يد هرقل، فيكون قد قذف بفتاته إلى النيران ووقع بين شقي الرحى من ناحية المهزومين وناحية المنتصرين، ولم يستفد من كل ذلك إبقاء المال ولا إبقاء فتاته لديه.
وقد قبلت المؤرخة «المترومنة» قصة أرمانوسة من قصص الواقدي على علاتها، ولم تبحث فيها أقل بحث يتطلب التعزيز والإسناد، ولم يحملها على قبول القصة إلا أنها ذريعة لتهمة من التهم تكال للمقوقس المسكين، على أن «بتلر» لم يرفض قصة أرمانوسة إنصافًا للحقيقة، أو ذهابًا مع التمحيص والتدقيق، بل رفضها لأنه اختار أن يكون المقوقس هو فيرس، واختار أن يكون فيرس راهبًا لا يجوز له الزواج، وهو في ذلك لم يبلغ بالتمحيص غايته؛ لأن مسألة الزواج لم تكن يومئذ من الحرج والصرامة بحيث انتهت إليه بعد فصل الكنيسة القبطية من سلطان الرومان. وقد كان مستحبًّا للأسقف أن يكتفي بزوجة واحدة إذا خشي الفتنة على نفسه ولا يزيد عليها، قال ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين، صاحب «سير البطارقة» في أثناء الكلام على ديمتريوس الثاني عشر: «وإذا قال قائل: كيف يجوز أن يكون بطرك متزوجًا؟ نقول له: قد قال التلاميذ في قوانينهم: إذا كان الأسقف متزوجًا امرأة واحدة فلا يمنع من ذلك؛ لأن الزوجة المؤمنة طاهرة وفراشها طاهر ولا ذنب عليه، والبطرك هو أسقف مدينة الإسكندرية، وله الرئاسة على أساقفة أعمالها؛ لأنه خليفة مار مرقس الرسول على إقليم مصر جميعه، الخمس مدن والنوبة والحبشة كل هذه خرجت من قسم الأب مرقس الرسول البشير ببشرى الإنجيل؛ ولهذا أوجب أن يكون حكم أسقف إسكندرية على جميعها.»
فليست هناك علل حاسمة تصلح للاستناد إليها في التثبت من السير والأشخاص على هذه الطريقة التي توخاها بتلر، أو على تلك الطريقة التي توختها السيدة فيما اختارته أو نبذته من تاريخ تلك الآونة.
من مميزات المقوقس أنه كان ذا وجهين، يتلون تلون الحرباء ويتقلب حيث شاء، ولسان حاله يقول: أنا مع الغالب فإنه لما انتصر هرقل على العرب في موقعة عند فلسطين، ظن جرجس أن النصر سيكون لهذا الإمبراطور؛ ولذلك سعى في التقرب إليه والتملق له عساه يتناسى عدوانه وطمعه، فدبر الطريقة الآتية، وهي أنه كانت له ابنة بارعة في الجمال اسمها أرمانوسة، فخطر على باله أن يزوجها بقسطنطين بن هرقل الأكبر ووريثه، وأمهرها بصداق وفير جعل هذا الأمير الذي كان حاكمًا في قيصرية أن يقبل طلب جرجس ويتنازل في المتأخرات الباقية عليه من ضرائب مصر التي لم يدفعها للخزينة الإمبراطورية، ففي سنة ٦٣٩ سارت هذه العروس المصرية من بابليون بأبهة الملكات وفخفخة جداتها المصريات، يحف بها جيش جرار ويمشي في ركابها أمراء وأقيال، حتى بلغ مقدار الفرسان الذين كانوا في موكب زفافها ألفي فارس أو يزيدون، عدا العبيد والهدايا النفيسة والمطايا الفاخرة التي تليق بعروس مصرية لعريس روماني، ولكن عندما وصلت هذه الحسناء لحدود مصر، وكادت تعبر القنطرة عند الإسماعيلية إلى العريش، بلغها أن الغلبة كانت حليفة للعرب الذين شددوا الحصار على قيصرية، وهم يستعدون للهجوم على مصر، فلما طرق هذا الخبر آذان سليلة رعمسيس وابنة فرعون وكريمة أولئك الأجداد الكرام الذين دوخوا العالم واجتاحوه قبل أن يوجد العرب، طرحت حلي العرس وزينة الفرح، وتقلدت السيف بدل الوشاح، ولبست الدروع بدل الدمالج، وتمنطقت بمعدات الهلاك بدل أحزمة الذهب المرصعة باللآلئ ونزلت من مركبتها، وامتطت متن جواد أشهب، وقالت للذين يسيرون معها أن هيَّا نخضب أيدينا بدماء الأعداء بدل خضاب الأوانس، ونشرب بجماجمهم عوضًا عن شربنا بكاسات الذهب وطاسات الإبريز، تعالوا نشنف آذاننا بصلصلة السيوف وصهيل الخيل، بدل وقع الدف ورنة العود! سيروا بنا نحو الأعادي، وهناك إذا وقعت العين على العين، وحمي وطيس الحرب وعلا سعير الطعن والضرب، وتقابلت مع الفرسان، تجدونني أردد ما قاله عنترتهم الأسود، وأنا فتاة بيضاء بضاء، وغادة هيفاء:
وحينئذ كرت أرمانوسة راجعة إلى بلبيس في نفر من رجالها وأخذت تستعد للدفاع وصد هجمات الأعداء المغيرين.
وبعد أن دخل عمرو بلبيس وقعت أرمانوسة أسيرة في يده، ولكنه أرسلها إلى أبيها بكل احترام وتبجيل؛ إما لأنه أعجب بشجاعتها وبسالتها؛ أو لأنه خاف أن يؤذيها فيسيء إلى والدها صديقه الحميم الذي ثبت لديه الآن أن العرب هم الذين سوف يأخذون مصر بلا مجادلة، ولما وصلت أرمانوسة إلى أبيها سألها عما فعلت، فأجابته:
فكظم أبوها غيظه منها؛ لأنها قاومت الذين تعاهد معهم على أن يعطيهم وطنه لقمة باردة دون حرب أو عناء، ولم يستطع توبيخها أو تعنيفها؛ لأنه كان لا يزال تحت سلطة الرومانيين، ولم تصر مصر بعد إلى أيدي هؤلاء العتاة المغيرين …
إن الشخص الذي يطلق عليه مؤرخو العرب اسم المقوقس لم يزل غامضًا، هل كان قبطيًّا؟ هل كان من أصل يوناني؟ هل المقوقس الذي سلم القاهرة هو نفسه الذي أبرم اتفاقية الإسكندرية؟ لم يصل المستشرقون بعد بحث وتنقيب خلال قرن أو أكثر إلى جواب دقيق عن هذه الأسئلة. نعم إننا اليوم أقرب إلى الحقيقة من أمثال شمبليون فيجاك شقيق شامبليون الذي صور لنا فيرس على أنه قس قلق ومفسد — خلف البطريرك جورج عام ٦٣٠ — بينما حكم مصر أحد الأقباط كريم الأصل ومن أغنى أغنياء البلاد اسمه المقوقس، غير أن المستندات التي حصلنا عليها حتى الآن لا تسمح لنا بعد بتفسير هذا اللغز التاريخي تفسيرًا تامًّا.
