جمعية الاتحاد والترقي
بلغ من دهاء عبد الحميد أنه أراد أن يخفي تهريب رامز حتى عن الحرس، فلبس لباس الحراس ومشى بين يدي رامز حتى أخرجه من يلدز، وله من وراء ذلك حكمة لا يدركها إلا الذين فُطِروا على المكر والدهاء. وبعد رجوعه دخل قصره كما يدخل بعض الحرس الخاص، وكان الحرسي الذي لبس ثيابه محبوسًا في بعض الغرف فأخرجه وأمره أن يعود إلى موقفه فعاد. ولم يشكَّ من رأى عبد الحميد داخلًا بلباس الحراس وخروج هذا على أثر ذلك أنه هو الحرسي الذي دخل.
دخل عبد الحميد قصره وكل أهله نيام، فنزع تلك الملابس وارتدى ثياب نومه، ومشى إلى غرفة المطالعة وهو ساكت يفكر فيما فعله في تلك الليلة وهل أصاب أم أخطأ، ووجد على نضد هناك باقة من البنفسج تعوَّد رئيس الفراشين أن يتحفه بها من وقت إلى آخر، لعلمه أنه يحب رائحة هذا الزهر كثيرًا، فتناول عبد الحميد الباقة وتنشَّقها فانتعش، ثم أعادها إلى محلها وألقى نفسه على مقعد وتنفس الصعداء وهو يهيئ سيكارًا ليدخنه. ثم أشعل السيكار وتمدد وبسط رجليه ورفع بصره إلى السقف وقد تألقت تلك القاعة بالأضواء، وجعل ينفخ الدخان ويتأمل حلقاته وهي تتصاعد متتابعة متعانقة، وأفكاره منصرفة إلى ما أتاه في ذلك اليوم من الأمر الغريب. ثم ناجى نفسه قائلًا: «ظن ذلك الشاب أني وثقت به وبوعده، وسيزداد ثقة بصدقي متى أطلقت أباه! لكن بقاء رامز هنا لا فائدة منه لأنه مصمم على الإنكار، ولا فائدة لي من قتله إذا لم أقتل كبار تلك الجمعية الجهنمية. وزد على ذلك أن شيرين هنا في قبضة يدي وهو لا يعلم، فإذا علم بعد ذلك أنها رهن عندي على وعده أتعب نفسه في الإنجاز. وقد أخبرني صائب بك أنه يتفانى في حبها، فإذا جاءني ولم يفعل ولا هي اعترفت بأسماء أولئك الناس قتلتهما. ولكن حيلتي ستنطلي على مؤسسي تلك الجمعية، ويرون من إطلاقي سراح أحدهم بعد أن قبضت عليه صدق نيتي في التماس آرائهم للإصلاح فيأتيني كبارهم، ومتى أتوا أذقتهم الموت فيخاف رفاقهم وتضعف عزائمهم، وتذهب هذه الجمعية كما ذهب غيرها من قبلها ونخلص منها.»
ثم اعتدل في مجلسه وزمجر كالأسد الجريح، ووقف بغتة وقد أخذ الغضب منه وقال: «تبًّا لكم من أغرار جهال! لن يبلغ كيدكم كيدي، ولسوف تذهبون طعامًا للأسماك. إني لا أزال أسفك وأقتل حتى تخلو الدنيا من المعارضين لي، ومهما يكن من ثقتهم بي فإني على رأي ماكيافلِّي. لله دَرُّ هذا الفيلسوف! صدقت يا ماكيافلِّي، إن الرجل العظيم لا يستطيع أن يستقل بحكمه وينجو من الرقباء والحساد إلا إذا أغضى عما يسمونه الشرف والأمانة والوفاء في معاملته لأعدائه … ولا بأس عليه إذا ضحى هذه الفضائل في سبيل المحافظة على الدولة أو الوطن واستبدل بها المكر والدهاء أو ما يسميه الجهلاء خيانة وغدرًا. ليست الخيانة أن أحتال على عدوي حتى أظفر به وأقتله وإنما هو الدهاء. وما فائدة الوفاء إذا اضطرني إلى إطلاق سراح رجل أعرف أنه يريد قتلي؟ بورك فيك يا ماكيافلِّي! نعم يجب أن أقتل كل من شككت فيه أو أخشى منه شرًّا، تلك هي سياسة كبار الرجال وهي التي سار عليها كبار القواد في تأسيس الدول. ألم يفعل ذلك أبو مسلم الخراساني نصير العباسيين في تأسيس دولتهم؟ ألم يفعله بأمر الإمام إبراهيم العباسي فكان يقتل على الشك؟ ولو لم يفعل ذلك لما قامت للدولة العباسية قائمة؟ فهل يُلام عبد الحميد إذا سار على خطوات ذلك الإمام واقتدى بأكبر الفلاسفة العقلاء؟»
كان يقول ذلك قولًا متقطعًا كأنه يخاطب رجلًا واقفًا بين يديه، ولو رآه أحد يفعل ذلك لظنه أُصِيب بخبل. فلما فرغ من تلك الأقوال رمى السيكار من يده وتناول باقة البنفسج ومشى يطلب الرقاد في غرفة من غرف ذلك القصر.
نام عبد الحميد في تلك الليلة نومًا متقطعًا، وأصبح مبكرًا فبعث إلى الباشكاتب وأمره أن يستقدم رامزًا من قصر مالطة إليه، فأسرع وأرسل في طلبه فعاد الرسول وأخبر بأنه غير موجود هناك، فأظهر عبد الحميد الاستغراب وقال: «ألم يكن هناك بالأمس؟»
قال: «نعم يا مولاي، ولكنهم يقولون إن حرسيًّا من حراس القصر جاء في طلبه.»
فقال: «إنها حيلة انطلت عليهم. كيف تتركون هذا الرجل يفر من بين أيديكم؟! ما هذا؟! إني لا أقدر أن أثق بأحد من هؤلاء المجانين الخونة!» وأخذ يكرر أمثال هذه العبارات ويظهر الغضب والحنق، والباشكاتب واقف لا يرد جوابًا. ثم أظهر عبد الحميد أنه هدأ روعه وقال للباشكاتب: «ما العمل؟ ينبغي لي أن أتولى كل شيء بنفسي حتى الاحتفاظ بالسجناء؟ فالرجل فر ولا فائدة من تعقب آثاره في الأستانة ولا بد أنه عائد إلى سلانيك، فلنغتنم فراره ونستدل منه على مقر تلك الجمعية.» وأطرق كأنه يُعمِل فكره ثم قال: «أرسل تلغرافًا إلى حبيبنا ناظم بك قل له فيه إن رامزًا الخائن أفلت من أيدينا وعاد إلى سلانيك، فليستقبله ويظهر له الصداقة ثم يراقب حركاته ويقتص آثاره بدون أن يشعر به حتى يقف على مقر تلك الجمعية، فيقبض على من يجدهم هناك وليرسلهم إليَّ مكبلين بالحديد أو فليقتل وليفتك. فإذا استطاع هذه الخدمة رقيناه وأجزناه.»
وكان الباشكاتب يسمع أوامر عبد الحميد وهو يعجب لدهائه، فكتب صورة التلغراف وتلاه عليه فأصلح به بعض الشيء وأمر بإرساله حالًا، فخرج وفعل ما أمر به. وعاد عبد الحميد إلى تفكيره فأعجبه ما أتاه من الدهاء فضحك ضحكة يندر أن يضحك مثلها، وقال في نفسه مع الإعجاب بالذي أتاه: «ينبغي أن أدبر أموري بنفسي، وهؤلاء إذا صح إخلاصهم فإنهم قليلو التدبير.» ومشى مشية الخيلاء وهو يقول: «إذا صح تدبيري قضيت على تلك النفوس النجسة وعلمتهم من هو عبد الحميد!»
