السلطانة الوالدة
دخل عبد الحميد إلى القصر الصغير من بابه السري وهو يتعثر بذيل جبته، وأزاح طربوشه عن جبهته كأنه يلتمس تفريج كربته من قمة رأسه، فلما صار في غرفة المكتب تنفس الصعداء واستلقى على الكرسي وهو مستغرق في الأفكار، وتناول سيكارًا أشعله وجعل يدخن بعنف ويتنقل بنظره على ما في الغرفة من الخزائن والكراسي بغير انتباه. ثم أخذ يناجي نفسه قائلًا: «أنا أعلم أنها تحبني وتتفانى في مرضاتي، ولكن كيف أحبها وهي ستكون سبب بلائي؟»
ثم نهض عن الكرسي ومشى نحو منضدة فتح درجها وأخرج ورقة من محفظة هناك وأخذ يقرؤها ويعيد قراءتها، ثم عاد إلى الكرسي والورقة في يده وهو يقول: «كيف أحبها وقد ظهر في هذا المندل أنه إذا جاءني منها غلام سيكون شؤمًا عليَّ؟ لا ينبغي أن أقترب منها … إن الحب شيء والمُلك شيء آخر. وأخاف مع ذلك أن تكون قد خدعتني.» وأعاد الورقة إلى المحفظة ومشى إلى دار الحريم، فلقي نادر أغا فقال له: «أين السلطانة الوالدة؟»
قال: «هي في غرفتها يا مولاي.»
فمشى وهو يقول: «أحب أن أراها.»
فأسرع نادر أغا حتى بلغها رغبة السلطان في مقابلتها فتأهبت لاستقباله، لكنها ابتدرت نادر أغا بالسؤال قائلة: «ما هو لون ثوبه اليوم لألبس مثله؟» وكانت العادة الجارية في آداب بلاط عبد الحميد أن يلبس نساؤه عند مقابلته ثوبًا لونه مثل لون ثوبه.
فقال نادر أغا: «إنه بثوبه الأسود الرسمي فلا حاجة إلى لون معين.» ولم تكن هي والدة السلطان حقيقة لكنها تقوم مقامها في إدارة دور الحريم، وكانت قبلًا «خزندار أُوصته» أي خازنة دور النساء، فلما ماتت والدة السلطان تولت تلك الإدارة، وإليها يرجع تدبير أمور نسائه وسراريه. وكانت كبيرة السن، ولكن الجمال ما زال يتجلى في وجهها، وفيها ذكاء ونباهة. فلما علمت بقدوم السلطان خفت لاستقباله ورحبت به، وعليها ثوب يجللها، وفي يديها الأساور وعلى صدرها الحلي الثمينة. ولحظت في وجه السلطان القلق، ولكنها تعرف منزلتها عنده فابتسمت له وقالت: «هل من أمر أقضيه لجلالة البادشاه؟»
فجلس على المقعد وأشار إليها أن تقعد وقال: «جئتك في أمر يهمني.»
فقالت: «روحي فداء مولاي.»
قال: «كيف حال القادين ج؟»
فتغير وجه المرأة عند سماع ذلك الاسم، وقالت والبغتة ظاهرة في عينيها: «إنها في خير.»
قال: «لا أسألك عن صحتها، ولكن هل قامت حاضنتها بما عليها؟»
فأدركت غرضه وتلعثم لسانها عن الجواب، لكنها غالبت نفسها وقالت: «إنها لا تغفل عن رعايتها.»
قال: «بل أسألك عن شيء آخر، هل خبرت أمرها من عهد قريب؟»
فلم يعد في إمكانها الصبر على التجاهل فقالت: «أخبرتني الحاضنة أنها ربما تكون حاملًا.»
فأجفل السلطان ونهض ولم يتمالك أن صاح: «حامل؟!»
فنهضت احترامًا له وقالت: «هكذا أظن.»
قال: «كيف تغفل الحاضنة عن واجباتها؟ إنها إذا كانت كما تقولين فالذنب يقع على تلك الحاضنة الملعونة! أليس من واجباتها أن تمنع الحمل، وقد خولتها أن تمنعه بأي طريقة كانت؟»
فتحيرت في أمرها وأرادت أن تخفف غضب السلطان فقالت: «لماذا يغضب مولاي من حملها؟ أليست من نسائه؟»
فأمسك السلطان غيظه وتجلَّد وعاد إلى القعود، وأشار إليها أن تقعد وقال: «قد جعلتها من نسائي مكافأةً على خدمة قامت بها.» ثم تمالك وتجلد وقال بصوت منخفض: «نعم، إن القاعدة كما تعلمين أن الجارية بعد أن تكون «كوزده» عند دخولها قصرنا ترتقي إلى رتبة «إقبال»، فإذا حملت منا صارت «قادين». ولكني جعلت «ج» في هذه الرتبة لأنها تجسست لي أخبار أحد الخونة في حوادث الأرمن وكنت في ريب من أمره، فأنفذتها إليه في جملة الجواري اللائي أهديتهن إلى الباشوات يومئذٍ ليكنَّ لي عيونًا عليهم، وقد كشفن لي خيانات كثيرة. ولكن «ج» هذه كلفتها مهمة فوق العادة فعرضت نفسها للخطر على وعد مني أنها إذا أفلحت جعلتها قادين وإن لم تلد مني، وقد أفلحت فأنجزت وعدي.»
فلما رأته يخاطبها بهدوء تجرأت على مباحثته في الموضوع فقالت: «فإذا كنت قد أنعمت عليها بهذه الرتبة فما المانع من حملها؟»
قال: «وما الفائدة إذن من كثرة الحواضن اللائي يتولين اتخاذ الوسائل لمنع الحمل؟ وقد أوصيتك على الخصوص بهذه.»
فتذكرت السلطانة الوالدة أنه كان قد اختص ج بالوصاية، وهي أوصت الحاضنة بما يلزم لكنها أخفقت، فقالت: «ولكن لا تفلح الوسائل دائمًا. إن في عصمة أمير المؤمنين الآن أربع نساء شرعيات، و١٢ قادين مثل ج وأكثرهن يحملن، فلا بأس إذا حملت هذه أيضًا.»
فقال: «لا، هذه لا ينبغي أن تلد، فإذا كنت تأكدت حملها فيجب أن تموت.»
وكانت السلطانة الوالدة تحب القادين المذكورة لجمالها وذكائها ولأنها تحب السلطان إلى حد الكَلَف — وذلك نادر في قصور الملوك — فأسفت لتشديد عبد الحميد في أمرها، فأخذت تخفف الأمر عليه فقالت: «في قصر مولاي السلطان ٣٠٠ جارية، هب أن واحدة منهن حملت فماذا كنا نفعل؟»
فنهض وعلى وجهه علامات الغضب وقال: «لا تجادليني، إن هذه المرأة إما أن يذهب حملها أو تموت، وقد قلت لك ذلك وكفى.» قال هذا وتحول نحو القصر الصغير، وقد أزفت الساعة السادسة وآن وقت العشاء ولم يكن قد تغدى فوجد المائدة مهيأة.
