إعلان الثورة
وصل الركب بعد سفر شاق إلى قرية في ضاحية مناستير صاحبها من نصراء الجمعية، فكلفه سعيد تهيئة بيت لإقامة عائلة الأميرالاي. وكانت القادين قد ثقل حملها ودنا وقت وضعها، فارتاحت في تلك القرية وأعد لها سعيد كل ما يلزم من أسباب الراحة. وصحب الأميرالاي إلى مناستير وقدم اسمه للجمعية فقبلت عضويته، فأدخلوه وأقسم اليمين في الظلام وهم ملثمون كعادتهم عند قبول عضو جديد في الجمعية. وبعد خروجه قص سعيد على الجمعية ما كان من أمره مع جرجيس، ثم أخرج الورقة بإمضاء صائب وأطلعهم عليها، فتقرر بالإجماع أن سعي هذا الجاسوس من قبيل محاربة الحرية والدستور، وذلك أشد نكاية على الجمعية من الجند والسلاح، فتبرع أحد الفدائيين بقتله حالما يعرف مقره.
وبعد انفضاض الجلسة عاد فوزي بك إلى منزله، وذهب سعيد إلى توحيدة وقص عليها ما سمعه عن ابنتها فلطمت وصاحت: «ويلاه! إنه لا يزال يفكر في صائب وكل مصائبنا منه! لا ينبغي أن أبقى هنا، يجب أن أذهب إلى سلانيك، لا شك أن شيرين تكون في أشد الضيق، وأخاف أن تقبل الزواج بذلك المنافق ليأسها من بقاء رامز، فهي لا تعرف أنه حي. ويلاه! ما العمل يا سيدي؟!»
فقال سعيد: «لا حاجة بك إلى السفر، امكثي هنا حتى يأتي رامز لتخبريه عن شيرين، وأنا أذهب إلى سلانيك بدلًا عنك.»
فرضيت لعلمها أن سعيدًا واسع الحيلة، فقد يقوى على زوجها فيغير عزمه ويفض ذلك المشكل. فأخذ سعيد يتأهب للسفر، وفي صباح الغد أتاه رسول من كاتب الجمعية يدعوه إلى جلسة ستُعقَد في مساء ذلك اليوم لأمر مهم، فلم يسعه إلا الانتظار. ثم عُقِدت الجلسة وحضرها رجل يعرفه من خير الأحرار هو جمال أفندي رئيس بلدية رسنة مقر طابور نيازي بك، ويعرف ما بينه وبين نيازي من الصداقة والألفة. فلما تم عقد الجلسة قال الرئيس: «يا إخواني، دعوناكم لنطلعكم على أمر عظيم الأهمية، هو خطوة جديدة في أعمال جمعيتنا المقدسة، وسيؤدي بلا شك إلى نيل الدستور، وإن تكن أختنا أو أمنا جمعية سلانيك قد تقدمتنا بإعلان الفتك بالظالمين — وهي خطوة مهمة في أعمالنا — فإن شعبة مناستير هذه سيكون لها الحظ بأنها ستخطو خطوة أصعب مراسًا، نعني قيام الأمة معًا للمطالبة بحقوقها بإعلان الثورة. والفضل في ذلك راجع إلى شعبة رسنة، بهمة الأخ الغيور البطل نيازي بك، فإنه بعث إلينا صديقه أخانا جمال أفندي ليقص علينا ما هو عازم عليه، فأعيروه سمعكم.»