ونميل إلى الاعتقاد دون أن نجزم قطعيًّا بأن المقوقس الذي فاوض في تسليم بابليون، هو شخص آخر غير البطريرك فيرس الذي أبرم صلح الإسكندرية، بل إنه حاكم قبطي وأمسك المؤرخون العرب عن التثبت من شخصية هذا الحاكم … على أن المؤرخ الكاثوليكي «ابن بطريق» يشير إلى المقوقس على أنه يعقوبي مبغض للروم، ولم يكن يتهيأ له أن يظهر مقالة اليعقوبيين لئلا يقتلوه، ويتهمه ابن بطريق إلى جانب ذلك بأنه قد اقتطع أموال مصر من وقت حصار كسرى للقسطنطينية، فكان يخاف أن يقع في يد هرقل الملك فيقتله … والذي يحملنا أيضًا على الاعتقاد بأن حاكم بابليون أيام الحملة كان قبطيًّا، هو الفرق الواضح بين اتفاقيتي القاهرة والإسكندرية: فبينما تعنى اتفاقية الإسكندرية صراحة بمصير اليونانيين، لم تهتم اتفاقية بابليون إلا بمصير الأهلين، وأبى ابن الحكم أن يترك شكًّا في هذا الموضوع: فأضاف بعد ذكر الاتفاقية الموقع عليها في بابليون ما يأتي: (هذا كله على القبط خاصة.) ومن جهة أخرى أراد المقوقس أن يخطر عمرًا قبل دخول الاتفاقية في دور التنفيذ فقال له: إنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأما الروم فإني بريء منهم وليس ديني دينهم ولا مقالتي مقالتهم: إنما كنت أخاف منهم القتل، فلذلك كنت أستر ديني ومقالتي … وأكتم ذلك.
… فقال رئيس الدير: لا أعرف لأي سبب بارحوا … حينئذ أمر بضرب رئيس الدير حتى يخبره بكل ما حصل، فأجابه الرئيس بقوله: لا تضربني وأنا أخبرك الحقيقة … هذا الرجل، صمويل الناسك، عمل للرهبان موعظة طويلة لامك فيها، ودعاك مجدفًا ويهوديًّا خلقيدونيًّا، وكافرًا غير مستحق أن تقدس بطريركا، وغير مستحق لشركتك بأي نوع؛ ولهذا السبب أصغى الرهبان لكلامه وذهبوا … فلما سمع الكافر هذا الكلام غضب غضبًا شديدًا، وصار يعض شفتيه من شدة غضبه، ثم ابتدأ يلعن رئيس الدير والدير والرهبان … وعقب ذلك رجع من سكة أخرى، ولم يحضر للجبل لهذا اليوم. وبعد هذه الحادثة رجع الإخوة بسلام إلى الدير.
ويبدو لنا أن هذا الحوار مفهوم إذا كان المقوقس مصريًّا يحتاج إلى التذكير بصفته الحكومية، وكان منتميًا إلى مذهب غير المذهب الذي ينتمي إليه أكثر قومه، ولكنه غريب في خطاب يدور بين ناسك مصري ورئيس روماني يدين بمذهب المجمع الخلقيدوني، ولا ينتظر أن ينتمي إلى غيره بحكم مولده ومنصبه وانتمائه إلى النحلة الملكية، وكذلك المقابلة بين البطرق بنيامين والمقوقس مفهومة إذا كان كلاهما مصريًّا، وكان الاختلاف بينهما في المذهب، أما أن يكون أحدهما رومانيًّا ملكي المذهب وأن يكون الآخر مصريًّا يعقوبي المذهب، فلا وجه للموازنة بينهما في كفتين متعادلتين.
•••
خرج من الديارات بوادي هبيب — النطرون — ومضى إلى الصعيد، وأقام مختفيًا في دير صغير في البرية إلى كمال العشر سنين، كما قال له ملك الرب، وهي السنون التي كان فيها هرقل والمقوقز متسلطين على ديار مصر … ثم إن هرقل أقام أساقفة في بلاد مصر كلها إلى أنصنا … فلما تمت عشر سنين من مملكة هرقل والمقوقز، وهو يطلب بنيامين البطريرك وهو هارب منه من مكان إلى آخر مختفيًا في البيع الحصينة، أنفذ ملك المسلمين الخليفة سرية مع أمير من أصحابه يسمى عمرو بن العاص في سنة ثلاثمائة وسبع وخمسين لديقلاديانوس قاتل الشهداء، فنزل عسكر الإسلام بقوة عظيمة في اليوم الثاني عشر من بئونة، وهو الرابع من دنكطس من شهور الروم، وكان الأمير عمرو قد هدم الحصن وأحرق المراكب بالنار، وأذلَّ الروم وملك بعض البلاد، وكان مجيئه من البرية، فأخذ الجبل حتى وصلوا إلى قصر مبني بالحجارة بين الصعيد والريف يسمى بابليون، فضربوا جميعهم خيامهم هناك حتى ترتبوا لمقاتلة الروم ومحاربتهم، ثم إنهم أسموا ذلك الموضع بلغتهم الفسطاط، وهو اسمه إلى الآن، وبعد قتالهم ثلاث دفعات غلب المسلمون، فلما رأى رؤساء المدينة هذه الأمور، مضوا إلى عمرو وأخذوا منه أمانًا على المدينة لئلا تنهب، وأهلكوا جنس الروم وبطريركهم المسمى أريانوس، ومن سلم منهم هرب إلى الإسكندرية وأغلقوا أبوابها عليهم وتحصنوا فيها … فلما ملك عمرو المدينة ورتب أمورها، خاف الكافر والي الإسكندرية، وهو كان واليها وبطركها من قبل الروم، أن يقتله عمرو، فمص خاتمًا مسمومًا فمات لوقته، فأما سانوتيوس التكس — أي الدوق المؤمن — فإنه عرف عمرًا بسبب اختفاء الأب بنيامين البطريرك، وأنه هارب من الروم خوفًا منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمال مصر كتابًا يقول فيه هكذا: (إن الموضع الذي يكون فيه بنيامين البطريرك الذي للنصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنًا مطمئنًّا ويدبر حال بيعه وسياسة طائفته.) فلما سمع القديس بنيامين هذا عاد إلى مدينة الإسكندرية بفرح عظيم، بعد غيبته ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر، وثلاث سنين قبل أن يفتح المسلمون الإسكندرية، لابسًا إكليل الصبر وشدة الجهاد.
