السلطان عبد الحميد
كذلك كان عبد الحميد سلطان البرين وخاقان البحرين، الذي دانت له الرقاب، وكاد يسيطر حتى على عناصر الطبيعة فإذا غضب غضبت، وإن رضي ابتسمت. على أن ذلك كله لم ينفعه بعد ما ارتكبه من الشطط في تلك السيادة، وتجاوز بها الحد، فتولاه الخوف والقلق كما كانت حاله في ذلك الليل.
ولو أنك أُوتِيت المعجزة فاستطعت أن تدخل ذلك القصر الفخم في غفلة من الحراس، ثم أقبلت على مسكنه الخاص في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، لعلمت أن أهل تلك القصور قد استغرقوا في نومهم، ولرأيت الحراس الموكَّلين بالسهر والحذر قد غلب عليهم النعاس أيضًا فناموا، ولم يبقَ أحد ساهرًا هناك إلا صاحب ذلك القصر وسيده، الذي أُوصِدت الأبواب لوقايته وأُقِيم الجند لحمايته، فإنه ما زال ساهرًا يتقلب على كرسي طويل توسده وقد التف بملاءة من الصوف، وأخذ يقرأ تقريرًا جاء من بعض جواسيسه فأقلق راحته وحرمه النوم، وقد غلب عليه التعب والأرق وهو يطلب الرقاد ليريح جسمه ويبعد مخاوفه فلا يجد إليه سبيلًا.
فلما دقت الساعة الرابعة أطبقت أجفانه وأصبح كالنائم، ولكنه ساهر مستيقظ بما انتابه من الأحلام المزعجة، ففضل اليقظة لأن النور يؤنسه والاستغراق في الأفكار المتضاربة أولى من الذهاب فريسة تلك الأحلام، فعمد إلى كتاب لماكيافلي تعود أن يلهو بقراءته ففتحه وقرأ فيه هنيهة، ثم تركه وخطر له أن يلهو بالنجارة، وعنده في ذلك القصر غرفة فيها كل معدات هذه الصناعة، ولكنه تكاسل.
وظن العلة من الفراش فغادر الكرسي في غرفة المائدة إلى كرسي في غرفة البيانو فلم يُجْده التغيير نفعًا، فرمى الورق من يده ومشى يطلب رقادًا في غرفة أخرى، ثم ندم فعاد والتقط تلك الأوراق المتناثرة فجمعها ورتبها واحتفظ بها وضمها إلى صدره، وذهب إلى كرسي آخر في غرفة الكتابة، وطفق يقرأ وهو لا يفهم ما يقرأ لفرط التعب، فغلبه النعاس فنام حتى طلع الفجر، وكأن صياح الديك نبهه فنهض، ودقت الساعة السادسة، ثم سمع صوت المؤذن فخرج للوضوء، فرأى صاحب الوضوء ينتظره فهُرِع إلى حمامه الخاص وفيه الأجران الرخامية المعرقة بالذهب والحنفيات المذهبة، وأفكاره تائهة. وأدى فرض الصلاة، وعاد إلى التقرير فتأبطه ومشى نحو باب من ذلك القصر يستطرق إلى الحديقة الداخلية، وقد التف بعباءة كستنائية اللون واسعة الأردان تكسو أثوابه.
وهو نحيف الجسم ربعة، أو دون الربعة، لا يزيد طوله على خمس أقدام، عصبي المزاج، وكان في شبابه طلق المحيا مستدير الوجه، فأصبح يومئذٍ وقد تغيرت سحنته لفرط ما عاناه من بواعث الحذر على حياته، لأنه قاسى عذاب الموت خوفًا من الموت، وكابد مرارة الاستعباد رغبة في الاستبداد. فمن عرفه في شبابه ينكره الآن، فقد برز فكاه ووجنتاه وأنفه، وخفت لحيته، وغارت عيناه لارتخاء الجفن العلوي من الشيخوخة، وظهرت غضون وجهه، وتساقط شعر رأسه، فصار يغطي صلعته بطربوش كبير ينزل إلى أذنيه، وقد لبسه في ذلك الصباح فبان امتقاع وجهه من تحته.
وأصبح في شيخوخته سوداوي المزاج، فإذا رأيته تحسبه مثقلًا بالهموم ولو كان في أسعد أحواله، فكيف وهو في قلق مقيم مقعد؟!
دخل الحديقة وهو ملتف بالعباءة وقد تأبط ذلك التقرير تحتها. وكانت الشمس قد أطلت من وراء جبال آسيا فأصابت أشعتها أطراف الأغصان، فاستيقظت العصافير وأخذت ترفرف وتزقزق، وابتسمت الأزهار وصفقت الأوراق وسرح الإوز في البحيرة حول القوارب، وتطاير الحمام في أبراجه وأخذ يتداعب، وبسط الطاووس ذيله ومشى في قفصه مرحًا مزهوًّا، وتجاوبت الكراكي والحساسين وصهلت الخيول. وأصبح كل حي في تلك الحديقة ضاحكًا مسرورًا إلا عبد الحميد، فإنه مشى في أكنافها مقطب الوجه منقبض النفس في غفلة عن كل ذلك، والقهوجي باشي يسير في أثره ومعه أدوات القهوة لعل سيده يطلبها. ولم يكن هناك سواهما، مع كثرة من في تلك القصور من النساء والرجال، وعددهم يزيد على خمسة آلاف، لكنهم لا يجسرون على الظهور في حضرته إلا بطلبه، على أنهم كانوا يتشوفون إليه من النوافذ يراقبون حركاته خلسة.
•••
جال السلطان عبد الحميد في الحديقة هنيهة، ثم مضى إلى كشك من الخشب بجانب البحيرة وجلس على مقعد فوق وسادة من الحرير، وأشار إلى القهوجي باشي أن يهيئ له القهوة، ثم تناولها وهو يُعمِل فكره فيما قرأه، وإذا هو يسمع ضحكًا عرف من طوله وإطلاقه أنه ضحك ابنه أحمد نور الدين أفندي، وهو يومئذٍ في السابعة من عمره، وليس هناك من يجرؤ على الضحك في حضرة البادشاه سواه. فالتفت إلى جهة الصوت فرأى الغلام يلاعب ببغاء جميل اللون بين يدي مربيته ويضحك ابتهاجًا بذلك.
ولم تكن المربية عالمة بوجود السلطان هناك، فتركت الغلام مسترسلًا في ملاعبة الببغاء، وما لبثت أن سمعت نحنحة السلطان فأجفلت وهمت بالفرار، لكنها سمعته يناديها فتجلدت وقادت الغلام إلى الكشك لتعتذر من جرأتها بوجوده معها، فأفلت الغلام من يدها، وأسرع بدالَّة الطفل إلى أبيه ورمى نفسه عليه، فاستقبله أبوه وقبَّله وأراد أن يخفف ما به بمحادثته، فأقعده على حجره وسأله عن سبب قدومه إلى الحديقة في تلك الساعة.
قال الغلام: «جئت لأكلم الببغاء!» وضحك بسذاجة وأشار إلى الببغاء في يد المربية الواقفة في الخارج، وكان قلبها يختلج خوفًا من غضب السلطان لئلا يظن بها سوءًا فيقتلها، وقد عرفت كثيرًا من أمثال هذه الفظائع في يلدز: يُقتَل فيها الرجل أو المرأة بطلق ناري من يد عبد الحميد لمجرد التوهم أنه جاء بدسيسة. فظلت واقفة في الخارج وودَّت لو أن الأرض تبتلعها وتخفيها، ولولا علمها بأن عبد الحميد يكون في مثل ذلك الوقت منزويًا في مكتبه يقرأ التقارير ما رافقت الغلام إلى الحديقة.
فلما أشار الغلام إلى الببغاء التفت أبوه إلى المربية وأومأ إليها أن تعيد الطير إلى قفصه، وكان قفصه معلقًا بشجرة من الدلب قريبة من الكشك، فما صدقت أنه أمرها بذلك حتى مشت إلى أحد البستانيين فأعانها على إدخال الببغاء إلى القفص، وانزوت في بعض جوانب الحديقة.
وأخذ عبد الحميد في مداعبة ابنه فقال له: «أتحب الببغاء كثيرًا يا نور الدين؟»
قال: «نعم يا بابا.»
فقال السلطان: «تحبه أكثر مني؟»
فاهتم الغلام بذلك السؤال رغم طفولته، لأن تعظيم شخص عبد الحميد كان قاعدة متبعة يتدارسها الكبار والصغار، ولعله آنس في عينَي أبيه ما بعثه على الاهتمام، فقال: «العفو أفندم، لا ينبغي أن نحب أحدًا في الدنيا أكثر من الذات الشاهانية.»
فأدرك عبد الحميد أن مثل هذه العبارة لا يقولها الغلام من عند نفسه، فقال له: «ومن علمك ذلك؟»
فخاف الغلام أن يكون قد أخطأ فبدا الخوف في وجهه مع التردد ولم يدرِ بماذا يجيب، فضحك أبوه تشجيعًا له على الكلام، فقال الغلام: «علمتني إياه قادين ج الوصيفة.»
فبدا الغضب في وجه عبد الحميد عند سماع ذلك الاسم، وتمتم قائلًا: «إنها تحتال في استرضائي، يا لها من خائنة! وتظن هذه الحيلة تنطلي عليَّ.» ثم تجاهل وعاد إلى مداعبة ابنه، فأخرج من جيب عباءته سبحة دفعها إليه وجعل يلاعبه بها ويداعبه، والغلام يضحك وأبوه يتضاحك ويتلاهى. فتحرك الغلام حركة أوقعت التقرير من حجر السلطان، فحاول أن يلتقطه فاضطُرَّ لذلك أن ينهض من مقعده فتحول وجهه نحو الببغاء في القفص، فرأى أن يعود إلى مداعبة ابنه فقال: «هل تعطيني الببغاء وتأخذ هذه السجادة الجميلة؟»
قال: «إن الببغاء لك أيضًا، ألسنا جميعًا ملكًا لك تفعل بنا ما تشاء؟»
فعلم أن ذلك الجواب من دروس تلك القادين أيضًا فلم يعبأ به، ولكنه أشار إلى بستاني أن يأتي بقفص الببغاء بين يديه، فجاء به ووضعه على مقعد خارج الكشك، فخرج الغلام وطفق يكلم الببغاء وهذا يقلد كلامه. وشُغِل عبد الحميد باختلاس النظر إلى ما يحيط به، فرأى نادر أغا — رئيس الخصيان وصاحب النفوذ الأكبر في تلك القصور — خارجًا من مكان لم يكن يتوقع أن يراه فيه، فلما وقع نظره عليه صاح به بنغمة الآمر المستبد: «نادر أغا! نادر أغا!» فأسرع نادر حتى وقف بين يديه وسلم بالاحترام اللازم والدعاء، فقال له: «من أين أتيت الآن؟»
قال: «من حوالي قصر مولاي.»
قال: «وما الذي كنت تفعله؟»
قال: «كنت ساهرًا على راحة مولاي لأني شعرت بما أصابه من الأرق، وليتني أستطيع نفعه بشيء!»
فتحقق عبد الحميد صدق قوله، وكان حسن الظن به ويرى سواد جلده بياضًا، وكثيرًا ما جعله عينًا على حرسه الخاص الموكَّل بحراسته لأنه كان سيئ الظن بهم. فانبسطت نفس عبد الحميد وأثنى عليه ثم قال: «ادع سر خفية (رئيس الجواسيس) ليقابلني في القصر ويتناول الفطور معي.» فألقى تحية الاحترام وانصرف.
وهمَّ عبد الحميد بالنهوض وإذا به يسمع صوتًا مثل صوته تمامًا ينادي: «نادر أغا، نادر أغا»، وفيه نغمة الاستبداد مثله، فأجفل وما لبث أن رأى نادر أغا عائدًا يكاد يتعثر بساقيه لطولهما، فقال عبد الحميد: «من دعاك؟!»
قال: «ألم يدعني مولاي؟ إني سمعت أمره بأذني.»
وكان نور الدين أفندي واقفًا بإزاء قفص الببغاء وقد أغرب في الضحك، فقال له أبوه: «ما يضحكك؟ من دعا نادر أغا؟»
فأشار الغلام إلى الببغاء متوقعًا أن يبدو سرور الإعجاب في سحنة أبيه لإتقان الببغاء التقليد، ولكنه رأى عكس ذلك، فبان الغضب في عينَي عبد الحميد وصاح: «أخرجوا هذا الطير من قصري أو اقتلوه، فإني لا أطيق أن أسمع صوتًا يأمر وينهى غير صوتي.» قال ذلك بلحن الحنق والاستبداد حتى سمعه كل من في الحديقة من الحاشية والنساء والسُّيَّاس، وتولاهم الرعب من شؤم ذلك النهار الذي ظهر غضب السلطان في أوله، وبادر البستاني فأخذ القفص ومضى به، وتبعه الأمير أحمد نور الدين يتوسل إليه أن يستبقي ذلك الطير، ولم يعد يجرؤ أن يخاطب أباه في شأنه.
ومشى عبد الحميد إلى قصره، ونظر إلى القهوجي نظرة فهم منها أنه يريد التدخين فقدم له سيكارًا وبادر إلى إشعاله، فسار وهو يدخن في دهليز يستطرق إلى باب القصر الرئيسي حيث يقف الحرس الألباني بالأسلحة، فمر بين صفوفهم وهم يحيونه التحية العسكرية، وهو يرمقهم خلسة ويلاحظ حركاتهم ويده في جيبه تحت العباءة على المسدس لئلا يكون هناك من يتربص له لقتله فيسبقه هو إلى قتله، وكان من أمهر الناس في الصيد بالمسدس. حتى وصل إلى الباب، وكان نادر أغا واقفًا في انتظاره هناك، ففتح له الباب فدخل يطلب غرفة اللبس، ومر بطريقه إليها في ممر قد كُسِيت جدرانه بالخزائن المملوءة بالتقارير السرية، وفيها ألوف منها جُمِعت بتوالي السنين. فلما وصل إلى غرفة اللبس ساعده نادر أغا في تبديل ثيابه فلبس «الاستمبولينا» السوداء كالعادة، وسأل نادر أغا: «هل دعوت السر خفية؟»
فقال: «نعم أفندم، هو آتٍ حسب الأمر ومعه بريد الصباح.»
وإلى كل من الجانبين خزانة من الخشب الثمين إذا فُتِحت ظهر أنها بيانو من أعلى طراز، وهي هدية من إمبراطور الألمان.
دخل عبد الحميد غرفة المائدة والتقرير في يده فوضعه على طرف المائدة، وكان الطعام قد أُعِد على الطرف الآخر منها، وهو بسيط مؤلف من اللبن والبيض وبعض المربات والفاكهة. ونظر إلى الساعة فرأى وقت مجيء رئيس الجواسيس لم يحن بعد، فقام إلى غرفة البيانو حيث بادر نادر أغا إلى فتحها، لعلمه أن سيده يحب العزف على تلك الآلة أحيانًا ولا سيما إذا كان قلقًا.
فجلس عبد الحميد إلى البيانو والسيكار في يده فوضعه على منفضة بجانبه، وأخذ يوقع لحنًا تعود الارتياح إليه، ونادر أغا واقف ينتظر أمره. ثم شعر عبد الحميد بخطوات في الردهة الفاصلة بين تلك الغرفة وباب القصر فأمسك عن العزف والتفت، فأسرع نادر أغا إلى الباب ثم عاد وقال: «إن السر خفية جاء ومعه حقيبة البريد وضعها على النضد في الردهة.»
ثم دخل السر خفية، وهو كهل قصر القامة، فألقى التحية وانحنى إلى الأرض ووقف بالباب، فتبسم عبد الحميد وأشار إليه أن يدخل، فدخل باحترام وهو يتلملم ويتأدب كالعادة المتبعة.
فجلس عبد الحميد إلى المائدة وأشار إليه أن يجلس تجاهه، وأمر نادر أغا بالانصراف وأن يقف في مكانه خادم للمائدة أصم أبكم معين للخدمة في الجلسات السرية التي لا يريد السلطان أن يسمع الخدم شيئًا مما يدور فيها، فأتى ذلك الخادم لتقديم ما يلزم للمائدة، والسلطان يخاطبه بما يحتاج إليه بالإشارة.
أما السر خفية فقعد وهو يعلم أن دعوته إلى المائدة شرف عظيم قل من يناله من الأخصاء، وشعر بأن عبد الحميد لم يكرمه إلى هذا الحد إلا لأمر مهم، فلم يتناول من الطعام إلا قليلًا وذلك من قبيل التأدب في مثل تلك الحال، وبالغ السلطان في إكرامه فقدم له سيكارًا فتناوله ولم يدخنه.
ثم فتح السلطان الحديث وقد بدل سحنته كأن لم يكن به قلق — ومن مزايا عبد الحميد اقتداره العجيب على إخفاء ما به والظهور بالحالة التي يريدها — وقال: «كم ينشرح صدري بمجالسة الأمناء من أعواني!»
فقال: «إننا عبيد مولانا أمير المؤمنين، والأمانة فرض علينا.»
فتناول فنجان اللبن وأدناه من فيه وهو يقول: «نعم، ولكن الأمناء قليلون، وأنت واحد منهم.» ورشف رشفة من الفنجان وأعاده إلى الصحن وقال: «بل أنت موضع ثقتي وعليك المعول في استطلاع دسائس الخوارج من رعيتي وهم كثيرون.»
فقال: «إن أكثر رعايا أمير المؤمنين صادقون في عبوديتهم، وإنما الخائنون شرذمة قليلة قادها فساد التربية إلى الدسائس.»
فقطع عبد الحميد كلامه قائلًا: «إنهم كثيرون على ما يظهر»، وأشار بيده إلى التقرير الذي كان يطالعه.
فتناول السر خفية التقرير وهو يقول: «أرى مولاي البادشاه — أيده الله — قد أعار دسائس أولئك الأغرار اهتمامًا.»
فقال: «هل قرأته؟» وأشار إلى التقرير.
قال: «نعم أفندم.»
قال: «ألم تقرأ ما فيه عن الجمعية التي أنشئوها في دمشق؟ إن العرب … آه من العرب! قد ذهب إحساني إليهم عبثًا!»
قال: «لم يذهب الإحسان عبثًا يا سيدي، فقد جاء في هذا التقرير أن بعض الأغرار من أهل دمشق أخذوا في إنشاء جمعية جديدة، ولكن أولئك قليلون لا ينبغي لمولاي أن يعتد بأعمالهم، فكم أنشئوا من الجمعيات السرية! وكم كتبوا ونشروا! لكن توفيق جلالة السلطان غلب كيدهم لأن الله معه.»
فقال: «ألا ترى أنهم اتخذوا في جمعياتهم خطة جديدة؟»
قال: «أظن جلالة البادشاه يعنى دخول الضباط فيها.»
فكادت تظهر البغتة في وجه عبد الحميد عند ذكر الضباط، ولكنه تجلد وقال: «ألا تظن دخول الضباط في هذه الجمعية يعظم أمرها؟»
قال: «إن العمدة في الجند على العساكر وهم السواد الأعظم، ونحن على ثقة بأنهم يتفانون في الدفاع عن أمير المؤمنين ظل الله على الأرض.»
فأثر ذلك الإطراء في نفس عبد الحميد وقال: «أنا أعلم أنَّ الخونة لا يقوون على شيء طالما كنا على بينة من أغراضهم، لكن لا أكتمك ما يجول في خاطري لأني عظيم الثقة بأمانتك وصداقتك.» قال ذلك وتناول تفاحة وأخذ في تقشيرها، وأشار إليه أن يأخذ تفاحة لنفسه، وقال بصوت خافت: «لا أكتمك اهتمامي بأمر العرب لا سيما أهل الشام، لا أعني أنهم يقدرون على شيء ولكنهم أصحاب أقلام وفيهم همة ولهم يد في أوروبا بما يعرفونه من الألسنة الإفرنجية، وهل نسيت ما كانوا يكتبونه في الصحف الأوروبية من المقالات المحرضة على التمرد والعصيان؟» وسكت.
فقال: «لم أنسَ ما كان من الضجة التي أحدثوها في أوروبا، ولكنهم غُلِبوا على أمرهم وسكتوا.»
فابتدره السلطان قائلًا: «نعم، سكتوا حينذاك، ولكن حركتهم الأخيرة تختلف عن تلك، إنهم الآن على ما يظهر في هذا التقرير داخلون مدخلًا جديدًا ليس فيه ضجة، فهم عازمون على إنشاء جمعية يجرون إليها ضباط الجند وهم يدعونهم باسم الأمة العربية ويزعمون أنهم مادة الإسلام وأصله، وربما حدثتهم أنفسهم باسترجاع مجدهم. وقد يستطيعون خداع بعض ضباط جندنا بهذه الحيلة، وإذا فعلوا ذلك …» وسكت ووضع قطعة من التفاحة في فيه.
فتبسم السر خفية تبسم الاستخفاف وقال: «إذا أذن لي مولاي البادشاه قلت ما يخطر لي وهو ما تدعوني إليه عبوديتي.»
فاستبشر السلطان بشيء جديد يسمعه، وإن لم يفته شيء يخطر ببال محادثه لفرط دهائه وسرعة خاطره وحذره، فأظهر الإصغاء وقال: «قل ما يخطر لك.»
فقال: «هب يا مولاي أن العرب في الشام عزموا على إنشاء جمعية سرية يدخلون فيها ضباط الجيش، لنفرض ذلك ممكنًا وأنهم نجحوا — لا سمح الله — وتكاثر عددهم، ففي الإمكان إرجاعهم أو إسكاتهم كما أسكتنا غيرهم قبلهم بالمال أو بالاسترضاء أو بقوة الجند، أو على يد بعض المخلصين للعرش العثماني من عبيد مولانا السلطان، لأنهم في داخل المملكة لا يرجون نصرة أعدائنا دول أوروبا.» قال ذلك وبلع ريقه وبان الاهتمام في وجهه كأنه يكتم شيئًا مهمًّا.
•••
كان السلطان عبد الحميد يستمع لحديث رئيس الجواسيس متشاغلًا بفتات من لب الخبز يعركه بين الإبهام والسبابة، فلما لحظ فيه الاهتمام — بعد أن ذكر دول أوروبا— أدرك ما يشير إليه فقاطعه قائلًا: «فهمت مرادك، صدقت، إن العرب لا ينبغي أن نخافهم. هل حدث شيء جديد في سلانيك؟ إن أشقياء هذه المدينة لا يُركَن إليهم لقربهم من أعدائنا.» وبان الغضب في وجهه، فوقف ومشى نحو الباب، فوقف السر خفية ومشى في أثره، وقد أدرك أنه يقصد حجرة الاستقبال التي جرت العادة أن يقابل فيها كبار موظفيه كالسر خفية والباشكاتب والسر عسكر وغيرهم ليطلع على ما جاء به البريد، فقال السلطان: «اقصص عليَّ ما تعلمه من أمر تلك المدينة الجهنمية، هل أتاك شيء بشأنها؟»
فقال: «أرجو أن نجد شيئًا في هذا البريد.»
فدخلا الحجرة، وكان في وسطها منضدة مستديرة عليها غطاء من المخمل المزركش حولها مقعد وكراسي، وليس على جدرانها إلا إطار معلَّق في صدرها وقد كُتِب في وسطه بخط جميل هذه الآية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، وتحتها «أمان يا رسول الله.»
وجلس السلطان على المقعد وحقيبة البريد بين يديه على المنضدة وأشار إلى السر خفية أن يقعد، فقعد على كرسي وبادر إلى فض الحقيبة وأخرج منها أوراقًا وأغلفةً وظرفًا، والسلطان يساعده في قراءة العناوين. فأفرد السر خفية ظرفًا كبيرًا عليه خاتم سلانيك، فتناوله السلطان وهو يقول: «هذا من ناظم بك، إني أتوسم في هذا الشاب خدمة صادقة، ألا تعرفه؟»
قال: «كيف لا؟ إنه حقيقة من العبيد المخلصين للسدة الشاهانية، عرفت ذلك من بعض رجالي الذين بعثت بهم إلى تلك المدينة.»
فقال السلطان وهو يفض ذلك الظرف: «ماذا قال لك رسولك؟»
قال: «أكد لي صدق خدمة ناظم بك مما يكابده في البحث عن أعضاء تلك الجمعية.»
فلما قال السر خفية ذلك تغير وجه السلطان، وأبرقت عيناه غضبًا وقال: «كانت تلك الجمعية الملعونة — التي تُسمِّي نفسها جمعية الاتحاد والترقي — في باريس ضعيفة، ولو لم ينشطها الداماد محمود وأولاده لزال أثرها.»
فقال السر خفية: «قد زال أثرها يا مولاي من وقت طويل، ولكن بلغني أنهم أعادوا الكرَّة واستأنفوا السعي، ولعل في كتاب ناظم بك ما يكشف الحقيقة.»
وكان السلطان يسمع وعينه على تقرير ناظم بك، ثم وقف بصره على فقرة أخذ يقرؤها ويعيد قراءتها، والسر خفية ساكت ينتظر ما يقوله السلطان، فإذا به يناوله التقرير ويقول: «تحقق ظنك، إنك مجتهد في البحث وقد صدقك مخبرك، خذ واقرأ.»
فتناول السر خفية التقرير وقرأ فيه ما معناه: «إن الجمعية الملعونة التي رُفِعت إلى أعتاب مولانا البادشاه خبرها على سبيل الظن، قد تحقق لي الآن أنها تألفت وانتظم في سلكها كثيرون من ضباط الجيش وغيرهم، وأنا ساعٍ في كشف أمرها والاطلاع على مكان اجتماعها … ولكنني علمت من بعض المخبرين أن مثل هذه الجمعية في الشام تضم الضباط أبناء العرب، وأن بعضهم جاء سلانيك للاشتراك في هذه الجريمة، ويقال إنهم اكتفوا بجمعية سلانيك ووضعوا كل قوتهم فيها وغضوا النظر عن دمشق، فإذا وُفِّقنا إلى كشفها قطعنا دابر المفسدين. ولكنني أؤكد لمولاي البادشاه ملجأ الخلافة الأقدس أن عبده ساهر على مصلحة الدولة وخدمة الذات الشاهانية، ولا ألبث أن أكتشف مكايد الخائنين وأطهر الأرض من وجودهم.»