فأصغى الجميع لما سيتلوه جمال أفندي فقال: «يا إخوتي، نحن إذا فعلنا شيئًا أو استطعنا عمل شيء، فإنما نفعله بروح هذه الجمعية المقدسة التي ترشدنا وتهدينا وتأخذ بناصرنا. أما ما جئت من أجله فهو أن أخانا نيازي بك قائد طابور رسنة الذي تعرفون شجاعته في حروبه ببلاد اليونان، كانت الحكومة قد كلفته مطاردة العصابات البلغارية والألبانية، وقد طاردها بهمة وبسالة قد عرفتموها، فعلم بالاختبار أن الحكومة عاجزة عن مطاردة تلك العصابات، وأن قيام الأمة في وجه الظالمين على هذه الصورة باسم الحق والحرية أفضل وسيلة لنيل حقوقها، فكاشفني بهذا الأمر في ٢٨ يونيو سنة ١٩٠٨، ومعنا طاهر أفندي مفتش البوليس، وكلنا من أعضاء هذه الجمعية المقدسة. وقال لنا نيازي: عندي ٥٠٠ ليرة اقتصدتها من تعبي، ويمكننا أن نجمع حوالي مائتي رجل من أعضاء الجمعية والعساكر والقرويين ونهيئ لهم السلاح، وستشاركنا أوخري ورسنة أيضًا، فنشغل الحكومة في هذه الآجام أشهرًا. وفاتني أن أقول لكم إن المحرك الأصلي الذي حملنا على هذا القيام إنما هو أمر مضبطة روال التي تقضي بتقسيم مقدونيا وإعطائها إلى الأجانب كما تعلمون. ولا يمكنني كتمان ما رأيته من تحمس الأخ نيازي بك ونشاطه، فقد ذكر لنا أن رسنة ينبغي أن تبدأ بهذه الثورة، لأن البلغاريين بدءوا منها وجلبوا لنا هذا البلاء، وأنه ينبغي لنا أن نحب المسيحيين كإخواننا ونساوي بيننا وبينهم، ونعتبر أعراضهم أعراضنا وأرواحهم أرواحنا وأموالهم أموالنا، لأن نهضتنا إنما هي ضد الإدارة الفاسدة ولإعلان الحرية والمساواة والإخاء. كما ذكر أنه مرسل أخواته وأبناءه وامرأته بلا معين إلى مناستير ومودعهم وداعًا أبديًّا. فوافقناه على العمل، وأنفذوني إليكم لنستشيركم في ذلك.»
فلما فرغ جمال أفندي من كلامه عُرِضت المسألة على الأعضاء، فقال سعيد: «إنه نعم الرأي، وأنا أعلم منكم بصوابه لأني عانيت عذابًا شديدًا في البحث عن العصابات، ورأيت المشقة في مناوأتها، فعلمت أن الحكومة تعجز عن مطاردتها وهي شرذمة بلا نظام ولا تدريب، فكيف إذا كان يديرها جند منظم؟ اسمحوا لي أن أهنئ نيازي بك على هذا الفكر الجميل، وأن أشكره لقيامه به وتعريض حياته للخطر ولا سيما أنه لم يتم العام على زواجه.»
فاستأذن جمال أفندي في الكلام وقال: «ذكَّرتموني أمرًا جميلًا بهذا المعنى، وذلك أن نيازي لما عزم على تشكيل العصابة علم أن ذلك يقتضي ذهابه في الأرض والاعتصام بالجبال وتحمل مشاق الأسفار والأخطار، فذهب إلى عروسه وخاطبها بذلك فشجعته وقالت له: اذهب يا نيازي، لا وظيفة لك سوى الموت في مصلحة الوطن. فأرسلها مع عديله إلى أهلها.»
فوقف صادق بك وقال: «إن امرأة أخينا نيازي تذكِّرنا بخطيبة أخينا رامز، وإن أمة فيها مثل هؤلاء النساء لا يجوز حرمانها من الدستور. والآن لا أظنكم ترون مانعًا من الموافقة على مشروع الأخ نيازي بك، ولنرسل إليه التعليمات اللازمة. وعسى أن يكون عمله قدوة لسواه، إذ يشعر أهل القصر بأن الأمة برمتها غاضبة عليهم. وعلينا الآن أن نبلغ هذا الخبر إلى الجمعية المركزية في سلانيك.»
