بين شيرين وصائب
باتت شيرين تلك الليلة ونفسها تحدثها بشر تتوقعه. وكذلك شأن المرأة، فإنها كثيرًا ما يدلها شعورها على أمور لا يدركها الرجل إلا بإعمال الفكر والقياس العقلي، أما هي فتشعر وتحكم بناء على شعورها بلا برهان، ويصدق حكمها في أكثر الأحيان.
قضت معظم الليل في الهواجس وما طلع النهار حتى أخذت تنتظر مجيء رامز، وقد سرها خروج أبيها مبكرًا ليحلو لهما الاجتماع، ولم يكن وجود والدتها يعكر عليها صفو ذلك الاجتماع لأنها كانت مستودع أسرارها، وهي تحب رامزًا حبًّا كثيرًا وتعده بمنزلة شيرين لأنه ابن أختها.
ودقت الساعة العاشرة ولم يأتِ رامز، فزادت دقات قلب شيرين، وصارت تنتقل من النافذة إلى الشارع، ومن الباب إلى الدهليز، ثم تعود فتقعد، فإذا سمعت مشيًا نهضت تظن رامزًا قادمًا مع أنها تعرف خطواته دون خطى سائر الناس، ولكن القلق أذهب رشدها. فلما دقت الساعة الحادية عشرة ذهبت إلى والدتها، وكانت تساعد خادمتها في شئون المطبخ ليكون الطعام حاضرًا في الظهر، وإلا غضب زوجها وأسمعها كلامًا فظًّا. فلما رأت شيرين داخلة بادرتها قائلة: «هل أتى رامز؟»
فكان لهذا السؤال وقع شديد انفجرت له عواطفها فقالت: «لا، لم يأتِ»، وغصَّت بريقها.
فاستغربت توحيدة اضطرابها وقالت: «لم يفت الوقت، إن الظهر لا يزال بعيدًا، لا تقلقي.»
قالت: «أعلم ذلك، ولكن …» وسمعت حركة في الدار فأصغت فإذا هي خطى أبيها، فأمَّلت أن يكون رامز معه، فخرجت لملاقاته فوجدت أباها وحده داخلًا يتمايل عجبًا بقوته وقد زادته مواعيد صائب بالرتب إعجابًا بنفسه، فلما أقبل على شيرين حيته فرد التحية وابتدرها قائلًا: «ألم يُحضَّر الغداء؟ أين والدتك؟»
قالت: «هي في المطبخ تعده.» وهمت أن تسأله عن رامز فغلب عليها الحياء، فذهبت إلى والدتها وحرضتها على سؤاله.
فخرجت توحيدة من المطبخ وهي تجفف يديها بمئزرها وتصلح ذيل ردائها، وتأمر الخادم أن يهيئ المائدة لأن الطعام قد أُعِد، لعلمها أن ذلك يشرح صدر زوجها، فقابلها ضاحكًا فقالت: «ألم يأتِ رامز معك للغداء؟»
قال: «لم أره اليوم.»
قالت: «دعوته أمس للغداء معنا، وها هي ذي الساعة قد دقت الثانية عشرة ولم يأت!»
قال: «لعله استغرق في النوم وبعد قليل يأتي، لا تخافي.»
قال ذلك وهو يحل سيور حذائه، وقد أسرع إليه الخادم يساعده.
فلما سمعت شيرين قوله «لا تخافي» أدركت أنه يقول ذلك تهكمًا، فالتفتت إلى والدتها فرأتها تفهم مرادها، فقالت توحيدة: «لست خائفة، وما الباعث على الخوف؟»
قال: «أما الباعث على الخوف فإنه موجود، لأن رامزًا يتعرض لأمور كثيرة لا تعنيه ولا تنفعه وقد تضره، وإذا خاطبه أحد في سبيل مصلحته استخف به.»
ففهمت شيرين أنه يشير إلى حديث أمس، وأن أباها ناقم على رامز استخفافه بصائب، فتحولت من بين يدي أبيها إلى غرفة قريبة، وجلست تسمع صوته ولا تراه، فسمعت والدتها تقول له: «هذا شأنه، وهو يعرف حسابه.»
فقال بصوت عالٍ: «ولكن تردده إلى بيتنا يوقع الشبهة علينا.»
فعلمت توحيدة أن الكلام مع زوجها في هذا الشأن أصبح عبثًا بعد أن رفع صوته، وقد تعوَّدت طباعه وعرفت كيف تتجنب غضبه لأنها كانت عاقلة حكيمة، والمرأة إذا عاشرت زوجها زمنًا طويلًا يجدر بها أن تعرف ما يرضيه وما يغضبه، فسكتت توحيدة وأظهرت أنها مشغولة في المطبخ، فلحقت بها شيرين والدمع ملء عينيها وصاحت بها: «أماه! يا أماه، إن قلبي على مثل الجمر …!»
فأشارت بأصبعها على فمها أن «اسكتي»، والتفتت إلى الخادم وأمرته أن يذهب إلى مسكن رامز يسأل عنه، فذهب الخادم مسرعًا وما عتم أن عاد وقص عليهم أن ناظم بك أرسل جندًا للقبض عليه، وأخذه مع أوراقه إلى القصر.
فلم تتمالك شيرين أن لطمت خدها وقالت: «ويلاه! إن قلبي دلني على شر متوقع منذ أتانا ذلك الجاسوس، وها قد صدق ظني.»
أما والدتها فأخذت تخفف عنها لئلا يسمعها أبوها الذي كان في غرفة المائدة واقفًا يتناول قدحًا من الكنياك قبل الطعام، فلما سمع التهامس صاح بصوت كالرعد: «ما بالكم؟! ماذا جرى؟! هل أتى رامز؟»
فأسرعت إليه توحيدة وقالت: «إن ناظم بك قبض عليه وسجنه وصادر أوراقه.» قالت ذلك وهي تفرك يديها حسرةً وأسفًا.
فضحك طهماز وقال: «هذا ما كنت أخافه عليه لتهوره، ولكن لا تخافي إن صديقي صائبًا يقدر أن يخرجه من السجن، لأن ناظم بك يراعي جانبه لنفوذه، وسيأتي صائب بك بعد قليل فقد دعوته للغداء معنا.»
•••
وكانت شيرين منزوية في غرفتها، وقد استغرقت في البكاء لعلمها بالخطر الذي يهدد حبيبها، وهي تعلم أعمال رامز ضد عبد الحميد، فأيقنت من تلك اللحظة أن رامزًا مقتول لا محالة، فأخذت تندبه. فلما سمعت أباها يطمئن أمها ويذكر صداقة صائب لناظم تنفست الصعداء لحظة، ثم تذكرت أن صائبًا أصل هذه المصائب فعادت إلى البكاء. ولكن والدتها أظهرت التصديق، فدخلت عليها وجعلت تخفف عنها قائلة: «يقول أبوك إن صديقه صائبًا ينقذه بكل سهولة، وبعد قليل يأتي ونسأله.» قالت ذلك وأمسكت بيد شيرين كأنها تشغلها عن البكاء وهي تعتقد اعتقاد ابنتها، ولكنها أرادت تخفيف حزنها، وهي خائفة عليها لعلمها أن بين أوراق رامز أوراقًا لها لا تقل خطرًا عن أوراقه، لأنها كثيرًا ما كانت تساعده أو تكاتبه بمعنى الحرية والنقمة على عبد الحميد ورجاله.
فاجتذبت شيرين يدها من يد أمها، وغطت بها عينيها وهي تقول: «تسألون صائبًا إنقاذه وهو الذي أوقعه، دعيني … لا أغير اعتقادي فإن قلبي قد دلَّني.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع حوافر أفراس وقفت عند باب منزلهم، وهُرِع الخادم لاستقبال القادم، وكان هو صائب بك.»
فقالت توحيدة: «أتى الرجل. تجلدي وقومي للغداء لعله قادر على إنقاذه، وعهدي بك حكيمة واسعة الصدر، فما لي أراك تغيرت؟! لا يبعد أن يكون له نفوذ عند أولئك لأنهم من طينة واحدة. قومي، تجلدي.»
فنفرت وهي تهز رأسها هز الإنكار قالت: «قد فارقني جَلَدي، دعيني ولا تطلبي مني أن أرى هذا الشيطان وآكل معه، أأستبدله برامز؟!» ونهضت وأخذت تحل أزرارها وهي تقول: «إني مريضة لا أستطيع الجلوس.»