وهذا التاريخ الذي كتبه المؤرخ القبطي في عصر الفاطميين، يخرج لنا المقوقس في صورة تناقض جميع الصور التي يظهر فيها خائنًا متواطئًا مع العرب، فإنه بخع نفسه خوفًا منهم أن يدمِّروا عليه الإسكندرية، وكان الفرح بهم من جانب الحزب المصري في الكنيسة برئاسة البطرق بنيامين الذي عاد إلى كرسيه آمنًا بعد موت المقوقس وخروج الروم منها.
إنه كان في أيام الأب بنيامين أن ملكت العرب أرض مصر، وكان دخولهم إليها في ثاني بئونة سنة ٣٣٣، وكان المقوقز جريج بن مينا الهراطيقي نائب هرطاقة هرقل بالديار المصرية، يطلب ويضطهد على الموافقة له على أمانة لاوون الفاسدة، وظفر بأخيه مينا وأنزل به عقوبات عظيمة وغرقه.
وهذه الفقرة لا ترجح شيئًا كما ترجح انتماء المقوقس إلى مصر؛ لأنه نشأ في بيت يسمي أبناءه باسم مينا، ويتسمى هو وأخوه بهذا الاسم الواحد، مع التفرقة بينهما في اللقب أو الكنية، وهذه التسمية تقليد وطني لم يؤثر مثله عن أحد من الرومان الشرقيين أو الغربيين.
•••
وممن أرخوا هذه الفترة: أبو المكارم سعد الله بن جرجس بن مسعود من أبناء القرن الثاني عشر، وهو يقول عن إقليم البحيرة: «إن بحيرة الإسكندرية كانت مزروعة كرومًا جميعها لامرأة جريج بن مينا مقوقس الروم، وكانت تستأدي خراجها خمرًا، فكثر عندها، فطلبت دنانير ذهب فلم يحصل لها من الخمر ما طلبت؛ لأنه كان موجودًا عند الناس وما يجدون من يشتريه، فكرهت هذا فغرقت البحيرة بالماء، ولم تزل كذلك حتى استنبطها بنو العباس، وهم المسودة وإنهم سدوا جسورها ومنعوا الغرق.»
والمهم في هذه الفقرة هو تسمية المقوقس باسم جريج بن ميناء، وهي التسمية المصرية التي لم تعهد في أسماء الرومان أو الروم.
وجاء في تاريخ ابن البطريق هو من الملكيين المعارضين للكنيسة الوطنية: إنه في أول خلافة أبي بكر: «صير سرجيوس بطريركًا على الإسكندرية أربع سنين، فلما سمع أن المسلمين غلبوا الروم وفتحوا فلسطين، وأنهم سائرون إلى مصر ركب البحر وهرب إلى القسطنطينية، فبقي كرسي الإسكندرية بعده بلا بطريرك ملكي سبعًا وتسعين سنة. ولما هرب صير بعده كورش — أي فيرس — بطريركًا على الإسكندرية، وكان مارونيًّا على دين هرقل، وكان بالإسكندرية رجل راهب يسمى صفرونيوس، فأنكر صفرونيوس مقالة كورش؛ لأنه كان يقول: إن لسيدنا المسيح طبيعتين بمشيئة واحدة وفعل واحد، وأقنوم واحد، وهي مقالة مارون، فسار صفرونيوس إلى كورش فناظره … فقال له كورش بوقاحة: إن أنوريوس بطريرك رومية وسرجيوس بطريرك القسطنطينية موافقان لي على هذه المقالة … فخرج صفرونيوس إلى القسطنطينية فقبله سرجيوس بطريركها، وقص صفرونيوس عليه ما كان بينه وبين كورش، فعجب سرجيوس من ذلك، فلما كان بعد مدة قدمت هدايا من كورش إلى سرجيوس، فانصرف عن رأيه وصار مخالفًا لصفرونيوس موافقًا لكورش … ثم إن صفرونيوس صيروه بطريركًا على بيت المقدس، فكتب صفرونيوس كتابًا في الإيمان وبعث به إلى جميع الآفاق، فقبله أهل الدنيا في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب …»
إلى أن قال عن عمرو بن العاص: «… ثم سار إلى مصر وكان الروم قد تحصنوا في الحصن، وخندقوا حول الحصن خندقًا، وطرحوا فيه سككًا من الحديد، فقاموا يقاتلونهم قتالًا شديدًا ستة أشهر، فلما أبطأ الفتح عليه كتب عمر بن الخطاب يستمده فأمده بأربعة آلاف رجل، منهم الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وكان مع عمرو أربعة آلاف، فصار في ثمانية آلاف، وكان العامل على الخراج بمصر رجلًا يدعى المقوقس من قبل هرقل، وكان يعقوبيًّا مبغضًا للروم إلا أنه لم يكن يتهيأ له أن يظهر مقالته لئلا يقتله الروم، وكان أيضًا قد اقتطع أموال مصر في وقت حصار كسرى القسطنطينية، وكان يحاذر من هرقل الملك أن يقع في يده فيقتله، فاحتال على الروم، وقال لهم: إن العرب قد جاءهم مدد وليس لنا بهم طاقة، ولا نأمن أن يفتحوا القصر فيقتلونا، ولكن نسد أبواب الحصن ونصير عليه مقاتلة، ونخرج من القصر إلى الجزيرة فنقيم فيها ونتحصن بالبحر، فخرج الروم ومعهم المقوقس وجماعة من أكابر القبط من باب القصر القبلي، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فركبوا المراكب ولحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم، وقطعوا الجسر، وكان ذلك في جري النيل …
ثم أرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص يقول له: إنكم قوم قد ولجتم بلادنا ولججتم على قتالنا، وطال مقامكم بأرضنا، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا … فابعثوا إلينا رجلًا منكم لنسمع كلامكم، فلعل يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال، فلما أتت رسل المقوقس عمرو بن العاص وجه معهم بعبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود فلما دخل على المقوقس أدنى مجلسه فقال المقوقس له: ما الذي تريده منا؟ بيِّنه لنا، فقال له عبادة: أن ليس بيننا وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال، فاختر أيها شئت، وبذلك أمرني بها الأمير وأمير المؤمنين: إما أن تدخلوا في الإسلام فكنتم إخوتنا وكان لكم ما لنا ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم، فإن أبيتم فأدوا لنا الجزية نرضى بها ونحن وأنتم في كل عام أبدًا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وتعرض لكم في شيء من أراضيكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذا كنتم في ذمتنا وكان به عهد علينا، فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم غير المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم، فقال المقوقس: فإما الدخول في دينكم فهذا ما لا يمكن، وأما الصلح فقد رضيت أنا ذلك لنفسي ولأصحابي القبط، وامتنع الروم أن يجيبوا إلى الصلح وقالوا: لا نفعل ذلك أبدًا، وإنما فعل المقوقس هذا مكرًا منه وخديعة حتى أخرج الروم من الحصن، ثم رضي بالصلح ليسلم له ما أخذ من المال … فرجع عبادة بن الصامت فأخبر عمرًا بجميع ما كان، ثم إن المسلمين لما علموا أن ليس في الحصن من المقاتلة إلا نفر يسير، ناهضوا القتال من ناحية سوق الحمام اليوم، فرموا الحصن بالمنجنيقات والعرادات، ثم إن الزبير وضع سلمًا إلى جانب الحصن من سوق الحمام، ثم صعد، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن، فكبروا وتحامل الناس على السلم، فخلا الروم عن القتال، وركبوا المراكب ولحقوا بالجزيرة إلى أصحابهم، وفتح المسلمون الحصن، فقتلوا وأسروا وغنموا، فلما نظر الروم ما فعل بهم المقوقس، وكيف أنه خدعهم وأخرجهم من الحصن وسلمه إلى المسلمين، خافوا ناحيته فتركوه وركبوا البحر وعسكروا بكوم شريك، واجتمع المقوقس مع عمرو بن العاص على عهد بينهما، واصطلحا على جميع من بمصر أسفلها وأعلاها من القبط، ديناران ديناران على كل نفس، شريفهم ووضيعهم ممن بلغ الحلم منهم، وليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وأحصى عدد القبط يومئذ، خاصة من بلغ الحلم، وأخذت منهم الجزية، وفرض عليهم الديناران، رفع ذلك بالأيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط الذين أحصوا وكتبوا، فكانت فريضتهم في ذلك الوقت: اثني عشر ألف ألف دينار كل سنة.
ثم قال ابن البطريق: «إن عمرو بن العاص كتب إلى الخليفة يصف له فتح الإسكندرية، فقال: إني فتحت مدينة لا أقدر أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك، واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر وما يتلوه من البقولات! وإني فتحتها عنوة بغير عقد ولا عهد … وإن المسلمين طلبوا قسمتها … فكتب إليه عمر بن الخطاب يقبح رأيه ويأمره ألا يتجاوزها ولا يقسمها، ويتركها ليكون خراجها للمسلمين قوة على عدوهم.»
•••
قال: «فأقرها عمرو وأحصى أهلها، فرض عليهم الخراج، وكانت مصر فتحت صلحًا كلها بفريضة دينارين كل رجل لا يزاد على أحد جزية رأسه أكثر من ذلك، إلا أنه لا يلزم مقدار ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا الإسكندرية، فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى واليهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة … وفتحت الإسكندرية يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة، وعشرين للملك هرقل.»
وهذه الروايات لسعيد بن البطريق أحجى أن تقارب التاريخ الصحيح؛ لأن صاحبها كان أقرب المؤرخين إلى مراجع الأخبار جميعًا من رومانية وقبطية وعربية، ولكنها لم تخل من عيب التاريخ في هذه الفترة، وهو تخلل الوقائع والرويات بالمنازع والأهواء، بحيث يظهر لون المؤرخ من كلامه، وإن لم ينسب هذا الكلام إلى شخص معلوم، وقد ترك ابن البطريق متسعًا لدعواه أو متسعًا لهواه، كغيره من المؤرخين، فكان «روماني المذهب» في اختيار الأخبار التي توافق منزعه، وأولها أن الرومان لم يرتبطوا بعهد ولا عقد عند سقوط الإسكندرية، وإن سقوط بابليون كان خديعة من الحاكم اليعقوبي، ولم يكن ضعفًا اضطرت إليه الحامية بعد اليأس من المدد، وكان تعليله لخديعة الحاكم اليعقوبي الوطني أسخف من تعليلات غيره، فإنهم زعموا أن الحاكم الوطني — وهو المقوقس — قد استبقى عنده ضرائب القطر كله أيام استيلاء الفرس على مصر، فلم يرسلها إلى القسطنطينية، ولم يكن في نيته أن يرسلها، وقد يكون هذا السبب معقولًا بعض الشيء؛ لأن إرسال الضرائب إلى القسطنطينية مع سيرة الفرس على البلاد لم يكن بالميسور وإن أراده المقوقس، وموضع السخف من القصة أن نتصور المقوقس عاجزًا في هذه الحالة عن الاعتذار باغتصاب الفرس لكل ما أصابوه من الغلات والخيرات وأموال الخراج! فإذا أغضينا بنظرنا عن هذا السخف، فما عدا ذلك سهل مستساغ! وأما الذي لا يستساغ فهو امتناع المقوقس عن إرسال الضرائب؛ لأن الفرس يحاصرون القسطنطينية! إذ الواقع أن الطريق بين مصر والقسطنطينية لم تكن مقفلة من جانب البحر، ولم يكن الرومان ينقطعون عن طلب الأزواد والأمداد من إفريقية، وقد استطاع هرقل مع حصار القسطنطينية من الناحية الآسيوية أن يتركها وينقض على بلاد فارس وراء البحر الأسود، فلم يكن من العسير أن تصل ضرائب مصر إلى القسطنطينية في فترة الحصار، إلا أن يكون المقوقس قد أعلن قطع الصلة بالإمبراطور ووضع يده على أموال البلد جهرة مع وجود الحامية الرومانية فيها، وعلى هذا لا تبقى للرومان ثقة به وهو معهم في داخل حصن بابليون، ولا ينتظرون منه أن يخدعهم ويتفق مع عمرو بن العاص من ورائهم حتى يتخوفوه ولا يأمنوه.