وعشاؤه بسيط، وفي تحضير طعامه على بساطته مشقة كبرى لشدة خوفه على حياته وسوء ظنه بمن حوله. ومن الاحتياطات التي اتخذها لوقاية نفسه أنه أبعد الطاهي الذي يصنع له الطعام عن كل علاقة بأهل الدولة، وأمره أن يقيم في حجرة بابها من الحديد على يسار باب القصر المسمى باب السلطنة (سلطنة قبوسي)، فيضع الطعام تحت مراقبة الكلارجي باشا، وكان لعبد الحميد ثقة شديدة فيه. فمتى نضج الطعام حمله إلى غرفة المائدة اثنان من الخدم بلباس أسود على مائدة أشبه بصندوق مقفل طوله ٨٠ سنتيمترًا عليه كساء من السجاد، ويمشي وراءهما خادم يحمل طبقًا مغطًّى بكساء أسود وقد ضُمَّت أطرافه وختم عليه الكلارجي باشي، ويأتي بعد ذلك خادم يحمل وعاء الخبز، ثم خامس يحمل زجاجة الماء مختومة أيضا. يسير هذا «الوفد» من المطبخ إلى غرفة المائدة باحترام، فإذا لقيهم أحد في أثناء الطريق انحنى احترامًا لصاحب الطعام، حتى إذا بلغوا المائدة أدخل الكلارجى باشي الطعام وفض الأختام عنه بين يدَي السلطان، وقدم له الأطباق وعليها الألوان فيتناول ما شاء.
فلما وصل عبد الحميد غرفة المائدة وجد الطعام قد وصل بأطباقه المختومة ففضها، وأكل وحده كعادته وهو غارق في بحار الهواجس. وكان القصر قد أُنِير كله كالعادة فانتقل إلى غرفة المطالعة وأخذ في مطالعة التقارير وهي كثيرة، لكنه أصبح بعد أمر سلانيك وجمعيتها لا يهمه غير الوقوف على خبرها فترك التقارير، ولم يشعر بالنعاس لأنه نام في أثناء النهار، فأراد أن يلهو بحضور التمثيل في مسرحه الخاص.
وكان له في يلدز مسرح للتمثيل وعرض الصور المتحركة لا يحضره إلا خاصته، فبعث إلى الفرقة أنه عازم على الحضور في المسرح تلك الليلة فاستعدوا للتمثيل، وأشار بمن ينبغي أن يحضره من خاصته، وفي جملتهم كبار رجال القصر. ولما ظهر السلطان في مقصورته وقف الحضور وصاحوا: «بادشاه مزجوق يشا»، وعزفت الموسيقى سلامه الخاص، ثم دار التمثيل. واتُّفِق أن الرواية التي مُثِّلت تلك الليلة فيها حكاية امرأة خانت زوجها وأغرت ابنها بقتله، فهاجت هواجس السلطان وتذكر حاله مع القادين ج، وتشاءم من الرواية واتخذها دليلًا على صدق تخوفه، وبعث إلى مدير الفرقة يعاتبه لأنه لم يسأله عن الرواية التي يريد تمثيلها، وأمره أن يمثل رواية أخرى بطلها ملك يفوز على مكايديه كثيرًا ما كان يحضرها ويُسَرُّ من حوادثها، ولو لم يكن مدير تلك الفرقة أجنبيًّا لأمر بقتله، لكنه كان يخاف تدخل الأجانب.
وكان الحضور مشتغلين بأحاديثهم وعبد الحميد غارق في هواجسه، ولاحت منه التفاتة فرأى نادر أغا واقفًا في مكان من المسرح تعوَّد أن يقف فيه إذا أراد مخاطبة السلطان في أمر، فأومأ إليه فجاءه بخفة حتى دخل المقصورة فأمره أن يجلس، وسأله عن غرضه فقال: «إني أتمنى هناء مولاي، وقلتُ لعله يحتاج إليَّ في شيء.»
قال: «قد أصبت، إني في حاجة إليك، هل لقيت السلطانة الوالدة؟»
قال: «نعم يا مولاي، وقصَّت عليَّ خبر غضب الذات الشاهانية.»
قال: «أرأيت ما فعلته تلك الحاضنة؟ إنها لم تفعله عن إهمال كما توهمت الوالدة السلطانة لكنها تعمدته بالرشوة، أغراها بذلك أعدائي قبحهم الله!» قال ذلك وصرَّ بأسنانه وهز رأسه.
فقال نادر: «لم أفهم سبب غضب سيدي من حمل هذه القادين، فافرض أنها إحدى الجواري الكثيرات في يلدز و…»
فقطع السلطان كلامه قائلًا: «لا ألومك على استغرابك غضبي، ولذلك فأنا أُسِرُّ إليك السبب برهانًا على ثقتي بك واعتمادي عليك.»
فأومأ نادر أغا شاكرًا تلك النعمة، فأشار السلطان أن يرخي ستارة المقصورة حتى يختفيا عن الجلوس ففعل، ثم قال السلطان: «هلم بنا إلى القصر.» ونهض فأسرع نادر بين يديه من باب سري يؤدي إلى القصر، ولم يشعر بهما أحد من الجلوس.
مشيا توًّا إلى غرفة المطالعة وهي لا تزال مشعشعةً بالأنوار، فقعد السلطان وأشار إلى نادر أن يقعد فقعد، فتناول السلطان سيكارًا أشعله ونفخ الدخان من فيه مع زفرة طويلة، وكرر ذلك مرتين فامتلأت الغرفة من الدخان، وهو مطرق ونادر بين يديه جامد كالصنم، ثم رفع السلطان بصره إلى نادر وقال: «ألا تعرف القادين ج من يوم مجيئها قصرنا؟»
قال: «لم أكن أعرف عنها شيئًا كثيرًا، ولكني كنت أسمع قزلر أغاسي (قيم الجواري) يثني على ذكائها وجمالها.»
قال: «ألا تعرف أنها أرمنية الأصل؟»
قال: «يظهر ذلك من شكل أنفها وملامح وجهها، وأظن هذا هو السبب في نفور مولاي البادشاه منها.»
قال: «لا، لا، ليس السبب في ذلك أنها أرمنية أو أنني أكره هذه الطائفة بعدما كان من تمردهم ودسائسهم، ولكن …» وعاد إلى التدخين ونفض رماد السيكار في منفضة بين يديه وهو مطرق، كأنه يتردد في هل يطلع نادر أغا على ذلك السر الذي لم يطلع عليه أحدًا بعد … ونادر جالس متأدبًا لا يبدي حراكًا لئلا يشوِّش على السلطان مجاري أفكاره.
ونهض السلطان عن الكرسي الطويل الذي كان جالسًا عليه فقصد المكتبة، وفتح الدرج وأخرج منه تلك الورقة من محفظتها، وقبض عليها بكفه وعاد إلى مقعده والسيكار في فيه وقال: «اسمع يا نادر أغا يقولون إن والدتي أرمنية الأصل؟»
قال: «نعم يا سيدي، هكذا يقولون.»
فقال السلطان: «فكان ينبغي أن أحب الأرمن من أجلها.»
قال: «نعم أفندم.»
فأخرج السيكار من فيه وتنهد وقال: «ولكنني أكرههم لأنهم ألد أعدائي.»
قال: «إنهم يستحقون الغضب لعقوقهم وتمردهم.»
فقاطعه السلطان قائلًا: «إني أكرههم وأخافهم من صباي، أتعلم لماذا؟»
فتطاول نادر أغا بعنقه ولم يجب اكتفاءً بالإصغاء، فقال السلطان: «كرهتهم من صباي لأن المنجم الذي تنبأ لي بأن العرش سيفضي إليَّ … هل تعرفه؟»
فبُغِت نادر أغا لأنه لم يكن يتوقع سؤالًا فقال: «خيرًا أفندم.»
فقال: «كنت في صباي أحضر مجلس التنجيم والمندل بين يدَي السلطانة الوالدة، وهي يومئذٍ والدة عمي السلطان عبد العزيز، وكان عندها جماعة من مهرة المنجمين نبوءاتهم صادقة. ثم عرفت منجمًا اسمه الشيخ عبد الرحمن من أهل صيدا، جاءني به نجيب باشا أحد رجال الدولة عند رجوعه من منفاه في قبرص وأطرى مهارته في استطلاع الغيب، فطلبت إليه أن يكشف لي عن مستقبلي فذكر أني سأتولى العرش قريبًا وأبقى عليه مدة طويلة، فاعترضت بوجود عمي عبد العزيز حيًا ثم أخي مراد، فأكد لي أن طالعي يدل يقينًا على ما قاله. لكنه أسر إليَّ أنه يرى ظلًّا أسود يحوم حول سعدي، وأنه إذا كان عليَّ خوف فهو من عشيرة أمي، وهو يعتقد أنها أرمنية. فلم تمضِ مدة طويلة حتى صدق المنجم وتوليت العرش وكافأت الرجل مكافأة حسنة، ثم خدمني خدمات جليلة في شأن حفظ السلطنة … فلما رأيته صدق في بعض نبوءاته خفت أن يصدق في الباقي، ولذلك رأيتني أطارد الأرمن وأحاذرهم.»
وسكت ريثما سحب نفَسًا طويلًا من السيكار وفي ملامح عينيه أنه لم يتم حديثه بعد، وظل نادر أغا مصغيًا، فعاد السلطان إلى الكلام قائلًا: «قد علمت سبب نقمتي على الأرمن إجمالًا، ولم تعلم بعد سبب حذري من هذه المرأة على الخصوص … فاعلم أني شديد الإعجاب بهذه الجارية منذ عرفتها لذكائها وسداد رأيها، وكثيرًا ما كنت أقضي الساعات في مجالستها حتى شغلتني عن سواها لما لها من الاطلاع على مختلف الكتب، وهذا ما جعلني أثق بها حتى كلفتها بمهمة ذات شأن في أثناء دسائس الأرمن التي انتهت بذبحهم في الأستانة منذ عشرة أعوام.»
واعتدل السلطان في مقعده وتنحنح، وقد أبرقت عيناه سرورًا بما كان من نجاحه في تلك المذبحة وقال: «كنت أسمع يومئذٍ أن بعض رجالي المسلمين ممن قدمتهم ورقيتهم وولَّيتهم المناصب موالون لأولئك الكفار في تمردهم عليَّ، فلكي أتحقق ذلك بعثت بعض السراري النبيهات إلى بعضهم على سبيل الهدية — وهم طبعًا يفرحون بالهدية السلطانية ولا يجسرون على ردها — فأطلعني أولئك الجواري بعد ذلك على أسرار مهمة. وكانت القادين ج يومئذٍ لا تزال من جملة السراري، فكلفتها بكشف أسرار «ع. باشا» لأني كنت أظن أنه يتظاهر بالإخلاص. وحرصًا على استرجاعها إليَّ، وخوفًا من أن تنحاز لأبناء جلدتها لأنها أرمنية؛ وعدتها إذا قامت بتلك المهمة أن أجعلها قادين، واشترطت عليها شروطًا خاصة تجيز رجوعها إلى قصري وأنا واثق بصدقها. والحق يقال إنها أخلصت الخدمة، وعادت بأهم الأخبار عن الأرمن أنفسهم أيضًا، فجعلتها قادين وأمرت لها بدائرة خاصة تقيم فيها، وعندها الخازنة والباشكاتبة والمهردار والأسفنجي، فضلًا عن الخدَمة والجواري والخصيان مثل زميلاتها، ولم أميز واحدة منهن عنها في شيء، ولكن … آه!» وتنهد.
وكان نادر أغا كثير الشفقة على تلك القادين ويحب أن ينقذها من الخطر إذا استطاع، فأصغى بكليته إلى حديث السلطان فلم يجد في كل ما سمعه شيئًا يوجب الغضب، فلما رآه يتنهد توقع أن يسمع ما يكشف له القناع عن السبب الصحيح.
أما السلطان فبعد أن تنهد رمى بقية سيكاره في المنفضة وقال: «إنك لا تجد في حديثي عن هذه المرأة حتى الساعة ما يوجب الغضب عليها، ولا أنا أيضًا. ولكنني رأيت في المنام بعد ذلك رجلًا أرمنيًّا اسمه مهران بك كنت أراه في مجلس أبي، ولم أكن أحبه لأنه كان يفضل إخوتي عليَّ، وربما أوعز إلى أبي بذلك، وكنت ألاحظ أن أبي يسايره وينتهرني، فنشأت على كره هذا الأرمني. وقد مات من زمن طويل ولم يخطر ببالي ذكره إلا في تلك الليلة، فرأيته في المنام بهيئته التي أعرفه بها وبيده سيف يشير به إشارة التهديد، فأجفلت واستيقظت وانتبهت إلى الخطر الذي يحدق بي من الأرمن وقلت: «ينبغي أن أحترس منهم.» وحدث ذات يوم أن أمرت الشيخ أن يعمل مندلًا على ما في ضميري ولم أذكر له شيئًا، فكتب لي نتيجة المندل في هذه الورقة، فحفظتها عندي من ذلك الحين وتيقظت لنفسي، وأوصيت الحاضنة أن تتيقظ جيدًا للقادين ج. وقد علمت اليوم أنها حامل.» قال ذلك ودفع إلى نادر أغا الورقة ليقرأها.
ففتحها واقترب من المصباح وقرأ فيها: «لا ينبغي للسلطان أن يطمئن لأهل أمه بعد أن طاردهم وذبحهم، فإن ما كُتِب في صحائف الدهور كائن، والخطر سيأتي من طفل أمه أرمنية وأبوه السلطان.»
فلما فرغ نادر أغا من تلاوة الورقة اقشعر بدنه لأنه يعتقد في التنجيم مثل سيده، وأطرق مفكرًا فابتدره السلطان قائلًا: «ألا تراني معذورًا؟ ألا توافق على رأيي؟ هل يجوز الإغضاء عن تلك المرأة إذا صح أنها حامل؟ قل.»
فقال: «إن سيدي البادشاه صاحب القول. لا شك أن بقاءها على هذه الصورة خطر، ولكن هل ثبت حملها؟»
قال: «يكفي الشك للتعجيل بالقتل. قد نكون مصيبين وقد نكون مخطئين، فإذا صبرنا ووضعت غلامًا أصبح التخلص منه شاقًّا وتحوم حولنا الظنون. أما الآن فالإنسان عرضة للمرض والموت في كل ساعة، والأطباء يرسلون الإنسان إلى العالم الآخر بجرعة لا يشعر معها بألم ولا عذاب، فأحب إرسال هذه المخلوقة من هنا وإن كنت آسفًا لذلك، لأن المسكينة كانت تحبني.»
فقال نادر أغا: «لا فضل لها في حبها، ومن الذي لا يحب مولانا الخليفة ظل الله على الأرض؟ إن المحافظة على سلامته فرض لا بد منه ولو قُتِل الألوف في سبيله، وأنا أول من يضحي نفسه في هذا السبيل، أطال الله بقاء أمير المؤمنين!»
قد نُجِلُّ ذكاء عبد الحميد عن أن ينطلي عليه هذا الإطراء أو يعتقد صدقه، ولكن الإنسان ضعيف، وقد يكون قويًّا من كل جهة إلا من جهة اغتراره بنفسه فيكون غاية في الضعف، يقبل الإطراء ولو كان بعيد التصديق ولا سيما إذا كان لا يسمع غيره، وكل الذين حوله يتسابقون إلى استنباط عبارات الإطراء تملقًا له وتقربًا منه، فلا عجب إذا صدق عبد الحميد مثل قول نادر أغا ثم قال له: «إنني أكل أمر هذه المرأة إليك.»
وكان نادر مخلصًا لمولاه وإن لم يعرف كيف يؤكد إخلاصه، فلما وكل السلطان إليه هذا الأمر أشار مطيعًا. ثم تحفز السلطان للنهوض في طلب الرقاد، فنهض نادر أغا وخرج بعد أن قام بواجب الاحترام.
أما عبد الحميد فهاجت أشجانه في ذلك المساء على أثر ما تحدث به عن المنجمين والأرمن والقتل، فزادت مخاوفه وغلب عليه ميله إلى التستر والاختفاء. فأظهر أنه ذاهب للرقاد في دار الحريم، وبعد أن خلا إلى نفسه طلب النوم في غرفة المائدة على كرسي طويل فوقه ملاءة من الصوف، يوجد مثله في كل غرفة بالقصر لينام السلطان متى شاء دون أن يعرف أحد مقره.
•••
نام عبد الحميد في تلك الليلة نومًا متقطعًا كالعادة، ولما أفاق في الصباح هُرِع إلى الحمام وقام ببعض الحركات الرياضية، ثم لبس ثيابه العادية وانصرف إلى غرفة المطالعة، وكان القهوجي باشي قد وقف هناك وأعد الأدوات اللازمة لطبخ القهوة بين يديه.
فقعد عبد الحميد ينظر إلى القهوجي باشي وهو يهيئ القهوة، وتناول سيكارًا فأشعله وشرب القهوة بلذة، وفكره مشغول بما عساه أن يأتيه من الأخبار الجديدة في ذلك اليوم.
ثم انصرف القهوجي باشي، وجاء الخبر بأن المائدة معدة للفطور، فنهض عبد الحميد إليها وتناول فطورًا خفيفًا من البيض واللبن، وهو يتوقع دخول الحاجب بمجيء البريد أو السر خفية.
وما عتم أن سمع رنين جرس الباب الخارجي، فعلم أنه الحاجب جاء بخبر جديد، فنهض ومشى إلى غرفة الاستقبال التي يطالع فيها التقارير، فلقيه الحاجب وألقى التحية المعتادة وقال: «إن الباشكاتب بالباب.»
فعلم عبد الحميد أن الباشكاتب لا يبكر على هذه الصورة من عند نفسه إلا لخبر مهم، فخفق قلبه تطلعًا إلى ما عساه أن يكون وأشار إلى الحاجب أن يأذن للباشكاتب بالدخول.
وبعد هنيهة دخل الباشكاتب والسلطان قد جلس إلى المنضدة التي يقرأ عليها التقارير، فحيا وهو يبتسم دلالة على طيب الأخبار التي جاء بها فاستبشر السلطان، وإذا بالباشكاتب يقدم له ظرفًا عرف من شكله أنه تلغراف فتناوله بلهفةً وفضه وقرأه، فبانت الدهشة في وجهه وأغرق في الضحك وفي عينيه ملامح الشماتة والاستهزاء، ثم انتبه لوقوف الباشكاتب فأومأ إليه أن يقعد فقعد.
فأعاد عبد الحميد نظره في التلغراف كأنه يتفهم معناه، ثم قال: «عفارم … عفارم ناظم!» والتفت إلى الباشكاتب وقال: «متى جاءك هذا التلغراف؟»
قال: «في هذه الساعة يا مولاي.»
فدفعه إليه وقال: «اقرأ».
فقرأ ما ترجمته: «قد تمكنَّا ببركة الذات الشاهانية المقدسة وهمة الجاسوس صائب بك من القبض على رامز أحد أعضاء الجمعية الجهنمية ومعه أوراق مهمة تكشف عن خيانات كثيرة، وننتظر الأمر بما يلزم، والأمر لصاحب الأمر (ناظم).»
فقال السلطان: «من هو صائب هذا؟»
قال: «هو من الجواسيس الذين أرسلهم السر خفية إلى سلانيك، وقد سمعته يثني على إخلاصه واجتهاده.»
فاعتدل السلطان في مجلسه وقال: «كيف ترى هذا الرجل، أعني السر خفية؟ أحب أن أعرف رأيك فيه لأني لا أثق بسواك كما تعلم.»
قال: «هو من العبيد المخلصين يا سيدي، ونجاح رسوله في هذه المرة من أكبر الأدلة على ذلك. وكيف لا يكون مخلصًا والذات الشاهانية وضعت ثقتها فيه؟»
فأظهر السلطان أنه اكتفى بهذه الإشارة، واعتمد على فطنة السامع لفهم ما يقتضيه هذا السؤال من مراقبة حركات السر خفية، وقال: «ما هو رأيك؟ هل نستقدم ذلك الخائن المقبوض عليه إلى هنا؟»
قال: «الأمر لأمير المؤمنين. ولعله إذا جيء به إلى هنا يطلعنا على أشياء جديدة … لله ما أجهل هؤلاء الغلمان!»
فصفق السلطان فجاء الحاجب فأمره باستدعاء السر خفية، وقال للباشكاتب: «قل لناظم أن يبعث بالخائن وأوراقه حالًا.»
فنهض الباشكاتب وأشار إشارة الطاعة وخرج، وعاد عبد الحميد إلى سيكاره فأشعله وهو يعيد نظرة إلى التلغراف، حتى أُنبئ بمجيء السر خفية فأمر بدخوله. وكان السر خفية قد علم بمجيء التلغراف في ذلك الصباح وبفحواه، فلما دخل على السلطان حيَّا تحية الاحترام وأظهر أنه لم يكن يعلم بذلك، فقرأ أمارات السرور في عينَي عبد الحميد فشاركه ابتهاجه. فمد السلطان يده ودفع التلغراف إليه وهو يأمره بالجلوس، فجلس وتناول التلغراف وهو يقول: «إذا كان هذا التلغراف من سلانيك ففيه خبر القبض على أحد الخونة.»
فأظهر السلطان الإعجاب بتيقظه وقال: «نعم، إنه من سلانيك، وقد قام بهذه المهمة أحد رجالك مع ناظم بك.»
فتناول السر خفية التلغراف وقرأه وقال: «نعم يا سيدي، إن صائب بك من العبيد المخلصين.»
فقال السلطان: «إن الإخلاص منك، وقد توسمت فيك صدق المودة منذ عرفتك، ولولا ذلك لم أضع ثقتي فيك وأجعلك عيني الباصرة. إنك معتمدي الوحيد في مراقبة الخونة المارقين وهم كثيرون حتى في هذا القصر، ولذلك فأنا أخاطبك رأسًا.»
وتنحنح وسحب نفسًا من السيكار، وقال: «أمرنا الباشكاتب أن يستقدم ذلك الخائن وأوراقه. ألم نفعل حسنًا؟»
فانشرح صدر السر خفية من ذلك الإطراء وقال: «كيف لا؟ إنه متى جاء استطلعنا منه سر تلك الجمعية وبددناها.»
فقال: «نعم، قد آن الاقتصاص من سلانيك وأهلها، وكل آتٍ قريب!» قال ذلك بلحن التهديد ونهض، فنهض السر خفية واستأذن في الانصراف.
فلما خلا السلطان إلى نفسه مشى إلى غرفة النجارة وأخذ يتلهى بصنع إطار من الآبنوس كان قد بدأ بصنعه منذ أيام، وأفكاره تائهة فيما سيكون من أمر رامز متى جاء، وكيف يحتال في كشف سر الجمعية، فطرأ على ذهنه رأي فمشى إلى موقف التليفون وخاطب الباشكاتب وسأله: «هل أرسلت التلغراف إلى ناظم بك؟» فقال: «نعم، أرسلته.»
قال: «ماذا قلت له فيه؟» قال: «طلبت أن يُرسَل المقبوض عليه وأوراقه حالًا.»
قال: «متى جاء هذا الخائن فأرسله إلى السر خفية، فهمت؟»
قال: «سمعًا وطاعة يا سيدي.»
وعاد السلطان إلى غرفة النجارة. وبعد هنيهة خطر له رأي جديد فعاد إلى التليفون وخاطب الباشكاتب ثانية قائلًا: «إذا جاء الخائن فأرسله إلى عزت وأرسل أوراقه إليَّ.» فأجاب بالسمع والطاعة.
وعاد السلطان إلى عمله، وقد غلب عليه التردد في هذا الأمر لشدة القلق، ولاح له أن يكون هو أول من يرى رامزًا، فعاد إلى التليفون للمرة الثالثة وقال للباشكاتب: «أرى أن ترسل الرجل وأوراقه إليَّ.»
فقال: «سأفعل يا سيدي.» ولم يستغرب الباشكاتب هذا التردد فقد تعوَّده.
أما السلطان فبعد أن رجع إلى عمله عاد إلى التفكير في الأمر، فرأى أن استقدام الرجل إليه رأسًا لا يخلو من الخفة، فعاد إلى التليفون وأمر الباشكاتب إذا جاء المقبوض عليه أن يبقيه عنده ويظهر الاستخفاف به مكتفيًا بإرسال أوراقه إليه، فأجاب مطيعًا.
قضى عبد الحميد بقية ذلك اليوم كأنه على الجمر من شدة قلقه في انتظار رامز وأوراقه، وفي صباح اليوم التالي لم يعلم عبد الحميد كيف يستحم ويبدل ثيابه ولا كيف يتناول الفطور من قلق الانتظار، وظل يتنقل من غرفة إلى غرفة وقد نسي القادين ج ونادر أغا وما كان من أمرهما.
وبينما هو واقف أمام خزانة الأسلحة يتأمل ما فيها من المسدسات والخناجر إذ سمع صرير الباب، فمشى نحو قاعة الاستقبال وهو يتجلد ويخفي لهفته، فرأى الحاجب داخلًا ومعه محفظة كبيرة مختومة، علم السلطان حالًا أنها محفظة رامز، فأشار إليه أن يضعها على المنضدة ويستدعي السر خفية. ولم يكد يقعد حتى كان السر خفية أمامه، فأومأ إليه أن يقعد، وأخذ في فض المحفظة وإخراج ما فيها من الأوراق والظروف، وبينها خطابات ومراسلات بالتركية والفرنساوية، وبعضها بالأرقام السرية (الشفرة).
وقضيا ساعة استغرقا خلالها في القراءة صامتين، ثم قطع السلطان حبل السكوت بأن سعل ومد يده بورقة إلى السر خفية وقال: «اقرأ هذا جيدًا.»
فقرأها وأعاد قراءتها ثم قال: «يظهر أن الملاعين ماضون في سعيهم الشيطاني، ويعملون على بث تلك الروح الخبيثة في أنحاء مقدونية يجمعون بين عناصرها ومذاهبها.»
فتكلف السلطان الابتسام وقال: «إنهم يطلبون مستحيلًا إذ يريدون أن يجمعوا النصارى والمسلمين ليتحدوا عليَّ، خاب فألهم كيف يجمعون بين البلغاري والصربي والمقدوني والتركي والعربي وقد فرقنا بينهم ومزقنا جامعتهم تمزيقًا؟!»
وكان السر خفية في أثناء ذلك يقلب الأوراق، فوقع نظره على عريضة كبيرة باللغة الفرنسية فأخذ يقرؤها والسلطان ينظر إليه فرأى وجهه يتغير فبادره قائلًا: «ماذا تقرأ؟»
قال: «هذه يا سيدي صورة مذكرة مقدمة من تلك الجمعية الشيطانية إلى وكلاء الدول!»
فبُغِت السلطان وقال: «إلى وكلاء الدول؟! أبلغت قحتهم إلى هذا الحد؟ ما شأن الدول في هذا الأمر؟ لا يجوز للدول أن تتعرض لأوامري في مملكتي. وهب أنها تستطيع ذلك فإنها لا تفعل، وما أظنها تعبأ بأقوال أولئك الأغرار المتشردين. ماذا يقولون لهم في هذه المذكرة؟»
قال: «إنهم يقولون كثيرًا، ولكن ما الفائدة والدول لا تعبأ بأقوالهم بعد أن رأت فشلهم مرارًا، وهذه جرائد فرنسا قد دافعت عن الذات الشاهانية وبينت للملأ أن الذين يسمون أنفسهم أحرارًا قوم خوارج يُباعون بدريهمات قليلة؟»
ثم جعل السر خفية يترجم له بعض الفقرات المهمة، من ذلك قولهم يخاطبون الدول: «إن المرض المستولي على بلاد العرب أو طرابلس الغرب هو عين المرض المستولي على مقدونيا، فكل الأقوام المؤلفة من الترك والعرب والألبانيين والجركس والكرد والأرمن والفلاخ واليهود والصرب والروم والبلغار ممن يشملهم الحكم العثماني؛ يكابدون تلك المشاق ويئنون تحت تلك المظالم. فليس بمقدونيا ولا بأي ولاية من الولايات العثمانية نوعان من الناس أحدهما ممتاز والآخر مظلوم، كلنا بلا استثناء مشتركون في الظلامة، كلنا رازح تحت استبداد واحد.»
وكان السر خفية يقرأ والسلطان مطرق يتلهَّى بالتدخين وعروقه تنتفض من الغيظ، فلما أتى السر خفية على آخر الفقرة أظهر السلطان الاستخفاف وقال: «إنهم سلكوا الآن مسلكًا جديدًا، ولكنهم لا يفلحون … كلهم رازحون تحت استبداد واحد؟! سيبقون تحت تلك الأثقال إلى ما شاء الله. أهكذا يفعل أبناء الدولة الصادقون؟! تبًّا لهم! ولكن الدواء عندي. ماذا ترى؟»
فقال: «أرى ما رآه أمير المؤمنين، وقد تفضل الساعة فقال إن الجمع بين هذه العناصر مستحيل، ولا سيما أن كل عنصر يحقد على العناصر الأخرى و…»
فقطع السلطان كلامه قائلًا: «تبًّا لهم! كيف يجمعون هذه العناصر؟! بل كيف يجمعون بين المسلم والمسيحي واليهودي، والمسلمون طوع إرادتي أنا خليفة النبي ﷺ ولا يفعلون غير ما أريده، ليس في مملكتي فقط بل في سائر أنحاء العالم؟! كأنهم يحسبون المسلمين قد مرقوا من دينهم كما فعلوا هم.» وضحك وعاد إلى التدخين، وتناول سيكارًا دفعه إلى السر خفية فتناوله وقبله ووضعه في جيبه، وأدرك من ذلك أن السلطان يستحث غيرته لينبه قريحته لاختراع حيلة لمقاومة تلك المساعي، فأطرق هنيهة ثم قال: «إن رأي مولاي البادشاه فوق كل رأي، ولكني أستأذنه في كلمة.»
قال: «قل، إني أحب آراءك وأعتقد محبتك، فأنت صديقي الوحيد لا أعول على سواك، ونحن شركاء في الأمر لأن ما يمس الدولة يمسسك وما ينفعها ينفعك. هل نترك أولئك الأغرار يغلبوننا بصياحهم وعندنا السلطة الدينية والسياسية وعندنا الأموال …؟» قال ذلك بلحن التهديد.
فسُرَّ السر خفية بذكر المال وقال: «إني أرى أن يكون الجزاء من جنس العمل، هم يحاربون الدولة بجمع العناصر ونحن نحاربهم بتفريقها، ولا وسيلة لذلك أنفع من الدين.»
فقال السلطان وهو يحكُّ ذقنه بسبابته: «أصبت. هكذا الأمر.»
فقال: «هم يزعمون لأوروبا أنهم جميعًا مظلومون، ويسعون في تفهيم الرعايا أن الوسيلة الوحيدة لخلاصهم أن يجتمع المسلم والمسيحي، وسنبين للمسلمين أن هذه المساعي إنما يراد بها ضياع دينهم وإدخالهم في زمرة الكفار …»
فقطع السلطان كلامه بقوله: «حسنًا، إن شعبي المؤمن شديد الغيرة على الإسلام. وأزيد على ذلك أن السير على هذه الضلالات والإصغاء إليها يقود إلى خروج نساء المسلمين حاسرات الوجوه كنساء الإفرنج الكفار، وأنا أعلم تمسك عامة المسلمين بالحجاب.»
فأخذ السر خفية في إطراء ذكاء السلطان ودهائه، ثم قال: «الواقع أن هدف ذلك الاتحاد ليس سوى هذه النتيجة، وهؤلاء الأغرار أنفسهم يقلدون المسيحيين في كل حركاتهم فيعاقرون الخمر ويجالسون النساء ويفعلون كل محرم … لله دَرُّ ذلك العبد المخلص الذي صور مدحت ورجاله تلك الصورة! فإنه قد أصاب كبد الحقيقة.»
فلما سمع السلطان اسم مدحت اقشعر بدنه ولكنه تجاهل وقال: «هذه أفضل السبل، اكتب إلى رجالك بهذا المعنى. ولا حاجة بي إلى أن أوصيك بأن يبقى هذا الحديث مكتومًا عن كل إنسان حتى الباشكاتب وعزت وغيرهما، فإني أعول عليك فقط. أنفق ما استطعت في هذا السبيل، ومتى عرفنا أعضاء تلك الجمعية نجعل جزاءهم القتل!» قال ذلك وتناول ورقة بجانبه وكتب عليها بيده أمرًا إلى وزير المالية أن يدفع إليه عشرة آلاف ليرة عثمانية حالًا، ودفع الورقة إليه وقال: «وخوفًا من تأخير الدفع سأعطيك الآن دفعة مستعجلة.» ومد يده إلى جيبه وأخرج ورقة مالية بألف ليرة إنكليزية سلمه إياها، فتناولها وقبلها وجعلها في جيبه. وأشار إليه السلطان أن يجمع تلك الأوراق في المحفظة حتى يعيد نظره فيها مرة أخرى، ثم قال: «وصائب بك ينبغي أن نكافئه، لا تنسَ ذلك.»
فقال السر خفية: «هو مغمور بنعم أمير المؤمنين، ولكنه بعث إليَّ تلغرافًا بطلب رتبة لواحد من المخلصين ساعده في كشف ذلك السر.»
فقال السلطان: «حسنًا، قل للباشكاتب يعرض اسمه فنكافئه على إخلاصه، إننا لا نبخس المخلصين الأمناء حقهم.»
وبينما هما في ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «إن الصدر الأعظم بالباب.» وأدرك السلطان عبد الحميد أن الصدر الأعظم لم يأته رأسًا إلا لأمر يهم الدولة وله علاقة بالدول الأخرى، ولهذا لم يستطع رده رغم أنه مشغول بما كان فيه، فأشار إلى السر خفية أن ينصرف وأذن للصدر الأعظم في الدخول، فدخل وحيَّا ووقف حتى أشار السلطان إليه أن يجلس، فجلس متأدبًا ينتظر أن يفتح السلطان الخطاب إذ ليس من آداب مجالس الملوك أن يخاطبهم أحد قبل أن يبدءوا هم الكلام. فتجلد السلطان كأنه لم يكن في شيء مما كان فيه وقال: «كيف الأحوال؟»
قال: «إن الأحوال حسنة، لكنها تحتاج إلى نظرة من مولاي البادشاه.»
ففهم أن الصدر لا يقول ذلك إلا لأمر مهم، فقال: «ما وراءك؟»
فأخرج الصدر ورقة من جيبه ودفعها إلى السلطان وقال: «هذه خلاصة ما جاءنا اليوم، إن الدول الأجنبية تستخف بنا!»
فتناول السلطان الورقة فقرأها وأعادها إلى المنضدة وقال: «أراك قد علقت على هذا الخبر أهمية كبرى.»
قال: «كيف لا يا سيدي وهذا قيصر روسيا وملك إنجلترا قد اجتمعا في «روال» وقررا ما يؤدي إلى ذهاب تركية أوروبا من أيدينا؟»
فهز السلطان رأسه وتكلف الابتسام وقال: «كثيرًا ما قرروا مثل هذه القرارات وقد عرقلتُ مساعيهم.»
فامتعض الصدر من تعبير السلطان في هذا الموقف بصيغة المفرد كأنه هو الفاعل لكل شيء، ولم يهمه هذا بقدر ما أهمه استخفافه بالأمر فقال: «لا شك أن حكمة أمير المؤمنين تتغلب على كيد الكائدين، ولكن ذلك يفتقر إلى المال والخزانة تشكو الفراغ.»
فلما سمع قوله أظهر الاستغراب وقال: «عجبًا! لقد عهدت إليك في أمر الصدارة لتتلافى ما وقع فيه أسلافك. إن مملكتي الواسعة كثيرة الإيراد، أين تذهب الأموال؟»
ولو أراد السلطان أن يفهم مصير الأموال لعلم أنها تذهب بسبب دخول رجاله وخاصته في كل فروع الحكومة، يتسلطون عليها ويستولون على الإيراد أو يضيعونه بسوء إدارتهم، ولا تستطيع الصدارة أن تعارضهم حتى لا يقع الغضب عليها. على أن الصدر لم يجرؤ على التصريح بذلك، فاكتفى بأن قال: «إن مملكة جلالة السلطان واسعة، زادها الله سعة! ولكن الإيراد يذهب من سوء الإدارة و…»
فقطع السلطان كلامه بصوتٍ عالٍ قائلًا: «وأنت المسئول عن ذلك، فهمت؟»
فعلم الصدر الأعظم ألَّا فائدة من الكلام، وعاد إلى مسألة روال فقال: «ولكن مسألة روال؟ ألا يرى مولاي الاهتمام بشأنها؟»
فقال السلطان: «ما روال هذه؟ دعنا منها الآن. ولا بد من تدبير النقود، فإني في حاجة إليها لمساعدتكم في إدارة هذه الحكومة، ولولا سهري وتعبي لذهبت دولتنا هباءً منثورًا، تقعون في الخطأ فأضطر أنا إلى إصلاحه وهذا يقتضي الأموال.» وحملق بعينيه وتشاغل بنفض رماد السيكار في المنفضة وسكت.
فتهيب الصدر، وهو يعلم أن غضب السلطان لا يُرَد، ولكنه لم يرَ بدًّا من الرجوع إلى الموضوع فقال: «إن مسألة روال لولا أحوال أخرى لم يكن لها أهمية.»
قال: «أراك عدت إلى الشكوى من قلة المال!»
قال: «يا سيدي إني لا أطلب المال لغير الجند، إن معولنا على الجنود وهؤلاء ينبغي أن يستولوا على مرتباتهم و…»
فنهض السلطان غاضبًا وقال: «الجنود؟! لقد أنفقت مالي وراحتي في سبيل إرضائهم وهم يتذمرون! أعطوهم رواتبهم. من أين آتي بالمال؟ إن إيرادات الحكومة في أيديكم، وأنا لم أستولِ على راتبي منذ أشهر، وإذا احتجت إلى المال فذلك لأنفقه في سبيل مصلحة الدولة، وكثيرًا ما أطلبه فلا أجد منه شيئًا! لا، لا، هذا شيء لا يحسن السكوت عليه بعد الآن. وقد طلبت الآن صرف مبلغ زهيد لمصلحة الدولة، فادفعوه لحامل أمري حالًا!»
ورأى السلطان أنه بالغ في التعنيف بغير حق، فخفض صوته وأظهر التلطف وقال: «ومع ذلك لا بد من اتخاذ التدابير لزيادة الإيراد، وأنا أكلفك أن تضع لائحة في هذا الشأن. لا ينبغي لنا أن نجعل للأجانب سبيلًا إلى انتقاد أعمالنا.»
وكان الصدر مخلصًا في خدمة الدولة، لكنه لم يُؤتَ من الجرأة ما يكفي للتصريح بفكره، ولو أُوتِيها ما عادت بفائدة! فلما رأى غضب السلطان نهض ووقف مصغيًا لكلام السلطان، حتى إذا فرغ منه أشار مطيعًا وانصرف وهو يقول في سره: «لا يُرجَى إصلاح هذه الدولة وهذا الرجل سلطانها!»
