بين الإمارتين
أشار عمرو بفتح مصر …
وقام عمرو بفتح مصر …
وكل فتح فله تأمين وتمكين …
وقد قام عمرو بتأمين ذلك الفتح وتمكينه، على نحو لم يسبقه إليه سابق من فاتحي وادي النيل في قديم عصوره؛ لأنه أبقى لهذا الفتح أثرًا خالدًا في لغة البلد ودينه وفنونه، فصنع ما لم يصنعه فاتح قديم وقل أن يصنعه فاتح حديث.
فلم يغفل عن حدود البلاد بعد أن سلَّمت له الإسكندرية وتتابع تسليم العواصم الأخرى لأعوانه، ولا سيما الحدود التي يجيء الخطر منها وهي حدود الغرب والجنوب.
ولعله علم من مصر — إن لم يعلم قبل ذلك — أن نقتاس القائد الروماني أغار على البلاد من غربيها فأخضعها، وأن هرقل قد حدثته نفسه مرة بالرجعة إلى المغرب ليحكمه، فرارًا من فتن القسطنطينية ودسائسها، وقد يفعل ذلك خلف من بعده فيصبح المغرب منفذًا لغارة رومانية قد يخشى خطرها على «الفتح الجديد» وهو في أوائل سنواته.
فتوجه في فتح المغرب حتى وقف عند تونس بأمر الخليفة، وعلم أن أهل مصر يخافون من مساكنة النوبة إياهم في بلادهم، ويسألون حاكمهم أن يقصيهم عنها ولا يأذن لهم بطول المقام فيها، فوعدهم ألا يأذن بهذا المقام، وسيَّر الكتائب إلى مصر الجنوبية يذود عنها النوبة ويحرس ما دخل في حوزته من أرضها.
وقد أنصف الخليفة عمرًا وأحسن جزاءه بتوليته على مصر بعد فتحها وتنظيم شئونها على أثر الحروب التي أفسدت فيها كل صالح، وبدلت فيها كل نظام، فحرص عمرو جهده على مرضاة الخليفة واستبقاء رأيه فيه، وكان من الولاة القليلين الذين طال عهدهم بالولاية في خلافة الفاروق.
إن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر ميمون الغدوات، مبارك الروحات، يجري بالزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عج عجاجه وتعظمت أمواجه لم يكن وصول بعض القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبه، كأول ما بدأ في شدته وطما في حدَّته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه: يبذرون الحب ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، سقاه من فوقه الندى وغذاه من تحته الثرى، فعند ذلك يدرُّ حلابه، ويغنِّي ذبابه، فبينما هي يا أمير المؤمنين ورقة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء وإذا هي زبرجدة خضراء، فتعالى الله الفعال لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد وينميها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبتدأ والمآل.
فإن لم يكن هذا الكلام من نص كلامه فهو من صميم رأيه وعيانه لا مراء، والذي لا خلاف فيه أن الفاروق تلقى منه وصفًا لمصر يشبه هذا الوصف، ودليلًا على الدراية بها يشبه هذا الدليل، وأن عمرًا أخلق الناس أن يحذر في عهد الفاروق «سعي الخسيس بالرئيس»، وهو الذي يعلم أنه مستهدف لمثل هذا السعي، وأنه ملاق به شيئًا من القلق الدائم في ساحة الفاروق، وهو العظامي الذي كان يتعصب للنسب تعصب المأخوذ بالريب، ويتقي كلمة السفلة فيقول: «إن ذهاب ألف من العلية أهون ضررًا من ارتفاع واحد من السفلة!»
وربما كان من الإغراق في الرجاء أن يطمع وال من الولاة في الإفلات من حساب الفاروق، بالغًا ما بلغ نصيبه من الحرص والإحسان، وإن أحق الناس أن يعلم ذلك لهو عمرو بن العاص الذي يعلم حساب الفاروق للولاة، ويسمع بمراجعته للمحسن منهم والمسيء، فما نحسبه ترقى بطمعه في هوادة «ابن حَنْتَمَة» — كما كان يسميه بلسان الغيظ والإعجاب — إلى أبعد من البقاء في الولاية، مع الأهبة الدائمة للجواب عن كل جليلة ودقيقة من أعماله التي تنمى إلى دار الخلافة. وقد ظفر بما أراد وظل فخورًا بهذا الظفر بقية حياته، يقول لمن لا يعجبه حكمه: إن الفاروق قد مات وهو عنه راض! وحمد الله أنه لم يحاسب في عهده بأكثر مما حوسب عليه، ومن أمثلته — فيما نقلته كتب السير — حسابه على مال الخراج، وحسابه على غلطة طائشة لابنه محمد، وحسابه على إعفاء عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب من بعض القصاص في حد الشراب!
كتب إليه الفاروق في أمر الخراج يعجب من قلته ومن «أن مصر لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك، على غير قحط ولا جدب!» فرد عليه عمرو في لهجة شديدة وأنفَة يعلم موقعها من نفس عمر الذي لا يبالي أن يخاطبه الكبار والصغار مخاطبة الأنداد ما حفظوا مع ذلك حق الله وحق المسلمين، وجدد عمر الكتابة إليه يؤنبه على إبطائه مع كثرة الكتب إليه، ويقول له: «إني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك!»
وطالت المكاتبة بين الخليفة وواليه، وتسايرت الأنباء بفاشية من المتاع والرقيق والآنية والحيوان، فشت لعمرو في مصر لم تكن له قبل ولايتها، فعمد الخليفة إلى حزمه المعروف، وأنفذ إلى عمرو أمينه على العمال محمد بن مسلمة يعلنه أنه قد ساء به ظنًّا، وأنه مقاسمه ما عنده من المال، وجعل له مائتي دينار جزاء عمله غير العطاء الذي ربط له أسوة بالمجاهدين من المسلمين.