كذلك يروي ابن البطريق تلك القصة التي رويت عن عمرو وغلامه وردان في أثناء حصار الإسكندرية، كما رويت في حرب فلسطين، وهي كما يرى أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ.
ولا تنحصر الخلافات حول المقوقس فيما تقدم، بل يقول آخرون — كما قال امبلينو — إنها مشتقة من «كوكيوت» اسم عملة يونانية؛ لأن المقوقس كان يلي أمر الخراج، ولا يستبعد «بتلر» أن يكون اللفظ مصحفًا على لسان المصريين من القوقاس؛ لأن هرقل نقل فيرس من القوقاس إلى الديار المصرية.
ولكن المقوقس عرف بهذا اللقب في الحجاز قبل فتح مصر بأكثر من عشر سنين، وكتب إليه النبي — عليه السلام — رسالة بهذا اللقب جاءه الجواب عنها مع هدايا المقوقس التي لا جدال فيها، فما تأويل ذلك عند بتلر وأتباعه في التحقيق والتصديق والتكذيب؟ تأويل ذلك يسير على طرف اللسان، وهو خطأ المؤرخين العرب في رواية الخبر بعد الفتح الإسلامي بسنين!
إلا أن خبر الرسالة النبوية وجوابها من وراء كل شك وكل تردد وتأويل، فلا شك في كتابة النبي — عليه السلام — إلى عظيم القبط في مصر، ولا في جواب عظيم القبط عن كتابه، وقد وصلت السيدة مارية وأختها مع الجواب، وعُرِف الرسول الذي جاء مع الهدية، والبيت الذي نزلت فيه بالحجاز، ثم ولد للنبي — عليه السلام — ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وتواترت التواريخ بمولده ووفاته حوالي الثانية من عمره، وتواتر كذلك بكسوف الشمس يوم وفاته، وقول النبي — عليه السلام: إن الشمس لم تكسف لموته، وجاوز الأمر أخبار التاريخ إلى تحقيقات الحساب الفلكي، فأثبت العالم الكبير محمود الفلكي باشا أن هذا الكسوف حدث في المدينة المنورة «الساعة الثانية والدقيقة الثلاثين بعد نصف الليل من اليوم السابع والعشرين من شهر يناير سنة ٦٣٢ ميلادية»، ويطابق هذا التاريخ تقدير مؤرخي المسلمين عن وقت ولادة إبراهيم ووقت قدوم أمه السيدة مارية إلى الحجاز.
فليس المهم إذن تصريف اسم المقوقس باليونانية أو الحبشية أو القبطية، وإنما المهم أن هناك عظيمًا في مصر كان يملك من أمر شعبها ما لم يملكه عاهل القسطنطينية؛ ولذلك كتب النبي إليه ولم يكتف بالكتابة إلى العاهل في عاصمة الدولة الكبرى، وقد وصل الكتاب إلى صاحبه المقصود بدليل واضح بسيط، وهو وصول الجواب عنه، فإذا كانت منزلة هذا الرجل حقيقة مقررة لا خلاف عليها، وكان اسم المقوقس دليلًا على هذه المنزلة لا يتأتى اختراعه لمن يجهله — فلماذا نلغيه ونبطله، أو نشك فيه وننفيه؟!
إن خروج المؤرخ بتلر أو غيره من ورطة وقعوا فيها، لا تكفي لتغيير مجرى الحوادث والروايات، وعلى بتلر وغيره أن يخرجوا من الورطة التي دخلوا فيها كما يشاءون، ولكن على غير حساب التاريخ. ومهما يكن من أخطاء المؤرخين الأوائل، فهي لا تكفي للإسعاف من كل ورطة والإجالة عليها في كل تأويل.
•••
ليست هذه التخريجات أو هذه التأويلات إذن هي المرجع في تمحيص القول عن مسألة المقوقس وما لابسها من الأخبار والروايات، وإنما المرجع إلى «الموقف» وما يمليه بحكم البداهة وحكم الحوادث التي عرفت بمقدماتها ونتائجها. وأيًّا كان الرأي في هذا المقياس، فهو أصدق بيانًا من جميع المقاييس التي رأيناها تضطرب ذلك الاضطراب بين أيدي المؤرخين.
•••
وهذا هو حكم الموقف على أسلم الوجوه من النقد والريب، أو من الاختلاق وتوجيه المنازع والأهواء.
حكم الموقف أننا أمام «دور» واضح محدود لا يقبل اللبس على وجه من الوجوه، دور زعيم «أهلي» مسئول له صفة شعبية، لا تستطيع دولة الرومان أن تنتزعها منه، سواء رضيت عنه أو غضبت عليه.
وليس هو «دور» رئيس روماني بحال من الأحوال؛ لأن الرئيس الروماني إن بقي في مصر لم تكن له صفة ولم يكن له سلطان، وإن خرج من مصر لم تكن للتعاقد معه قيمة، ولم يكن أهلًا للالتزام.
وإذا كان الموقف يستلزم «دورًا» محدودًا واضحًا فلا محل فيه للاختلاق ولا للتنازع بين المؤرخين.
فهناك «أشخاص» يجوز الشك في وجودهم، بل يستدعي العمل المنسوب إليهم أن نشك في حقيقتهم، أما إذا كانت المسألة مسألة «أدوار» قائمة لا مسألة أشخاص، فلا محل للشك ولا للتنازع، بل الأمر ينعكس من هذا النقيض إلى النقيض الذي يقابله، ويصبح من اللازم تاريخًا وعقلًا أن نوجد الشخص الذي يمكن أن يؤديه، لا أن نراه موجودًا ثم نشك فيه!
إن الدور الذي نسب إلى المقوقس لا يؤديه إلا زعيم له صفة المقوقس، كائنًا ما كان اسمه ولقبه، وكائنًا ما كان عنوانه في الدولة وفي البلاد.