فوقف سعيد وقال: «أنا أقوم بهذه المهمة.» قال ذلك ليغتنم الفرصة للبحث عن شيرين هناك.
فقال الرئيس: «جزاك الله خيرًا. أظن رامزًا لم يعد من مهمته في مخابرة قناصل الدول؟ أين هو الآن يا تُرَى؟»
قال: «لم يرجع بعد، ولا نعلم أين هو، ولكنه لا يلبث أن يعود وقد أفلح بإذن الله.»
ثم ارفضَّت الجلسة وتوجه جمال أفندي ومعه التعليمات لنيازي بك، وشخَص سعيد بك إلى سلانيك وهو على أحر من الجمر، فبلَّغ الجمعية الخبر وسمع منها خبرًا لا يقل أهمية، وهو أن أنور بك قام لمثل هذا الغرض بمن معه من الجند، وكلفته الجمعية تبليغ ذلك إلى شعبة مناستير. ثم قصد منزل طهماز فوجد المكان قفرًا، فسأل الجيران فأخبروه أن ابنته شيرين جاءته ومعها خادمها، وبعد أن مكثوا أيامًا سافروا للبحث عن توحيدة، فسأل: «هل تعرفون البلد الذي قصدوه؟» فأجابوا: «كلا».
فأسف سعيد لهذا الفشل، ولكنه تجلد لأن الزمان علمه الصبر وأن الإنسان لا ينبغي أن يقلق ويضجر أو ييأس. فعاد إلى مناستير فرآها قائمة قاعدة، وقد وصل إليها شمسي باشا، وأخذ في التحري والبحث والتشديد، وقد دلَّه بعضهم على بعض أعضاء الجمعية فعزم على الفتك بهم. فعقدت الجمعية جلسة مستعجلة ثبَّتت فيها الحكم عليه بالإعدام، ونهض الفدائي وهو يبتسم لقيامه بهذه المهمة. وفي اليوم التالي ضجت المدينة لمقتل ذلك المشير على يد شاب ملازم أطلق عليه مسدسه بين ١٥٠٠ من أعوانه وغيرهم ونجا بنفسه سالمًا ولم يقف أحد على خبره. فكان لهذا الفتك تأثير شديد في قلوب أعداء الجمعية وتضاعفت هيبتها، ولا سيما بعد أن شاع خبر عصابة نيازي.
•••
كانت عصابة نيازي قد نجحت نجاحًا باهرًا، وطلب الانضمام إليها خريستو القائد البلغاري فقبلوه، فاكتسبوا بذلك ثقة البلغاريين. وقبل سفر العصابة كتب نيازي إعلانات بعث بها إلى القصر والمفتش العام وقومندان الجندرمة في مناستير وبكباشي الطابور في رسنة ومدير رسنة، وقال في كتابه إلى القصر: «إن الأمة تطلب الدستور، والجمعية صاحبة هذا المشروع مستعدة لخدمة الذات السلطانية دون أن تحاسبها عما سلف من السيئات، فنحن نريد الدستور فإن كانت الحكومة لا تمنحه طوعًا فالأمة ستأخذه عنوة.»
ولما آن السفر أخذوا يهتمون بصرف أنظار الحكومة عنهم لئلا تشعر بفرارهم، فارتأى نيازي أن يصرف اهتمامها إلى مكان خارج المدينة زعم أن عصابة بلغارية هاجمته، فخرج الجند إلى ذلك المكان فخلت الثكنة، فدخل هو ورجاله إليها وفتحوا صناديق الأسلحة وأخذوا ما وجدوه من النقود، وكتب نيازي صكًّا بذلك حُفِظ في صندوق الطابور.
خرجوا وهم ١٥٠ رجلًا قاصدين إلى لاحجة، فالتقوا بمن وافاهم إلى هناك، وشرح لهم نيازي خطته فقال: «إن خطتي الجهاد في سبيل الحرية إلى الممات، فمن لا يرضى فليرجع.» فوافقوه وساروا معه وجعلوا يطوفون القرى يدعون أهلها إلى الاتحاد معهم في طلب الحرية والدستور، ويحلِّفونهم على الثبات. وبذلوا الجهد في محاسنة غير المسلمين ومعاملة الأهالي بالرفق والعدل، وأدخلوا عددًا كبيرًا من الأهالي في الجمعية وفيهم النصارى والمسلمون على اختلاف الطوائف في أستاورة وأوخري وغيرهما. وكتب نيازي إلى جرجيس رئيس عصابة الألبانيين يدعوه إلى الانضمام إليه لمناهضة الحكومة الظالمة، وكتب بذلك إلى غيره أيضًا.
فلما علمت الحكومة في رسنة بخروج نيازي ورجاله بعثت جندًا للقبض عليهم فلم يعرفوا الطريق إليه، وساعدهم على الاختفاء أن الجمعية كان نفوذها قد تمكن في أهم المدن هناك، مثل أوخري ودبره وقروشيشته وغيرها. وانضم إليهم كثيرون من المغضوب عليهم الفارين من كل الطوائف. وكان نيازي يصرف الرواتب إلى رجاله مما جاء به معه، وإذا احتاج إلى المال أخذ من البلد الذي يكون فيه، وأعطى شيوخه صكًّا على الحكومة تقتطع قيمته من الضرائب.
وفي اليوم الثالث من خروجه كتب إلى الجمعية في مناستير بما فعله وبشرهم بنجاحه، وبعث منشورًا إلى نصارى مقدونيا ترجمه إلى لغاتهم يطلب إليهم نبذ الضغائن القديمة والاتحاد مع المسلمين لطلب الدستور، وأن هذا هو الغرض الأصلي لجمعية الاتحاد والترقي. واهتم بجمع كلمة القرى الإسلامية المتقاربة وتشكيل هيئات إدارتها وإحكام الصلح والوفاق بينها. وجمع إليه الهاربين من الجيش أو السجن ممن كانوا يضرون بالأهالي وأجمل لهم النصح، ودبر ما يمنع مضارهم، واجتذب قلوبهم بالعفو والملاطفة وحسن الأسلوب واتباع الحق والعدل، ودبروا طريقة لمخابرة رسنة وأوخري واتخذوا بريدًا وعينوا منازله.
واشتد أزر نيازي لمَّا بلغه قيام أنور بك مثل قيامه، وكان ينشئ في القرى التي يمر بها نوعًا من الحكومة الدستورية يوافق نظام الجمعية، وكان الناس ينضمون إليه ويؤازرونه. ولحقت به عدة عصابات وطنية.
فلما بلغت أخبار هذا النجاح إلى مناستير اشتد أزر الجمعية، فكتبت إنذارًا إلى والي مناستير تقول في جملته: «إن حكومتكم الحاضرة غير شرعية لأنها خالفت الدستور، وإن الجمعية تعمل على استرداده.» وكتبت إلى نيازي كتابًا ضمَّنته الأوامر والنصائح والأخبار، وفي جملة ذلك أن «شمسي باشا أُعدِم علنًا ونجا قاتله.» ففرح نيازي بذلك.
واضطربت الحكومة وأهمها الارتباك والفوضى فعينت الفريق عثمان باشا بدلًا من شمسي، فاجتمعت الجمعية وبحثت فيما تفعله فرأت الميل إلى الرفق، فقررت القبض عليه بدلًا من قتله، وبعثت تستقدم نيازي، وكان قد طاف كثيرًا من بلاد ألبانيا وعزم على المسير إلى يانيا، فقضى في تنقله أيامًا يجمع كلمة الناس باسم الجمعية، ويستحلفهم على الثبات ضد الظلم بلا تفريق بين المذاهب أو العناصر، فدخل في محالفته البلغار والصرب والألبان والأروام، وصار الرهبان يحتفلون بقدومه، ويتوسلون إلى الله أن يأخذ بيده، وهم يعدون الجمعية حكومة دستورية شرعية خفية.