فاستحسنت والدتها أن تمكث شيرين في الفراش لئلا يشاهدها أبوها على هذه الحال فيغضب، وخرجت هي لملاقاة الضيف والترحيب به مراعاةً لحق الضيافة وخوفًا من غضب زوجها وأملًا في النفع على يده، فوجدته قد دخل الدهليز وأخذ يضع عصاه الذهبية على الحامل، فلما رآها أسرع إليها متأدبًا وحياها بلطف وانحناء وقد قبض على قفازه بيده الأخرى، ثم تقدم إلى طهماز فحياه وتلطف معه. فدعتهما توحيدة إلى غرفة الاستقبال وهي مفروشة على الطراز الإفرنجي فدخلا، وجعلت توحيدة ترحب به وتجامله.
ثم افتتح طهماز الحديث عن رامز قائلًا: «إن خوفنا على رامز كان في محله، وقد بلغني أنهم قبضوا عليه في صباح اليوم وأخذوه إلى السجن، ألم تعلم بذلك؟»
فأظهر صائب البغتة وقال: «هل الذي قبضوا عليه اليوم هو رامز؟! كنت عند ناظم بك منذ ساعة وأخبرني بالقبض على رجل من أعضاء الجمعية السرية، ووجدوا معه أوراقًا مريبة أرسلوها إلى يلدز، كما أرسلوا تلغرافًا بخبرها، ولم يخطر لي أن الرجل هو صديقي رامز، لا حول ولا قوة إلا بالله!»
وكانت غرفة شيرين بجانب حجرة الاستقبال، فكانت تسمع كل كلمة من الحديث، فسمعت أباها يقول: «ولكن رامزًا ابننا، وأنا أعد نفسي بمنزلة أبيه، وهو أيضًا صديقك، ألا تقدر على تخليصه من هذه الورطة؟»
فقال وهو يمشط لحيته: «لو أخبرتموني في الصباح لكان ذلك هينًا عليَّ، أما الآن وقد بلغت أخباره القصر وأُرسِلت أوراقه إلى الأستانة، فكيف السبيل إلى إنقاذه؟»
قال طهماز: «أنت تقدر يا بك.»
فأطرق صائب حينًا يفكر ثم قال: «أما إخراجه من سجن سلانيك فقد أصبح مستحيلًا، لكنني أبذل جهدي لتخفيف جرمه في الأستانة إذا أمكن، ولكنه سامحه الله لم يدع بابًا للمصالحة، أخبرني ناظم بك أن بين أوراقه ما يُدخِل كثيرين في الخيانة معه، وفيهم امرأة.»
فلما سمعت توحيدة قوله صعد الدم إلى وجهها وظهرت البغتة عليها، لعلمها أن هذه المرأة إنما هي ابنتها وأنها واقعة في الفخ لا محالة، ولكنها تجلدت وأصغت لعلها تسمع شيئًا جديدًا، وودت لو أن ابنتها مستغرقة في النوم حتى لا تسمع ذلك. ونهضت تظهر أنها تريد مخاطبة الخادم لإعداد المائدة ودخلت إلى غرفة ابنتها، فرأتها مستلقية وقد أصاخت بسمعها، فحالما أقبلت عليها قالت شيرين: «لقد سمعت كل شيء.»
قالت: «هل سمعت آخر فقرة؟»
قالت: «تعنين اتهام امرأة مع رامز؟ نعم، سمعت ذلك، وهذا عزائي الوحيد، لأني عند ذلك أُحمَل إليه فإما أن نموت معًا وإما أن نعيش معًا، هل أنا خير منه؟»
فيئست أمها وازداد حزنها لأنها كانت تحسب اتهام ابنتها، والأمل في النجاة على يد صائب، مما يجعلها تلين وترضى بمخاطبته لعله ينقذها. ولا شك في أنها تحب رامزًا ولكن حبها لابنتها في المكان الأول، فقالت: «نعم، يشق علينا وقوع عزيزنا رامز في الخطر، ولكن هل نلقي بأيدينا إلى التهلكة؟ وإذا كان في إمكاننا تخليصك فكيف لا نفعل؟ ولعلنا ننجي رامزًا أيضًا.»
فقطعت شيرين كلامها قائلةً: «تريدين إنقاذي على يد هذا الجاسوس؟ وهل صدَّقت زعمه أنه لم يكن يعلم وهو الذي وشى به؟ أنا لا أريد نجاتي على يده، بل أريد أن يؤكد تهمتي لأشارك رامزًا في حظه.» قالت ذلك واستلقت على سريرها وغطت وجهها بزندها، فتركتها والدتها وتوجهت إلى المطبخ وأمرت الخدم بإعداد المائدة، وأتت إلى زوجها فوجدته يتهامس مع صائب وهو يضحك، فلما رآها سألها عن الطعام فقالت: «تفضلوا إلى المائدة.»
فنهضوا فغسلوا أيديهم، وصائب يتوقع أن يرى شيرين قادمة إلى المائدة، فلما جلسوا ظل كرسيها فارغًا فقال: «إني لا أرى شيرين معكم، أرجو أن تكون في خير حال.»
فقالت والدتها: «إنها تشكو صداعًا أليمًا لم يفارقها من الصباح.»
فقالت طهماز: «ادعيها، لا بأس عليها!»
قالت: «ألححت عليها كثيرًا، وأنا آتية من عندها الساعة، فلم تقدر أن ترفع رأسها، واستولى عليها البكاء من شدة الألم.» قالت ذلك حذرًا من أن ينهض أبوها فيراها باكيةً ويتهمها بشيء آخر.
فقال صائب: «لا بأس عليها! هل علمت بحادث رامز؟ لا شك أنها تأسف كثيرًا له. سامحه الله! ما كان أغناه عن تلك الأعمال الصبيانية.»
وكان الطعام قد حضر وصُبَّ في الأطباق، واستغرق طهماز في الالتقام والمضغ فوضع صدر دجاجة كما هو في فيه، ولما سمع كلام صائب همَّ أن يجاوبه ولكن فمه مملوء، فاستمهله بأصابعه ريثما يبلع بعض اللقمة، ثم قال وهو يقطع الخبز ويهيئ لقمة أخرى: «كثيرًا ما نصحته فلم ينتصح. إنَّ شبان هذا الزمان لا يعجبهم العجب، لا يعجبهم سلطاننا — أيده الله — مع أنه من أحسن سلاطين آل عثمان، هل كان عبد العزيز أحسن منه؟ إنه لا يفوته وقت الصلاة مطلقًا، وفي الأستانة ألوف من الناس عائشون من بقايا مطبخه، فلو أُقفِلت يلدز الآن لمات هؤلاء جوعًا. ثم كيف يستطيعون مقاومة خليفة الرسول؟ كان ينبغي أن يكون لهم عبرة بالذين تقدموهم من أمثالهم الشبان المغرورين وكيف كانت عاقبة أمرهم، ماذا ينالهم من هذا العناد غير العذاب؟ ألا يرضون أن يعيشوا كما عاش آباؤهم وأجدادهم؟» وقد اختصر طهماز خطبته البليغة لئلا تضيع عليه لقمة وعاد إلى الأكل.
فقال صائب: «أنا لا ألوم الأحرار على التشكي من الخلل فإنه موجود، لكنني ألومهم لاستعمال العنف في مساعيهم كعمل المكايد لقتل الخليفة أو أعوانه والكتابة الشديدة في الجرائد الأجنبية. هذا لا يفيد، ولا بد من استعمال التؤدة.»
وكانت شيرين تسمع قوله، وتكاد تثب من السرير لتجاوبه، لكنها صبَّرت نفسها وسكتت.
•••
ولما فرغوا من الطعام تناولوا القهوة، ونهض صائب للانصراف فودع طهماز وزوجته ودعا لشيرين بالسلامة، وركب عربته وانصرف.
ودخل طهماز لمشاهدة ابنته فرآها نائمة فتركها وذهب للقيلولة، ولم تمضِ بضع دقائق حتى ملأ شخيره البيت. أما توحيدة فلم تنمْ لمَا تولَّاها من القلق على ابنتها، فضلًا عن خوفها على رامز.
وفي الأصيل نهض طهماز، وبعد أن تناول القهوة نادى امرأته إلى غرفته فأتت وهي تقول في نفسها: «ما الغرض من هذا الطلب يا تُرَى؟» فلما دخلت عليه دعاها للجلوس إلى جانبه فجلست، فقال لها: «بعد قليل يأتي صائب بك، ماذا نقول له؟»
فلم تفهم مراده فقالت: «عن أي شيء؟» قال: «عن شيرين».