فهو دور يؤديه «زعيم أهلي» عرف الناس حول بلاده أنه يملك منها ما ليس يملكه هرقل في عاصمته، ويتعاهد العرب معه فيعلمون أنهم يعاهدون البلاد، وأن البلاد مقرة لما تعاهدوا عليه.
ومن بقي من الرومان — أو من الروم — بعد وصول عمرو بن العاص إلى الفسطاط، فإنما بقي مقاتلًا أو منتظرًا للمدد من خارج مصر لمواصلة القتال، ومثل هذا لا يتعاهد معه عمرو بن العاص، ولا معنى للتعاهد معه قبل انقضاض المعركة بين الدولة الذاهبة والدولة الباقية!
فلا يكون المتعاهد أو المصالح في الحرب إلا زعيمًا يتكفل بشيء يقدر عليه، ويعلم معاهدوه أنه قادر عليه باسم قومه، وأنه إذا نقضه كانت الخسارة عليه وعليهم، لا على الرومان في مصر والإسكندرية، أو الرومان في القسطنطينية وبلاد الروم!
فالزعيم المصري هنا شخص يفرضه التاريخ فرضًا، ويتطلب منه تبعة لا يقوم بها سواه.
وهذه التبعة تدل كذلك على حالة محدودة واضحة، لا تلتبس بغيرها من الحالات.
إن الصلح في مصر كان نسخة مكررة من الصلح في فلسطين.
ففي العهدين معًا أمان للبيع والكنائس، واتفاق على خروج من يريد الخروج مع الروم من أهل البلاد.
وفي عهد فلسطين أمان من إكراه أهل بيت المقدس على مساكنة اليهود، يقابله في عهد مصر أمان من إكراه أهلها على مساكنة النوب؛ لأنهم كانوا معهم قبل ذلك في قتال على الشئون الدنيوية والدينية.
فلا موضع هنا لخيانة ابتدعها الزعيم الوطني في الديار المصرية؛ لأنه لم يقبل شيئًا أقل مما قبله أهل فلسطين.
وقد تذكر كلمة الخيانة إذا كانت الدولة الرومانية قادرة على حماية مصر عاجزة عن حماية فلسطين، ولكنه فرض بعيد لا يخطر على بال أحد ينظر إلى الموقف اليوم، أو كان ينظر إليه كما رآه المعاصرون في تلك الأيام.
فالدفاع عن فلسطين أهون من الدفاع عن مصر بكثير؛ لأن طريق البر مفتوح بين بلاد الدولة الرومانية في آسيا الصغرى، وبين ميادين فلسطين من شمالها إلى جنوبها، فإذا كانت الدولة الرومانية لا تستطيع أن تبعث البعوث إلى جيرتها القريبة، فهي أعجز عن ذلك في الميادين المصرية، وإذا كانت السفن لا تسعفها على شواطئ فلسطين فهي لا تسعفها في الإسكندرية ودمياط.
ولا بد من النظر إلى اعتبار آخر في هذا الموقف، وهو حالة فلسطين من الوجهة الدينية، فإن هرقل كان خليقًا أن يهتم باستبقائها، لما فيها من الأماكن المقدسة التي تقوم عليها صفته في عاصمة الدولة الشرقية على الخصوص، وإن رعاياه هناك لم يكن عندهم من أسباب النقمة عليه شيء يثنيهم عن تأييده واستبقاء ملكه؛ لأنه لم يكرههم على خلاف عقيدتهم كما فعل في مصر، ولم تزل ذكرى دخوله بيت المقدس، وحفاوة أهلها به ووعدهم بالكفارة عن يمينه مدى السنين عالقة بأذهان القادة والأتباع في تلك البلاد.
وربما وجد من المؤرخين من يصف المقوقس بالخيانة، إذا كانت دولة الرومان قادرة على شيء في الدفاع عن مصر، فحال بينها وبين المثابرة على الدفاع، فقد يقال حينئذ: إنه موظف «روماني» خذل رؤساءه وسادته وسلم البلاد لقوم آخرين!
لكن الواقع أن الدولة الرومانية لم تكن لها ذمة تخان في البلاد المصرية من الوجهة الدينية، أو الوجهة العملية الواقعية.
فمن الوجهة الشرعية هي دولة أجنبية غاصبة، تعتدي على الأرواح والأموال، وتستنزف ثروة البلاد في الضرائب والإتاوات، وتحرمها الغلات والثمرات التي هي أحوج إليها في أيام الشح والغلاء، وتقحمها في منازعاتها قبل انقسامها إلى دولة شرقية ودولة غربية، وبعد انقسامها إلى دولتين بغير استقرار وبغير انقطاع، وقد ساعدها المصريون على طرد الفرس، وساعدوا هرقل في ثورته على خصمه فوقاس حتى قهره واستولى على العرش بعده، فمن قوة مصر وإفريقية الشمالية تجمعت قوة هرقل التي انتصر بها على خصمه، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إلى مكانه حتى جزى المصريين على معاونتهم شر الجزاء، فلم يكن من حقه عليهم أن يحاربوا له حربه، ويمسكوا له سلطانه وهو يشارف الزوال.
ومن الوجهة الدينية لم تكن على مذهب أهل البلاد، ولم تكن سمحة معهم فيما يختارونه لعقيدتهم، وكان النزاع الديني بين مصر والدولة الحاكمة على أشده وأعنفه عند قدوم عمرو بن العاص.
وقد قال ميخائيل السوري في تاريخه: إن «المنتقم الجبار» أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء ليخرجوا الأمم من ربقة الروم والرومان.
ومن وجهة الواقع لم تكن دولة الروم قادرة على مهمة الحكومة الأولى، وهي صد الغارات عنها وحفظ الأمن فيها. وكان من عملها ما يخل بالأمن ويغل الأيدي عن الدفاع؛ لأنها نزعت سلاح المصريين وقسمت القيادة العسكرية أقسامًا بين الرؤساء الرومانيين، وتركت للجنة الوطنيين أن يدفعوا غارات اللصوص بسلاحهم، فتعرضت للسطو من ناحية الصحراء ومن ناحية الجنوب، وما بقي للمصريين من جند مسلح، فإنما كان من قبيل الشرطة الذين تأمنهم الدولة الحاكمة؛ لأنهم لا يستطيعون إجلاءها ولا تأمنهم عصابات اللصوص؛ لأنها تتسلح بمثل سلاحهم ويزيد عددها على عددهم في بعض الأطراف، وقد كان قائد ليبيا الروماني على مقربة من المعارك الفاصلة بين العرب والدولة الرومانية، فلم يتقدم للاشتراك فيها؛ لأنها لم تترك في نفس أحد من جندها غيرة عليها؛ ولأنه لا يخلي مكانه إلا على خطر من العصابات.