فلما وصله الأمر بالمجيء إلى مناستير أسرع إليها وهو لا يعلم ما يُطلَب منه، وقاسى في سبيل عودته كثيرًا من المشاق حتى أتى ضواحي مناستير، فوصل إليه كتاب من الجمعية تأمره بالقبض على عثمان باشا، فحاصروه في مركز القومندانية وقطعوا الأسلاك التلغرافية، وجردوا الحراس من الأسلحة. وكان الباشا نائمًا فأيقظوه وأمسكوه من ذراعيه، وأفهموه ألا خوف عليه. ثم تقدم إليه نيازي وأخذ يقنعه بأنهم لا يريدون أذاه، وأن مقصدهم شريف، وأن المراد حمله ضيفًا إلى رسنة. وسلم إليه كتابًا من الجمعية قرأه فإذا عبارته لطيفة. وفيه ثناء على قدرته العسكرية وشجاعته، وأن الجمعية لا تنوي قتله كما قتلت شمسي باشا، بل هي تأسف إذا أُصِيبت شعرة من شعره بأذى. فسكت، فأخذوه إلى رسنة.
فلما رأت الحكومة انحياز فيلق مقدونيا إلى الجمعية، بعثت تستنجد فيلق الأناضول فانحاز إلى الجمعية، فسُقِط بيدها.
وأخذت الجمعية تزداد قوة وأملًا يومًا بعد يوم، وكانت تنتظر رجوع رامز من مهمته إلى القناصل. وفي أواسط يوليو من تلك السنة عاد رامز وطلب عقد الجمعية، وأخبرهم أن الدول لا ترى بأسًا من طلب الدستور ولا تقف في طريقهم إذا طلبوه.
فتباحثوا وقد أخذت الحماسة منهم مأخذًا عظيمًا، فقرروا طلب الدستور من القصر.
فوقف سعيد وقال: «أرى قبل الإقدام على هذا الطلب، وهو آخر خطوة نخطوها في عملنا، أن نستشير أخانا الجديد الأميرالاي فوزي بك، فإنه ذو معرفة وحنكة، وخطيبته من نساء عبد الحميد وتعرف أخلاقه.»
فاستحسن الجميع رأيه، وكلفوا سعيدًا أن يخابره، فاصطحب ابنه رامزًا وقص عليه خبر شيرين في أثناء الطريق، وكيف أنه ذهب إلى سلانيك ولم يجدها ولا يعلم أحد مقرها، فتجددت أحزانه.
•••
كان فوزي بك قد أقام بقرية بضاحية مناستير، فوصلوا إلى القرية في الضحى فوجدوه في الحديقة وأمارات البشر على وجهه. فلما رأى سعيدًا هشَّ له وتقدم لاستقباله، فتقدم سعيد وعرفه بابنه وسأله عن سبب تغيبه عن مناستير منذ أيام فقال: «إنه كان مشتغلًا بالقادين لأنها وضعت منذ بضعة أيام.»
فقال سعيد: «وماذا وضعت؟» قال: «وضعت غلامًا.»
وكان سعيد قد علم من حديث جرى بينه وبين فوزي بك أن الطفل ابن عبد الحميد، وهمَّ بأن يسأله عن شكله فأسرع فوزي بك وأخرج من جيبه صورة فوتوغرافية دفعها إلى سعيد وقال: «هذه صورة الطفل.»
فاستغرب سعيد تسرعهم في تصويره، فقال فوزي: «إن القادين طلبت ذلك بسرعة، وأرسلت الصورة إلى يلدز من بضعة أيام، وهي تعتقد أن إرسالها يسهل نيل الدستور على الجمعية.»