أما حساب الخليفة له على غلطة ابنه محمد، فخلاصته أن عمرًا أجرى الخيل، فأقبلت فرس رجل من المصريين، فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: فرسي ورب الكعبة! ثم اقتربت وعرفها صاحبها، فغضب محمد، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوهما المصري، فحبسه زمنًا حتى أفلت وقدم إلى الخليفة يرفع إليه مظلمته … فاستقدم الخليفة عمرًا وابنه، وقال للمصري: دونك الدرَّة فاضرب بها ابن الأكرمين! ثم قال له: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، ففزع عمرو واعتذر المصري قائلًا: قد ضربت من ضربني! والتفت الخليفة إلى المصري يقول له: «أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه.» ثم إلى عمرو بن العاص يقول تلك الكلمة التي تعد من جلائل الأعمال، ولا تحصى في جلائل الأقوال وكفى: «أيا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!»
ولقد حاسبه على إعفاء ابنه — أي ابن الخليفة — كما حاسبه على إعفاء ابنه هو من الجزاء الذي استحقه بالعدوان على بعض رعاياه؛ فقد ذهب عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب إلى عمرو يبلغه أنه شرب مسكرًا، ويطلب إليه أن يقيم الحد عليه، فتغاضى قليلًا ثم أذن بحده على أن يعفى من حلق رأسه على مشهد من العامة، فجاءه التأنيب من الخليفة مع البريد يقول فيه: «عجبت لك يا بن العاص ولجرأتك علي وخلاف عهدي … فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الله في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين.»
وإن واليًا ينجو من الفاروق بهذا القسط من الحساب على هذه المسائل وأشباهها لمجدود بين الولاة!
قضى عمرو نحو خمس سنوات واليًا لمصر في خلافة عمر بن الخطاب يتولى له إدارتها وخراجها والدفاع عنها، ويساعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح في ولاية الصعيد ودفاع النوبة.
وقبض عمر، فقام بالخلافة بعده عثمان بن عفان، فشخص عمرو إلى المدينة يبايعه ويعرض عليه شئون ولايته، ويتلقى أوامره فيها، وكان أكبر همه أن يسأل الخليفة الجديد عزل عبد الله بن سعد من ولاية الصعيد؛ لأنه منافس قوي جسور لا يطيقه رئيس مثله في القوة والجسارة! فعز عليه المطلب، واقترح عليه الخليفة أن يتولى شئون الحرب ويترك لعبد الله شئون الخراج فأبى، ونفرت نفسه من هذه المشاركة، وقال: «إني إذن كمن يأخذ البقرة بقرنيها ليحلبها غيره.» وتعذر التوفيق بين المتنافسين، فانتهى الخلاف بإقالة عمرو وإقامة عبد الله على ولاية مصر، حربها وخراجها، وكان ذلك حوالي سنة سبع وعشرين للهجرة.
والظاهر أن ولاية عمرو في مصر كانت على خطر منذ مبايعة عثمان؛ لأن رأي عثمان في طمع عمرو وسوء الظن به قديم؛ ولأن عبد الله بن سعد كان أخًا لعثمان في الرضاع، وهو كفؤ ضليع بالرئاسة حربًا وإدارة، وليس من دأب عثمان أن يعزل أقرباءه وإن لم يكن لهم من الكفاية والضلاعة ما كان لعبد الله.
ومما لا ريب فيه أن حاشية عثمان تنفس على عمرو مكانه، وتخشى منه الخطر الأكبر إذا رسخت في الديار المصرية قدمه، وظل فيها قائمًا بالأمر إلى أن يمعن الخليفة في الهرم ويؤذن عهده بانقضاء، فليس ببعيد إذن أن يستقل عمرو بإمارة الديار أو يطمح إلى الخلافة، وليس ببعيد كذلك أن يشترك في التحذير منه أناس كمروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان، ولو لم يكن لهؤلاء المقربين شأن في الكيد لعمرو لكانت محاسبة عمرو على طريقة الفاروق أجدى وأقرب إلى الطمأنينة على الخراج، ولكن مقاسمة الولاة في أموالهم بين حين وحين، شيء يأباه ولاة الدولة الجديدة، فأيسر من مقاسمة عمرو في الخراج أن ينحى عنه أو ينحى عن الولاية برمتها … وقد كان.
ولعلهم لم يؤجلوا عزل عمرو إلى حوالي سنة سبع وعشرين إلا انتظارًا لمصير الفتنة التي نشبت في الإسكندرية، إذ انتقض الروم وجاء المدد بحرًا بقيادة منويل الخصي من القسطنطينية، فأهاب أقطاب مصر بالخليفة أن يبقي عمرًا على الولاية لدرايته بالقوم وهيبته في نفوس الأعداء، ثم تبين من كفاية عبد الله بن سعد في كفاح الروم بإفريقية ما عزز مقامه وأبطل تلك الحجة فصحت له الولاية، ورشحه للقيام على الخراج وفرة المال الذي جمعه من الديار الإفريقية المفتوحة.
أما أثر العزل في نفس عمرو فلا يصعب إدراكه، ولا حاجة به إلى الأخبار والأسانيد، فليس عمرو بالذي يحتمل هذا العزل أو يستكين إليه! وليس هو بالرجل الذي يثور في غير موضع للثورة، أو يأخذ في انتقام لا يثق بإنفاذه وسلامة عقباه عليه! فقصاراه أن يتربص الدوائر بالعهد كله، وأن يترقب يومه الذي يعلم أنه آت لا ريب فيه! وقد ترقب واختار لنفسه مرصد الرقبة فأصاب اختياره: ترقب في بيته بفلسطين حيث تفترق السبل بين الحجاز ومصر والشام والعراق، وحيث يحرض من يحرض من عابري تلك السبل وهو آمن جهد ما يتاح له الأمان، وربما رحل بين الحين والحين إلى مكة أو المدينة يستطلع ويستوثق ويدفع الحوادث إلى الطريق الذي يرتجيه، ثم يقفل إلى مينائه الأمين كالربان الذي يختبئ بسفينته والرياح عاصفة والأمواج زاخرة جارفة، ريثما تنجلي الغاشية عن مهب الريح أين يتجه على استقرار، فيوليه شراعه ويستدير إليه.
ووشى به الوشاة إلى الخليفة، فاستدعاه وأغلظ في شتمه، وراح يؤنبه ويقول له بأحد لسان وأشده: «يا بن النابغة … أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بوجه آخر؟» فتنصل عمرو وقال: «إن كثيرًا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين.» فعاد الخليفة يقول: «استعملتك على ظلمك وكثرة القالة فيك.» فثار عمرو إلى فخره القديم: «لقد كنت عاملًا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض.» قال عثمان: «لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت عليك فاجترأت.»
ومع هذا كان عثمان يبعث إليه فيستشيره كلما أعيته الحيلة وغلبته الحيرة في حكومته! فكان ينصحه بما يعلم أنه لا يضيره ولا ينفع الخليفة، يقول له: «… أرى أن تلزم طريقة صاحبك — أي الفاروق — فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين، وإن الشدة تنبغي لمن يألو الناس شرًّا، واللين لمن لا يخلص بالنصح، وقد فرشتهما جميعًا باللين!»
وإن عمرو بن العاص لأول من يعلم أن طريقة عمر لا يصلح لها غير عمر، وأنه مكلف عثمان شططًا حين يركبه متن هذا الطريق، وهو الذي قال له عثمان يومًا: «لقد أمرت عبد الله بن سعد أن يتبع أثرك.» فقال: «لقد كلفته شططًا!»
وتدرج في الجرأة على عثمان كلما تدرجت الفتنة في التفاقم والاستفحال، ففي مجلس الشورى الذي جمعه عثمان سأله: «ما رأيك؟» فلم يبال أن يجيبه أمام صحبه: «إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا وامض قدمًا …» ولكنه اجترأ هنا وأبقى للحيطة بقية، فانتظر حتى تفرق المجلس، وخلا بالخليفة فأقبل يعتذر إليه بينه وبينه: «لا والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك، ولكني قد علمت أن بالباب قومًا قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يبلغهم قولي فأقود لك خيرًا وأدفع عنك شرًّا!»
كان يقول هذا وأشباهه وفي دولة عثمان أمل يضعف يومًا بعد يوم، فلما أوشك هذا الأمل أن ينفد صاح به في المسجد: «اتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت أمورًا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب!»
ثم ترك الفتنة وأوى إلى مينائه بفلسطين، يتلقى الركبان ويسأل منهم كل عابر ينفعه سؤاله، فمر به راكب من المدينة فاستخبره خبر عثمان فقال: «محصور!» ثم أعقبه راكب آخر فقال: «قتل عثمان.» فيروي رواة الخبر أنه صاح يومئذ: «أنا أبو عبد الله، إذا نكأت قرحة أدميتها.» ثم قال: «والله إني كنت ألقى الراعي فأحرضه على عثمان!»
•••
وبويع علي بن أبي طالب بالخلافة فلم ينصره ولم ينصر أحدًا من خصومه، ولبث يترقب وينتظر حتى انحسر الميدان عن خصمين اثنين هما: علي ومعاوية بن أبي سفيان، بعد أن زال عنه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فوجب أن يختار له طريقًا من الطريقين؛ لأنه لو آثر الاعتزال لم يتركه الفريقان في عزلته، ولم يزل به أحدهما حتى يستدنيه إليه.
شاور معاوية أصحابه، فأشار عليه عتبة بن أبي سفيان أن يستعين على أمره بعمرو، وأن يثمن له بدينه، قال: «فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالًا إلا أن يرى فرصة.» فكتب له معاوية بفلسطين: «أما بعد، فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقدم إلينا جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني. أقبل أذاكرك أمورًا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله …»
فاستشار عمرو ولديه عبد الله ومحمدًا فيما يصنع، فقال عبد الله: «قتل عثمان وأنت عنه غائب، فقر في منزلك فلست مجعولًا خليفة، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشك أن تهلك فنشفى فيها.» وقال محمد: «إنك شيخ قريش وصاحب أمرها، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل صغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدًا من أيديهم …»
قال عمرو: «أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي، وأنا ناظر فيه.»
وروي أنه قلب رأيه في الأمرين فقال: «إني إن أتيت عليًّا قال: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.»
ولكنه ظل يتردد إلى ساعة السفر بعدما عنَّ له أن ينضوي إلى جانب الشام، فدعا غلامه وردان فقال: «ارحل يا وردان!» ثم صاح به: «حط يا وردان.» فقال له وردان، وكان كما وصفوه داهيًا ماردًا: «خلطت أبا عبد الله أما إنك إن شئت أنبأتك بما في نفسك.» قال: «هات ويحك!» قال: «اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه الآخرة في غير دنيا، وفي الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فأنت واقف بينهما …» قال: «والله ما أخطأت فما ترى يا وردان؟» قال: «أرى أن تقيم في بيتك، فإن ظهر أهل الدين عشت عند دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك …» فتأمل في قول غلامه مليًّا، ولكنه لم يقبل القرار في بيته بعد دعوته، وعول على المسير فسار.
•••
ومن ثم قصد إلى معاوية بالشام …
ولم تكن بين الرجلين من قبل مودة ولا صحبة ولا مشاركة في منفعة، بل ربما كانا إلى التنافس والتنافر أقرب منهما إلى المودة والصحبة.
حدث أبو حاتم أن معاوية «قدم من الشام وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب، فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟ … هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك.» قال عمرو: «فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره! فأردت أن أفعل شيئًا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية!» فقال عمر: «تالله ما رأيت رجلًا أسفه منك.» قم يا معاوية فاقتص منه، قال معاوية: «إن أبي أمرني ألا أقضي أمرًا دونه.» فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة وذكر حديث رسول الله: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.» ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية فقال: «لهذا بعثت إلي؟ أخوه وابن عمه! وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له!»
وأقل ما في هذه الرواية ومثيلاتها أن المنافسة بين الرجلين كانت ملحوظة لا غرابة فيها، وهي في موقعهما من ولاية الشام وولاية مصر أشبه شيء أن يكون.
ويؤخذ من حديث روي عن عبادة بن الصامت أن الاجتماع بين معاوية وعمرو كان من نوادر الأشياء، وأن اجتماعهما كان في رأي الأخيار من علامات الأخطار، فلما قدم عبادة بن الصامت عليهما وهما بالشام، جلس بينهما ثم سألهما: «أتدريان لم جلست بينكما في مكانكما؟» قالا: «نعم، لفضلك وسابقتك وشرفك.» قال: «لا والله … ما جلست بينكما لذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما، ولكن بينا نحن نسير مع رسول الله ﷺ إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان، فالتفت إلينا فقال: «إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما، فإنهما لا يجتمعان على خير أبدًا».»
وفي صحة هذا الحديث نظر، ولكنها أخبار تدل على مبلغ الصلة بين معاوية وعمرو، وأنها لم تكن من الوثاقة والقرب بحيث تمنع مثل هذا المقال.
فمعاوية لم يستقدم عمرًا لصداقة وصحبة قديمة!
وعمرو لم يقدم على معاوية لشيء من ذاك!
ولكنهما رجلان طموحان أريبان، مثلهما لا يعادي إذا كان له في الصداقة نفع، ولا يصادق إذا لم يكن له في الصداقة أرب، وإن أقرب الناس عندهما لوشيك أن يقصى إذا أقصته المنفعة، وإن أقصاهم لوشيك أن يستدنى إذا كان في بعده ضرر!
فهما ملتقيان على تفاهم صريح بلسان المقال، أو صريح بلسان الحال، وقد عرفا ولا جدال على أي وجه يتفاهمان منذ كتب هذا وأجابه ذاك.
زعموا أن المساومة جرت بين الرجلين أول ما التقيا، فسأل معاوية عمرًا أن يتبعه، فأقبل عمرو يسأله: لماذا؟ للآخرة؟ فوالله ما معك آخرة! إنما هي الدنيا نتكالب عليها، فلا كانت حتى أكون شريكك فيها، وأخذ معاوية يذكر ممالأة علي على قتل عثمان، وأنه أظهر الفتنة وفرق الجماعة، فقال عمرو: إنه وإن كان كذلك فإن المسلمين لا يعدلون به أحدًا، وليست لك مثل سابقته وقرابته، ثم عاد يساوم مرة أخرى، فسأل معاوية: ولكن ما لي إن شايعتك؟ قال معاوية: حكمك، قال عمرو: اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية، فتلكأ معاوية ولم يجبه، وحذر عتبة بن أبي سفيان العاقبة، فحذرها معاوية وقال لي لائمًا: أما ترضى أن تشتري عمرًا بمصر إن صفت لك؟ فليتك لا تغلب على الشام.
فرضي بالصفقة واتفقا عليها.
وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار وصحة هذه الكلمات، وما ثبت نقله وما لم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه ولو اجتمعت التواريخ قاطبة على نقضه، أن الاتفاق بين الرجلين كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وإن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق.
فكان معاوية يطمح إلى الخلافة يتولاها ويورثها أعقابه من بعده.
وكان عمرو يطمح إلى ولاية مصر جامعة، وهي عنده تعدل الخلافة ما لم يكن إلى الخلافة سبيل، ويرجو أن يضم إليها الشام وأن يترك ولايته ميراثًا من بعده لولده عبد الله.
ومثل هذا الاتفاق أقوى اتفاق، ولكنه قد ينقلب في حالة في حالاته فإذا هو أضعف اتفاق وأقربه إلى النقض والانتقاض.
فمن سر القوة فيه أن يعمل الرجل لصاحبه كأنه يعمل لنفسه، ما دامت وسيلته من وسيلته، وما دامت لهما غاية واحدة يتلاقيان عندها!
ومن سر الضعف فيه أن الشريك هنا هو أعدى الأعداء وأولى المنافسين بالتخلص منه إذا أمكن وجه الخلاص؟
وقد أعانت على هذا الاتفاق أمور كثيرة أهمها أمران: وهما أن عمرًا لم يكن على أمل في ناحية أخرى، فإذا فسد الأمر على معاوية فسد الأمر عليه، وإن معاوية كان يعلم أنه يساوم شيخًا يدلف إلى الثمانين ويوشك أن يودع دنياه فما ربحه منه فهو دائم له، وما خسره في مرضاته صائر إليه.
على أن عمرًا من جانبه كان رجلًا ممتلئًا بالحياة في شيخوخته، جريء المطامع ما بقي في الدنيا مطمع يتخايل بين عينيه، فلم يكن ييأس من الخلافة نفسها، ولم يستبعد قط أن تسنح له سانحة من طوارئ القدر يغلب فيها معاوية على عرش الدولة التي شاركه في تأسيسها، فربما أخلص معه العمل في هزيمة علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — ولكنه لم يخلص معه العمل في تمكينه كل التمكين حتى يستغني عنه ويتغير له، ويثبت في الخلافة ثبوتًا لا مطمع بعده لطامع.
فقد كان بعض نصائحه لمعاوية سديد المرمى قبل هزيمة علي — رضي الله عنه — ولكنه كان متهمًا في كل نصيحة أدلى بها إلى معاوية بعد تلك الهزيمة، وكان ظاهرًا من نصائحه في جملتها أنه أراد أن يثير عليه العداوات وأن يوغر عليه صدور الصحابة ويتركه مشغولًا بخوف الفتنة أو واقعًا في أوهاقها، وهو إذن أقرب قريب من الخلافة متى زال معاوية عنها، ولا سيما إذا طال عهده بولاية مصر وجمع في يديه الأموال ومن حوله من الأنصار والطامعين في النوال.
فمن نصائحه التي لا يندفع مثله فيها لدافع العنجهية الجاهلية وحدها، أنه حضر مجلس معاوية وحاجبه يستأذن لوفود الأنصار، فقال: ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ اردد القوم إلى أنسابهم! ثم قال للحاجب: اخرج فقل من كان ههنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل، فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلا الأنصار، فنظر معاوية إلى عمرو نظرة منكرة وقال له: باعدت جدًّا؟ فقال: اخرج فقل من كان ههنا من الأوس والخزرج فليدخل، فخرج فقالها فدخلوا يقدمهم النعمان بن بشير الأنصاري وهو يقول:
فجعل معاوية يقول: لقد كنا أغنياء عن هذا.
وأشار على معاوية بقتال أسرى صفين من جماعة علي، وقد أطلق علي أسراه من جماعة معاوية، وهي مشورة لا تنفع معاوية بشيء، وتجلب عليه العار لا محالة وتنصبه غرضًا لكل مطالب بترة، في أمة لا تنسى بينها الترات!
وعلى ما في طبع عمرو من الحيلة والجنوح إلى المصالحة واستلال الأضغان، لم يكن يصدر عن هذا الطبع في مشورته على صاحبه بعد وقعة صفين، فلما شاوره معاوية في أمر عبد الله بن هاشم، أشار عليه بقتله وغضب حين خالفه معاوية، فقال بعد ذلك من أبيات:
وأشار كذلك بقتل قيس بن سعد في جيشه الذي كان معه من بقايا حزب علي، بعد نزول ابنه الحسن عن الخلافة، وكان قيس رجلًا صعب المراس مقدامًا على الخطر، لا يؤمن قتاله، والدولة الأموية في أوائلها بين الشك واليقين، فأعرض معاوية عن مشورته وبذل الأمان لقيس ومن معه، وأرضاهم بالمصانعة والعطاء.
ولم يكن معاوية يسلك معه غير هذا المسلك، أو يضمر له غير هذا الضمير، فكان يحتفي به ويجلسه معه على سريره، ويظهر له الركون إلى رأيه والمشاركة في أمره، ثم يقبل منه ما يقبل، ويمضي على نيته التي انتواها، وقد هم أن يخلف له موعده من ولاية مصر، لولا أنه توقع الشر منه، وعلم أنها ولاية عام أو أعوام قلائل، ثم تصير إليه يعطيها من يشاء، وقد مات عمرو بعد أعوام فضم معاوية خزائن أمواله إلى بيت المال، وخالف رجاءه في تولية ابنه عبد الله مكانه، وأسند الولاية إلى أخيه لأبيه عتبة بن أبي سفيان.
وربما ثقل عليهما وقر الرياء، فتصارحا بما في الطوايا صراحة هي أشبه بالصراع الذي يجمع فيه الندان بين اللعب والخصومة، سأله معاوية وهو في حالة من حالات النقمة والطمع: ما أعجب الأشياء؟ فقال: أعجب الأشياء غلبة المبطل ذا الحق على حقه، فما أبطأ معاوية أن ردها عليه قائلًا: بل أعجب من هذا أن تعطي من لا حق له بحق من غير غلبة!
وربما داعب معاوية في أمر آخرته ودنياه مداعبة الرجل الذي يعلم أن المداعبة هنا مقبولة؛ لأنهما في الحظ سواء قال له يومًا: لقد رأيت البارحة في المنام كأن القيامة قد قامت ووضعت الموازين، وأحضر الناس للحساب فنظرت إليك وأنت واقف قد ألجمك العرق، وبين يديك صحف كأمثال الجبال، فعاجله معاوية ساخرًا: وهل رأيت في الميزان شيئًا من دنانير مصر؟
ودخل على معاوية في مجلسه، فضحك معاوية حين رآه، قال عمرو: «ما يضحكك يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنك؟» قال: «أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب، أما والله لقد وافقته منانًا كريمًا، ولو شاء أن يقتلك لقتلك.» فلم يبرح عمرو أن أشركه معه في عاره، وجعل يقول له ويمعن في وصف فزعه: «أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك، وربا سحرك — أي صدرك — وبدا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أو دع.»
فالرجلان كانا فيما بينهما على صراحة وتفاهم واحتراس.
وكانا يعلمان ما يريدان، ويعلمان أنهما لا يتعاونان لأنهما على ثقة من إخلاص كل منهما لصاحبه وإيثاره لنفعه، ولكنهما يتعاونان لأن التعاون أنفع لهما من التخاذل والشقاق، ولن يتعاونا إذا تبدلت الحال وأصبح لهما أو لواحد منهما نفع في تخاذل أو شقاق!
وكانا يفهمان أن هزيمة علي هي سبيلهما معًا إلى ما يريدان فعملا متفقين، ولعلهما عملا مخلصين لتحقيق هذه الهزيمة، وكانت معونة عمرو لمعاوية في نضاله مع عليٍّ كبيرة الخطر، محسوسة الأثر في مآزق كثيرة، ومعضلات متوالية، أهمها حرب صفين ومؤتمر التحكيم وانتزاع مصر من والي علي وأتباعه فيها، وهم غير قليلين.
وكانت جهوده العظمى في حرب صفين جهود الداعية المحرض، لا جهود المقاتل المستبسل، فكان يثير الحفائظ ويستدرج الأنصار بالأطماع، ويمحو الوساوس والشكوك التي تثني عزائم القوم عن القتال، ويشيع الفتاوى التي يقبلها من هو مستعد لقبولها، ومنها — حين قتل عمار بن ياسر — إن أصحاب معاوية تلجلجوا فيما بينهم، وساورهم الريب في حقهم؛ لأن النبي ﷺ كان يقول عن عمار: «تقتله الفئة الباغية.» فكان عمرو بن العاص — في أشيع الأقوال — هو الذي حسم هذه الشكوك قبل استفحالها، فقال: إنما قتله من أخرجه، فقبلها الأنصار المستعدون لقبول أشباه هذه التأويلات.
وجاء كذلك في أشيع الأقوال أنه هو الذي أشار على معاوية برفع المصاحف على الرماح، ودعوة أنصار علي إلى تحكيم كتاب الله، فلما عمل بهذه المشورة وقعت الفتنة في جيش علي بين قائل بالمضي في القتال، وقائل بإجابة القوم إلى التحكيم، وأوشك الفريقان أن يدعا جيش معاوية ويشتبكا بينهما في حرب، أو يبطش جماعة منهم بالإمام عليٍّ نفسه، إذا هو لم يأمر شيعته المقربين بالكف عن الحرب وإلقاء السلاح.
وإذا صح ما يعزى إلى هذه المشورة من الأثر الجسيم في تمكين معاوية وخذلان علي، فهي كلمة أنفع من جيش ومكيدة أمضى من قوة، وهي خليقة أن تغنيه في حرب صفين عن جهود الشجاعة والاستبسال، إذ الواقع أنه لم يغن في تلك الحرب بجهد من جهود الشجاعة والاستبسال، ولم يذكر أحد من حزبه أنه برز في ميدان قتال، مع أن الحرب في تلك المعركة خاصة كانت حرب براز ونزال، أما خصومه فقد ذكروا له تلك الفعلة التي سارت بها الأمثال بعد ذلك، وأصبح من الأقوال الشائعة عن كل من يرد المكروه بالمهانة أنه رده «كما ردها يومًا بسوأته عمرو!»
ويظهر أن خصومه ومنافسيه كانوا يلحظون منه التقاعد عن مخاطر البراز، فقال الحارث بن نصر الجُشَمي من أبيات:
فزعموا أن عمرًا تغيظ من قوله، وأقسم: «لو علمت أني أموت ألف موتة لبارزت عليًّا في أول ما ألقاه!»
وكان علي — رضي الله عنه — كثيرًا ما يتقدم بين الصفوف داعيًا إلى المبارزة، فبدا له يومًا أن يدعو معاوية لمبارزته، فأيهما غلب فالأمر له وتحقن دماء الناس، فنادى: يا معاوية، يا معاوية، فقال هذا لأصحابه: اسألوه ما شأنه؟ قال: أحب أن يبرز لي فأكلمه كلمة واحدة، فبرز معاوية ومعه عمرو، فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية: ويحك! علام يقتتل الناس بيني وبينك؟ ابرز إلي، فأينا قتل صاحبه فالأمر له، فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ أبارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفك الرجل، واعلم أنك إن نكلت عنه لم تزل سُبَّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي، فقال معاوية: يا عمرو! ليس مثلي يخدع عن نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلًا قط إلا سقى الأرض من دمه … ثم تلاحيا، وعزم معاوية على عمرو ليخرجنَّ إلى علي إن كان جادًّا في نصحه، ولم يكن مغررًا به طمعًا في مآل أمره، فلما خرج للمبارزة مكرها وشد عليه عليٌّ شدته المرهوبة، رمى عمرو بنفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته! فصرف عليٌّ وجهه عنه، وقام معفرًا بالتراب هاربًا على رجليه، معتصمًا بصفوفه.
وليس في هذه القصة من موجب للشك فيها إلا أن عمرًا كان أشجع من ذلك في معارك كثيرة قبل هذه المعركة، ولكنه شك ضعيف غير قاطع في إنكار القصة بحذافيرها؛ لأن عمرًا لم يبارز قط رجلًا في قوة علي وبأسه، ولم يكن قد دلف إلى الثمانين وهو يحارب في المعارك الأخرى، وأهم من ذلك أنه كان يحارب في تلك المعارك، وله أمل في الشهادة ونعيم الجنة وإيمان بحقه وباطل خصمه، ولكنه لا يحارب عليًّا وله أمل في الشهادة قاتلًا أو مقتولًا، أو ثقة بالحق تعوضه من خسارة الدنيا، وليس بالعجيب من طبيعة عمرو أن يلوذ بالحيطة، غير حافل بمقال الناس إذا خاف على حياته، وأيقن من ضياع دينه ودنياه.
ومهما يكن من مبلغ الصدق في هذه الرواية، فالمتفق عليه بين ولاته وعداته أنه اشتهر في صفين بجهاد الحيلة والدعوة، ولم يشتهر فيها بجهاد البسالة والبلاء.
وقد اختار معاوية عمرًا للتحكيم وهو لا يأمنه كل الأمان، وربما كان اطمئنانه إلى أبي موسى الأشعري صاحب علي أكبر من اطمئنانه إلى صاحبه ووكيله؛ لأن أبا موسى كان يجهر باجتناب القتال واعتزال الفريقين، وكان اختياره على الكره من علي، وعلى هوى الأشعث بن قيس الذي كان متهمًّا بالتخذيل عن علي، وترويج كل رأي يرضاه معاوية، ولا سيما بعد زيارة قيس لمعاوية في إبان معركة صفين.
والذي حدث في أوائل المفاوضات خليق أن يسوغ قلق معاوية واسترابته في نيات صاحبه ووكيله، فإنه قال لأبي موسى: ما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟ فقال أبو موسى: إن ابنك رجل صدق ولكنك غمسته في هذه الحروب غمسًا.
وطالت المفاوضة، فأوجس معاوية وعظم خوفه، وجاءه داهية العرب المغيرة بن شعبة فألفاه قلقًا يتسمع ويستطلع، فقال له: قد أتيتك بخبر الرجلين، قال معاوية: وما خبرهما؟ قال المغيرة: إني خلوت بأبي موسى لأجلو ما عنده، فسألته: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا وجلس في بيته كراهية للدماء! فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم وبطونهم من أموالهم، فخرجت من عنده وأتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟ فقال: أولئك أشرار الناس، لم يعرفوا حقًّا ولم ينكروا باطلًا.
ثم عقب قائلًا: أنا أحسب أبا موسى الأشعري خالعًا صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد، وأحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي عرفته، وأحسبه سيطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله، ولا أراه يظن أنك أحق بهذا الأمر منه.
والذي نراه نحن كذلك أن عمرًا لم يكن ليظن أن معاوية أحق بالخلافة منه، ولكنه كان أكيس من أن يطلب الخلافة له أو لابنه باتفاق رأيه ورأي أبي موسى الأشعري، دون ما يستلزمه طلب الخلافة من الجند والدولة والعصبية، فماذا عساه أن يغنم بالاتفاق مع الأشعري على المبايعة لابنه عبد الله؟ إنه يخسر عضد معاوية، ولا يكسب أحدًا من أنصار علي، ولا يصل هو ولا ابنه عبد الله إلى مأرب، وإنما نعتقد أنه ذكر اسم عبد الله ليغرر بأبي موسى، ويلقي في روعه أنه غير جاد في خدمة معاوية، وأنه يعمل لنفسه ولأعقابه من بعده، وقد أصابت هذه الحيلة محزَّها، فصدق أبو موسى أن عمرًا يخلع معاوية، وأنه إذا قام على المنبر ليخلع عليًّا، قام عمرو من بعده فخلع معاوية، وترك الأمر شورى ليظفر به ابنه فيما يرتجيه، فلما اتفقا على خلع الاثنين وأن يبدأ أبو موسى بخلع صاحبه، قبل هذا الاتفاق ولم يتردد في إنفاذه، وهو يحسب أن خذلان عمرو لمعاوية غير بعيد، ما دام يطمع فيها لنفسه من طريق الدعوة إلى ابنه.
وإن جهد عمرو في مسألة التحكيم لجهد يسير عليه، ولكنه حقيق من معاوية بجزاء غير يسير.
ولقد تطلع عمرو لهذا الجزاء الذي طال اشتياقه إليه، وهو ولاية مصر جامعة موروثة في عقبه، فماطله معاوية زمنًا واستكثر عليه هذه «الطمعة» التي اشتهاها، وأسر في نفسه إذا هو رضخ له بشيء منها أن يرجع فيما أعطاه بذريعة من الذرائع التي لا تعيبه، فكتب في وثيقة تصالحا عليها أن ولاية مصر لعمرو «على ألا ينقض شرط طاعة»، وهو يريد أن يتعلل له بالخروج عن طاعته فيبطل شرطه، وفطن عمرو لما وراء هذا «القيد» المقحم في الوثيقة فأنكره، وكتب: «على ألا تنقض طاعة شرطًا …» يريد أن الطاعة لن تخول معاوية الرجعة فيما اتفقا عليه.
وكان معاوية يتهم عمرًا بالعجلة كلما ذكر له مصر وأغراه بالزحف إليها، فجمع خاصته يومًا يسألهم: هل تدرون ما أدعوكم إليه؟ قالوا: لا يعلم الغيب إلا الله، فقال عمرو: «نعم … أهمَّك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها، فتدعونا لنشير عليك فاعزم وانهض … في افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك.» فقال له معاوية: يا بن العاص! إنما أهمك الذي بيننا، يعني طعمة مصر، والتفت إلى صحبه يستشيرهم: ما ترون؟ فوافقوا عمرًا، وعاد هذا يقول: «ابعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صارم تثق به فيأتي إلى مصر، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا، فيظاهره على من كان بها من أعدائنا.» فخالفه معاوية وقال له: «إنك يا بن العاص، بورك لك في العجلة.»
غير أنه لم يلبث أن تلقى من أنصاره بمصر كتابًا يستحثه إلى غزوها، ويسأله «أن يتعجل بخيله ورجله، فإن أعداءنا قد أصبحوا لنا هائبين».
فعندئذ قبل نصيحة عمرو، وأشخصه على رأس جيش عدته ستة آلاف رجل، وخرج يودعه ولا يزال يحذره العجلة ويوصيه بالرفق «فإنه يمن، والعجلة من الشيطان».
ولولا الكتاب من أنصاره بمصر لقد كان معاوية يؤثر أن يفتحها له أولئك الأنصار، وأن يولي عليها زعيمًا من زعمائهم، وله الحجة الناهضة في ذلك، إذ كان القائد المتغلب على البلد أولى بولايته من الطارق الواغل الذي يقبل عليه لينازعه ثمرة جهاده.
على أن مصر لم تكن إلى ذلك الحين طعمة سائغة ولا طعمة عصية، فقد كان فيها محمد بن أبي بكر لا يزال واليًا عليها من قبل علي بن أبي طالب، وكان قد ولاه حكمها بعد عزل قيس بن سعد، أقدر رجاله وأخبرهم بشئون الولاية والسياسة، فقال قيس وهو يسلمه مقاليد الأمر: «ليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وأنا أدلك على الذي كنت أكايد به معاوية وعمرًا وجماعة العثمانية المقيمين بخربتا، فكايدهم به …!» إلا أن محمد بن أبي بكر لم يستمع له واستغشَّه، وبطش بالعثمانية بطشة عنيفة فثاروا عليه، وثار معهم من لم يكن على رأيهم، وأبوا أن يقيموا على حكمه، فصالحهم آخر الأمر على أن يلحقوا بمعاوية في الشام، فلحق به الغلاة منهم وبقيت لهم بقية تنطوي على مضض وتترقب الفرصة، وتزداد أملًا ويزداد الأنصار من حولها كلما تضاءل أمر علي وتعاظم ملك معاوية.
فلما أقبل عمرو على مصر أقبل عليها فاتحًا قبل أن ينالها واليًا مكين الولاية، وكان «عمرو الفاتح» يعمل لمعاوية كمن يعمل «لعمرو الوالي» إذا تم له الفتح كما اشتهاه.
وأوشك الفتح الثاني أن يكون نسخة مكررة من الفتح الأول: عمرو يستعجل غزو مصر ويتهم بالعجلة، ثم يدخل مصر وفيها حكومة وشعب لا يتفقان، ثم يسلك الطريق الذي سلكه أول مرة، ثم يلتقي بجيش محمد بن أبي بكر، كما التقى بجيش الرومان من قبل في جيزة بلبيس، على مسافة قريبة من الوقعة الأولى عند قرية تسمى المنشأة.
أما محمد بن أبي بكر فقد دافع عن مصر دفاع المستميت، وصمد لأنصار معاوية المقيمين والقادمين صمود الأبطال، ولكنه أخفق في دفاعه؛ لأنه لم يلبث أن رأى جنوده يتفرقون عنه يأسًا من الدولة المولية، وأملًا في الدولة المقبلة، ثم تعقبه أعداؤه حتى ظفروا به فمثلوا به شر تمثيل!
ومن الإنصاف لعمرو أن يعلم أنه كان بريء اليد في هذه المثلة الذميمة، فقد كان عمرو يشير على معاوية بقتل الأسرى والنقمة من أصحاب علي، حيث كان معاوية هو المسئول عن قتلهم والنقمة منهم، فلما تفرد بالتبعة في أمثال هذه المشورات أقصاها عنه جهده، ووقف منها موقف من لا يدفع ولا يمنع، فكتب إلى محمد بن أبي بكر يقول له: «تنحَّ عني بدمك يا بن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر.» ثم وقع محمد في أسر معاوية بن حديج، وهو من أسفه العثمانية عصبية لحزبه، فأرسل إليه عمرو أن يأتيه به كرامة لأبيه ولأخيه عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد كان من عجائب التفرق بين الأحزاب أن محمدًا يشايع عليًّا، وعبد الرحمن يحاربه في جيش الشام! فلم تنفع وساطة عمرو، وأقسم معاوية بن حديج ليقتلنه شر قتلة، وجاء به، فطلب ماءً فقال ابن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة! إنكم منعتم عثمان الماء ثم قتلتموه صائمًا، فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك يا بن أبي بكر، فليسقك الله من الجحيم!
ولم تفارق محمدًا أنفته بين يدي آسريه، فأغلظ الجواب لهم وتلفت قائلًا: والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا، فقتلوه «وألقوه في جيفة حمار ميت، ثم حرقوه بالنار»!
ونفض عمرو يده من هذه المثلات وأشباهها، وجهد في تهدئة الزعازع بمصر، وتمهيد الأمر فيها لنفسه ولأعقابه من بعده، وسرعان ما تمهد له بعد مقتل عليٍّ ونجاته هو من القتل في السابع عشر من رمضان سنة أربعين للهجرة.
وذلك أن ثلاثة من الخوارج تآمروا على قتل علي ومعاوية وعمرو في ليلة واحدة، فأما صاحب عليٍّ فقد أصابه، وأما معاوية وعمرو فقد نجوا من صاحبيهما، وقُتل خارجة بن حذافة صاحب الشرطة؛ لأنه خرج للصلاة في مكان عمرو، إذ كان هذا يشتكي بطنه في تلك الليلة، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة! وأمر بقتله.
ولم يعرض له في ولايته الثانية حادث ذو بال بعد هذا الحادث، فقد هدأت مصر واجتمع الناس على مبايعة معاوية في سنة إحدى وأربعين للهجرة، فسميت «عام الجماعة» … وحكمت الشيخوخة حكمها، فوهن جسمه وتتابع سقمه ودانت له الدنيا، وهو يقول إذا سئل عن حاله: «إنه حال من يذوب ولا يثوب!»
وإنه على هذا لمجدود مسعود.
فمن آية الجد أن ينتفع الإنسان بما يضير الناس، وقد انتفع عمرو بوهنه مرتين: مرة حين نجا من الموت لاشتكاء بطنه، ومرة حين سلمت له الولاية ببركة هذا الوهن الذي لا محيص عنه، فلولاه لما طابت نفس معاوية له بولاية يملك فيها الأموال والرجال، ولعله يعيش بعده فيغلب أعقابه على الخلافة، وأهون شيء أن ينتزع ابن العاص في شبابه أو كهولته خلافة من يزيد.
ورحمه الله … إنه لم يدع الأحوط من الأمرين حيث يدع الحي نفسه، فكان يقول وهو على سرير الموت: «لو كان ينفعني أن أطلب لطلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت.» وربما نظر إلى أمواله فقال: «من يأخذها بأوزارها؟» وقبل ذلك بعام أو عامين كان يسأله معاوية عما بقي له من لذات العيش فيقول: «مال أغرسه وخبر من ضيعتي!»
•••
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين للهجرة، فدفن بجوار المقطم عند ضريح الإمام الشافعي القائم الآن، وضم معاوية خزائنه إلى بيت المال، وولاية مصر إلى أخيه عتبة بن أبي سفيان.
وكذلك انقضت حياة حافلة، حياة عاملة، وحياة طائلة، وصح فيه على تباين الآراء والأقوال أنه رجل من عظماء الرجال، فمهما يختلف المختلفون في نيَّاته وحسناته أو سيئاته، فالذي لا خلاف فيه أنه كسب للإسلام قطرين كبيرين: هما فلسطين ومصر، وأن له سهمًا وافرًا في كل ما نحسبه للدولة الأموية من العظائم والمآثر في تاريخ الأمة العربية والأمم الإسلامية.