ثم وقف هنيهة وقد أخذ يفكر في أمر شيرين وما دبره من إغراء القادين بها، وهو لا يشك في أنها ستنجح في استنطاقها لاعتقاده بدهائها وذكائها، وتذكر ما يخافه من حملها ووضعها فقال: «ومتى فرغت من مهمتها أقتلها لأتخلص من حملها!»
وقضى بقية ذلك اليوم في مطالعة التقارير التي أتته من جواسيسه المنبثين في أطراف المملكة، وفيها أمور مهمة لكنه لم يهتم بها لاشتغاله بتدبيره الجديد.
ولما أمسى المساء تزيَّا بزي حرسي الأمس وأخرج أبا رامز من يلدز كما فعل برامز.
•••
خرج رامز من يلدز وهو لا يكاد يصدق أنه نجا، فناداه أحد الحراس الواقفين على بضعة أمتار من الباب: «من القادم؟» فأجابه: «الذات الشاهانية» فوسع له ورحب به ومشى معه حتى تجاوز يلدز وأصبح بعيدًا عن الظنون.
وطال مسير رامز قبل أن يصل إلى محطة السكة الحديدية فوصل إليها في الصباح قبيل مسير القطار، فدفع البطاقة إلى ناظر المحطة فرحب به وأنزله في القطار المسافر إلى سلانيك في تلك الساعة في عربة خاصة.
فلما جلس في المركبة وخلا بنفسه عادت إليه هواجسه وراجع في ذاكرته ما مر به من الأهوال في ذلك الليل، وأخذ يمني نفسه قبل كل شيء بمشاهدة شيرين لأنه لم يصدق قول أبيها أنها هربت، وإذا تحقق هربها إلى مناستير أو غيرها سافر إليها. وفكر في المهمة السياسية التي هو ذاهب بها، فلم يخامره شك في صدق عبد الحميد هذه المرة، إذ لولا صدق نيته في ذلك لم يطلق سراحه وهو أسير عنده ثم أطلق سراح أبيه، فاعتقد أنه صادق فيما قاله. على أنه استغرب التماس والده البقاء هناك يومًا آخر فوق السنين التي قضاها في أعماق السجن، ولكنه حين آنس منه إصرارًا التمس له عذرًا أو غرضًا، وإن كان قد خامره ريب من بقائه وأسف لتركه لئلا يحدث ما يوجب إعادته إلى السجن، وقال في نفسه: «لو لم يكن للسلطان غرض في إطلاقه فليس ثمة ما يكرهه عليه.»
قضى الطريق في مثل هذه الهواجس، وشُغِل عما يمر به القطار من التلال والأودية والغياض. ووصل إلى سلانيك في الضحى، فخرج من المحطة بسهولة بتذكرة أعطاه إياها ناظر محطة الأستانة.
ولما خرج من المحطة أخرج منديله من جيبه فإذا فيه ورقة مطوية لم يكن يعهدها هناك، ففضها فإذا هي بخط تذكر أنه خط والده، فقرأها فإذا هو يقول فيها: «احذر من مراقبة ناظم ورجاله السريين خوفًا من معرفة مقر الجمعية، افعل ذلك ريثما آتيك.» فدُهِش وأخذ يفكر فيما بعث والده على هذه الكتابة، فبعثه ذلك على الشك في ناظم ولم يعبأ بما فيها من سوء الظن بالسلطان، ولكنه عزم على المحاذرة.
فأول ما خطر له أن يفعله في سلانيك أن يذهب إلى بيت خطيبته، ولما أطل على المنزل أخذ قلبه يخفق، وتصور أنه سيلاقي شيرين في المنزل فشعر بلذة أنسته متاعبه وأخطاره.
وصل إلى بيت الحبيبة فرآه مقفلًا، فسأل الجيران عن أهله فقص عليه أحدهم خبر غياب شيرين منذ أيام وأن والدها سافر إلى الأستانة، وأما والدتها فقد سافرت إلى مناستير للبحث عنها عند بعض أهلها هناك. فأُسقِط في يده، وتذكر قول طهماز فوجده صادقًا فوقع في حيرة واسودَّت الدنيا في عينيه، وحدثته نفسه أن يتبع الوالدة إلى مناستير لكنه عاد إلى التفكير في المهمة، فتذكر أن تلك الليلة موعد اجتماع الجمعية فعزم على الذهاب إليها وهو لا يخاف انكشاف أمرها للتدبير الذي دبروه في إخفاء مكانها، ولم يشأ أن يؤجل ذلك إلى مجيء أبيه، فذهب إلى الفندق الذي كان نازلًا فيه التماسًا للراحة فوجد رسولًا من ناظم في انتظاره، وقال له إن حضرة القومندان يطلب مقابلته للترحيب به فصدقه وذهب إليه في قصره، فرحب به وهنأه برضى الذات الشاهانية عنه وعرض عليه ما يريد أن يخدمه به، فأثنى على فضله. ولولا الورقة التي وجدها في جيبه لوثق بقوله، لكنه اعتذر بأنه يطلب الراحة في هذا اليوم، فدعاه للنزول عنده فاعتذر ومضى إلى الفندق وهو يتوقع أن تتبعه الجواسيس، فلم يلاحظ شيئًا من هذا القبيل.
•••
ارتاح رامز في الفندق بقية يومه وهو يهيئ ما سيعرضه على الجمعية، حتى إذا كان العشاء مشى إلى قهوة تعود الأعضاء أن يتفرقوا في أطرافها قبل الاجتماع، ليتواعدوا على مكان الاجتماع وكيفية الوصول إليه.
وكانت الجمعية مؤلفة من عدد محدود لا يزيد على ١٢ عضوًا هم لجنة الإدارة، عليهم رئيس يسمونه «المرخص» تحاشيًا من تمييز بعضهم بالرياسة، وهؤلاء الأعضاء يتعارفون ويجتمعون غير متنكرين للمباحثة في أعمال الجمعية وإصدار الأوامر إلى الفروع. أما من ينضم إلى الجمعية غير هؤلاء فإنه لا يتأتى له أن يعرف أعضاء اللجنة معرفة شخصية، وإنما يعرف الشخص الذي يكون واسطة لإدخاله فيها، وذلك أن أحد أعضاء اللجنة إذا عرف شابًّا من العثمانيين آنس فيه ميلًا إلى الحرية وحب الإصلاح قربه إليه، وتدرج في إطلاعه على وجود جمعية حرة تطلب الإصلاح، فإذا أحب الانتظام في سلكها وطلب إليه ذلك وعده بالنظر في طلبه ثم يخاطب اللجنة بشأنه، فإذا قبلته أعطته رقمًا يُعرَف به في سجلاتها ودعته للحضور في جلسة سرية تعينها له يحضرها أعضاء اللجنة متنكرين، فيدخل متهيبًا ويقسم اليمين على الإنجيل أو القرآن والمسدس ويخرج. وهذا العضو الجديد إذا رأى صديقًا له استحسن ضمه إلى الجمعية قدم طلبه على يد العضو الذي قدمه قبلًا، وإذا قُبِل يأتي الطالب الجديد للجلسة السرية ويقسم اليمين ويخرج وهو لا يعرف غير صديقه الذي أدخله، وأما هذا فصار يعرف اثنين: أحدهما بعده والآخر قبله، وإذا أدخل اثنين أو ثلاثة أو أربعة فإنه يعرفهم وهم يعرفونه.
وهذا التحفظ قائم أيضًا في العلاقة بين الجمعية المركزية وفروعها في الجهات، فإنها تتفرع أولًا إلى شُعَب في المدن الكبرى، وللشعبة فروع يقال لها قولات، وكل شعبة أو قول مؤلَّف من لجنة إدارية لها رئيس وأعضاء مثل الجمعية المركزية. ومؤسسو الشُّعَب أصلهم من الجمعية المركزية، وذلك أن أحد هؤلاء الأعضاء إذا رأى في نفسه الكفاءة لإنشاء شعبة في بلد من البلاد عرض مشروعه على اللجنة فتخوِّل له إنشاءها، فينتقل إلى ذلك البلد ويجتمع بأناس يثق بحريتهم وصدقهم، ويؤلف معهم لجنة يخبرهم أنها فرع للجمعية المركزية، ولكنه لا يصرح لهم بأسماء أعضائها. ومتى تألفت الشعبة عملت على إدخال الأعضاء بالكيفية التي سنتها الجمعية المركزية، وهذه اللجنة لا تعرف من أعضاء الجمعية المركزية إلا الذي أسس الشعبة.
وهكذا يقال في إنشاء الفروع الصغرى، فإن أحد أعضاء لجنة من لجان الشُّعَب يأخذ على عاتقه إنشاء فرع للشعبة، ويخرج للقرية ويؤلف لجنة من أهل ثقته لا يعرفون من أعضاء الشعبة إلا هو. وقس على ذلك.
وتختار الجمعية لنشر آرائها صحفًا ينشئها أفراد منها يظهرون للناس وقد لا يظهرون.
وكان رامز من أعضاء لجنة الإدارة في سلانيك، فلما أتى القهوة عرف من لقيهم هناك من الأعضاء، وكانوا قد يئسوا من حياته فأخبرهم أنه جاء بمهمة ذات بال تغنيهم عما يقاسونه من العذاب، وأخبروه عن محل الاجتماع في بعض أطراف المدينة ودلوه على طريقة الوصول إليه.
فتفرقوا من هناك وسار كل منهم إلى منزله. وتذكر رامز أباه وظن أنه قد يأتي في أثناء الاجتماع تلك الليلة، فأسرع إلى بيت طهماز وأوصى الجار إذا جاء رجل صفته كذا وكذا أن يقول له إن رامزًا ينتظره في بيت فلان المؤدي إلى محل الاجتماع. ولم يلحظ رامز أن أحدًا يتبعه، على أنه لم يكترث بذلك لعلمه أن طريقة الوصول إلى ذلك المكان لا يستطيع الجواسيس كشفها. فلما كان قبل منتصف الليل خرج من الفندق ومشى في شارع استطرق منه إلى آخر فآخر حتى وصل إلى منزل طرقه ففُتِح له فدخل فيه، ثم خرج من باب سري منه إلى زقاق لا يهتدي إليه غير العارف، فإذا تعقبه جاسوس يشك أن ذلك المنزل هو محل الاجتماع، فإذا دخله وسأل عن القوم لا يجد فيه أحدًا ولا يهتدي إلى المكان الذي خرجوا منه، وهو منزل بعض الأجانب ممن لا يجسر رجال الشرطة ولا غيرهم أن يطرقوه. ولم يكونوا يذهبون إلى كل اجتماع في نفس ذلك الطريق، فأوصى رامز صاحب ذلك المنزل إذا أتى والده أن يرشده إلى محل الاجتماع ويخبره عن كلمة السر.
فلما صار رامز في الزقاق أصبح في مأمن من الرقباء، ومشى مدة في طرق مبهمة حتى انتهى إلى محفل ماسوني يجتمع فيه الماسونيون ولا حرج عليهم، وقد أُحِيط المكان في تلك الليلة بالرجال من أعضاء الجمعية المنبثين في جهات مختلفة لا يراهم أحد، وعليهم العدة والسلاح للدفاع عند الحاجة.