•••
وأيًّا كان تفصيل الموقف من جهة السيادة الرومانية على البلاد فإنها لم تكن سيادة ملزمة لأهلها بذمة من الذمم، ولم يسلبها أبناء مصر شيئًا كانت قادرة عليه بقوتها الغاصبة، ومن رآها تعجز عن المقاومة في فلسطين فلن يخطر له أنها تقوى عليها في بلاده، وليست أمامه حالة «ممكنة» أسلم وأكرم من تصريف الموقف بما يقتضيه، فهو موقف ضرورة لا موضع فيه للخيانة ولا للاختيار.
وهو — بعد — موقف زعيم «أهلي» ينهض بتبعة لا حيلة له فيها، فإما أن يدع الفاتحين وشأنهم في بلاد لا يتكلم عنها أحد ولا يتفق باسمها أحد، وإما أن يتكفل بشروط الصلح التي لا يملك خيرًا منها، وهذا هو قضاء الموقف بحرفه ومعناه.
والمقوقس الذي يصوره لنا الموقف حقيقة لا يسمع فيها جدل المؤرخين، ولا يزال قول التاريخ فيها أصدق وأوضح من لجاجة كتابه ومدونيه، أو نساخيه.
وهذا الموقف الذي يبسطه لنا التاريخ، يتممه الموقف كما كان يراه المقوقس في علاقته بعرش الرومان وغيره من العروش الكبيرة من حوله.
فإذا كر راجعًا إلى أول أيامه، لم يكد يرى على العروش شرقًا وغربًا إلا جرائم الغيلة والتعهر: ثار فوقاس فقتل الإمبراطور موريس، وثار هرقل فقتل الإمبراطور فوقاس، والتاث عقل هرقل فلا يكاد يفيق من إحدى لوثاته حتى ترين عليه لوثة أخرى!
وينظر إلى المشرق فيرى الشاهنشاه ملك الملوك قتيلًا، ويرى ابنه كسرى الثاني ناجيًا بنفسه إلى حمى بيزنطة، يتبناه الإمبراطور موريس ويزوجه من إحدى الأميرات طمعًا في عرش فارس من طريق الوراثة، وقيل: إن هذه الأميرة كانت بنت الإمبراطور وإن كان قولًا مشكوكًا فيه.
وكان كسرى الثاني قد عاد إلى عرشه بمؤازرة الإمبراطور الروماني، فلما قتل هذا نهض كسرى الثاني للأخذ بثأره ظاهرًا، ولأخذ بلاده باسم الأميرة البيزنطية وحق الفتح والغلب في باطن الأمر، واجتاح جيوش الدولة المتداعية أمامه، ووصل بجيوش فارس إلى إفريقية الشمالية، ولم يرجع عن غاراته إلا بعد اضطراره إلى إنقاذ بلاده من حملة هرقل التي أوغلت إلى العراق وما وراءه، ونفذت عنوة إلى قلب الديار الفارسية.
وبينما الإمبراطور هرقل يتقدم إلى بيت المقدس لرد الصليب إليه، إذا برسالة النبي العربي تدركه في الطريق، وإذا به قد علم من أخباره من عرب الشام والجزيرة وعرب قريش المتجرين بفلسطين أمورًا ذات بال يحسب لها كل حساب، وتصل الرسالة إلى المقوقس من النبي العربي الذي خاطب هرقل، فلم يجسر هذا على رده والترفع عليه، فيعلم أنه أحرى بالحيطة والتقية، وأن المصانعة والانتظار أجدى من الغلظة والاستنكار.
ومن الجائز جدًّا أن يكون المقوقس قد علم بجواب النجاشي عن رسالة النبي العربي، وأنه أيده ولم يحفل برجاء المشركين من قريش، ثم تمضي فترة قصيرة، فيتسامع المشرق كله إلى أقصى بلاد الصين بغزوات أتباع النبي في العراق والشام وفلسطين، وأنهم قد هزموا دولة الأكاسرة ودولة القياصرة، ودخل في ملتهم وكلاء فارس في اليمن الذين أمرهم الشاهنشاه باعتقال نبي العرب لاجترائه على دعوته إلى الإسلام!
كيف يقع كل هذا من نفس المقوقس في وطنه المهدد المضطرب بين الغارات والمطامع والمنازعات؟
إن المؤرخ الحديث قلما يرد على خاطره أن يضع نفسه في مواضع الرجل، ويفكر مثله تفكير السياسي وتفكير الزعيم، وتفكير المتدين المؤمن بالنبوات! ماذا لو كان صاحب الدعوة هو النبي الموعود من ذرية إبراهيم؟ وماذا لو كانت رسالته مقدمة لأشراط آخر الزمان؟ وماذا لو لم يكن هذا وذاك وكان أنه قوة لم يغلبها غالب من القياصرة ولا من الأكاسرة؟
وإن المقوقس لينظر يمينًا وشمالًا بين هذه الزعازع والأعاصير، ثم ينظر في داخل البلد فلا يرى أحدًا يريد أن يفدي دولة الرومان بحياته وإن استطاع، وإنه مع ذلك لغير مستطيع!
والمؤرخ الحديث يركبه غروره فيظن أن الجهل بالوقائع والأسماء أيسر شيء يتهم به أبناء ذلك الزمان، ويكاد يجزم بغرابة الأمر كله؛ لأنه يتوهم أن هذه الحوادث العالمية كانت مجهولة في بلاد العرب، ولم يكن عند أهلها علم بها وبما يترتب عليها في مصر والقسطنطينية وسائر الأقطار.
على أن الواقع أن هذه الحوادث العالمية كانت من أخبار بلاد العرب اليومية، وكان العرب يتلقونها أحزابًا وشيعًا، ويعقدون المراهنات على حاضرها ومصيرها، وقد تراهن المسلمون والمشركون على عاقبة الغزوة الفارسية البيزنطية، ودخل في الرهان أبو بكر الصديق — رضوان الله عليه. وجاء في القرآن الكريم من أول سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ … [الروم: ١–٤].