فتأمل سعيد في الصورة، ومرت في خاطره أفكار متضاربة، وتذكر حوادث كثيرة شبت فيها الحروب أعوامًا بسبب دعاة الملك المشكوك في أنسابهم. لكنه عاد إلى المهمة التي جاء من أجلها، فقص على فوزي بك نجاح الجمعية وقال: «إنها عزمت على طلب الدستور من السلطان، فرأيت أن نستشيرك في ذلك قبل الإقدام عليه، فماذا ترى؟»
قال: «أرى المبادرة إلى الطلب بلهجة شديدة، فإن السلطان ضعيف الآن وهذه فرصة لا تضيعوها.»
وكان رامز وهو يسمع الحديث ينزه نظره فيما حوله من الأشجار والرياحين، فوقع بصره على شبح بلباس النساء مر في طرف الحديقة البعيد بأسرع من لمح البصر فارتاب في أمره، لكنه رأى السؤال عنه فضولًا منه فسكت. ولم تمضِ بضع عشرة دقيقة حتى رأى أهل القصر في هرج، وقد قامت الصيحة وتراكض الخدم نحو الحديقة، فبُغِت فوزي بك وصاح فيهم: «ما بالكم؟!» فتقدم إليه أحد الخدم وهو يلطم ويقول: «الطفل! الطفل!»
فقال: «ما باله؟! ماذا جرى له؟!»
قال: «لا أدري، إنه يصيح من الألم وقد ازرَقَّ بدنه وغارت عيناه!»
فركض فوزي وتبعه سعيد ورامز فسمعوا بكاء القادين قبل الوصول إلى البيت، فدخلوا الدار ودخل فوزي إلى غرفة القادين، وبعد برهة عاد وهو يحمل الطفل ميتًا لا حَراك به، ويكاد جلده يكون أسود، فحالما وقع نظر سعيد عليه عرف أنه مات مسمومًا، فقال: «ماذا أطعمتموه؟»
قالوا: «لم نطعمه شيئًا.»
قال: «لا بد من أن شيئًا سامًّا دخل جوفه. انظروا من خدعكم …»
فالتفت الخادم إلى المرضع، فانتبهت لأمر جرى في تلك الساعة فصاحت: «ويلاه! لعل تلك الساحرة التي حنكته قد دست السم في فيه!»
فقال فوزي: «من هذه الساحرة؟!»
فأخذت المرضع في البكاء وجعلت تلطم وجهها وتقول: «اقتلوني، اقتلوني، أنا الشقية، أنا الجاهلة … إن المرأة أتتني في هذا الصباح وزعمت أنها ساحرة وطبيبة، وأنها تحنك الأولاد فيسمنون، وسحرتني بلطفها وحملت الطفل لحظة دخلت في أثنائها لغرض، فرجعت ورأيت الطفل وحده كالنائم، ثم سمعته يصرخ ويتوجع. ويلاه! أين هذه الملعونة؟!» وأخذت في النواح.
فقال رامز: «رأيت منذ ربع ساعة امرأة عليها إزار ملون مرت بسرعة من طرف الحديقة لعلها هي.»
فصاحت المرضع: «نعم، إنها هي بعينها.» وهمت أن تتبعها فقال فوزي بك: «ارجعي، إنك لن تدركيها. ولا بد من يد جانية حملتها على هذا العمل.»
فقال سعيد في نفسه: «إن مقتل هذا الطفل أنقذ الأمة من حروب أهلية في التنازع على الملك.»
وبينما هم في ذلك إذ رأوا رجلًا مسرعًا نحوهم ينهب الأرض نهبًا فتوجهت الأنظار إليه، ولم يقترب منهم حتى عرف رامز أنه خريستو خادم شيرين، فخفق قلبه تطلعًا إلى حبيبته، ومشى نحوه. لكن الخادم لم ينتبه له وصاح: «فوزي بك! فوزي بك!» وهو يلهث من التعب، فتراجع رامز وأجابه فوزي قائلًا: «ماذا تريد؟! ما بالك يا خريستو؟!»
فقال: «جئت لأنبهك إلى جريمة يسعى بعض المفسدين في ارتكابها، وأخاف أن أكون قد تأخرت لأني لم أكن أعرف هذا المنزل.»
فبُغِت فوزي وتحقق ظنه واقشعر بدنه لضياع الفرصة بتأخر ذلك الرسول، وقال: «نعم، لقد كنت آتيًا لتحذرنا من وقوع هذه الجناية وقد تأخرت!»
فصفق خريستو أسفًا وقال: «يا للخسارة! تبًّا لأهل البغي الأشرار!»
فقال البيك: «قل ماذا جرى، من هو مرتكب هذه الجريمة؟»
قال: «إنه جاسوس ملعون اسمه صائب باشا.»
فلما سمع رامز ذلك الاسم قَفَّ شعر رأسه وقال لخريستو: «أين هو صائب اللعين؟»
ولم يكن خريستو يلتفت إلى أحد من الحاضرين غير فوزي بك، فلما سمع صوت رامز أجفل والتفت إليه وصاح: «سيدي رامز أفندي! هذا أنت؟!» وأكبَّ على يديه وأخذ يقبلهما ويذرف الدموع … ثم تنفس الصعداء وقال: «الحمد لله الذي أراني وجهك سالمًا. ما هذه المصادفة؟! من لي أن أطير إلى سيدتي شيرين وأزف إليها هذه البشرى؟!»
قال: «أين هي الآن؟»
قال: «هي في ضاحية مناستير بالجانب الآخر مع أبيها.»
فابتدره قائلًا: «وصائب أين هو؟»
قال: «تركته في هذا الصباح هناك وفررت لنقل الدسيسة التي دبرها مساء أمس مع إحدى النساء على أن تدس السم للطفل، ولم يكن هذا اللعين عارفًا بمكان سعادة الأميرالاي إلا أمس، بعد أن ضعف شأن الحكومة وتحقق أن الجند مع الجمعية، فأراد أن يتمم مهمته بقتل الطفل خلسة، فعلمت أنه يدبر هذه الدسيسة فأسرعت لأخبركم، ولكن سبق السيف العذل!»
فقال رامز: «نأسف كثيرًا لفوات الفرصة!» والتفت إلى خريستو وقال: «هل صائب هناك الآن؟» قال: «نعم».
فالتفت إلى فوزي بك وقال: «أستأذن سيدي في الذهاب لعلي أظفر بذلك المنافق فأذيقه الموت.» وودعه مع أبيه ومشيا مع خريستو، فسأله رامز في أثناء الطريق: «ما معنى وجود هذا الملعون في بيت سيدك وشيرين هناك؟»
قال: «أقص عليك الخبر يا سيدي باختصار: إن سيدتي لما يئست من رجوعك يوم سفرك إلى يلدز، صمَّمت على الذهاب بنفسها إلى هناك واستعانت بي في هذا الأمر. فسافرنا إلى الأستانة ومنها إلى يلدز، فمكثت في يلدز بضعة أيام بين الخدم كواحد منهم. فلما عزمت سيدتي على الفرار مع القادين جئت في خدمتها، فوصلنا إلى سلانيك بعد مدة طويلة، فأحبت أن تسأل عن والدتها لأنها تركتها فيها، فاستأذنت من القادين وفوزي بك، وسرتُ في خدمتها إلى بيتها فوجدت أباها وحده، فرحب بها وأظهر لها كل العطف وقال لها: إن والدتك آتية قريبًا. فندمت على مجيئها إلى البيت لأن صائب باشا أتى في الصباح التالي لزيارة والدها، وقد صار باشا وتوسع في النفقة واللبس والبذخ. وسمعت سيدي مرة يحبب إليها صائبًا بأنه صار من أقرب المقربين إلى السلطان، وقد عول عليه في إنجاز أكبر مهامه لمعاكسة الأحرار، وأن رامزًا