وما خلا عبد الحميد إلى نفسه بعد انصراف الصدر حتى نهض وأخذ يتمشى في الحجرة ويتمتم قائلًا: «تطلبون المال مني؟ لكن إذا أعطيتكم ما عندي فكيف أدافع عن حياتي؟ كلكم تحتفظون بالمال لأنفسكم، ألا يحق لي أن أفعل مثلكم؟»
ثم مشى مستطرقًا من غرفة إلى أخرى وهو يتلفت كأنه يحاذر أن يتبعه أحد، حتى أتى غرفة صغيرة مهملة لا يدخلها أحد وضغط على زر وراء بابها، فانفتح في الحائط المقابل باب دخل منه في دهليز إلى حجرة فيها خزانة من الحديد، فأخرج من جيبه مفتاحًا فتحها به، وإذا هناك أكداس من المال والذهب والجواهر، فلما وقع بصره عليها أشرق وجهه وانبسطت أسرته، وجعل يقلب ما هنالك من الأوراق المالية الكثيرة ويقول: «أتريدون أن أعطيكم هذه الأموال التي هي عدتي في محاربتكم ولولاها لم تأتوا إليَّ صاغرين؟ كيف أعطيكم إياها؟! وبماذا أغري بعضكم ببعض حتى لا تجتمعوا عليَّ؟ لولا هذا المال لكنتم أنتم أصحاب السلطة، فأنتم تخادعونني طمعًا في المال، وأنا أخادعكم ولا أعطيكم إياه، إنه سلاحي وبه حياتي!»
قال ذلك وعاد فأغلق الخزانة وباب الحجرة وهو يقول: «ليس هذا كل مالي، وهل جُنِنت لأضع كل ثروتي في مكان واحد وأنا محاط باللصوص والجواسيس؟»
ومشى حتى أتى غرفة النجارة ففتح درجًا في مكان لا يخطر لأحد وجود المال فيه، وأخرج منه ظرفًا فيه مئات من الأوراق المالية ربما زادت قيمتها على نصف مليون جنيه، وجعل يقلبها ويقول: «هذا من مالي، ومثله كثير في هذه الخبايا.»
•••
عاد السلطان عبد الحميد إلى قاعة الاستقبال ورجع إلى مطالعة أوراق رامز، فرأى بينها كتبًا من شيرين فيها مداعبة ومشاكاة. وبينما هو يقرؤها سبح فكره فجأة ولاحت أمامه صورة القادين ج فأجفل وتحولت هواجسه إلى دار الحريم، فأراد أن يشغل نفسه بقراءة جريدة فرنسية فيها مقالة لرامز، وأخذ يحاول أن يتفهم فحواها لكن صورة القادين لم تبرح ذهنه، فرمى الجريدة على المنضدة واسترخى في مجلسه على المقعد وتنهد تنهدًا طويلًا ثم قال لنفسه: «ماذا جرى لتلك المرأة؟ هل تحقق حملها؟ ويلاه! بماذا ينبغي أن أشتغل، أبالخوارق المارقين أم بالنساء في دار الحريم، أم بمطالعة التقارير من الجواسيس وعلى الجواسيس؟!»
ثم مد يده إلى صندوق السيكار وتناول سيكارًا وأشعله وهو ينظر من خلال الدخان إلى الساعة التي أمامه، ثم نهض متجلدًا وقال: «ولكن هذا العمل لا يصعب على همة السلطان عبد الحميد! لم يرَ عرش آل عثمان سلطانًا عاملًا مثلي، إني قابض على مملكتي ودولتي وقصري بيد من حديد!» وصفق فجاء الحاجب فصاح به: «ادع نادر أغا!» ثم مشى في الدهليز بين خزائن التقارير السرية نحو دار الحريم وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة. وإذا بنادر أغا قادم عليه من الباب السري المؤدي من دار الحريم إلى القصر فحيا ووقف، ولو كان أبيض اللون لظهرت دلائل البغتة في امتقاع لونه، ولكنها ظهرت في عينيه رغم ما كان يحاوله من التستر. وأدرك عبد الحميد ذلك فقال وهو يتحول إلى حجرة النجارة ليلهو بالحفر: «ماذا جرى؟ هل أرسلتموها؟» يريد هل قتلوا القادين ج طبقًا لمشورته، فقال نادر أغا: «خيرًا أفندم»، فحملق السلطان فيه وقال: «ماذا؟ ألم ترسلوها؟!» فقال: «لم نتحقق بعد أنها حامل …»
فقطع عبد الحميد كلامه وقال: «إن الشك وحده كافٍ لتنفيذ أوامري، ولولا ما تعلم من منزلتك عندي لكنت …» وسكت والتهديد ظاهر في نظراته وحركاته.
فقال نادر أغا: «ليس في الدنيا من هو أسبق من عبدكم إلى تنفيذ أوامر الذات الشاهانية المقدسة، ولكنني كنت أحسب أمير المؤمنين يفضل بقاءها ما لم يثبت حملها.»
ولمَّا لاحظ الإنكار في وجه السلطان قال: «على أنه ينبغي ألا أكتم شيئًا عن سيدي وولي نعمتي …»
فقال: «قل ما عندك.»
قال: «لا أثق أن الحاضنة المكلَّفة بمثل هذه المهام تفعل ذلك بأمانة، وربما كنت مخطئًا في ظني …»
فقطع عبد الحميد كلامه قائلًا: «فهمت مرادك، صدقت. لأن تلك الحاضنة تعرف لتلك القادين جميلًا أسدته إليها بتوسطها لها عندي، ولكن لا بد من التنفيذ.»
فأطرق ذلك الخصي هنيهة وهو ينظر إلى خفة يد عبد الحميد في الحفر على الآبنوس كأنه من أمهر النجارين، ثم قال: «أعرف طبيبًا يتزلف إلى القصر منذ حين ويتوسل في طلب منصب، وهو لا يعرف تلك المرأة، فلا يشفق ولا يرحم. وهو أيضًا جائع يطلب رزقًا، وإذا علم أن جلالة السلطان يكافئه على تنفيذ أمره بأن يجعله من أطباء القصر الملكي فعل ما نريد.»
فضحك عبد الحميد وقال: «تعجبني آراؤك يا أبيض الخصال، إن ترقية الصغار لَتسهِّل الاستفادة من أمانتهم، إذ يحرصون على استبقاء النعمة التي نالوها … ولكن هل يستطيع ذلك؟»
فقال نادر: «أنا أخاطبه وأجعل ذلك شرطًا لتقدمه وليتدبر الأمر، وإذا لم يحسن الأسلوب عددنا ذلك ذنبًا حاسبناه عليه.»
فتبسم عبد الحميد وأشار إلى نادر بالانصراف، ومكث هو يفكر في رامز ويود لو يراه لعله يستطلع أسرار الجمعية منه، ولكنه رأى من الحكمة أن يصبر.