في حريم يلدز
تركنا شيرين وقد أمر عبد الحميد بإرسالها إلى القادين ج لتحتال لاستجوابها، وكانت هذه القادين تقيم بقصر خاص بها مثل سائر المحظيات، وهن اثنتا عشرة منهن أربع زوجات شرعيات، ولكل منهن قصر خاص فيه دائرة خاصة فيها الباشكاتبة والخازنة والمهردار والأسفنجي وعدد من الخدم والخصيان والجواري. ولا تخرج القادين من القصر لسبب من الأسباب.
وأصل القادين في الغالب سُرِّيَّة من السَّراريِّ المجلوبة إلى قصر يلدز، وقد بلغ عدد السراري هناك حينذاك حوالي ثلاثمائة. وللسراري في تربيتهن وتدريبهن قواعد خاصة، وأكثرهن شركسيات وفيهن الروميات وغيرهن من الأجناس العثمانية الأخرى، والغالب فيهن أن يجلبن صغيرات إلى يلدز بالبيع أو على سبيل الهدايا من الأهل أو بعض الأعيان. ويندر أن يقبل عبد الحميد جارية على سبيل الهدية من الأعيان خوفًا من دسيسة أو غدر، قياسًا على ما يفعله هو مع سائر الناس.
فإذا دخلت السرية يلدز نسيت كل ما هو في الخارج حتى أهلها وأصدقاءها، ويتولى تربيتها نساء يُطلَق على كلٍّ منهن لقب «باش قلفه»، وهن كلهن يرجعن إلى السلطانة الوالدة سيدة دار الحريم. وتبقى السرية سنتين أول الأمر تتدرب فيهما على ما يسر السلطان من حسن الهندام أو الأحاديث أو غير ذلك من مشيها ووقوفها وجلوسها على نسق خاص. كما يعلمونها بعض الأشعار أو الطرائف، ويعودونها سرعة الفهم بالرمز وغير ذلك مما يطول شرحه.
فإذا أحرزت الفتاة قبولًا وظهرت فيها المواهب التي تؤهلها لرضى السلطان، سموها «كوزده». فإذا تخطت الرتبة الأولى وحازت الاستحسان سموها «إقبال»، فإذا حملت اﻟ «إقبال» صارت «قادين» فيُفرَد لها قصر خاص كما تقدم، لكنها لا تُعَد زوجة شرعية إلا متى تُوفِّيت إحدى الزوجات الأربع، فتحل إحداهن محلها على حسب اختيار السلطان، فيبقى مئات من السراريِّ على اختلاف طبقاتهن يتوقعن لفتة من السلطان.
ونساء القصر كلهن تابعات للسلطانة الوالدة، وإذا تُوفِّيت حلت إحدى الخوازن أو كبيرتهن محلها، ويسمونها أيضًا «السلطانة الوالدة»، كأنه لقب المنصب لا لقب النسب.
وفي كل قصر من قصور النساء طائفة من الخصيان والجواري والسراريِّ للخدمة والتدريب، وعلى الخصيان رئيس يسمونه الباش أغا، وقد تداول هذا المنصب غير واحد في زمن عبد الحميد آخرهم نادر أغا. وصاحب هذا المنصب من أكبر أصحاب النفوذ والسطوة لثقة السلطان فيه وركونه إليه، وقد مر زمن كان الباش أغا فيه أقوى شوكة في الدولة من أكبر الوزراء، وذكروا أن زكي باشا أرادت الدولة إرساله قائدًا لعساكرها في طرابلس الغرب فجاء لوداع الباش أغا وهو يومئذٍ بهرام أغا، فدخل عليه وهو في مجلس حافل فوقف بين يديه وقال: «يا مولاي، إن الدولة عينت عبدكم قائدًا على عساكرها في طرابلس الغرب، ولي أمنية ألتمس من عنايتكم تحقيقها لتكون لي حرزًا من ريب الدهر، وهي تقبيل يدكم الشريفة»، فقهقه بهرام أغا وقال له: «متى وصل قدركم أن يتعدى رجلي إلى يدي؟!»
ويذكرون من نوادر هذا الأغا أنه خرج إلى ظاهر السراي في الوقت الذي وصل الروسيون الغزاة فيه إلى سان استفانو وساد الفزع الأكبر، وشُغِل السلطان بتدبير ما يئول إليه العرش العثماني الذي أورثه إياه آباؤه وأجداده العظام، فدخل عليه الأغا وقال له: «لا يهتم مولانا الأعظم، فقد خرجت إلى ظاهر القصر، ونظرت يمينًا وشمالًا فوجدت جميع ما انتهى إليه بصري هو ملك جلالتك، فلا تحزن فإنه يكفينا!»
ومن أدلة نفوذ أولئك الخصيان أن بهرام هذا منع عبد الحميد من إرسال جند عثماني إلى مصر في أثناء الحوادث العرابية، وكانت إنجلترا قد أوعزت إليه أن يفعل ذلك ليحتل مصر مكانها، فزعم الأغا المذكور أن السلطان إذا أرسل جنودًا إلى مصر لم يبقَ في يلدز من يحافظ على حياته!
ويلي الباش أغا من الخصيان طبقة المصاحبين، واشتُهِر منهم جماعة كبيرة كان لهم شأن في زمن عبد الحميد.
•••
دخلت شيرين قصر القادين ج، فبهرها ما فيه من الرياش الفاخر الثمين، واستغربت كثرة من فيه من الخدم والخصيان والجواري، ومشى بها الأغا حتى أدخلها القصر، ونساؤه وجواريه يرفلن في الألبسة الفاخرة بلا حجاب ولا نقاب، وفيهن البارعات الجمال، ولا غرو فإنهن منتقيات من ألوف الجواري حُمِلن للاتجار بالجمال وخُصِصن لرضى سلطان آل عثمان صاحب الشوكة والاقتدار في ذلك العهد، والناس يتسابقون إلى الارتزاق بما يرضيه.
لم يقع نظر شيرين على أجمل ممن هنالك، ولم تكن تجهل الغرض من جمعهن هناك فتألمت في نفسها، لكنها شُغِلت بالنظر إلى من بين يديها من الفتيات، كما شُغِلن بها وإن نفرن منها لأنها غريبة، وكن أكثر استئناسًا بالعبيد والخصيان منهن بها رغم ما في وجهها من الدعة واللطف، إذ يندر أن يدخل تلك القصور أحد من الغرباء.
وصلت شيرين إلى قاعة في ذلك القصر كانت القادين ج قد اتكأت فيها على مقعد مكسوٍّ بالسجاد، وتمددت بغير كلفة أو حذر، وبين يديها المهرج المضحك وغيره من الخصيان الذين أتقنوا بعض أسباب اللهو من الألعاب ونحوها.
فلما أطل نادر أغا على تلك القاعة وشعر الجواري والخصيان بقدومه، تنافروا وتفرقوا في دهاليز القصر تهيبًا من سيدهم وولي أمرهم. أما القادين فلما أُنبِئت بقدوم الباش أغا اعتدلت في مجلسها وابتسمت له، فدخل وحيَّا وأومأ إلى شيرين كأنه يقدمها لها وقال: «أقدم لك هذه الفتاة واسمها شيرين، وقد أمر مولانا البادشاه أن تكون ضيفتك مبالغة في إكرامها ورغبة في استئناسها.»
فتحفزت القادين للقيام إظهارًا لاحترامها أمر الخليفة، وقالت: «كلنا عبيد أمير المؤمنين غارقون في نعمه وآلائه.» والتفتت إلى شيرين ومدت يدها فصافحتها وأمرتها بالجلوس، وقالت: «لقد أتيت أهلًا ووطئت سهلًا، انزلي على الرحب والسعة.»
فخجلت شيرين من هذا الإطراء، واستأنست بالقادين وكادت وحشتها تذهب. أما نادر أغا فإنه تحول عنهما وهو يقول للقادين: «لم تبقَ حاجة إلى التوصية بعد أن أخبرتك برغبة أمير المؤمنين.»
وحالما خرج تراجع الجواري من الدهاليز إلى الدار وهن يتضاحكن ويتغامزن وبينهن البارعات في الجمال، وقد أرخين شعورهن على غير كلفة، وبعضهن اختص بحمل ما تلهو به القادين لقتل الوقت؛ فإحداهن وُكِّلت بتربية ببغاء جميل اللون أتقن التقليد، وأخرى تلاعب قطة جميلة من قطط أنقرة الحسنة الشعر الجميلة الألوان، وأخرى تحمل ورق اللعب أو غيره من أسباب اللهو. ولما رأين شيرين أخذن يتفرسن فيها ويتساءلن من عسى أن تكون وليس عليها ثياب الجواري أول قدومهن، ولا عهدنها في القصر من قبل، ولا هي كوزده ولا إقبال. على أنهن لبثن ينتظرن ما يبدو من أمرها وهن لاهيات مسرورات، إلا القادين فإنها مع ما أظهرته من البشاشة والاستئناس بضيفتها كانت الهواجس مستترة بين حناياها لما قام في نفسها من الشك في حب عبد الحميد لها، رغم ما أظهره بالأمس من رجوعه إلى سابق عهدهما. ولم يفتها أنه إنما أظهر ذلك تملقًا لها حتى يقضي ما في نفسه، لكن حبها له كان يخدعها حتى تصدق دعواه وتتوهم أنه يحبها، وما زالت ترجو نيل بغيتها وتقديمها متى وضعت حملها، فإذا كان غلامًا ارتفعت منزلتها.
أما شيرين فلما رأت ما يحدق بها من أسباب اللهو والقصف نفر قلبها من تلك الحالة، لكنها تجلدت وسكتت. وأحست القادين بوحشتها وهي تريد أن تتملقها للغرض المقصود من مجيئها خدمةً لأغراض مولاها، فهشَّت لها وقالت: «أراك تحسين بالوحشة لأنك في وسط لم تتعوديه، لكنك لا تلبثين أن تألفيه. وقد سرني اختصاص أمير المؤمنين هذا القصر بنزولك فيه إذ جعلك ضيفة عليَّ، وهذا من حسن حظي. وأرجو أن تتحققي سروري بقربك لما أقرأ في محياك من آيات اللطف والذكاء، فعسى أن تكوني سلوة لي في وحدتي. والآن ينبغي لي أن أبذل جهدي في تسليتك.» وأومأت إلى جارية جاثية بقرب مقعدها تلاعب قطة جميلة، فنهضت ودفعت القطة إليها فتناولتها القادين وأدنتها من خدها، وجعلت تتلذذ بنعومة شعرها إذا لمس خدها وهي تخاطب الجارية قائلة: «أحب أن أرى الخازنة.»
فأسرعت الجارية ثم عادت والخازنة وراءها، وهي امرأة كهلة كانت القادين تحبها وتثق بها وتعوِّل عليها، وأصلها من ألبانيا وطن شيرين، وقد جيء بها إلى يلدز وشبَّت هناك وارتفعت حتى صارت خازنة القادين ج، وكانت هذه تقربها وتركن إليها بأسرارها وتعدها صديقة لها، فأحبت أن تستعين بها على اجتذاب قلب شيرين للغرض المقصود من نزولها هناك. فلما جاءت في تلك الساعة قدمتها إلى شيرين قائلة: «هذه خازنتي وصديقتي قطينة، وهي من بلدك لأن أصلها من جهات مناستير.»
فصافحتها شيرين وتفرست فيها فرأت الجمال لا يزال باديًا في محياها وملامح الألبانيين ظاهرة فيها، فأحست بارتياح لرؤيتها، وتحركت لتهيئ لها مجلسًا فإذا بالقادين تخاطبها قائلة: «قد دعوتك لأعرفك إلى ضيفتنا ولكي تساعديني في تهيئة ما يسرها، فدبري ما ترينه.»
فذهبت قطينة ولم يمضِ يسير حتى جاء المهرج فدنا من القادين ورفع يده بالتحية العسكرية، ثم أشار بعينيه نحو شيرين إشارة استفهام مع مداعبة، فقالت له القادين: «هذه ضيفتنا، ينبغي لنا أن نسرها وننسيها الوحشة، فإذا كنت لا تستطيع ذلك فامضِ بسلام.»
فأدار عمامته حتى مالت على أذنه اليمنى وقال: «أول الكلام خصام؟ إن لم يعجب هذه الجميلة كلامي فلا بد أنها تضحك من رشاقة قوامي وحسن هندامي. ولكن إذا أمرت مولاتنا بمن يغنين أو يرقصن كان ذلك أدعى إلى السرور.»
فأعجبها ذكر الرقص والغناء فأشارت إلى الخازنة إشارة خاصة، فغابت هذه قليلًا ثم جاءت ومعها فتاة طويلة القامة في زي خاص بالراقصات وحول زنديها الأساور والدمالج، تحمل دفًّا تنقر عليه وترقص، ومعها عوَّادة أخذت تسوي عودها وقد جلست الأُرْبُعاء على البساط، وجعلت تنقر نقرًا يناسب حركات الرقص. وبذلت كل واحدة جهدها في إتقان ما عُهِد إليها، والقادين تلاطف شيرين بالحديث عن حركات الرقص أو ألحان الغناء وأكثره من اللحن التركي والروسي، وشيرين تظهر امتنانها من ذلك التلطف. لكن القادين أدركت بفراستها أن ذلك لم يشغلها عن هواجسها، فأشارت بإخراج القوم وقالت لشيرين: «يظهر أنك لم تطربي لهذه الأنغام، إن عندنا جارية تقلد كل أصوات الحيوانات الأهلية كالديك والكلب والماعز وغيرها.» وأومأت إلى جارية سوداء هناك فسمعت شيرين صوتًا كأنه صياح الديك، فأجفلت والتفتت إلى جهة الصوت فرأت جارية قادمة تحمل ببغاء فظنتها تحمل ديكًا، فلحظت القادين أنها تتوهم ذلك فقالت: «أظنك تحسبين ديكًا يصيح؟ إنه صوت تلك الجارية.» وأشارت إليها فجاءت وهي تقلد الديك في مشيتها، ثم غيرت مشيتها إلى ما يشبه الكلب وأخذت في العواء، ثم قلدت الفرس والحمار، وقد علت القهقهة فشاركتهم شيرين، ولكن ذلك كله لم يصرفها عن التفكير في رامز ورغبتها في معرفة مكانه، وكانت لما رأت رغبة القادين في مؤانستها قد عزمت على استخدامها في استطلاع خبره أو الوصول إليه.
ولم تكن القادين من المنهمكات في اللهو أو اللعب مثل سائر نساء القصر، ولكنها قلدتهن فيما يرغبن فيه من القصف، ولو تُرِكت لنفسها لكانت أقرب إلى الرزانة والتعقل والدهاء، ولكن للوسط تأثيرًا في الأخلاق والأطوار، وما دار النساء في يلدز إلا ملهى لعبد الحميد لا يأتيه إلا إذا أراد أن يلهو، فتتجه الأفكار إلى هذا الغرض. وما بالك بنساء لا عمل لهن غير الأكل والشرب وهن في الغالب جاهلات؟ ففيمَ يقضين أوقاتهن إن لم يكن في اللعب والغناء والرقص وتربية السنانير والطيور، والتعلل بالأكل والمضغ أو الأحاديث الفارغة عن الجان والعفاريت؟! ذلك كان شأن النساء في يلدز إلا القادين ج فإنها كانت أقربهن إلى الرزانة والتعقل، فأدركت أن شيرين لم يفرحها ذلك العمل فأمسكت بيدها وأنهضتها وهي تقول: «هلمَّ بنا إلى غرفتي.»
•••
نهضت شيرين ومشت حتى دخلت دهليز القصر، وشاهدت ما هناك من التحف الثمينة والفرش الوثير، وتذكرت أن عند عبد الحميد اثنتي عشرة قادين لكلٍّ منهن قصر مثل هذا بفرشه وأثاثه وخدمه وخصيانه، غير قصوره الأخرى وغير ما في يلدز من منازل الحاشية والياوران والمشايخ وغيرهم، وناهيك بالحراس الألبان. فلم تعد تستغرب ما كانت تسمعه من الأحرار في عرض انتقادهم من أن في تلك القصور خمسة آلاف من النساء والجواري والخصيان والياوران، وسبعة آلاف جندي من الألبان، وأن نفقاتها ٣٥ ألف جنيه في الشهر، وأنهم يهيئون كل ليلة ١٧٠٠ مائدة تُفرَّق في القصور وغيرها، ويبقى من الأطعمة ما يقتات به مئات ثم يُوزَّع باقيه في بعض العائلات.
فلما تصورت ذلك أسفت لما يتنعم به الظالمون من أموال المظلومين، وعجبت كيف يسود رجل سفاح كعبد الحميد فيقبض على رجل حر نزيه كرامز وأمثاله. وأحست عند تذكرها رامزًا بقشعريرة، وانتفض جسمها خوفًا عليه لئلا يكون قد أصابه سوء، وعزمت على أن تخاطب القادين بشأنه في أول فرصة. فلما وصلتا إلى غرفة القادين الخاصة دعتها هذه إلى الجلوس على مقعد مطعَّم بالعاج بين يدَي سرير مذهَّب يحيط به الستائر المطرزة، وقد فُرِشت تلك الغرفة بأحسن ما تُفرَش به غرف الرقاد من السجاد والستائر. وفي صدر الغرفة موقد التدفئة وعليه ساعة مذهبة.
فجلست شيرين على المقعد بجانب نافذة تطل على الحديقة الداخلية وتشرف على البوسفور عن بعد، وجلست القادين إلى جانبها وهي ترحب بها وتتلطف في مجاملتها، ثم دعتها إلى تبديل ثيابها وهمت بأن تطلب من الأوسته باشي إعداد بدلة فاخرة، فاعتذرت شيرين بأنها تشعر بتعب وربما بدلت ثيابها بعد ذلك. وجلست إلى النافذة وأطلت إلى الحديقة فرأت ما يسرح هناك من الطيور وأكثرها من الحمام، فاستغرقت في هواجسها وانقبضت نفسها وتلألأ الدمع في عينيها، والقادين تراعيها وتتوقع فرصة تفتتح بها الحديث، فلما رأت انقباضها قالت: «ما لك يا عزيزتي؟ إني أراك منقبضة النفس، وإذا كان دخولك هذا القصر قد ساءك فإني لا أحملك على البقاء فيه قهرًا.»
فخجلت شيرين من هذا التوبيخ اللطيف وابتسمت وقد توردت وجنتاها من الحياء، وقالت: «العفو يا سيدتي، إني هنا منذ بضعة أيام ولم أشعر بأنس وراحة كما شعرت في هذا اليوم منذ رأيتك. والحق أنك معدن اللطف والأنس.»
فقالت: «إذن ما لي أراك منقبضة النفس على هذه الصورة؟»
فتنهدت شيرين وسكتت، فأدركت القادين أنها قلقة على حبيبها، وكان نادر أغا قد أفهم القادين كل ما عرفوه عن شيرين حتى تعرف أسرارها، فتجاهلت وقالت: «اسمحي لي يا حبيبتي أن أقول بحرية إن ما أراه فيك لا يكون إلا في المحبين.»
فأجهشت شيرين بالبكاء، فهمَّت القادين بمسح دموعها وقد أثر فيها منظرها وأحست بما تقاسيه لأنها جربت مثله بنفسها، فأحبت الاستطراق إلى الغرض من هذا الطريق فقالت: «يظهر أن ظني قد صدق، فأنت عاشقة و…»
فأجفلت شيرين من هذا التعبير ومدت كفها نحو فم القادين كأنها تسكتها عن الكلام حياءً وإنكارًا، فقالت القادين: «لا يسوءك أنك عاشقة فإن الحب ليس عارًا، وقد يكون حبك طاهرًا. قولي، لا تخفي شيئًا، اجعليني مستودع سرك، وإن كانت هذه أول مرة لقيتني فيها فإني شعرت بانعطاف نحوك مثل انعطافي على شقيقتي.»
فانشرح صدر شيرين لهذا التلطف وحسبت نفسها قد فازت بما تريده، لأنها إنما أظهرت انقباضها بين يدَي القادين لعلها تتصل بالحديث إلى توسيطها في إنقاذ رامز وهي تعتقد أنه أسير هناك، فابتسمت وقد خفق قلبها فرحًا بهذا الأمل وقالت: «إنك حقًّا أكبر تعزية لي، ولا أرى بأسًا من الشكوى إليك لعلك تستطيعين التفريج عني بما لك من النفوذ والدالَّة.»
فتطاولت القادين نحوها وقالت: «قولي، لا تخفي عليَّ شيئًا، وتأكدي أني أبذل جهدي في سبيل راحتك.»
قالت: «ألا تعرفين أسيرًا حُمِل من سلانيك إلى يلدز في هذين اليومين؟»
قالت: «نحن بعيدات عن أمثال هذه الأخبار، لا يُؤذَن لنا بالاطلاع على شيء من ذلك، ولكنني سأرسل من يأتينا بخبره إكرامًا لخاطرك. زيديني إيضاحًا.»
فاستبشرت شيرين وأبرقت أسرتها وقالت: «إن شابًّا من ذوي قرابتي اسمه رامز اتهموه بالدخول في جمعية سرية في سلانيك، ووشى به بعض الجواسيس فقبضوا عليه وساقوه إلى يلدز منذ بضعة أيام، فجئت إلى هنا حتى يلحقني ما يلحقه أو أستطيع إنقاذه، وقد علمت أنه محجور عليه في بعض هذه القصور، سمعت ذلك من السلطان نفسه، ولكنني لم أعرف غير ذلك.»
فأظهرت القادين الدهشة وقالت: «تشرفتِ بمقابلة البادشاه؟»
قالت: «نعم، تشرفت بالمثول بين يديه.»
قالت: «إنه حظ يندر أن يُوفَّق إليه النساء، ويظهر أن جلالته عالم بما بينك وبين رامز من القربى.»
قالت: «نعم، يظهر أن الجواسيس أطلعوه على خبري معه.»
فأظهرت الاستغراب وقالت: «لا تؤاخذيني على كثرة أسئلتي، ما الذي دعاكِ إلى مقابلة الذات الشاهانية؟»
قالت: «دعاني إلى ذلك كما قلت لك رغبتي في الدفاع عن رامز والتصريح للسلطان بما يجول في خاطري من أمر الدولة وما يحدق بها من الأخطار إذا لم يتداركها جلالته بالدستور.»
فأجفلت القادين وتراجعت عند سماع اسم الدستور وقالت: «قلت له ذلك؟! وماذا قال لك؟!»
قالت: «أظهر لي كل ارتياح وآنسني، لكنه طلب إليَّ أن أخبره عن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي القائمة بالمطالبة بالدستور في سلانيك ورامز واحد منهم، فاعتذرت بأني لا أعرف منهم أحدًا، فهددني بأني إذا لم أبح له بأسمائهم كان رامز في خطر على حياته وأني إذا بحت أنقذته من القتل.»
فبادرتها القادين بالسؤال: «وماذا فعلت؟ ألم تجيبي؟»
فهزت رأسها هز الإنكار وقالت: «[نعم]، هبي أني أعرف بعضهم فهل من المروءة أن أفشي خبرهم وأعرضهم للخطر؟»
فابتسمت القادين ابتسام الإعجاب وأظهرت عدم رغبتها في الاطلاع على شيء من ذلك، وقالت: «لله درك من جسورة حازمة! إني لم أعهد مثل ذلك في النساء من قبل، تعرضين نفسك وخطيبك لخطر القتل محافظة على عهد الناس! إنها مناقب كبار النفوس.» وخفضت صوتها وتلفتت يمينًا وشمالًا كأنها تحاذر أن يسمعها أحد وقالت: «الحق يقال إن بين أعضاء هذه الجمعية جماعة من العقلاء والعلماء، ولكن بينهم أيضًا جماعة من الضعفاء المنافقين الذين ينتفعون بأذى غيرهم، ولو كانوا كلهم مثل رامز ومثلك لكانوا …» وسكتت وتحفزت للوقوف وهي تقول: «ألا تنهضين للطعام؟»
فشق عليها قطع الحديث قبل إتمامه لعلها تتوسل إلى طلب مساعدتها، فاعتذرت عن الطعام بأنها غير جائعة فقالت القادين: «ألا تأكلين بعض الفاكهة؟»
أجابت: «كما تشائين»، وظلت قاعدة، فعادت القادين إلى الجلوس وقالت: «لم تقولي لي ما هي الخدمة التي تطلبينها مني؟»
قالت: «لم يبقَ لي مع ذكائك حاجة إلى التصريح.»
فضحكت وقالت: «طبعًا أنت تطلبين معرفة مقر رامز وتبحثين عن الطريق إلى نجاته؟»
قالت: «نعم، هذا كل ما أطلبه، وإذا كنت تستطيعين أن تساعديني في ذلك فلا أنسى فضلك طول حياتي.»
قالت: «إذا استطعته فإني أفعله من كل قلبي، ولا فضل لي في شيء من ذلك.» وتنحنحت وأظهرت أنها تهم بالكلام ويمنعها الحياء.
فقالت لها شيرين: «ماذا تريدين؟ قولي يا سيدتي، لعلك ترين مانعًا من دخولك في هذا الأمر، فإذا كنت …»
فقطعت كلامها قائلة: «كلا، ولكني أكتم أمرًا لا أجد من أبوح به إليه، وقد رأيت فيك …» وبلعت ريقها، وأطرقت لحظة ثم وقفت وهي تتجاهل ما بدر منها، وقالت: «سأبحث الليلة عن خبر رامز وأطلعك عليه، أفعل ذلك من كل قلبي.» وصفقت فجاءت جارية سوداء فأمرتها أن تعد المائدة وتكثر عليها من الفاكهة وأن تدعو الخازنة قطينة، وأمسكت شيرين بيدها وأنهضتها إلى المائدة فمشت معها وهي تتوقع أن تسمع منها تتمة الحديث وأن تبوح لها بسرها والقادين تغالطها، وكلما اقترب حديثها من تلك النقطة غيرته. فأدركت شيرين أنها كانت تريد أن تكاشفها بسر وندمت فسكتت.
•••
قضت شيرين مع القادين وخازنتها بقية نهارها وهي تزداد استئناسًا بهما، وظلت عالقة الذهن بما همت القادين أن تكاشفها به، وتوهمت أنها عدلت عن المكاشفة خوفًا من ضياع سرها لقلة ثقتها بها فأجلت ذلك إلى فرصة أخرى. ولما مالت الشمس إلى المغيب وانقبضت الطبيعة لفراقها، انقبضت نفس شيرين وغلبت عليها السويداء. وليس أثقل على قلب المحب المشتاق من ساعة الغروب، فإنها تزيده وحشةً وألمًا. ولم تشأ شيرين أن يبدو انقباضها لدى القادين ولا خازنتها، فالتمست الخلوة في غرفة أعدوها لها، وأظهرت أنها متعبة تطلب الرقاد لحظة.
فلما خلت إلى نفسها في تلك الغرفة أخذت تفكر فيما هي فيه وفيما عسى أن يكون من أمر رامز، هل هو هناك؟ وهل يمكن إنقاذه؟ على أنها كانت ترجو من وعد القادين خيرًا كثيرًا ولم يخامرها شك في صدقها، ولا سيما بعد أن رأتها تهم بمكاشفتها بسرها وهي لم تقابلها من قبل.
وقضت ساعة في مثل هذه الهواجس، وقد أظلمت الدنيا وأُنِيرت مصابيح القصر إلا غرفتها، فلم يشأ الفراش أن يزعجها بدخوله لأنه كان يحسبها نائمة.
وبينما هي في ذلك إذ سمعت وقع أقدام في أرض الغرفة، فرفعت رأسها لترى من القادم فتبينت في تلك الظلمة القادين داخلة، وهي تخفف الوطء لئلا توقظها، فتحركت شيرين في سريرها دلالة على أنها مستيقظة. فتقدمت القادين نحوها بسرعة وأكبت عليها وجعلت تقبلها ترحيبًا بها، فجلست شيرين في الفراش وقد أحست بحرارة تلك القبلات، ولم يبقَ عندها شك في محبة تلك المرأة، فبادرتها القادين بالسؤال عن صحتها، فقالت: «إني في خير. أشكر فضلك.»
قالت: «لا تظني أني نسيت وعدي إياك بالبحث عن حبيبك، ولكنني لا أستطيع ذلك إلا في فرصة مناسبة ولم تتأتَّ لي إلى الآن. ولا أقدر أن أفعل ذلك إلا سرًا.» قالت ذلك وتنهدت.
فأحست شيرين بميل القادين إلى الشكوى والمكاشفة فقالت لها: «أمثلك تتنهد وتشكو أيضًا؟! إنك أشرف امرأة في المملكة العثمانية لأنك من نساء السلطان، وفي المملكة ملايين من النساء يحسدنك على مقامك، ومع ذلك فإنك تتأوهين!»
فتنهدت القادين ثانية وقالت همسًا في تلك الظلمة: «ليس في المملكة العثمانية أشقى من نساء السلطان، إنَّ جوارينا أسعد حالًا منا ولا شك!»
فاستغربت شيرين هذه الشكوى وأرادت أن تعترض، فبادرتها القادين قائلةً: «هل في الدنيا أثمن من الحرية؟»
فانتعشت شيرين عند ذكر الحرية وقالت: «كلا».
فقالت: «الحرية التي يتمتع بها كلابنا وسنانيرنا وطيورنا ودوابنا، بل يتمتع بها حتى البعوض والذباب! إننا محرومون من هذه الحرية دون سائر البشر. إن المرأة متى بلغت رتبة قادين دُفِنت في قصرها لا تخرج منه حتى إلى الحديقة التي ترينها من هذه النافذة، وهي فوق ذلك عرضة للخطر والغضب وسوء الظن. تسعى الجارية في يلدز في الرقي، وأرقى درجة يمكن أن تبلغها أن تصير من نساء السلطان، فإذا وصلت إلى هذه الرتبة ندمت على ماضيها لأنها تفقد حرية الذهاب والمجيء، ويُمنَع عنها التمتع بالطبيعة. الحرية! آه الحرية!» وسكتت كأنها غصت بريقها.
فتأثرت شيرين بهذا القول ووجدت للكلام مجالًا فقالت: «آه يا سيدتي! إن الحرية هذه طِلبة الأحرار الذين يحاربهم السلطان ويبحث عنهم ويتعمد قتلهم.» ثم خافت أن تكون قد انزلق لسانها، ولكن ما لبثت أن سمعت القادين تقول: «السلطان؟! إنه لا يريد أن يكون أحد حرًا حتى هو نفسه، فإنه مقيد في هذه القصور كما تعلمين، ولكن ما العمل؟ اعلمي يا شيرين أني تسرعت في مكاشفتك، فأرجو ألا أكون قد أخطأ ظني فيك، إني ظننت فيك المحبة وصدق المودة فهل أنا مخطئة في هذا الظن؟»
فبادرتها شيرين قائلة: «إن ظنك في محله، أنت تخاطبين فتاة تحبك وتعول عليك. ويا حبذا لو أستطيع أن أخدمك في شيء!»
فنهضت القادين حتى وصلت إلى الباب، وتلفتت خارجة كأنها تبحث عن أحد هناك، ثم عادت وقالت لها: «إن أكبر خدمة تقدرين على تأديتها لي هي أن تنقذيني من هذا السجن، هل يمن الزمان عليَّ بذلك يا تُرى؟»
وكانت الغرفة لا ينيرها إلا بصيص من النور يدخل من شقوق الباب والنوافذ، والقادين تتكلم همسًا وشيرين تستغرب ما تسمعه، وقد داخلها الشك لحظة في صدقها، لكنها لما رأتها تكشف لها سرها ولا تطلب منها كشف خبرها غلب عليها تصديقها فقالت: «إذا أُتِيح لي الخروج من هذا الأسر مع رامز، فثقي أني باذلة جهدي فيما تريدين. إن القوم العاملين مع رامز على نيل الحرية إذا نجحوا — وهم ناجحون بإذن الله — كانت نجاتك محققة، وثقي بأني أفديك بروحي.»
فأظهرت القادين أنها صدقتها وقالت: «إنك صادقة مخلصة ما في ذلك شك، وأعتقد أن حبيبك مثلك، وأما بقية أعضاء تلك الجمعية فلا، وثقي بأني أعلم منك بهم، فكثيرًا ما سمعنا بجمعيات قامت تطالب بالدستور أو الحرية ثم رأيناهم يأتون ويسلمون أنفسهم للسلطان طمعًا في المناصب، وإنما يُضام منهم الأحرار الصادقون الذين يعملون لخدمة الحقيقة. ولا أظن جمعية سلانيك إلا مثل سوابقها في باريس وغيرها، ومع ذلك دعينا نؤمن بنجاحها …» ثم قطعت الحديث وانتقلت إلى سواه لتوهم شيرين أنها لا تطالبها بكشف السر — وذلك أدعى إلى الحصول عليه — فقالت: «قد شردنا عن الموضوع الذي جئت من أجله، فأول كل شيء أني واثقة بمحافظتك على السر، ثم إني جئت لأعتذر لك عن تأخري في استقصاء خبر حبيبك لأني لا أستطيع أن أتظاهر بذلك، ولا بد من اغتنام الفرصة.» وسكتت.
فقالت شيرين: «ألم تُوفَّقي إلى فرصة بعد؟»
قالت: «سنحت لي فرصة لم يُوفَّق إليها غيري، قلت لك: إن نساء السلطان لا يُؤذَن لهن في الخروج من قصورهن، ولا أن يأتي إليهن أحد غير الخصيان والجواري، ولذلك رأيتنا نشغل أنفسنا بتلك الألعاب الصبيانية كمهارشة الدِّيَكة وملاعبة السنانير، إلا أنا فإن السلطان أذن إذنًا فوق العادة لطبيب من أطباء القصر أن يتردد إلينا منذ بضعة أيام يسألني عن صحتي وكنت أشكو انحرافًا عالجني منه. فهذا الطبيب أشعر أنه صادق، وقد غمرته بالجوائز والنعم، وأنا مع ذلك مستغربة الإذن له في الدخول إلى هذا القصر، ولا أجسر على مخاطبته بشأنك لئلا أعرض نفسي للخطر، ولكنني رأيت رأيًا أظنك توافقينني عليه، وذلك أن أعرفه بك بحجة أنك منحرفة المزاج، فمتى أتى للاستفهام منك عما تشكين تدرجت بالحديث معه حتى تسأليه عن محل رامز. ولا بأس عليك إذا فعلت ذلك، فإن السلطان نفسه يعلم قلقك عليه، فلعله يخبرك عن مكانه، وإذا أفلحت فأخبريني الخبر. وها أنا ذا الآن ذاهبة وسأرسل الخادم ليضيء هذه الغرفة، فامكثي في الفراش وأنا أشيع في القصر أنك منحرفة الصحة.»
وخرجت ثم جاء الخادم وأضاء الغرفة وهي ساكنة في الفراش كالمريضة وما بها مرض، وقد أدت إليها هواجسها وأحست أن القادين تحبها حبًّا صادقًا وتثق بها ثقةً كبرى، ورأت أنها قصرت في إيفائها حق الصداقة لأنها أساءت الظن بها وخافت مكاشفتها بأسرارها.
أما القادين فقد أتقنت حيلتها حتى أوهمت شيرين أنها لا يهمها سر غيرها، وتقدمت بكشف سرها لها حتى جعلتها تسعى من تلقاء نفسها لمكاشفتها بأسرارها، وأدركت بدهائها أن شيرين تنتظر أول اجتماع تجتمع فيه بها لتبوح لها بأسرارها في مقابل ما فعلته هي.
•••
ومكثت شيرين في الفراش ساعات حتى آن الرقاد ولم يأتِ الطبيب، إذ لم يكن هناك موعد سابق لمجيئه، وقد أوعز إليه نادر أغا أن يكف عن زيارة القادين أيامًا، إذ لم تبقَ حاجة إلى التعجيل بمهمته. وفي الصباح التالي ذهبت القادين إلى شيرين مبكرة لتعتذر لها عن تخلف الطبيب عن الحضور في ذلك اليوم، وهي تحسب له عذرًا في الغياب وأنها بعثت إليه من يستقدمه، وجلست بجانب سرير شيرين وقالت: «تأملي يا عزيزتي مقدار تقيدنا، إني لا أجسر أن أستقدم الطبيب إلا سرًّا، ولو علم السلطان بذلك لبالغ في العقاب، وقد يعاقب بالقتل لأقل الذنوب، إن هذا البوسفور مملوء بجثث القتلى من النساء والرجال.» قالت ذلك وهي تخفض صوتها وتتلفت.
فلما سمعتها شيرين تقول ذلك عزمت على التصريح لها ببعض الشيء فقالت: «إذا كنت تشكين من إقامتك هنا فاتركي هذه القصور واخرجي إلى بلاد الحرية.»
فقالت: «إلى أين أذهب وأنا غريبة وحيدة؟ وأعترف لك أني لا أثق بالأحرار فإنهم كثيرًا ما رجعوا وخافوا!»
فقطعت شيرين كلامها قائلة: «إنهم يا سيدتي اليوم غير ما كانوا عليه من قبل.»
فهزت رأسها استخفافًا وقالت: «إنهم على ما هم عليه لم يتغيروا.»
قالت: «أؤكد لك أنهم هذه المرة غير ما كانوا عليه قبلًا، وأنا من أعلم الناس بهم.»
فاستبشرت القادين بقرب الوصول إلى المقصود فقالت: «يا حبيبتي إن أمثالنا لا يمكنه الاطلاع على حقيقة الرجال. لم يظهر بين الأحرار المقاومين للظلم أضخم من مراد بك، وهو الآن في الأستانة بين المقربين.»
فابتسمت شيرين ابتسام العالم بأمور يجهلها مخاطبه وقالت: «قلت لك إن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي هذه المرة مختلفون عنهم في المرات الماضية اختلافًا كبيرًا. ولولا حرمة الأسرار لذكرت لك بعضهم فتثقين بقولي وتعلمين أني أقول لك الصدق.»
فأطرقت القادين لحظة ثم رفعت بصرها إلى شيرين وفي عينيها ملامح العتاب، وقالت: «صدقت، ينبغي للإنسان أن يكون حريصًا على سره ولا يفرط فيه كما فعلت أنا! ولكنني وثقت بك ولم أندم على ما فرطت في سري لأني شعرت بلذة الراحة.»
فتوردت وجنتا شيرين من الخجل وأحست أنها أخطأت، ولم يكن ينبغي لها أن تقول ما قالت ما دامت تصر على الكتمان، فارتبكت في أمرها ولم تجد لها مخرجًا إلا بالمكاشفة لكنها قالت: «قد أخطأت يا سيدتي فهم مرادي، فأنا لا أضن عليك بسر أكتمه إذا كان ذلك السر لي، ولكن هذا السر خاص برامز وقد أطلعني عليه ونحن نتشاكى، ولا يخفى عليك ذلك، وهو واثق أنه لا يخرج من فمي لأحد، فإذا أخرجته عددت عملي خيانة. وأما الأسرار التي هي لي فلا أخفي عليك شيئًا منها.»
فأجابتها وهي تساعدها على الاعتذار: «إن قدرك قد ارتفع في عيني الآن عما كان عليه قبلًا، إن الإنسان يجب أن يكون أمينًا صادقًا وإلا كان من الأشرار، وحاشاك أن تكوني منهم. وهذا يؤكد لي أن ما كاشفتك به الآن يبقى محفوظًا عن كل أذن. لا تظني أني أطلب منك أن تبوحي بأسرار الجمعية، ولكنني أجادلك في حقيقة هذه الجمعية فأحب أن أعرف الفرق بين أعضائها الآن وأعضائها في الأمس.»
فانشرح صدر شيرين لذلك التخلص، وأحست بنزاهة تلك المرأة وكبر نفسها وسعة صدرها وتعقلها، حتى هان عليها أن تضع كل أسرارها بين يديها، على أنها جاملتها قائلة: «الفرق المهم أن أعضاء الجمعية اليوم أكثرهم من ضباط الجيش العثماني، وكانوا قبلًا من الكتاب والأدباء. ولا يلبث الضباط كلهم أن ينتظموا في سلكها، فإذا فعلوا ذلك فبماذا يطاردهم عبد الحميد؟»
فأظهرت القادين الاستغراب وقالت: «هل أنت على ثقة مما تقولين؟! قد سمعت شيئًا من ذلك، ولكنهم يقولون إن بعض الضباط الصغار المطرودين من الجيش انتظموا في الجمعية.»
فقالت: «كلا يا سيدتي، إن المنتظمين في الجمعية اليوم من أكابر ضباط الجند كأمراء الآلايات، وهم في خدمتهم العسكرية والجند تحت أوامرهم متى شاءوا، وأنا أعرف كثيرين منهم.» قالت ذلك وتصاعد الدم إلى وجهها ندمًا على تصريحها بأنها تعرف كثيرين منهم.
فاكتفت القادين بهذا التصريح إذ تحققت أن سر الجمعية عند شيرين، وعزمت على اتخاذ الوسائل لحملها على التصريح به فيما بعد فقالت: «أراك تغالبين نفسك بين التصريح والكتمان، فأنا أتوسل إليك أن تكفي عن التصريح. وكأني أسمع لغطًا في الدار، لعل الطبيب أتى.» قالت ذلك وخرجت ثم عادت مبغوتة وقالت: «لم يأتِ الطبيب لأنه تلقى أمرًا بألا يدخل قصري اليوم، ولكنني سأبعث إليه أن يأتي متنكرًا في هذا المساء.» قالت ذلك وخرجت. فأتت الخازنة لمسايرة شيرين، فتبادلتا الحديث في شئون مختلفة.
فلما أمسى المساء ذهب أهل القصر إلى منامهم، وظلت القادين ساهرة في غرفة شيرين، وبعثت الخازنة تترقب وصول الطبيب وتأتي به إليهما، فلما قرب نصف الليل أتت الخازنة تنبئها بقدومه، فأذنت في دخوله ووقفت لاستقباله بالباب فأطل وعليه لباس خدَمة القصر، فاستقبلته مرحبة فانحنى احترامًا وقال: «قد أتيت يا سيدتي طوعًا لأمرك رغم الخطر الذي أخافه. فماذا تأمرين؟»
فأثنت على غيرته وقالت: «أنت تعلم ثقتي بمهارتك واعتقادي صدق علاجك، وعندي صديقة أصابها انحراف فأحببت أن تكون طبيبها.» قالت ذلك ودخلت، فتبعها وهو ينظر نحو السرير فرأى شيرين جالسة فيه فلم يتفرس فيها تأدبًا، فسبقته القادين في مخاطبتها قائلة: «هذا طبيبنا وصديقنا، فأخبريه بشكواك ريثما أعود إليكما.» وخرجت.
فاستغرب الطبيب تخليها عنهما، وجلس على كرسي بجانب السرير، وسأل شيرين عما تشكوه فقالت: «إني أشكو من ألم شديد في الرأس.»
وكان يخاطبها وهو مطرق، فلما سمع جوابها أجفل لأنه تذكر صوتًا يعرفه، فنظر إليها ونظرت إليه. وكان الطبيب في حدود الثلاثين من العمر، فلما وقع نظرها عليه اختلج قلبها في صدرها لأنه يشبه شخصًا تعرفه في سلانيك كان صديقًا لرامز، فجعل كل منهما ينظر إلى صاحبه، فسبقها هو إلى الكلام وإن سبقته هي إلى المعرفة لكنها خافت التصريح، فقال لها: «شيرين؟!»
قالت: «نعم، وأنت الدكتور «ن»؟!»
قال: «نعم، ما الذي جاء بك إلى هنا؟!» ووضع أصبعه على فمه إشارة إليها ألا ترفع صوتها.
قالت: «جئت لأفتش عن رامز.» وغلب عليها البكاء، ثم قالت وهي تشرق بريقها: «أين هو؟ وماذا تفعل أنت هنا؟»
قال بصوت منخفض: «أنا هنا في مهمة باسم إخواننا أستطلع لهم أخبار هذا الطاغية، وأما رامز …» وسكت وهو يتردد كأنه يكتم شيئًا يعرفه.
فخافت ذلك التردد وقالت وقد شخصت ببصرها فيه: «أين هو؟! ماذا أصابه؟! قل، قل بالله، قل …!»
قال: «تعقلي يا شيرين كعهدي بك لأقص عليك خبره.» فتطاولت بعنقها نحوه، وحدثتها نفسها بسوء أصاب حبيبها، وعلمت أن هذا الطبيب جاسوس الأحرار في يلدز، ولم تتمالك أن أعادت السؤال وألحت في طلب الجواب فأجابها: «علمت منذ بضعة أيام أن رامزًا أتى يلدز وأنه مقيم بقصر مالطة، فجعلت أترقب الفرص للذهاب إليه لعلي أستطيع إنقاذه، فلم أستطع ذلك إلا مساء أمس بحيلة احتلتها فلم أجده هناك.»
فاقشعر بدنها وقالت: «أين ذهب؟!»
قال: «لا أدري.»
قالت: «بل أنت تدري، قل … هل قتلوه؟!»
فأشار إليها أن تخفض صوتها، وقال: «لا أعلم أين هو، ولا ما فعلوا به، ولم أجد أحدًا من أهل يلدز يعرف خبره، والذي عرفته بعد البحث الدقيق أنه خرج من ذلك القصر في أواسط الليل منذ يومين بدعوة من القصر ولم يرجع.» وهز رأسه أسفًا.
فتحققت شيرين أنهم قتلوه خلسةً كما قتلوا مئات قبله إما خنقًا أو غرقًا أو تسميمًا، ووثبت من السرير على رغم إرادتها وهي تقول: «قتلوه يا دكتور؟! قتلوه! أظنه ذهب طعامًا للأسماك!» ولطمت وجهها وبكت.
فأمسكها وأجلسها وقال لها: «تجلدي يا شيرين، ولا تفعلي ما يعود بالخطر علينا جميعًا.»
فصاحت: «أما أنا فلا أبالي ما يصيبني بعد رامز، ولكنني أخاف عليك فإنك ذو نفع للأحرار.»
فقال: «وأنت أنفع مني لهم، هدئي روعك. وإذا فرضنا أن أخانا أُصِيب بسوء في سبيل الحرية والدستور فهنيئًا له أن اسمه سيُخلَّد في بطون التاريخ. ويا حبذا يوم أنال شهادتي في هذا السبيل!»
فأطرقت شيرين وقد رجع إليها رشدها، وأخذت تغالب عواطفها، ومع تفانيها في سبيل الدستور والحرية فإن حبها رامزًا غلب على كل ذلك فلم تسمح نفسها بأن يكون ضحية الدستور، لأن المحب لا يرضى أن ينال الدنيا كلها فداءً لحبيبه، لكنها ظلت ساكتة ودموعها تتساقط على خديها، فعاد الدكتور إلى الكلام فقال: «على أننا لم نتحقق مصير رامز، وقد يكون أقرب إلى الحياة منا، خففي عنك واصبري، إن الله مع الصابرين.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع خطوات عند الباب، فانتبه الدكتور إلى أنه أفرط في الكلام، وخاف أن تكون القادين قد سمعت ما دار بينهما وهناك البلية الكبرى والخطر العظيم. ولم تنتبه شيرين لهذا الخطر فظلت ساكتة.
أما الدكتور فأعمل فكرته لحظة، وكان سريع الخاطر حازمًا فطنًا ولولا ذلك لم يقبل أن يكون جاسوسًا للجمعية في يلدز مدفن الأحرار، ووقف لاستقبال الداخل فإذا هي القادين ج دخلت باشَّة هاشَّة فانحنى لها باحترام، فقالت له: «هل عالجت حبيبتنا شيرين العلاج الشافي؟»
فأجابت شيرين عنه قائلة: «إن العلاج لا يفيد يا سيدتي لأنهم قتلوه.» وغصت بريقها.
واستغرب الدكتور تصريحها بذلك للقادين، إذ لم يكن يعلم أنه دُعِي لهذه الغاية بعلم القادين، فقالت القادين: «ماذا تقولين؟! هل قتلوا رامزًا؟! من قتله؟!»
فقالت شيرين: «ألم تأذني لي في أن أسأل الدكتور عنه لعله يطلعني على خبره، لقد قال إنه علم بوجوده في قصر مالطة إلى منتصف الليل من يومين، وأنه دُعِي إلى القصر ولم يرجع، فهل عندك شك في أنهم قتلوه؟»
فأطرقت القادين وبانت الدهشة في عينيها وقالت: «ليس من الضروري أن يصدق ظنك، ولكن ربما كنت مصيبة فمن الجائز أنهم قد يفعلون ذلك.»
وكان الدكتور يعمل فكره في تلافي ما قد يكون من اطلاع القادين على حديثهما، فلما رآها سلمت أن عبد الحميد يقتل على الشبهة سرًّا وجهرًّا، فكر في سبيل للنجاة من هذا الباب فقال: «هل تعتقدين يا سيدتي أن رامزًا قُتِل؟»
قالت: «لا أعتقد ذلك اعتقادًا ثابتًا، ولكنهم قد يفعلون هذا في سبيل صيانة الدولة.»
قال: «أراك تجوِّزين القتل في هذا السبيل.»
قالت: «قد جوَّزه قبلي ماكيافلِّي الفيلسوف.»
فأظهر الاهتمام ودعاها إلى الجلوس على المقعد، فجلست وهي تنظر إليه وتتفرس في وجهه، فقال لها: «أتجوزين القتل في هذا السبيل ولو كان المقتول أنت؟»
فأجفلت وقالت: «ماذا تعني؟!»
قال: «أعني سرًّا عظيمًا عُهِد إليَّ منذ أيام في تنفيذه وأنا أؤجله شفقة عليك.»
قالت: «تعني أنهم أرادوا قتلي؟!»
قال: «أنصتي يا سيدتي واستجمعي رشدك، واعلمي أني أعرض عليك الحياة بعد أن حُكِم عليك بالقتل.»
قالت وهي ترتعد: «أفصح، لا تخف.»
قال: «هل عهدت مثلي يدخل على نساء القصر ويتردد قبل الآن؟»
قالت: «كلا.»
قال: «فما الذي جعل لي هذا الامتياز الآن؟»
فأطرقت وأعملت فكرها وأحست كأنها أفاقت من سبات، وقالت: «ثم ماذا؟ قل …»
قال: «اعلمي أنك صرت في خطر الموت منذ علم عبد الحميد أنك حامل، ولما لم تفلح الحاضنة بإسقاط حملك كلفني قتلك بالسم خلسةً. قد يخطر ببالك الشك في قولي، لكنك تتحققين صدقه متى تذكرتِ تردد هذا الطاغية في شأنك؛ كم غالطك وأهملك! ثم هو لم يؤجل قتلك إلا لأنه احتاج إليك في المهمة الأخيرة. لا أعلم ما الذي يريده منك، ولكنه ما زال يلح عليَّ لتنفيذ أمره بقتلك حتى صباح الأمس، فأمرني أن أنقطع عن قصرك بضعة أيام ففعلت. ولعلك إذا تذكرت ما كلفك به بالأمس تتحققين صدق قولي.»
فتذكرت القادين ما خاطبها به عبد الحميد في شأن استطلاع سر شيرين، وهي رغم حبها له كانت تعتقد غدره مما عرفته من سيرة حياته مع الذين قتلهم من رجاله بعلمها، فأطرقت حينًا وسبق إلى ذهنها صدق الدكتور في قوله، وظلت ساكنة.
فابتدرها قائلًا: «قد ترتابين في كلامي، وربما حدثتك نفسك أني أكذبك، وقد تنقلين خبري إلى هذا الطاغية، فأنا لا أبالي إذا مت في هذا السبيل، ولكن موتي لا ينجيك من القتل فافعلي ما بدا لك.»
وكانت القادين قد سمعت بعض ما دار بين شيرين والدكتور من الحديث، ولا سيما قوله إنه يتمنى أن يموت كما مات رامز في سبيل مصلحة الأحرار وطلب الدستور فغلب على ظنها صدقه، لكنها أرادت أن تتثبت من ذلك فقالت: «وما الذي يسيء عبد الحميد من حملي حتى يريد قتلي؟»
قال: «ألست أرمنية الأصل؟» قالت: «[بلى]».
قال: «ألم تعلمي خوفه من الأرمن وكم قتل منهم؟ وأزيدك علمًا أن بعض المنجمين تنبأ له بأن سقوط دولته سيكون على يد ولد منه تلده امرأة أرمنية، فلما علم بحملك رغم الوسائل التي اتخذها أصبح همه قتلك، وعهد في ذلك إليَّ فرضيت، وأنا أؤجل ذلك عامدًا لأني أشفقت على صباك.»
فقالت: «كيف رضيت أنت أن ترتكب هذه الجريمة؟»
قال: «حاشا لله أن أفعل ذلك! إني حر صادق لا أقتل النفس البريئة، وإنما قبلت ليتيسر لي المكوث في هذه القصور أستطلع أخبارها لإخواني الأحرار. أنا يا سيدتي جاسوس للأحرار هنا، أقول لك ذلك بكل حرية، ولا يفيدك أن تنقلي خبري إلى هذا الطاغية، ولا يهمني إذا نقلته، فإني أتشرف بالشهادة في هذا السبيل. نحن ألوف نطلب الدستور، ولو قُتِل نصفنا في سبيل نيله لا نبالي لأن النصف الباقي يناله، وسيحفظ التاريخ ذكرنا، أما أنت فإنك مقتولة لا محالة لأن عبد الحميد يرى بقاءك سببًا لقتله. وإذا بقيت حية حتى تلدي فإن طفلك يُقتَل أولًا ثم تُقتَلين أنت، إلا إذا قبلت نصحي ونجوت بنفسك ورجعت عن عبادة هذا الظالم وكفَّرت عن ماضيك بالانحياز إلى الأحرار. هذه نصيحتي لك، فافعلي ما تشائين. والسلام.»
وكان الدكتور يتكلم كأنه صاحب سلطان، فكان لكلامه تأثير شديد في نفس القادين، واعتقدت صدقه وخافت على حياتها وحياة جنينها، فأطرقت وقد جمد الدم في عروقها. وشيرين تسمع ما دار من الحديث وتعجب لهذه المصادفة، واغتنمت الفرصة لتأييد قول الدكتور فوجهت كلامها إلى القادين وقالت: «يا سيدتي إني أنصح لك أن تصغي إلى نصحه. وإذا حدثتك نفسك بغير ذلك وأردت نقل خبرنا إلى عبد الحميد فقد علمت أن الموت لا يهمنا. أما الدكتور فقد ذكر لك السبب، أما أنا فهل تظنين أني أحب الحياة بعد ذهاب حبيبي رامز ضحية الدستور غدرًا؟» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فتأثرت القادين من كلامها، وكانت من أهل الذكاء والدهاء ولكن حبها عبد الحميد أعمى بصيرتها، فلما داخلها الشك في حبه بما سمعته من كلام الدكتور ن دلَّها عقلها على ما خادعها به، وأنه لم يظهر لها الحب إلا حين احتاج إليها في مهمة تعنيه كما فعل وقت حادثة الأرمن وغيرها، وتذكرت تردده في العقد عليها، فصح عندها صدق الدكتور في أقواله ولم يبقَ لديها شك في ذلك، فالتفتت إليه وقالت: «قد صدقتك يا دكتور، فما العمل الآن؟»
قال: «العمل أن تفري من هذه القصور بما خف حمله ومعك شيرين، وأبقى أنا هنا حتى أتمم المهمة التي أتيت لأجلها. هذا هو رأيي، ولا يصح تأجيل فراركما إلى الغد.»
فنهضت وهي تعمل فكرها وقالت: «سأذهب لأدبر وسيلة للفرار الليلة، فامضِ أنت لشأنك مشكورًا، وسأذكر فضلك ما حييت.» ثم ودعهما الدكتور، فبكت شيرين وتوسلت إليه أن يفر معهما، لكنه قال: «لا بد من وجودي هنا لمصلحة الجمعية، أما أنت فتجلدي واصبري، وستدور الدائرة على الباغي ولو بعد حين.» وخرج.
•••
كان عبد الحميد بعد ذهاب رامز وأبيه يتوقع أن تنجح حيلته، وقد أوشكت أن تنجح ويقع أعضاء الجمعية في الفخ لولا أن بادر سعيد فأسمعهم وصية مدحت. وظل عبد الحميد يومين في انتظار النتيجة وهو لا يستقر له قرار، وكان يتوقع أن يوافيه ناظم بخبر الجمعية في اليوم التالي، فلما أبطأ عليه الخبر جعل ينتحل الأسباب لتأخيره.
وبينما هو في ذلك إذ أتاه نادر أغا في الصباح يخبره بفرار القادين ج مع شيرين، فاقشعر بدنه وأخذ في البحث والتحقيق حتى قلب يلدز رأسًا على عقب، فتبين بعد البحث أنها فرت مع فوزي بك أحد كبار الياوران، وهو رئيس فرقة من الحرس الألبان المعهود إليهم حراسة تلك القصور فسُقِط في يده، وبث الأرصاد والعيون في أطراف المملكة. وقد تشاءم من فرار تلك القادين لما يعتقده من علاقة حملها بحياته، فاسودت الدنيا في عينيه وأحس بفشل لا عهد له بمثله. ولم يتوسط النهار حتى جاءته برقية من ناظم بك في سلانيك يخبره فيها أن أحد أعضاء الجمعية حاول قتله بأن أطلق عليه الرصاص فأصابه لكنه لم يمت، وأن الجمعية أصبحت ذات خطر يُخشَى منه.
ثم جاءته برقية أخرى بأن فدائيًّا قتل سامي بك مفتش البوليس أثناء ذهابه إلى قروشوه، وكان السلطان قد كلفه بالبحث عن رئيس الجمعية والفتك به، وتوالت البرقيات باضطراب الأحوال في مقدونيا وألبانيا وأن الناس في خوف شديد.
وكان عبد الحميد يتلو هذه البرقيات في غرفة المطالعة بالقصر الصغير كالعادة، والباشكاتب بين يديه، فأخذ يظهر عدم الاكتراث أمامه ويشدد عزيمته ليوهمه أنه على ثقة من قدرته. ثم خاف أن يبدو ضعفه فيصبح في خوف على حياته من أعوانه، لاعتقاده أن هؤلاء الأعوان لا يطيعونه إلا خوفًا من بطشه أو طمعًا في ماله، فإذا رأوا منه ضعفًا انقلبوا مع الجانب الأقوى فنهض وهو يتكلف الضحك وقال: «لقد آن لي أن أفتك بهؤلاء الأغرار، إن الرفق بهم لم يُجْدِ نفعًا.»
فوقف الباشكاتب واستأذن وهو يعلم أن عبد الحميد يكاد يموت خوفًا، ولكنه أظهر أنه صدقه وانصرف.
أما عبد الحميد فدخل غرفة الكتابة ليخلو إلى نفسه، وما دخلها حتى تنفس الصعداء وقال: «ويل لهم! إنهم يفتكون برجالي، إنهم غير الأحرار السابقين الذين كنت أبتاعهم بالأموال. متى كان أولئك الملاعين يعرضون أنفسهم للقتل ولا يبوحون بالسر؟! حتى النساء صرن كالرجال شدة وبطشًا!» وتذكر القادين وشيرين فقَفَّ شعر رأسه، وقال: «ويلٌ لك يا أرمنية! لقد خرجت من يلدز حية مع جنينك لأنني أخطأت بالتسويف في أمرك، وكان ينبغي أن أقتلك حالًا. ويلاه! قد خرجت ونجت ولا تلبث أن تضع طفلها، وهو الذي سيكون شؤمًا عليَّ! هل أفل نجم سعدك يا عبد الحميد وانقلب الزمان عليك؟» قال ذلك وقد غص بريقه وبكى بكاءً حقيقيًّا، ثم تشدد ووثب وهو يقول: «متى اتحد أولئك الملاعين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم؟! لا ينبغي أن أيأس وأنا عبد الحميد، وقد غالبت أولئك الغلمان ثلاثين سنة وغلبتهم، أفيعجزني أمر هذه الشرذمة؟ لا بد من التفريق بينهم، ولا بد من الفتك بهم.»