ففهمت أنه يريد خطبتها له، ولكنها تجاهلت وقالت: «من أي جهة؟»
قال: «ألم تفهمي؟ لا يخفى عليك أن رامزًا المسكين لن ينجو من هذه الوقعة، وهو الذي رمى نفسه فيها، ولا شك أن شيرين تكون طائشة مثله إذا لم تفهم حقيقة مركزها. وقد تقدم صائب بك لخطبتها، وهو رجل وجيه صاحب نفوذ وثروة، وإذا صاهرناه نلنا العز على يده، وربما استطعنا بوساطته أن ننقذ رامزًا. لا يخطر ببالك أني أكره هذا الشاب، إن رامزًا بمثابة ابني كما تعلمين، لكنه طائش تأخذه الحدة ويتطاول إلى ما هو فوق طاقته حتى ألقى نفسه في ورطة لا نجاة له منها، وأخشى — والكلام في سرك — أن تقع الشبهة علينا غدًا لكثرة تردده إلى منزلنا فنقع في الشَّرَك، فإذا كان صائب بك صهرنا كنا في مأمن من ذلك كله.»
فرأت في كلامه تعقلًا لم تعهده من قبل فقالت: «أرى الحق في جانبك، ولكن هل نفعل ذلك دون استشارة شيرين؟»
قال: «نسألها، ولا أظنها تخالف رأي والديها.»
قالت: «لا نقدر أن نزوجها لأحد إلا بإرادتها.»
فهز رأسه وقال: «إن بنات هذا العصر مثل شبابه لا يعمَلن إلا ما يخطر لهن، في حين كنا في زماننا نلقي اتكالنا على آبائنا. وهذا هو سبب الشرور التي نراها تنتابنا الآن من كل ناحية، لم يعد يعجبنا العجب … نريد أن نتدخل في كل شيء، ونعمل على هوانا، حتى صرنا نطلب أن نشارك سلطاننا في الحكومة، وإذا أبى علينا ذلك نقمنا عليه وأردنا قتله، ما لنا ولذلك؟ فاذهبي الآن إلى شيرين وأقنعيها بوجه الحق، وأفهميها مركز صائب وأهميته.»
فنهضت توحيدة وهي على ثقة من رفض ابنتها، لكنها أطاعت زوجها ودخلت على شيرين وكانت قد تولاها الوسن لحظة، فلما سمعت وقع أقدام والدتها استيقظت مذعورة وجلست وهي تنظر إلى ما حواليها وتفرك عينيها لتتحقق أنها في يقظة، فلما رأت والدتها صاحت: «أماه أين رامز؟! أين رامز؟! ويلاه! إني في منام …» وعادت إلى فرك عينيها.
فأدركت والدتها أنها رأت رامزًا في المنام لفرط تفكيرها فيه، وتقدمت إليها وضمتها إلى صدرها وطبعت على عنقها قبلة طويلة، فأحست شيرين بالدمع يتساقط على عنقها سخينًا فأسفت لأنها سببت لأمها هذا الحزن، فتباعدت عنها قليلًا وتفرست في وجهها، وتوحيدة تحاول إخفاء دموعها بالابتسام فلم تقدر، فقالت شيرين: «قد سببت لك حزنًا وتعبًا يا أماه.»
قالت: «كلا يا حبيبتي، إن التعب لأجلك راحة، ولكنني لا أحب أن يستولي عليك اليأس، وعهدي بك عاقلة حازمة … اصبري ولا تستسلمي للحزن.»
فقالت شيرين: «صدقت يا أماه، لا بد من الصبر.» ومسحت عينيها وتنهدت تنهدًا خفيًّا وهي تصلح شعرها وتنظر إلى مرآة معلقة بالحائط المقابل لباب الغرفة المستطرق إلى الدار، فرأت خيال أبيها في المرآة يمشي حافيًا على رءوس أصابعه مسرعًا، فأجفلت عند رؤيته وظهرت البغتة في وجهها، ولحظت والدتها فيها لذلك فقالت: «ما بالك يا شيرين؟ ما الذي تفكرين فيه؟»
فأجابتها بصوت منخفض: «لا أفكر في شيء، لكنني رأيت أبي مارًّا من هنا، لعله استيقظ؟»
قالت: «نعم يا عزيزتي، وكنت معه الآن نشرب القهوة في غرفته، وإني قادمة من عنده.»
فدلَّها قلبها على شيء تكتمه والدتها، لأنها دقيقة الشعور إلى درجة التنبؤ فلا يكاد جليسها يهم بالكلام حتى تفهم مراده، لكنها كانت تسكت عن التصريح بما يجول في خاطرها فقالت: «لأمر ما أتيتِ إليَّ؟ خيرًا إن شاء الله؟»
فمدت توحيدة يدها إلى شعرات مسترسلة على جبهة ابنتها وجعلت تعبث بها كأنها تضفرها، وقالت: «لم آتِ إلا لخير يا حبيبتي.» وغَصَّت بريقها، وتلألأ الدمع في عينيها، فتداركت نفسها بالكلام فقالت: «قد كلمني أبوكِ في شأن صائب بك، إن الرجل سيعود إلينا بعد قليل.»
فأجفلت شيرين عند ذكر اسمه، وحوَّلت وجهها نحو الحائط وقالت: «ما لي وله عاد أم لم يعد؟ إني لا أريد أن أراه.»
قالت: «ليس الأمر أن تريه أو يراك فقط.»
ففهمت مرادها، لكنها استبعدت أن يقدم صائب على خطبتها بعد ما لاحظه من جفائها وتباعدها فقالت: «ما الذي يبغيه إذن؟»
قالت: «إن أباك خاطبني في شأنه، وكلفني إقناعك بقبول خطبته لك، إنه شاب وجيه غني مُقدَّم عند رجال الدولة، وهو الآن صاحب النفوذ الأكبر، فمثله لا يُرَد طلبه.» قالت توحيدة ذلك وهي لا تعنيه، لكنها تعلم أن زوجها لا بد أن يتلصص لسماع ما تقوله لابنتها لسوء ظنه بها، وتحققت ذلك مما قالته شيرين، فإنه دخل غرفة الاستقبال ليسمع ما يدور بينهما، وهي مع ذلك على ثقة من أن ابنتها سترفض ذلك الطلب بتاتًا.
أما شيرين فاستغربت كلام والدتها بهذه اللهجة مع علمها بما في قلبها من حب لرامز، فلاحظت أنها تقوله كأنها على مسمع من أبيها تتجنب به غضبه وفظاظته، فرأت أن تجاريها بالملاطفة للسبب نفسه فقالت: «فليكن كما يشاء، ما الذي يعنيني من أمره؟ إنه لا يعنيني.»
قالت: «إن أباك ألحَّ عليَّ أن أقنعك بأنه شاب يليق بك، وأنه قد يكون واسطة لإنقاذ رامز بنفوذه إذا قبلته.»
فأحبت شيرين أن تبقى على تجلدها، لكنها غُلِبت على صبرها فقالت: «إنقاذ رامز؟! أهو ينقذه؟ وإذا أنقذه فماذا يفيدني ذلك إذا كنت عند هذا الجاسوس؟ بل كيف ينقذه وهو الذي رماه في هذا الفخ؟ و…» فوضعت توحيدة يدها على فم شيرين، وأشارت بوضع سبابتها الأخرى على فمها إشارة السكوت خوفًا من سامع أو متلصص.
فأزاحت شيرين كف والدتها عن فمها وقالت: «ولماذا أسكت؟ بأي قلب تخاطبونني في هذا الشأن؟!» وغلب عليها البكاء. فلم ترَ والدتها خيرًا من تركها لئلا تقول ما يكدر أباها، وهو إذا غضب لا يُقدِّر عواقب ما يقوله، فتنحَّت عن سرير ابنتها وهي تقول لها: «إني تاركتك الآن ريثما تفكرين في الأمر، وسأعود إليك بعد قليل»، وأشارت بعينيها أنها تفعل ذلك محاذرة من طهماز. وخرجت وأغلقت باب الغرفة وراءها، وأظهرت أنها ذاهبة إلى غرفة زوجها لتخبره بما جرى، وهي تعلم أنه في حجرة الاستقبال، فما مشت خطوتين حتى رأته يمشي في أثرها فتظاهرت بالبغتة، وأومأت إليه أن يتبعها فدخلا غرفته وقالت له: «لا بد من الصبر يا سيدي، إن شيرين لا تزال منحرفة الصحة فلنتركها الآن.»
قال: «نتركها! ولماذا؟ وبعد قليل يأتي البك، ويجب أن نجيبه سلبًا أو إيجابًا، وأنا وعدته بالإيجاب فهل أكذب عليه أم كيف تريدين يا هانم أفندي؟» قال ذلك بتهكم وجعل يعبث بأخمص رجله اليسرى بأصابع يده اليمنى.
فاهتمت توحيدة بالأمر لعلمها أن زوجها لم يُعطَ الثبات والحزم إلا في معاكستها، فهو ضعيف مع كل إنسان، كثير الإصغاء والإذعان لأهل الدسائس، يُدار بكلمة ويُقاد بشعرة، إلا مع امرأته فإنه عنيد لا يرجع عن قوله لأنه يعد رجوعه ضعفًا، وكيف وهو رجل البيت لا يكون كلامه نافذًا؟ فلما رأت توحيدة تصميمه قالت: «لا بد من التأني يا سيدي، لأن شيرين مشغولة الخاطر على رامز مثلنا، فاتركني ريثما أخاطبها في فرصة مناسبة.»
قال: «بل هي منشغلة الخاطر عليه أكثر منا جميعًا، لأنها تريد أن تكون من الأحرار، ما شاء الله! هل تظنين سكوتي عنها في الماضي كان عن رضى وقبول بما كانت تأتيه؟ ولكني كنت أغتفر ذلك أحيانًا لأن رامزًا ابن خالتها، وكنت أتوقع أن ترعوي من نفسها فإذا هي لا تزداد إلا تماديًا حتى كادت توقعنا في ورطة لا خلاص لنا منها إلا على يد صائب بك، وقد تفضل علينا الرجل وحذرنا، بارك الله فيه! فكيف نقابله بالكذب أو الجفاء؟! ها أنا ذا قد صرحت لك بكل شيء، فهمت؟» قال ذلك وهو يشير بيديه متحمسًا، ثم أخرج سيكارة من صحن بين يديه وأشعلها، واتكأ وأخذ يدخن ولسان حاله يقول: «قد فعلت ما عليَّ، فافعلي ما عليك.»
•••
لم يبقَ شك عند توحيدة في حرج مركزها، فاستندت إلى الحائط وأخذت تفكر في الأمر، وقد بدا القنوط في محياها خوفًا على شيرين من دناءة ذلك الجاسوس واستبداد والدها، وهي تعلم جيدًا أن ابنتها لا تقبل غير رامز، فكيف إذا كان البدل مثل صائب؟ لكن خوفها على حياتها وحياة رامز هوَّن عليها الاقتناع برأي زوجها وهم في عصر كل شيء فيه جائز، عصر الجاسوسية والظلم، وقد أصبحت الأرواح والأعراض والأموال في أيدي الجواسيس يضعون من شاءوا ويرفعون من شاءوا، لا يتكلفون في ذلك إلا كلمة يقولونها بتقرير يرفعونه إلى ذلك الطاغية السفاح، وقد عرفت أناسًا ذهبوا غرقًا في البوسفور أو قتلًا بحد السيف أو بالسم وهم أبرياء، فخافت أن يصيب ابنتها شيء من ذلك وهي متهمة بالتشيع للأحرار، ولا بد أنهم عثروا على أوراق لها في جملة أوراق رامز فيها ما يكفي لإثبات التهمة عليها، وإذا أغضبت صائبًا تمت أسباب التعس لأنه يسعى في الانتقام لنفسه من رامز ومنها.
مرت تلك الخواطر أمام مخيلة توحيدة وهي مسندة كتفها إلى الحائط وقد أطرقت واستغرقت في لجج الأفكار، وزوجها مشتغل بالتدخين يتلهى بمراقبة حلقات الدخان وهي صاعدة، أو ينفض الرماد عن طرف السيكارة وإن لم يكن هناك رماد.
وبينما هي في ذلك إذ سمعت جرس الدار يدق، فاستيقظت من هواجسها وأسرعت دقات قلبها خوفًا من أن يكون القادم صائبًا فأصغت ريثما يفتح الخادم الباب، ولم يمضِ يسير حتى جاء الخادم مسرعًا وهو يقول: «أتى البيك، صائب بك.»
فهب طهماز من مجلسه حائرًا ولم يعرف كيف ينتعل حذاءه من البغتة والدهشة، وانصرفت توحيدة إلى بعض مهام البيت وهي تريد أن تعود إلى ما كان يريده زوجها من التحجب عن كل زائر لتخلص من رؤية هذا القادم، مع أنها التي حملته على التساهل في أمر الحجاب جريًا على مقتضى التمدن الحديث، على أن الأتراك ولا سيما في سلانيك كانوا قد خففوا الحجاب على الإجمال، فالمرأة تجالس الرجال وتمشي في الأسواق، ولكن طهماز لم يكن يأذن أن تلاقي زوجه غير الأخصَّاء مثل صديقه صائب.
فودَّت توحيدة في تلك الساعة أن تكون محجبة، لأنها كرهت أن تعود إلى موضوع خطبة هذا الرجل لابنتها على رغم اهتمامها بأمره بعد ما سمعته من التهديد، فتولتها الحيرة وأخذت تنتقل بين غرف الدار وهي تسمع قرقعة عصا صائب وهو يضعها على الشماعة. ثم سمعت طهماز يرحب بضيفه العزيز ويدعوه إلى حجرة الاستقبال، فخطر لها أن تتفقد ابنتها لترى حالها بعد سماع جرس الدار وعلمها بقدوم صائب، فدخلت عليها فوجدتها قد توسَّدت الفراش وأحاطت رأسها بعصابة كأنها تشكو صداعًا، فهُرِعت إليها وأخذت تجس يدها لئلا تكون محمومة فلم تجد بها بأسًا، فضمتها وقبَّلتها وهي تقول: «ما لك يا عيوني؟ ممَّ تشكين؟»
فأجابت شيرين بصوت ضعيف: «أشكو من صداع خفيف، لا تخافي.»
فقبَّلت جبينها وكأنها تجسه بشفتيها لتتحقق خلوَّه من السخونة، ثم قالت: «توسَّدي يا حبيبتي، نامي إن النوم يخفف الصداع»، فقالت: «أنا أحاول النوم جهد طاقتي.»
وأرادت توحيدة بإغراء شيرين بالنوم ألَّا تسمع ما قد يدور بين أبيها والضيف من الحديث الذي يؤلم عواطفها لقرب غرفتها من حجرة الاستقبال، فسرها أنها أذعنت حالًا ونامت بدون أن تبدل ثيابها. وخرجت توحيدة وهي تسمع صوت زوجها يناديها، فأصلحت من شأنها ووضعت الخمار على رأسها ودخلت، فوقف صائب بك يهش لها ويرحب بها وقال: «إني في غاية الامتنان للطف سيدي طهماز بك وأنسه، فإنه يعدُّني من أهل المنزل كأحد أولاده، وأنا أعلم أنه لا يفعل ذلك مع كثيرين، وهذه هي المرة الثانية التي أجيء فيها إليكم. تفضلي اجلسي.» قال ذلك وجلس.
فجلست باحترام وهي ترحب به مجاملة، فوقع نظرها على ورقة في يد طهماز يتصفحها وهو يبتسم ولسان حاله يقول: «اسألوني عن فحواها.»
فأدركت توحيدة غرضه فقالت: «ما هذا يا سيدي؟» وأشارت إلى الورقة.
فقال: «تلغراف من الأستانة.» وأبرقت عيناه.
فتبادر إلى ذهنها أنه تلغراف بإطلاق سبيل رامز، فتسارعت دقات قلبها وهمَّت أن تخطفه من يده لتقرأه، لكنها أمسكت نفسها تأدبًا وقالت: «لعله عن رامز؟» فهز كتفيه وقال وفي صوته غنة دلال أو مداعبة: «لا، ولكنه لشأن آخر لا أقوله لك.»
فلم يرق لها ذلك الدلال، ولكنها تجلدت وقالت: «أي شأن يا سيدي؟ هل يهمني أن أعرفه؟»
فضحك وقال: «طبعًا يهمك، لأنه شأن زوجك. لا تخافي ليس فيه أمر بالنفي أو السجن والحمد لله.»
فتناول صائب الحديث وهو يتواضع وقال: «طبعًا لا ينبغي أن يكون فيه شيء من ذلك، لأن المخلصين للذات الشاهانية يعامَلون غير معاملة الخوارج المارقين»، وتشاغل بإصلاح نظارته لحظة وتنحنح ثم قال: «هذا تلغراف يا سيدتي من أحد أصدقائي بالقصر ينبئني فيه بأن مولانا الخليفة — أعزه الله — قد أنعم على سيدي طهماز بك برتبة سنية بناءً على ما تحققوه من صدق ولائه للذات الشاهانية.»
فقطع طهماز كلامه قائلًا: «ومن أين عرفوا ذلك لو لم يتفضل سعادة البيك بإبلاغه إليهم؟ فأنت صاحب الفضل في هذه الرتبة.»
فأخذ صائب يتلطف ويتواضع ويتظاهر بأنه لم يفعل شيئًا، وأن طهماز إنما نال تلك الرتبة عن استحقاق لإخلاصه ولمَا يرجوه أمير المؤمنين من الخدمات النافعة على يده. وطهماز يجيب معتذرًا متواضعًا، وتوحيدة بينهما جامدة كالصنم لاشتغال خاطرها بما تخافه من حديث زوجها بشأن الخطبة أو ما يجري مجراها، فأحبت أن تشغلهما عن هذا الموضوع فقالت: «ألم يعلم صائب بك شيئًا عن رامز؟»
فتزحزح صائب عن كرسيه وهو يظهر الاحتفاء بحديث توحيدة وقال: «نعم يا سيدتي، إن أمر هذا الشاب أهمني كثيرًا نظرًا لما علمته من علائق القربى بينكم وبينه، وقد سألت ناظم بك عما جرى في شأنه فقال: إنه جاءه تلغراف من القصر يطلبون فيه توجيه رامز إلى الأستانة، وأظنهم يحملونه إليها بقطار الليلة.»
فأجفلت توحيدة وندمت لأنها فتحت هذا الحديث وخافت أن تسمعه ابنتها، فأرادت تحويله فلم تجد غير الرجوع إلى حديث الرتبة فقالت: «ينبغي أن نشكر لك سعيك في هذه الرتبة.»
فقطع طهماز كلامها قائلًا: «وسنشكر فضله أكثر من ذلك متى نجح سعيه في سبيل رامز، لا أظن ذلك يصعب عليه، أين ابنتنا شيرين؟»
قالت: «لا تزال مريضة، وقد مررت بها قبل مجيئي إلى هنا فوجدتها نائمة مشدودة الرأس من صداع طرأ عليها.»
فقال وهو يتناول سيكارة من علبة بين يديه ويقدمها إلى صائب: «طبعًا أصابها الصداع من الحزن، ولكن …»
فقطع صائب كلامه قائلًا: «ألا يحق لها أن تحزن والشاب ابن خالتها وقد تعاشرا كالأخوين؟ إني قاسيت كثيرًا ومرت بي أحوال عديدة، ومع ذلك فإن أمر رامز أقلق راحتي، مسكين! سأبذل جهدي في التخفيف عنه، وأنا أعد ذلك واجبًا عليَّ بالنظر لمَا لاقيته من مؤانسة سيدي البيك وحضرة هانم أفندي (وأشار إلى توحيدة)، وأود لو أستطيع أن أفعل شيئًا يخفف عن شيرين، لأني أشعر بانعطاف خاص نحوها بعد ما آنسته من آدابها ولطفها وحسن تربيتها حفظها الله!»
قال ذلك ومدَّ يده إلى جيبه وأخرج علبة مكسوة بالمخمل المزركش، وقال وهو يفتحها: «وأظن مما ألاقيه من لطفكم أن شيرين تشعر نحوي بمثل ما أشعر به نحوها، فإذا قبلت هذه الهدية مني تحقق ظني، وعندئذٍ أعد نفسي سعيدًا.»
ثم وجه خطابه إلى توحيدة وقال: «لا تستغربي يا سيدتي هذه الجرأة مني، فإن سيدي طهماز بك جرأني على ذلك.» وقدم العلبة مفتوحة إلى توحيدة، فوقع بصرها فيها على قطعة من الحلي على هيئة الطائر، مرصعة بحجارة من الماس والياقوت، يأخذ لمعانها بالبصر، لا يقدرها العارفون بأقل من خمسمائة جنيه. فتناولت العلبة ويدها ترتجف من الارتباك، لعلمها أن شيرين لا يرضيها شيء من ذلك، ولم تعرف بمَ تجيب، فأجاب طهماز عنها قائلًا: «إن شيرين عاقلة، وهي من بنات هذا العصر اللواتي اختبرن وطالعن، فهي لا تجهل مركز صائب بك، وستقبل هديته مع الامتنان»، وتناول العلبة وجعل يتفرس في أحجارها ولمعانها وقال: «أنا أقدم لها هذه الهدية عنك.» قال ذلك ونهض وهو يتهادى في مشيته والعلبة في يده، فتبعته توحيدة وقلبها يختلج خوفًا مما تخشى وقوعه على أثر تلك المقابلة.
وكانت شيرين متوسدة الفراش وأذناها مصغيتان لما يدور من الحديث في حجرة الاستقبال فلم تفتها كلمة قيلت هناك، فلما سمعت قول أبيها وعلمت أنه مشى نحو غرفتها ارتعدت فرائصها وغلب عليها الغضب، وودَّت لو أنهم أعفوها من تلك المقابلة، لكنها ما لبثت أن سمعت سعال والدها بالباب. وأسرعت والدتها أمامه تسترق الخطى نحو سريرها وهي تحسبها نائمة، فإذا بشيرين قد جلست وأخذت تفرك عينيها فقبَّلتها والدتها وقالت لها: «بمَ تشعرين الآن يا شيرين؟»
فلم تجبها، لكنها تجلدت وحوَّلت نظرها نحو الباب فرأت أباها داخلًا وقد أخرج الحلية المرصعة من العلبة، وتقدم نحوها بلطف لم تعهده فيه من قبل، حتى إذا دنا من السرير تبسم وهو يتجشأ وقدم الحلية إليها قائلًا: «كيف تجدين هذا الطائر يا بنية؟ ألا تستلطفينه؟»
فتباعدت شيرين عن الحلية كأنها تخاف أن تلسعها، ولم تجب. فتفرس أبوها في وجهها وهو يضحك وقال: «لا تخافي، إنه لا يعض بل هو حلية ثمينة تليق بعنقك الجميل»، وقربه نحو صدرها.
فتراجعت وهي لا تنظر إليه ودفعت يده عنها بلطف، فقال: «ما بك؟ ألا تزالين مريضة؟»
فسرَّها سؤاله لأنه فتح لها بابًا للكلام فقالت: «نعم يا أبي، إني أشكو صداعًا شديدًا»، وأظهرت ميلها إلى الرقاد.
فأمسكها بذراعها ليمنعها من النوم وقال: «إذا كنت تشكين صداعًا فضعي هذا الطائر على رأسك فإنه يشفيه.» ورفعه إلى رأسها.
فردته وأظهرت التمنع، فأظهر أنه عاتب عليها وقال: «أقدم لك هدية وترفضينها يا شيرين؟!»
فنظرت إليه نظر الاستعطاف وقالت: «إنك أبي وتقدر أن تأمرني بما تريده فأطيعك إلا هذا الأمر، فإني لا طاقة لي به.»
فقال: «لا أظنك فهمت مرادي، إني أقدم لك هدية ثمينة جاءنا بها صديقنا صائب بك.»
قالت وصوتها يرتجف: «إذا كان صديقك قدمها لك فالبسها أنت وأعفني منها.»
قال: «إنها هدية لك وليست لي.»
قالت: «لا أعهد بيني وبينه ما يسوِّغ له تقديم هدية من هذا النوع.»
قال: «إن الرجل ذو فضل علينا وقد أراد إكرامنا، أيليق بنا أن نرفض إكرامه؟»
قالت: «يمكنك أن تقبل ما يقدمه لك، أما أنا فلا.»
فأظهر الغضب وقال: «أنا أقول لك اقبليها.»
فلم تعد تستطيع صبرًا على الكظم، فقالت وقد ارتفع صوتها رغم إرادتها: «لا، لا … لا يمكنني قبولها يا سيدي.»
وكانت والدتها واقفة وقد تولتها الحيرة، ونظرًا إلى لهفتها على ابنتها وأملها في إنقاذ رامز بمساعدة صائب مالت إلى أن تقبل شيرين ما يعرضه عليها أبوها فقالت: «لا تتشبثي برأيك يا شيرين يا حبيبتي، افهمي المقصود أولًا ثم قولي ما يبدو لك.»
فالتفتت إلى والدتها لفتة العتاب وقالت: «وأنت أيضًا يا أماه؟!» وغَصَّت بريقها وبان الدمع في عينيها، فكان لذلك المنظر وقع شديد على قلب والدتها فسكتت. فعاد أبوها إلى الكلام فقال: «ألا ترينني أطيل صبري عليك وأتلطف في محادثتك؟ أصغِ لما أقوله لك، أنا أعلم أنك غاضبة مما أصاب عزيزنا رامزًا اليوم، ولكن …»
فقطعت كلامه ولم تعد تملك حبس نفسها عن البكاء، فأدارت رأسها نحو الحائط وأكبت على ذراعها فوق الوسادة وبكت همسًا، لكن والدها عرف بكاءها من اهتزاز كتفيها فغضب لأنها قطعت كلامه بالبكاء وقال: «وتبكين أيضًا وأنا أتزلف إليك وأراعي خاطرك؟ تبكين لذكر رامز وهو الذي جر البلاء على نفسه وعلينا وأنا أسعى في ترقيع ما مزقه بطيشه؟ ألا تعلمين أنه أوقع نفسه في غضب البادشاه؟ وأخشى أن يكون أوقعنا معه. وقد وُفِّقت بمعونة الله إلى من ينقذنا من هذه الشرور عند الحاجة، أعني صديقي صائب بك، وهو مع ذلك يعرض علينا مودته فكيف ترفضينه بهذه الفظاظة؟ قومي، اجلسي …» وأمسكها بذراعها يريد إجلاسها، فانطوت على نفسها وظلت مكبَّة على ذراعها وقد أغرقت في البكاء.
فالتفت طهماز إلى توحيدة وهز رأسه استنكافًا من تصرف ابنته، فوقعت توحيدة في حيرة وخافت الفضيحة فأشارت إلى زوجها إشارة الاستمهال، وأومأت إليه بعينيها أن يخرج ويتركها معها على انفراد فربما استطاعت إقناعها، فتنحَّى إلى بعض جوانب الغرفة ثم خرج، فعلمت شيرين بخروجه من صوت مشيه ومن سعاله وهو خارج، ثم سمعت والدتها تهمس في أذنها قائلةً: «لا يليق يا حبيبتي أن تجيبي أباك على هذه الصورة، ولو علمت ما فعلوه برامز بعد القبض عليه لما …»
فقطعت كلامها قائلة: «لقد علمت بكل شيء.»
فقالت: «هل علمت أنهم سيأخذونه الليلة إلى الأستانة بأمر من السلطان؟»
قالت: «نعم، وأنا أتوقع أعظم من ذلك.»
قالت: «فتبصَّري إذن المركز الحرج الذي نحن فيه، وأنا على يقين أننا إذا سايرنا صائب بك فإنه ينقذ رامزًا وينقذنا إذا لحقتنا تهمة بسببه. بالله ألا خففت من جفائك وسايرت أباك بحسب الظاهر لنرى ما يكون! قومي قبلي يده وخذي الهدية فإنها لا تقدِّم ولا تؤخر.»
فرفعت شيرين رأسها عن الوسادة وقد احمرَّت عيناها كأنها محمومة، وتكسرت أهدابها من فرط البكاء وقالت: «لم أكن أحسبك تصدقين الأكاذيب أو تنخدعين بأقوال المنافقين. وهبي أن الرجل صادق فيما يقول فإني لا أستطيع أن أتصوره ولا أقبل شيئًا منه، لا تتعبي نفسك.»
قالت: «أخاف أن تندمي يا شيرين إذا علمت بعدئذٍ أنه كان في إمكانك أن تنقذي رامزًا من الخطر ولم تفعلي.»
فصرَّت بأسنانها وهي تتنهد وقالت: «لا، لن أندم لأن هذا الرجل الذي يدعي الغيرة علينا وعلى رامز هو الذي رماه في ذلك الفخ.»
فغطت توحيدة فم شيرين بكفها مخافة أن يسمعها أحد، وقالت بصوت ضعيف: «لا نقدر أن نثبت هذه التهمة، وما علينا إلا أن نتبع الكاذب إلى باب الدار.»
فبادرتها قائلةً: «كفى يا أماه، إني لم أعد أستطيع صبرًا على هذا الجدال، إن موتي وموت رامز أهون عليَّ من قبول هذا الرجل.» قالت ذلك وشَرِقت بريقها وعادت إلى البكاء.
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع أقدام طهماز داخلًا الغرفة وهو يقول: «اسمعي يا توحيدة إن صائب بك يحب أن يكلم شيرين رأسًا، لعلها تقتنع بكلامه.»
فلما سمعت شيرين قوله وثبت عن السرير ووقفت وأسندت يدها إلى إحدى قوائمه وقد حوَّلت وجهها عن باب الغرفة، كأنها تحاذر أن يقع بصرها على ذلك الرجل الذي لا تقدر أن تتخيله.
فأعاد طهماز كلامه قائلًا: «إن صائب بك يريد أن يكلم شيرين على انفراد.»
فارتبكت توحيدة من هذا الاقتراح لأنه يخالف العوائد المألوفة، ونظرت إلى زوجها كأنها تستشيره فقال: «دعيهما فربما كان صائب بك أقدر على إقناعها منا، وهو لم يقدم على ذلك طبعًا إلا لشدة محبته. وأظن شيرين لا ترفض هذا الطلب مني أيضًا.»
أما شيرين فاستجمعت رشدها وتجلدت، وأحست بميل إلى مخاطبة غريمها وهي في تلك الحال من الغضب، لتقول له في وجهه ما تعتقده فيه وتشفي غليلها بتوبيخه وتعنيفه، والتفتت إلى أبيها وقالت: «لا بأس من دخوله.»
كان صائب واقفًا بالباب ينتظر الإذن في الدخول، فلما سمع كلام شيرين استبشر كما استبشر أبوها أيضًا. ثم خرج أبوها من الغرفة ودخل صائب وهو ينظر إلى شيرين نظر المحب الولهان، ويتشاغل بإصلاح نظارته بإحدى يديه وقد حمل بيده الأخرى العلبة وفيها الحلية المرصعة. فلما دنا منها وهي واقفة بجانب السرير التفتت إليه شزرًا وقالت: «ما الذي تريده يا سيدي؟»
فتقدم بلطف كأنه يحاذر أن يدنو منها وقال: «أريد رضاك.»
قالت: «وما الذي يهمك من رضاي؟»
قال: «ذلك كل ما يهمني، فإذا حصلت عليه فقد حصلت على السعادة، وتكونين أنت سعيدة أيضًا، بل تكونين أسعد مخلوقة على وجه الأرض.» قال ذلك بنغمة التذلل والتودد.
فقالت: «أية علاقة بين سعادتي وسعادتك؟»
فابتسم وقال: «لأنك إذا رضيت وقبلت هذه الهدية الحقيرة بذلت نفسي في سبيل سعادتك.» وقدم العلبة إليها فتباعدت هي عنه، وخبأت يدها وراء ظهرها وهي تقول: «أنت لا تقدر أن تجعل أحدًا سعيدًا.»
فاستبشر بذلك التوبيخ وقال: «جربي يا شيرين وانظري، فإنك ترين مني خادمًا مطيعًا أصدع بأوامرك وأكون طوع إرادتك، فأبذل جهدي في كل ما تريدينه.»
فقالت: «أصحيح ما تقول؟»
فسرَّه سؤالها وتأكد رضاها، فقال بلهفة: «أقسم لك أني أفعل ما تريدينه.»
فقالت: «إن غاية ما أريده أن تكون بعيدًا عني، فإذا كنت صادقًا فيما تقول فانصرف بسلام.»
فنظر إليها نظر العتاب وقال: «أبمثل هذا الجواب تقابلين توددي؟ ثقي يا شيرين أني مفتون بك، لا أدخر وسعًا في سبيل نيل رضاك.»
فقطعت كلامه قائلةً: «أكان من عظم حبك لي وشغفك بي أنك رميت ذلك الشهم الحر في أعماق السجن؟»
فتحمس عند سماع كلامها وقال: «أنا رميته في السجن؟! أعوذ بالله! أنا رميته؟! إنما رماه طيشه وسوء تدبيره. ولكني مستعد أن أنقذه من الفخ إكرامًا لعينيك.»
قالت: «تنقذه من الفخ! ومن رماه فيه سواك؟»
فبالغ في الاستغراب وقال: «أنا؟! أنا رميته؟! ارجعي إلى رشدك»، وأظهر الاستخفاف بقولها ليبعد التهمة عنه. وقرب يده والعلبة فيها وقال: «دعي الأوهام عنك وارجعي إلى رشدك واقبلي هذه الهدية، واعلمي أن ذلك الغلام ليس أهلًا لك، بل لقد أوشك أن يوقعك في خطر لا ينجيك منه أحد، أوشك أن يجعلك سجينة مثله لتهمة مثل تهمته. ولولاي، ولولا حبك لكنت الآن سجينة مثله، صدقيني يا شيرين أني خدمتك خدمة لا تُقدَّر بالأموال.» قال ذلك والعلبة لا تزال مرفوعة على كفه يقدمها نحوها وهو ينظر في عينيها نظر العاشق المفتون، فاختطفت العلبة من يده ورمتها إلى الأرض وهي تقول: «دعني من هديتك الملطخة بالدم، وقل لي كيف أنقذتني من الهلاك، إن حبل الكذب قصير.»
فشق عليه عملها، ولكنه تجلد والتقط العلبة فوضعها في جيبه وقال: «إني أعذرك لجنونك، ولا أعاملك بالمثل. لكنني أنصح لك أن تصدقيني، صدقيني يا شيرين لقد أنقذتك من الهلاك.»
قالت: «كذبت، إن مثلك لا يستطيع غير إيقاع الناس في المهالك.»
قال: «ولكن الذي يقدر أن يوقع الناس في المهالك يقدر أن يخلص الناس منها»، ومد يده إلى جيبه وأخرج ورقة قبض عليها وقال بلحن التهديد: «اعلمي أن حياتك وموتك في قبضة يدي هذه.»
فضحكت ضحكة الازدراء وقالت: «خسئت! يكفيك تمويهًا، يكفيك ما ارتكبته بإيقاع ذلك الشاب الحر في أيدي القوم الظالمين، أوقعته بين مخالب الموت لترضي ذلك الطاغية السفاح. قبحكم الله من أشرار! ويلٌ لكم من موقفكم يوم الحساب!» وغَصَّت بريقها على رغم إرادتها، ثم تجلدت وقد أحست بقوة وبسالة لم تشعر بمثلهما من قبل، وحولت وجهها عنه وجعلت تمشي في الغرفة مشية الأسد الظافر.
فأخذ الحنق من صائب مأخذًا عظيمًا وصرَّ بأسنانه، ومد يده وهو قابض بها على تلك الورقة وقال: «لا أراك فهمت ما أقوله لك، قلت إن موتك وحياتك في قبضة يدي هذه، فإذا أطعتني ورجعت إلى رشدك ورضيت بما عرضته عليك كنت سعيدة، وإلا فإني …»
فقطعت كلامه وقالت: «إنك أقصر باعًا مما تشير إليه!»
فتقدم نحوها وقد أخرج تلك الورقة وأمسكها بسبابته وإبهامه حتى ظهرت كلها، وانحنى مظهرًا التهكم وقال: «ألا تعرفين هذه الورقة؟»
فلما وقع بصرها عليها علمت أنها من الورق الذي كانت تكاتب به رامزًا أحيانًا فأجفلت، ولكنها كظمت وقالت: «وما عساها أن تكون؟»
قال: «أنا أقول لك ما هي، هي كتاب منك بخط يدك وجدته بين أوراق ذلك الطائش الغر. أتذكرين ما قلتِ له فيه؟»
فأوجست خيفة لعلمها أنها كانت تكتب إلى رامز دون حذر وقد يكون فيها ما تُؤاخَذ عليه، لكنها أدارت رأسها وقالت: «لا أعلم ما بها، ولا يهمني أن أعلم!»
قال: «ألا يهمك إذا كنت قد ذكرت له فيها أنك تعدين بقاء الذات الشاهانية جلالة مولانا أمير المؤمنين مصيبة على الأمة العثمانية؟!»
قالت: «أليس ذلك حقًّا؟»
قال: «لا أدري، ولكنني أعلم أن وصول هذه الورقة إلى يدي جلالته يجعلك تندمين ساعة لا ينفع الندم، وإذا كنت لم تصدقي ما أقوله فهذا خطك فاقرئيه.» قال ذلك وفتح الورقة فوقع بصرها عليها فعرفت خطها، فلم يبقَ عندها شك في وقوع الخطر، لكنها ظلت تظهر الاستخفاف.
أما هو فقال: «هل تظنين هذه الورقة لا تحوي غير ما ذكرته لك؟ لو قلت لك فحوى ما بقي منها لتراميت على قدمَيَّ تلتمسين كتمان هذا الكتاب؛ لقد ذكرت له أيضًا أنك تستغربين صبر الأحرار على بقاء هذا السلطان حيًّا، فهل في الدنيا ذنب أعظم من هذا؟ هل تجدين سبيلًا للإنكار؟»
ثم خفض صوته وقال: «هل تحققت الآن أن حياتك وموتك في قبضة يدي؟» قال ذلك وشمخ بأنفه، ووقف وهو يتوقع أن تترامى شيرين على قدميه كما قال، لكنه رآها لا تزال مستخفة به كأنه لم يقل شيئًا، فتقدم نحوها وقال: «ومع ذلك فأنا حتى الساعة أعرض عليك حياتك، أي إني أهبها لك على أن ترجعي عن غيك وتعتذري عما مضى وتعتقدي أني أحبك، وإلا …»
فحوَّلت وجهها عنه وهي تنظر إليه بطرف عينيها ازدراءً، وتمتمت متسائلة: «أعتذر عما مضى؟!» ثم التفتت إليه وقالت: «اسمح لي أن أثبت كذبك قبل كل شيء، لقد تنصلت من أنك ألقيت رامزًا في السجن بوشايتك، ولكنك ذكرت الآن أنك أخذت هذه الورقة من بين أوراقه، فكيف حصلت عليها إن لم تكن أنت الواشي به. ثم اعلم أن الحياة ليست هي وحدها غاية الإنسان في دنياه، هل تحسب السعادة بالطعام والشراب أو باكتساب الأموال؟ إذا كنت تعد ذلك سعادة فاعلم أنها سعادة حيوانية رخيصة، وإنما السعادة الحقة سعادة الضمير الحر، سعادة القلب السليم، سعادة النفوس الأبية نفوس طلاب الحرية، ولكنك لم تذقْ هذه السعادة ولن تذوقها. إنك وأمثالك تحسبون الغرض من الحياة أن تجمعوا الأموال بأية وسيلة، ولهذا تبيعون ضمائركم بالجاسوسية وتخربون البيوت العامرة وتقتلون النفوس البريئة … لكن تمتعوا ما شئتم واقتلوا من شئتم، فلن يؤثر ذلك في عقيدة الأحرار الصادقين. والآن وقد علمت ذلك فافعل ما تراه، فما أنا بخير ممن سبقوني إلى التضحية والفداء!»
وكانت تتكلم كأنها تخطب في جمهور، أما صائب فكان يسمع كلامها ويهز رأسه تارة ويقلب شفته تارة أخرى، ولسان حاله يقول: «هذا هو الجنون بعينه.»
فلما فرغت من كلامها سكت هنيهةً مطرقًا وقد أخذته الحيرة، ثم رفع بصره إليها وقال: «أراك تتكلمين كلام أهل الطيش الذين يضيعون أيامهم في الكلام الفارغ، وقد كان يجدر بي بعد ما سمعته منك أن أكتفي برفع أمرك إلى صاحب الأمر، لكنني لا أزال ضنينًا بحياتك شفيقًا على شبابك إكرامًا لأبيك … ولأني أحبك. فأنا أعرض عليك الحياة مرة ثانية، وأجيبك بأن ما ذكرته من الألفاظ الضخمة كالضمير والحرية والنفس الأبية إنما يلجأ إليها أهل الفاقة الذين تضيق دونهم سبل الرزق، فإذا عجزوا عن اكتساب المال عدوا اكتسابه رذيلة! أي فائدة لأصحاب تلك النعوت إن لم يكن لديهم من المال ما يدفعون به الجوع والبرد؟ وما هي الحرية أو ما الفائدة منها لمن خلا جيبه وخوى جوفه؟ هل تجدين بين أولئك الذين يسمون أنفسهم أحرارًا من يستطيع أن يعيش من ماله؟ لقد أصبح لفظ حر لقبًا لأهل الطيش الأفاقين الذين يضربون في الأرض لخلو أيديهم من المناصب، فيزعمون أنهم تخلوا عن الخدمة رغبةً في الحرية، ولكنهم يفعلون ذلك عن عجز، ولو أُعطِيت لهم المناصب لنبذوا الحرية وركنوا إلى العبودية كما فعل كثيرون منهم كنتُ سببًا لردهم إلى الولاء للذات الشاهانية. ولكن ما لنا ولذلك الآن؟ هذه آخر كلمة أقولها لك ثم يكون دمك على رأسك … إني أعرض عليك النجاة من خطر الموت، ولا أزال أقول إني أعدك بإنقاذ رامز أيضًا، ولا أشترط شيئًا غير رضاك بي، وإلَّا فلا تلومي إلا نفسك!» قال ذلك بلهجة التهديد ثم تحول إلى الباب وهو يتوقع أن تندم فتستوقفه وتباحثه، فلم يسمع منها إلا قولها: «افعل ما بدا لك، وإذا كانت الحياة لا تكون إلا على يدك وأيدي أمثالك فلا حاجة لي بها!»