قُتِل ولا فائدة من انتظاره، ولا تلبث الجمعية أن تتمزق … وهي لا تجيب. وأخيرًا طلبت منه ألا يخاطبها في هذا الشأن مطلقًا، وهي إلى الآن لا تعرف أنك حي، ولكنها ثابتة في حبك. وبعد أيام سافر صائب باشا لا أدري إلى أين، وظلت شيرين مع أبيها وهي حزينة لا يلذ لها طعام ولا شراب، تسأل عن والدتها ولا تعرف مقرها، وقد سمعت من الجيران أنها في مناستير فطلبت إلى أبيها أن ينقلها إلى هنا فانتقل بها، وهو لا يأذن في خروجها ولا يسمح لها أن تكلم أحدًا. وقد ضيَّق عليَّ أيضًا وحبسني في البيت، وأصبح لا يكلفني أن أشتري شيئًا من السوق. فلما جئنا مناستير أنزلنا بالفندق الذي نحن ذاهبون إليه، وقال لسيدتي إنه بعث للبحث عن والدتها. وأنا لا أقدر على الخروج، ولو عرفت أنك هنا لهربت إليك. وكان صائب في أثناء هذه المدة يتردد على الفندق يحمل الهدايا ويتزلف ويتملق بكل وسيلة، وسيدتي لا تعيره التفاتًا، حتى سمعتُه أمس يخاطب تلك المرأة عن تسميم الطفل، ورأيته يدلها على بيت فوزي بك، وتحققت أن خروجي ينجي هذا الطفل من الموت، وأخبرت سيدتي شيرين فأمرتني بالخروج حالًا، لكنني تأخرت.»
فقال رامز: «تبًّا لهذا اللعين! ألا يزال يتعقبنا؟ قد انقضى أجله بلا ريب.» قال ذلك وأعد مسدسه وقد عزم أن يفتك به حالما يقع نظره عليه، وأصبح يرتعد من شدة الغيرة والتأثر. وأعاد السؤال عن شيرين وأحوالها ليلهو بالحديث بقية الطريق، وبعد مسيرة ساعة لم يجدوا في أثنائها مركبة يركبونها أطلوا على بيت ظهر لهم عن بعد بين البساتين، فقال خريستو: «هذا هو الفندق.» فأسرعوا في المسير، وعمد خريستو إلى الركض حتى سبقهما فرأياه وصل إلى الفندق ودخله، فأسرعا نحوه فإذا هو خارج يقلب كفيه من الفشل ويقول: «لم أجد في الفندق أحدًا.»
فبُغِت رامز وقال: «أين ذهبوا؟»
قال: «سألت صاحب الفندق فأخبرني أنهم بعد خروجي في هذا الصباح ركبوا وساروا إلى حيث لا يعلم.»
فقال سعيد: «يظهر أنهم شكوا في أمر خروجك وخافوا أن تبلغ خبرهم للجمعية، فانتقلوا إلى مخبأ آخر.» فوقف رامز مبهوتًا لا يقول شيئًا، فقال له خريستو: «دع ذلك إليَّ يا سيدي وأنا آتيك بخبره عاجلًا. أين أجدك؟»
قال: «اترك الخبر عند سيدتك توحيدة فإنها في بيت أهلها (ووصف له البيت)، وإذا اقتضى الأمر مكاتبتي فهذا عنواني.» وذكره له.
فقال: «حسنًا، اتركاني وانصرفا.»
فتركاه وعادا وهما لا يتكلمان، والنار تتأجج في قلب رامز ويتمنى أن يرى صائبًا ليأكله أكلًا، ولحظ أبوه فيه ذلك فقال: «دع ذلك عنك يا بني، وهلم بنا إلى الجمعية لنزف لها نتيجة مهمتنا في مشورة فوزي بك.»
وأبلغا الجمعية أن فوزي بك يرى الإسراع في طلب الدستور، فأرسلت إلى القصر برقية طلبت فيها إعادة مجلس المبعوثان.