وأطرق لحظة يفكر، وتناول سيكارًا وأشعله ثم جعل يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ثم صاح بغتة: «شمسي! شمسي هو الرجل اللائق بهذا العمل، إنه فتاك شديد. هل أستشير أحدًا بشأنه؟ لا، إنه الرجل الشديد، وقد ادخرته لهذه الغاية، سأرسله وأفوض إليه أن يعزل ويولي ويقتل ويرقي. وأرسل من الجهة الثانية من يفرق بين مذاهبهم. إن صائبًا ماهر، وسأرقيه فيتفانى في خدمتي، وقد كان في مقدمة الذين أفلحوا في الكشف عن الجمعية وأعضائها. المال، المال، سأبذله هذا وقته، قد ادخرته لمثل هذه الساعة.»
وقضى ساعة في مثل ذلك، ثم طفق يدبر أسباب المقاومة.
•••
عاد رامز إلى التفكير في شيرين بعد أن انفضت جلسة الجمعية المركزية في سلانيك، ثم حدث أباه بحديثه معها، وأخذ يروي له تاريخ حياته بعد فراقه تلك المدة الطويلة، فقضيا يومًا في مثل ذلك. وأخيرًا قال سعيد: «أين أم شيرين الآن؟»
قال: «أخبرني جارهم أنها ذهبت للبحث عن شيرين في مناستير وما حولها.»
قال: «دعنا نذهب إلى هناك فنحمل معنا أوامر الجمعية المركزية إلى شعبتها، ألم تقرر الجمعية بالأمس أن ترسل وصية مدحت وسائر قراراتها إلى فروعها؟ وهي طبعًا تحتاج إلى رسل سريين، فلنكن نحن رسلها إلى مناستير.»
ففرح رامز بهذا القرار وقال: «سأقابل الكاتب وأخبره بذلك.» وافترقا. وفي اليوم التالي أُطلِق الرصاص على ناظم بك، واهتزت سلانيك لهذا العمل الأول من نوعه. وبعد أيام أُعِدت التقارير ونحوها مما يُطلَب نقله إلى شعبة مناستير، وكلها مكتوبة بالأرقام (الشفرة) على نسق خاص بين الجمعيتين، وتسلمها رامز وسعيد ثم ذهبا إلى مناستير وقابلا كاتب الجمعية فأنبآه بما يحملانه من الأوامر الجديدة وطلبا عقد جلسة خاصة لهذا الشأن، فعُقِدت جلسة سرية على نحو ما حدث في جمعية سلانيك. وكان الكاتب قد حل رموز الرسائل وهيأها. فلما عُقِدت الجلسة، وهي مؤلفة من بعض الضباط وموظفي الحكومة، وفي مقدمتهم: القائمقام صادق بك قومندان آلاي الفرسان الرابع عشر، وفخري بك ترجمان الولاية، واليوزباشي حبيب بك، والملازم ضيا بك من ضباط المدفعية، وإبراهيم شاكر أفندم معلم الرسم في المكتب الإعدادي، والبكباشي رمزي بك من أركان الحرب، ووهيب أفندي وغيرهم. وكلهم من ذوي الأخلاق السامية والمبادئ الصحيحة ولا سيما صادق بك، وكان أكثرهم عملًا وأشدهم حماسة، وهو رب السيف والقلم، وعليه كان المعوَّل في التدابير التي دبروها والبيانات التي نشروها، وهم جميعًا يقتفون خطواته ويقتدون برأيه، فهو بمثابة رئيسهم وقائدهم. وكان ربعة، مستدير اللحية، يبدو عليه الضعف شأن أصحاب المزاج العصبي، وإن لم تكن فيه حدة العصبيين، بل هو رابط الجأش ثابت في أعماله، يظهر الهدوء والسكينة في محياه، فإذا دعت الحالة إلى الحماسة أو العمل غضب كالأسد الهائج لا يبالي ما يفعل، وقد يضحي بنفسه في سبيل الحق والحرية.
فلما عُقِدت الجلسة كان أول شيء فعلوه هو التعرف إلى سعيد بك، والتنويه بما له من الأيادي البيضاء في تاريخ الأحرار. ثم تلوا وصية مدحت ورحبوا بها كل الترحيب، وأعجبهم ما كان من قرار الجمعية بشأنها، وتحمسوا ووافقوا على الفتك، وقرروا إبلاغ ذلك إلى فروع الشعبة في رسنة وغيرها.
ولما انفضت الجلسة كان أول شيء فعله رامز أنه ذهب للبحث عن أم شيرين حتى علم أنها في منزل بعض أقاربها، فأخذ أباه معه لملاقاتها، وكانت تعرفه من قبل فرحبت بقدومهما. وسألها رامز عن شيرين وشأنها، فقصت عليه حديثها مع صائب وما دار بينهما، وعن ثباتها في حبه، وكيف اختفت بغتة. فأُعجِب بصدق محبتها وازداد أسفًا على ضياعها وعزم على البحث عنها، ثم قال: «لا بد من العثور عليها، إلا أن يكون ذلك الملعون قد حملها على الانتحار تخلصًا منه، ولكنها عاقلة لا تركب الرذيلة، وهي تعلم أني لا أزال حيًّا، بل هي تحب الحياة من أجلي كما أحبها من أجلها.»
فقال أبوه: «لا بد من الصبر حتى يأتي الله بالفرج. وأين طهماز؟»
فقالت: «لا أعلم أين هو، ولكنه كان مع صائب بك إلى آخر يوم.»
فقال رامز: «إنه الآن من أرباب الرتب المقربين في يلدز.»
فضحكوا رغم ما هم فيه من الحزن والقلق، لأنهم يعرفون حقيقة طهماز وأنه لا ينفع لغير الأكل، ولولا امرأته ما عرف أحد بوجوده.
•••
خرج رامز من هناك كاسف البال، ولم ييأس من لقاء شيرين، فبعث بعض الناس يبحثون عنها في القرى وفي كل مكان ظنها تذهب إليه، فلم يقفوا لها على أثر. واعتقد أن عبد الحميد وجواسيسه هم سبب هذا الشقاء، فازداد نقمة عليهم وأصبح يغتنم الفرص للتفاني في مقاومتهم.
مضت أيام وهو يعمل بمساعدة كاتب الجمعية في كتابة المنشورات ونسخها وتدبير من يوصلها إلى الجهات، وكانوا يرسلونها مع النساء غالبًا لبعد الشبهة عنهن في الاشتغال بالسياسة. وبينما هو في ذلك إذ أتته الدعوة للاجتماع في جلسة مستعجلة، وعينوا مكان الاجتماع، وكانوا يجتمعون للمداولة في خبر جديد أو حادث جديد أو تقرير أمر خطير. فلما عُقِدت الجلسة واستقر الأعضاء في أماكنهم قال الرئيس: «دعوناكم الليلة لأخبار عظيمة الأهمية جاءتنا من طريق مركز سلانيك، وقد حلها الأخ الكاتب وهو يتلوها. تفضل أيها الأخ اتلها علينا.» وأشار إلى كاتب السر.
تأخرت عليكم في إرسال الأخبار إذ لم أُوفَّق إلى من يحمل رسالتي إليكم هذه المرة، لأن التشديد في المراقبة أصبح فائق الحد وأصبح الطاغية يخاف من خياله ويشك في نفسه. إن أخباري هذه المرة حسنة ومهمة، اعلموا أولًا أن إصابة ناظم بك بالرصاص ومقتل سامي بك كان لهما تأثير شديد في نفسه وفي نفسي، بارك الله فيكم! أما هو فإنه قام وقعد والتف جواسيسه حوله وتملقوه وحضوه على التشديد والفتك، فعهد إلى شمسي باشا الفظ الغليظ القلب مهمة تعقبكم والفتك بكم. وقد أرسل الجواسيس — وفيهم صائب — لبث روح الشقاق بين العناصر والمذاهب، فاحذروا من هذا اللعين! واعلموا أن الطاغية خائف من اجتماع الكلمة فهو يبذل ما في وسعه لتفريقها، فوجهوا عنايتكم إلى مقاومة ذلك بإرسال المنشورات إلى المسيحيين من كل الطوائف تحذرونهم شر التفريق.
ويسرني أن أبشركم بأمر وُفِّقنا إليه ولم يكن في الحسبان، وذلك أن إحدى نساء السلطان فرت من القصر وهي شديدة النقمة عليه وتريد قتله، واسمها القادين ج ومعها الياور فوزي بك أحد قواد الحرس الألباني، والغالب أنهما قصدا ألبانيا لأن الياور المذكور منها. ويسوءني أن أخبركم بفقد الأخ الحبيب رامز، فإني علمت بوجوده في قصر مالطة فذهبت لأراه، فأُخبِرت أنه طُلِب إلى القصر في منتصف الليل ولم يرجع.
فحدث عند ذلك تمتمة وضحك وحركة، وتوجهت الأنظار إلى رامز.
ثم عاد الكاتب إلى القراءة فقال: «ومن غريب الاتفاق أن شيرين بنة طهماز الذي تعرفونه أتت يلدز من تلقاء نفسها، وأظهرت من البسالة وصدق السعي في مصلحة الجمعية ما يندر مثاله، وخاطبت السلطان خطابًا لم يجرؤ أحد على مثله!» فحدث ضجيج بين الأعضاء وشخصت أبصار الجميع لما يكون من تتمة الكلام. أما رامز فتسارعت دقات قلبه ونسي موقفه تطلعًا لما يأتي عن شيرين، وأتم الكاتب القراءة فقال: «وأبشركم بأنها نجت بعد أن وقعت في خطر القتل، وكانت من أكبر الوسائل المساعدة على فرار القادين المتقدم ذكرها. فإذا كان أخونا رامز لا يزال على قيد الحياة فإني أهنئه بها.»
فعاد الضجيج، وقام صادق بك ونادى رامزًا وهنأه.
ثم تلا الكاتب تتمة رسالة مركز سلانيك فقال: «مما جاء في رسالة أخينا الدكتور ن تتحقق حاجتنا إلى مقاومة مساعي أولئك الأشرار، وقد كتبنا صورة منشور إلى الأهالي والقبائل نرجو أن توزعوه بمعرفتكم. وكذلك تجدون مع هذا صورة عريضة رفعناها إلى قناصل الدول هنا تطلعهم على أحوالنا مع سلطاننا وحكومتنا، فوزعوا منها نسخًا على القناصل في جهاتكم لتكون أعمالنا مبنية على الحكمة والتعقل. ويسرنا أن نخبركم أن أخانا طوسون بك الذي تنكر بلباس الدراويش وسار لبث روح الجمعية المقدسة في الأناضول قد أفلح وأنشأ فروعًا من الشُّعَب في تلك البلاد انتظم فيها أكثر ضباط الفيلق الثالث.»
فلما فرغ الكاتب من تلاوة الرسالة تنفس الأعضاء الصعداء ولا سيما رامز فقد كان تأثيره مزدوجًا، وأهمه أمر شيرين لكنه صبَّر نفسه إلى الخروج من الجلسة. وأخذ الأعضاء يتباحثون فقال صادق بك بما عُهِد فيه من الرزانة في أحرج المواقف: «هذه يا إخواني أخبار مهمة تستوجب إعمال الفكر، وأهمها في نظري إرسال الجواسيس لبث روح الشقاق. وقد سبقنا إخواننا في سلانيك إلى نشر المنشورات في سبيل الوفاق بين الطوائف، وأرى أن نعيد الكرَّة ونذكر في منشوراتنا سعي الظالمين وأعمالهم، وأن نترجم هذه المنشورات إلى اللغات البلغارية والسرية والألبانية ونفرقها في الرؤساء ومشايخ القرى وزعماء القبائل والعصابات، فما رأيكم؟»
فنهض سعيد وقال: «إنه لنعم الرأي! وأنا أتولى تفريق هذه المنشورات بيدي.»
فقال صادق بك: «بورك فيك! إنك نِعم الصديق الأمين لأبينا مدحت، رحمه الله! إن هذه المهمة شاقة وكثيرة الخطر، إذ يعسر عليك الوصول إلى تلك العصابات وهي لا تستقر في مكان. ولكني أشير عليك أن تستعين في معرفة أماكنها بالأخ نيازي بك قائد طابور رسنه، إنه ذو حمية وبسالة، وقد قضى مدة في مطاردة العصابات البلغارية، وقد أحس البطل هادي باشا العمري حامي حمى الأحرار بتعيينه هناك، وإني أتوقع لهذا الشاب مستقبلًا مجيدًا. ونحن نعرفه ولكنه لا يعرفنا، إنه من إخواننا أعضاء هذه الجمعية المقدسة، فهو يعرف أحوال العصابات، فإذا لقيته فاستعن به في البحث عن أماكن رؤسائها.»
ثم استأنف صادق بك الكلام فقال: «وهناك أمر عظيم الأهمية أيضًا، أعني به مخابرة الدول على أيدي قناصلها بتقارير نشرح فيها حالنا مع سلطاننا ورجاله، حتى نُعذَر في نظرهم إذا مست الحاجة إلى التحكيم أو نحوه، وهذا العمل لا أرى فينا أليق به من أخينا رامز، لأنه لا بد من بحثه عن خطيبته الباسلة الحرة، وهو كاتب متضلع في اللغات الأجنبية، ففي طريقه يقوم بهذه المهمة.»
فوقف رامز وقال: «إنه لشرف عظيم لي أن يراني الأخ صادق بك أهلًا لهذه المهمة، وسأقضيها على الرأس والعين.»
فوقف صادق بك عند ذلك وقد أبرقت عيناه وبانت البسالة فيهما، وقال: «بقيت مهمة واحدة أطلب إليكم أن تسمحوا لي بها لأنها من واجباتي.»
ففهم الجميع أنه يعني قتل شمسي باشا، فتصدى ضيا بك قائلًا: «إن المهمة التي تشير إليها أيها الأخ الباسل نضن بيدك أن تمتد إليها، أنا أنوب عنك فيها.»
فوقف حبيب بك وأبدى مثل هذه الرغبة، فقال صادق: «نحن متفقون إذن على وجوب إزالة ذلك المخلوق الفاسد، ولا فرق في أن يكون أحدنا أو الآخر هو المنفذ لهذا العمل. وها أنا ذا أقسم اليمين.» وتقدم نحو القرآن والسيف فتسابق رضا وحبيب إلى هناك ووضع كلٌّ منهم يدًا على القرآن ويدًا على مسدسه وأقسموا اليمين المغلظة بقتل ذلك الرجل وغيره عند الحاجة في خدمة الحرية والدستور. فأثر ذلك في سائر أعضاء الجمعية، فهبت الحماسة فيهم ودبت الحمية في عروقهم دبيب الكهرباء، فنهض شاب من الأعضاء هو الملازم ك وقال: «لا يليق بأحد منكم أن يلوث يده بدم ذلك الفظ الغليظ، أنا أريحكم منه، ثقوا أني أفعل ذلك، ويجب أن أفعله وحدي.» قال ذلك وقد تجسمت الشجاعة في عينيه.
فهتفوا جميعًا: «فليعش الفدائي الحر!» وقال صادق بك: «هكذا تكون الحماسة والمروءة! كان الله معك أيها الأخ لكسر شوكة الظالمين.»
•••
ثم قال صادق بك: «والآن سيتلو عليكم الأخ الكاتب صورة المنشور، الذي سيُوزَّع على يد الأخ سعيد بك في رؤساء القبائل وزعماء العصابات البلغارية وغيرها. وبما أنه طويل أرجو أن يتلوه مختصرًا.»
إلى إخواننا المسيحيين من بلغار وصرب ويونان وألبان وغيرهم
قد مضى نصف قرن على الممالك الصغيرة المحدقة بمقدونيا — ونعني بها بلغاريا واليونان والصرب — وهي تزعم أنها تسعى في مساعدتكم وإنقاذكم من ظلم العثمانيين. فإذا صدقت في إنقاذكم من ذلك الظلم فلكي تبتلعكم وتضمكم لنفسها، فهي لذلك تبث روح الشقاق بيننا وبينكم حتى جرت الدماء أنهرًا. فيا إخواننا أبناء الوطن، قد آن لكم أن تستفيقوا وتعلموا أن تلك الحكومات إنما هي طامعة في بلادكم، واعلموا أن هذه الأمنية لن ينالها أولئك الطامعون، فسنبذل أرواحنا دونها. إننا نعترف لكم بفساد الحكومة العثمانية الآن، وحُقَّ لكم أن تشكوا منها، ونحن أيضًا نشكو نفس الشكوى، وقد قمنا لإصلاحها بأيدينا. وأول أسباب ذلك الإصلاح اتحاد العناصر العثمانية من ترك وبلغار وروم وألبان، ومن أجل ذلك أُسِّسَت جمعية الاتحاد والترقي العثمانية، وأعضاؤها هم أمراء العسكرية وضباطها والمأمورون الملكيون، وكلهم من خيرة رجال الشرف، يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل هذا الوطن. ومقصد الجمعية الأول هو الحرية وصون الأعراض والأرواح والأموال لكل العناصر، وتغيير شكل الإدارة، فتستعيض بالشورى عن الاستبداد. فلندع الأفكار القديمة والآراء الفاسدة ولنتحد جميعًا. فلتتحدوا معنا في طلب الدستور والمساواة … إلخ … إلخ.
سيدي
إن الحال التي بات فيها القسم المهم من وطننا وهو مقدونيا، والرغبة في إصلاحها وإعداد مستقبلها، حملنا على عرض السطور الآتية على مقامكم الرفيع مع كل إعظام. وقصدنا من ذلك هو إظهار الحق في مسألة مقدونيا وخلاص الدول الأوروبية من مزاحمة لا طائل تحتها.
إن مساعي أوروبا في إصلاح مقدونيا لم تنته بنتيجة ولم تغير الأحوال بوجه من الوجوه، بل هي انقلبت إلى ما هو أسوأ، وكثرت القلاقل واستولى ارتباك عام على كل أنحاء المملكة.
إن أصل هذا الفساد طمع روسيا في مقدونيا كما يشهد بذلك تاريخها الماضي، ونحن نأسف لأن دول أوروبا تسايرها. وقد اختلقوا مسألة ظلم المسيحيين فيها وأنهم تعساء تحت سلطة المسلمين، مع أنه ليس بمقدونيا تعصب إسلامي. نحن نقول قبل كل الناس إن سكان مقدونيا ليسوا في الرفاه المطلوب، وآراؤنا متفقة من هذه الوجهة مع أوروبا، إلا أن اختلافنا هو تعيين منشأ هذه العلة، وفي اتخاذ الوسائل الناجحة لعلاجها، فنكبات مقدونيا ليست ناشئة منها، وقد عم أمثالها الولايات التي تتألف منها المملكة العثمانية لا مقدونيا وحدها، وسببها هو استبداد الحكومة الحاضرة. والشيء الذي آل بالبلاد إلى هذه الحال التي لا تطاق هو فقدان الحرية العثمانية ملكية وسياسية.
فإن كانت أوروبا تريد حقيقة أن تسعد المقدونيين، فيجب أن تعينهم على إزالة الاستبداد الحاضر ليسعد العثمانيون عامة ويسعد معهم المقدونيون، لأن مرض مقدونيا هو مرض تركيا كلها، وسيزول بهمة أبنائها.
فإن كانت أوروبا تريد إصلاح أحوالنا إكرامًا للإنسانية، فعليها ألا تتعرض لما نريده من الإصلاح، وأن تضيق على الأستانة لتضع حدًّا للاستبداد، أو تتركنا وشأننا ندبر أمورنا ونصلح شئوننا. ولا رائد لنا غير الحق والعدل لهدم صروح الظلم. وقد قُدِّمت نسخة من هذا البيان لقناصل الدول إلا روسيا … إلخ.
ثم تقرر أن يُعطَى البيان الأول إلى سعيد بك ليتولى ترجمته إلى اللغات البلغارية والصربية واليونانية، ويكتب منه نسخًا يفرقها في القبائل والعصابات سرًّا، وأن يُعهَد في أمر البيان الثاني إلى رامز ليكتب منه نسخًا بالفرنسية ويقدمه إلى قناصل الدول. ثم ارفضَّت الجلسة وقلوب الأعضاء مملوءة آمالًا وحمية.
وعلى أثر ذلك سار رامز إلى توحيدة والدة شيرين، فقابلها وأسرَّ إليها مما سمعه عن نجاة ابنتها من يلدز وفرارها إلى جهة مجهولة، ثم أخبرها بأنه مسافر إلى بعض الجهات للبحث عنها، ففرحت فرحًا شديدًا وعادت إليها آمالها ومكثت تنتظر ما يأتي به القدر.