وهنا عاد إليها مسرعًا وهو يشير بيديه إشارة الوعيد والتعنيف، وقال: «تزعمين أنك تحبين رامزًا، وها أنت ذي تقتلينه بيدك، قد سنحت لك فرصة لإنقاذه فلم تفعلي!»
فأجابته: «إن حبي رامزًا لا دخل لك فيه، وإن رامزًا لا يرضى أن تكون حياته منة من جاسوس منافق. وأما أنا فإني أفضل أن يموت رامز وأموت أنا معه ضحية الحرية وقول الحق، ولا نعيش عيشة المتملقين المنافقين. وزد على ذلك أن يدك أقصر من أن تستطيع خيرًا، إنك لا تقدر على غير الشر، فانصرف عني ودعني.»
فضحك صائب ضحكة طويلة مغتصبة، وتحول وخرج وهو يردد قولها باستهزاء: «نموت ضحية الحرية وقول الحق! ما شاء الله!»
•••
وكان طهماز وامرأته جالسين في حجرة الاستقبال يسمعان ما دار بين شيرين وصائب، وكانا يتوقعان أن تذعن شيرين خوفًا، فلما رأيا عنادها قال طهماز: «قبح الله هذه الفتاة! ما أشد جنونها! إذا كانت لا تخاف على حياتها فإننا نخاف على حياتنا بسببها.»
وما خرج صائب حتى خف طهماز إليه وأخذ يستعطفه ويرجوه ألا يعجِّل بالانتقام، وأن يعذر شيرين على طيشها ويتمهل ريثما يقنعانها. ورفض صائب في بادئ الأمر، وطهماز يبالغ في استعطافه، ثم وعد بأن يصبر يومًا أو يومين إكرامًا لخاطره، وودعه وانصرف وهو ينتفض من شدة الغيظ لما سمعه من شيرين، وكان يتوقع استسلامها له فور اطِّلاعها على ذلك الكتاب الذي وجده بين أوراق رامز فاحتفظ به ليتخذه ذريعة لإذلالها. فلما رأى جفاءها حدثته نفسه بأن ينتقم منها، لكنه خشي أن يفقدها إلى الأبد، فلما استمهله أبوها ووعده بإقناعها تربص ليرى ما يكون من أمرها.
أما توحيدة فأصبحت لا تعلم ماذا تعمل، وقد لامت ابنتها على ما بدا منها، وصممت على إقناعها بالرجوع عن عنادها، وأشارت على طهماز بأن يعول عليها في إقناع شيرين، وأن يلحق بصائب ليعاود استعطافه والاعتذار إليه، فلبس ثيابه وسار في أثره.
وكانت شيرين بعد أن خرج صائب من غرفتها قد أغلقت الباب بعنف، وأظهرت أنها تلتمس الانفراد والراحة في الفراش، فتركتها والدتها وذهبت إلى غرفتها لتعمل فكرها في حيلة تخترعها لإقناعها.
فلما خلت شيرين إلى نفسها فكرت فيما سمعته ورأته، فتحققت فداحة الخطر عليها وعلى رامز، وأيقنت أنهما مقتولان. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وهي ساعة تستولي فيها الوحشة على قلوب البشر كأنهم يشاركون الطبيعة أسفها على فراق الشمس، فتنقبض القلوب وتستوحش النفوس وتتسلط السويداء على العقول فلا يرى الناس من الدنيا إلا وجهها المظلم، فكيف بمن كان في مثل حال شيرين من اليأس، بعد أن قضت نهارها بين جدال وبكاء وحزن وخوف؟
على أن شيرين بعد أن أغلقت غرفتها وجاش الحزن في خاطرها، عادت فتذكرت حبيبها وكيف كان يأتيها في مثل تلك الساعة فيخفف أحزانها ويذهب وحشتها بلطف حديثه، ثم تصورت ما هو فيه من الضيق، وكيف أنه لا يلبث أن يذهب ضحية لذلك الظالم، وقد يُسجَن ويُعذَّب أو يُقتَل أو يُلقَى في البوسفور فيذهب فريسة للأسماك. فلما تصورت ذلك اقشعرَّ بدنها وغلب الحزن عليها ولم تجد ما يفرِّج كربتها غير البكاء، فأطلقت لنفسها العنان وأخذت تندب سوء حظها وتبكي وتشهق كالطفل، وجعلت تناجي نفسها قائلة: «رامز … حبيبي رامز، أين أنت الآن يا تُرَى؟! إنك مسجون، وعما قليل يحملونك إلى يلدز قبر الأحرار ومدفن الحرية … لا تخف، لا تبالِ الموت في سبيل الحق والحرية … ولكن أيموت رامز؟! أيموت الحر الصادق ويبقى هذا الجاسوس وأصحابه على قيد الحياة؟!»
قالت ذلك وصرَّت بأسنانها، ووثبت من فراشها وقد أظلمت الغرفة، واتسع مجال الخيال، فتصورت رامزًا في ضنك، وأنه لا شك يفكر فيها ويخاف عليها ويخشى أن يحظى صائب بها بعده، فقالت: «لا تخف يا حبيبي، إني ثابتة على ودادك متفانية في حبك، وإن يد ذلك المنافق لأقصر من أن تنال مني شعرة، وأن يحظى مني بنظرة … لكن آه ما الفائدة من ذلك وأنت في خطر القتل الشنيع؟! ما العمل الآن يا شيرين؟!»
وكانت تقول ذلك وهي تتمشى في الغرفة وقد أصبحت في غفلة عما يحيط بها ونسيت موقفها، ثم أخذت تستجمع قواها فرجعت إلى السرير واستلقت عليه وأطلقت لتصورها العنان، فسمعت وقع خطوات في الدهليز عرفت أنها خطوات أمها، ثم سمعت نقرًا على الباب فعلمت أن والدتها تطلب الدخول عليها فتظاهرات بالنوم ولم تجب، فألحَّت والدتها في قرع الباب خوفًا على ابنتها من أن يصيبها إغماء أو أي سوء في وحدتها، فلم تجد شيرين بدًّا من النهوض، فنهضت وفتحت الباب وهي تتجلد لتخفي ما في نفسها، فدخلت والدتها وفي يدها مصباح وقد بلل الدمع عينيها، فتأثرت شيرين بحنوها وحنانها. وكانت الرابطة بينها وبين والدتها أشد من رابطة سائر البنات بأمهاتهن، لأن شيرين كانت مستودع أسرار تلك الوالدة التعسة التي خانها الحظ وصارت زوجة لذلك الرجل الجاهل، فاحتملت فظاظته وحماقته إكرامًا لابنتها فربتها أحسن تربية، ولما كبرت اتخذتها صديقة تشتكي إليها همومها ومصائبها، وهي التي سهَّلت لها الاجتماع برامز، وكانت تُسَر باجتماعهما وينشرح صدرها لتحابِّهما، وتعد الأيام ليتم قرانهما. وقد أحبت رامزًا محبة الوالدة لولدها، فكان وقوعه في هذه الورطة من أكبر أسباب شقائها، وزاد بلبالها لما علمت — مما دار بين شيرين وصائب — أن ابنتها عرضة لذلك الخطر إلا إذا رجعت عن عنادها ورضيت بصائب مع كرهها له واستنكافها دناءة أخلاقه، ولكن حنو الأمهات غلب عليها فاختارت أهون الشرين لعلمها أن صائبًا إذا لم ينل رضاء شيرين وشى بها وعمل على قتلها.
كل هذه الهواجس مرت بخاطر توحيدة في غرفتها بعد ذهاب صائب، وكانت تنوي أن تؤجل مخاطبة شيرين إلى الصباح، لكنها لما تراكمت عليها الهواجس لم تعد تصبر عن رؤيتها لتطمئن عليها ولعلها تستطيع إقناعها بالقبول، وكان زوجها قد غادر البيت فرحًا برتبته ليقضي السهرة مع صائب ويطمئنه إلى نيل بغيته.