فلما وصل إلى الباب تلفَّت حتى تحقق خلو الطريق من الجواسيس، فطرق الباب طرقًا خاصًّا ففُتِح له، ودخل في دهليز مظلم في أحد أركانه مصباح وُجِّه نوره نحو الباب بواسطة عدسة مقعرة ليقع النور شديدًا على وجه الداخل، وقد اصطف على الجانبين بعض الرجال في ملابس سوداء، وكلهم ملثمون لا يظهر منهم إلا عيونهم. فلما دخل رامز رفع الحراس سيوفهم المجردة فوق رأسه، فرفع يده بإشارة خاصة وسعوا له الطريق على أثرها، فمشى إلى غرفة هناك حيث ارتدى فوق ثيابه برداء أسود في أعلاه لثام يُرسَل على الوجه عند الحاجة، ومشى إلى قاعة الجلوس يتقدمه أحد الحراس ليهديه إلى الباب، فلما وصل إليه قرعه قرعًا خاصًّا ففُتِح له ودخل. وفي هذه الحجرة ١٢ كرسيًّا هي مقاعد لجنة الإدارة لا يحضر تلك الجلسة سواهم إلا بإذن خاص، وكان رامز واحدًا منهم. وقبل دخوله أفهم الحراس أن أباه سيحضر بعد قليل، فعليهم أن يدخلوه إلى القاعة بعد الاستيثاق من أمره حسب المتَّبَع.
وكانت القاعة مربعة الشكل نُظِّمت بها الكراسي بشكل دائري، وفي صدرها كرسي الرئيس وأمامه منضدة عليها كساء أسود، وفي منتصف القاعة منضدة أخرى صغيرة عليها الإنجيل والقرآن والمسدس، وفي صدر القاعة فوق مجلس الرئيس صورة مدحت باشا مجللة بالسواد. فعرف رامز من الأعضاء: الأميرالاي حسن رضا بك من الطوبجية، والقائمقام فائق بك أركان الحرب، والبكباشيَّين أركان الحرب فتحي بك وحقي بك، والمحامي رفيق بك، وطلعت بك، والبكباشي أنور بك، والقائمقام أركان حرب جمال بك، ورحمي بك. وكانوا جميعًا مثله في ملابس سوداء وقد رفعوا اللثام عن وجوهم.
طرق الرئيس المنضدة التي أمامه طرقة خاصة ثم قال: «تُفتَح الجلسة باسم الله وبذكرى مدحت باشا ضحية الدستور.»
فوقف الجميع احترامًا ثم جلسوا، وقام الرئيس فقال: «أيها الإخوان، إن أخانا رامزًا قادم إلينا من يلدز في مهمة خاصة يرجو منها خيرًا، فلنسمع ما يقول.»
فوقف رامز وقال: «أنتم تعلمون أني أُخِذت غيلة إلى يلدز منذ أيام، ولعلكم قطعتم الأمل من حياتي لأن الذاهب إلى ذلك المكان كالذاهب إلى القبر أو إلى الجحيم.»
فضحك الحضور وقال الرئيس: «علمنا بذلك، وكانت أخبارك تأتينا بواسطة أحد إخواننا الشجعان هناك لا نظنك تعرفه!»
فاستغرب رامز ذلك وقال: «إني لم أشاهد أحدًا لأني كنت هناك في مكان منعزل عن الناس.»
قال: «إن أخانا هناك أخبرنا ببعض ما قاسيته، وذكر أنك كنت مسجونًا في قصر مالطة.»
فازداد رامز استغرابًا لأنه لم يكن يعرف وجود جاسوس للجمعية هناك، فقال: «نعم، إني كنت مسجونًا وقد قاسيت كثيرًا، ولي الشرف بأني بررت بالقسم الذي أقسمته للمحافظة على أسرار الجمعية المقدسة، ورغم محاولات السلطان وغيره من رجال القصر وإلحاحهم عليَّ لأبوح بأسماء الأعضاء العاملين. وكنت أتوقع أن أتشرف بالقتل بعد هذا، ولكن الأقدار فتحت لي بابًا لم يسبق لأحد أنه وُفِّق إلى مثله، وفيه منجاة من سفك الدماء والوصول إلى المقصود على أهون سبيل.»
فتطاول الأعضاء بأعناقهم لسماع حديثه، وقال الرئيس: «ما هو ذلك الباب أيها الأخ؟ إننا من أرغب الناس في المسالمة. وأنت تعلم أن خطة جمعيتنا هذه نيل الدستور وإنقاذ الدولة من الدمار بالطرق السلمية ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.»
فقال رامز: «نعم، أعلم هذا، ولذلك أعد ما وُفِّقت إليه نجاحًا باهرًا.»
فاستأذن أنور بك وقال: «هل يأتي من القصر أمر فيه مصلحة لا يعتوره سفك دماء؟ إني لا أرى الإصلاح يُنال بغير السيف وسفك الدماء.»
فقاطعه الرئيس قائلًا: «لله دَرُّك يا أنور من رجل حرب وحزم! على أن ذلك لا يمنعنا من الإصغاء إلى ما يُعرَض علينا، وليس على الله مستحيل.»
فعاد أنور إلى مجلسه واستأنف رامز كلامه فقال: «أنتم أهل حرب وكفاح يهون عليكم القتل. وأما أنا فإني رب قلم وبحث، ولا أرى الوصول إلى الإصلاح بالحسنى مستحيلًا. ومع ذلك فإني عارض عليكم ما جئت من أجله.»
فأصغى الجميع، وأخذ رامز يقص حديثه مع السلطان حتى وصل إلى ما دار بينهما في قاعة قصر جيت، وكيف اعترف عبد الحميد بخطئه وكلفه أن يخابر أعضاء الجمعية في شأن المجيء إليه وأطلق سراحه لهذا الغرض، إلى أن قال: «ومما يؤكد لي صدق نية السلطان هذه المرة أنه أطلق سراحي بعد أن كنت في قبضة يده، وكتم نبأ ذلك عن كل إنسان حتى لقد تولى إخراجي بنفسه خفية، وقد أطلق سراح أبي أيضًا وأنتم تعلمون أننا يئسنا من بقائه حيًّا و…»
فلما ذكر أباه ظهرت البغتة على الحاضرين، ولم يتمالك الرئيس عن قطع حديث رامز قائلًا: «أبوك أتى معك؟! أين هو؟!»
قال: «لم يأتِ معي، إذ استمهلني ريثما يصلح من شأنه ويأتي في الغد. ألا تعدون هذه المعاملة دليلًا على اقتناع عبد الحميد بخطئه؟ وأنه أُلهِم الرجوع إلى الصواب على أيدي الأحرار العثمانيين؟»
وكان الكل يسمعون وهم يستغربون هذا الاقتراح، فلما فرغ من كلامه قال الرئيس يخاطب الأعضاء: «أنتم تعلمون قانون جمعيتنا المقدسة، ولا يخفى عليكم أنه يقضي بالمطالبة بالدستور وقلب الحكومة الاستبدادية بالحسنى بلا سفك دماء على قدر الإمكان، ولذلك لا يمكننا رفض اقتراح عبد الحميد مع ما فيه من نيل الدستور على أهون سبيل. ولا يخفى عليكم أيضًا أن هذه الجمعية ترى إذا نالت الدستور ألا تلحق بالسلطان سوءًا، إذ لا رغبة لنا في الانتقام وإنما نريد الإصلاح.»
فوقف أنور بك، وشارباه المرتفعان ينتفضان من التأثر، وقال: «يا إخواني، إن اقتراح عبد الحميد جميل، وحجب الدماء جميل. ولكن نيل الدستور بالحسنى مما يخالف النواميس الطبيعية الاجتماعية التي جرت عليها الأمم من أقدم أزمنة التاريخ، هل سمعتم بأمة نالت حريتها وتخلصت من حكومتها الاستبدادية إلا بالسيف؟ كلا أيها السادة، إن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم. ولا أقول: إن نيل الدستور بالحسنى مستحيل، فالواقع أننا ساعون في هذا السبيل، ولكنني أرى أمر ذلك يطول، وقد جعلنا هذه الجمعية عسكرية، وأعضاؤها أكثرهم من الضباط الشجعان المثقفين الذين يعرفون قدر الحرية، أو الكتاب الأحرار العارفين، فينبغي لنا أن نبادر إلى العمل. هذا هو رأيي، ولا أرى اقتراح ذلك الطاغية إلا حيلة يدبر لنا من ورائها مكيدة.»
قال ذلك وجلس بين ضجيج الاستحسان، وارتفع صوت الضابط الملازم «ك» المعروف بحماسته يقول: «اقتل … اقتل … لا يفيد غير ذلك!» فضحك الجميع معجبين. أما الرئيس فوجه كلامه إلى أنور بك وقال: «لله درك يا أنور! وبارك الله في بسالتك وحزمك! إن جمعية فيها أمثالك لفائزة بإذن الله. ولكننا نبحث عن اقتراح عرضه علينا السلطان وهو يوافق غرض جمعيتنا، هل نرفضه؟»
فنهض القائمقام فائق بك وقال: «أيها الأخ الرئيس، قد يكون قانون جمعيتنا المقدسة لا يأذن لنا في رفض هذا الاقتراح، ولكن التجارب الماضية دلتنا على أن ذلك الطاغية لا يُركَن إليه ولا يُوثَق بقوله، فكم استرضى الأحرار بمثل هذه الوعود ثم غدر! كما فعل بجمعية باريس، وحديث مراد وغيره أشهر من أن يُذكَر، وقد بدأ غدره منذ يوم مبايعته، ألم يعد مدحت بإعلان الدستور ثم أخلف ولم يعلنه إلا قهرًا ثم أفسده وفتك بأصحابه؟ إن عبد الحميد متأثر بفلسفة ماكيافلِّي الإيطالي في السياسة، ولا يقرأ غير كتبه التي تُعلِّم الفتك بالناس في سبيل مصلحة الدولة بلا مبالاة بالشرف، وقد زاد عليه عبد الحميد باقتداره العجيب على إخفاء عواطفه والتظاهر بما ليس فيه كما تعلمون. ولو أنه اقترح علينا المخابرة كتابة لم يكن ثمة بأس من قبول اقتراحه، أما الذهاب إلى يلدز مدفن الأحرار فأنا لا أوافق عليه، بل أرى أننا اليوم في خطر أشد مما كنا فيه قبلًا.»
فصاح أنور بك قائلًا: «هذا حق! هذا حق!»
فنهض رامز وقال: «يحق لكم الشك فيما سمعتموه، وقد لبثت حينًا بين الشك واليقين، ولكنني رأيت الدمع يتساقط من عينَي عبد الحميد وهو يتكلم، وأصبح بين يدي كالطفل النادم على ذنب اقترفه خوف العقاب. أما المخابرة بالكتابة من بعيد فلا تفيد، لأنه يريد ألا يشعر أحد من رجال القصر بهذا الأمر، لأنه يخشى على حياته منهم إذا شعروا بأنه سينقل النفوذ من أيديهم إلى أيدي أعدائهم. وعلى كل حال سيأتي أبي بعد قليل، وسنسمع رأيه في ذلك.»
فقال الرئيس: «نؤجل الحكم في هذه المسألة للتأمل فيها، وإذا شئتم أن نعقد جلسة عامة يجتمع فيها كل الأعضاء فعلنا.» فوافق الجميع على ذلك.