وقد نزلت هذه الآية بالتاريخ الميلادي في سنة خمس عشرة بعد الستمائة، ولم تمض سبع سنوات حتى كانت النبوءة قد تمت وآذنت بما يليها، وهو وعد المؤمنين بالنصر وإنجاز الأمر الإلهي الذي دعاهم أن يسيروا في الأرض وينظروا عاقبة المشركين: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ [الروم: ٤١].
فبلاد العرب لم تكن خِلْوًا ممن يراقب الحوادث العالمية، ويوازن بين القوى، ويضع الخطوة في موضعها وفي أوانها، وأول ما كان من ذلك أن يخاطب النبي — عليه السلام — هرقل بعد انتصاره المنظور على الفرس، فلا يخاطبه في شأن مصر، ويؤثر عليه المقوقس بالخطاب، ولا تخفى دلالة ذلك على المقوقس أو على الرجل الذي هو في موضع المقوقس؛ لأنها تنبئه بالكثير من حقيقة صاحب الدعوة وأنه يعرف من يعنيه وما يعنيه.
فالموقف من أطرافه يوجد لنا المقوقس حيث يوجد، وبالصفة التي من أجلها قد اتجه إليه الخطاب.
إنه رجل يرتبط مصيره بمصير الأمة القبطية، ولا يطالب بعهد يلزم الرومان، ولا كان هذا العهد مطلوبًا أو مستحقًّا لعناء الطلب، فالرومان أصحاب دولة تبقى أو تزول، فإن بقيت فلا معنى لمعاهدتها على فتح البلاد، وإن زالت فقد أغنى زوالها عن كل عهد، ولن يربطها العهد بشيء وراء البلد الذي خرجت منه، ولم تكن لتخرج منه إلا مكرهة على غير وفاق.
وهكذا كانت نهاية القتال بين العرب ودولة الرومان الشرقية في فلسطين، وقد عادت إلى القتال ما استطاعت أيام الخلفاء الراشدين وأيام الأمويين، وأيام العباسيين، والفاطميين.
وقد كانت مهمة المقوقس مهمة أمانة يؤديها على أحسنها لمصلحة بلده، ولو أراد أن يخون لما استطاع أن يخون؛ لأنه لم ينزل عن شيء كان في وسعه أن يتشبث به، ولم يترك شيئًا كان في وسعه أن يبقيه لنفسه أو لقومه، أو للرومان إن كان من همه أن يخدمهم بحال.
إن الذين كتبوا عن المقوقس وأثبتوا وجوده مجمعون على علاقته بتحصيل الخراج، وأنه كان يظهر مذهب الروم الملكيين ويبطن مذهب القبط اليعقوبيين، وعلاقته هذه بالخراج ترشحه دون غيره للاتفاق من الفاتحين على ضريبة الرءوس، فيجوز أن تكون علاقته بالخراج توكيلًا عامًّا، أو تكون وكالة خاصة مقصورة على أرضه وثروته، فقد كان الخراج كما سنرى في باب الإدارة مقسومًا إلى ثلاثة أقسام: قسم تحصلة المجالس البلدية، وقسم يحصله الملتزمون، وقسم يؤديه أصحاب الضياع الواسعة مباشرة بغير وسطاء، ولا شك أن المقوقس كان من هؤلاء، ولم يكن من الذين يؤدون ضرائبهم للمجالس البلدية، وربما كان هذا الذي عناه بعضهم بخوفه من تأخير الأموال المطلوبة منه إن كان لهذه المسألة أثر من الصحة، وأيًّا كان عمله في تحصيل الخراج فهو صاحب خبرة ترشحه للتعاقد على أعمال الضرائب والتحصيل.
أما مذهبه الديني فربما كان للسياسة دخل فيما يعلنه منه وما يخفيه، وفي زماننا هذا الأخير نرى بعض الأسر الكبيرة تخشى على مكانتها، فتعلن غير ما تبطن من أمر المذهب والعقيدة، ففي مصر طلب الفرنسيون من محمد علي الكبير أن يقنع الطائفة القبطية بالانتماء إلى الكنيسة الغربية، فدفعه المعلم غالي «مباشر الدواوين» بحيلة موقوتة تصرفه عن هذه الخطة، ريثما تهدأ وسائط الفرنسيين، وقال له: إنه هو وأسرته سيدينون بالكثلكة، فيتبعهم أبناء الطائفة بغير حاجة إلى الإكراه أو الإقناع! وفي لبنان حدث مثل ذلك بين الأمراء الشهابيين من المسلمين والمسيحيين، وبقيت الأسرة كلها على دينها إلى اليوم! وغير بعيد أن يكون المقوقس قد استبقى مكانته بمجاراة الدولة على مذهبها، فقنعت الدولة منه بذلك وحمدت هذا الحل السياسي؛ لأنه يعفيها من مشكلة الاحتيال على اختيار رجل غيره في مكانته، وليس الاختيار هنا بالميسور إذا كان مركز الرجل من مراكز الوجاهة الموروثة والحسب العريق، وكان خلفه لا يقدر على قيادة الشعب المصري طواعية، كما ينقاد لزعيم من ذوي بيوتاته المعروفين.
وحكم «الدور التاريخي» بعد كل فرض وتأويل هو إيجاد رجل بالصفة التي وصف بها المقوقس، واللقب الذي أطلق عليه: رجل ذو وجاهة لا تتوقف على بقاء دولة الرومان في البلد، ورجل يخاطب في أمر مصر بمعزل عن عاهل القسطنطينية، ويعرف من أعمال الخراج ما تتولاه الدواوين المصرية قبل أن يتولاها الفاتحون، ورجل ترضيه الدولة بالألقاب التي لم تتعود أن تخلعها على أبنائها، ولم يعهد في التاريخ أن دولة أجنبية منحتها أحدًا غير الزعماء الوطنيين تعويضًا لهم عن سيادة الحكم والسلطان.
وهذا المقوقس قد وجد بصفاته اللازمة عقلًا وعملًا، فلماذا نحتال على الشك فيه؟
إن صفاته هذه تعيننا على تصحيح كل صفة وكل شخصية في زمانه، فمن لم يكن صالحًا لهذا «الدور»، فلا يمكن أن يكون هو المقوقس المشهور، وليكن بعد ذلك من كان!
كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانًا …