آخر أيام القوط
وهكذا ربض العرب في جزيرتهم لا تزعجهم صائحة، وطفِقوا وقد أحاطت بهم الممالك الضاربة الظامئة إلى الغزو والفتوح، وادِعِينَ بصحرائهم، مستلئمين بشجاعتهم التي لا تقهر، وبقي لذلك تاريخ العرب مغمورًا منذ أزمان بعيدة في القدم إلى القرن السابع الميلادي، فلم يعرف عنهم إلا أن لهم وجودًا، وإلا أن أحدًا من الغزاة لم يحاول غزوهم، إلا قعدت به الوساوس وساوره خوف الهزيمة، ثم حدث فُجاءة في أخلاق العرب تطورٌ جديدٌ، فلم يعودوا يرغبون في العزلة كما كانوا، بل انطلقوا يجابهون الدنيا، وأخذوا في جد وحزم يحاولون غزو العالم.
نشأ هذا التطور من عزيمة رجل واحد هو محمد بن عبد الله، فإن هذا النبي العربي شرع في طليعة القرن السابع ينشر الإسلام، فلقيت دعوته آذانًا واعية، وعظُم تأثيرها في قلوب العرب، فأثارت في طبائعهم وأخلاقهم ثورة عنيفة شاملة، وكان ما يدعو إليه محمد سهلًا حنيفًا، قريبًا إلى النفوس، يتفق مع شريعة اليهود التي كان لها أحبار بالجزيرة، وقد أبطل كثيرًا من الأحكام والعادات، وأضاف أحكامًا جديدة كان العرب في حاجة إليها، ودعا إلى الوحدانية، فكان ذلك فتحًا جديدًا بين قوم مردوا على عبادة الأوثان.
ويصعُب علينا في هذه الأيام أن ندرك التأثير الشديد الذي بعثه هذا الدين الهادئ في قلوب العرب، ولكننا نعرف أن هذا التطور الديني قد تم فعلًا، وأن للأنبياء الصادقين دائمًا قوةً غريبة في اجتذاب النفوس، ولقد كان محمد حين دعا قومه صادقًا، ولقد بلَّغ دينه الذي يراه الدينَ الحق أمينًا مثابرًا، ولقد كان في الدين من السمو، وفي النبي وأصحابه من الرغبة الحافزة في نشره ما أثار موجة ملكت على العرب شعورهم، وأجَّج في نفوسهم جذوة يسميها الناس اليوم بالتعصب الديني.
وكان العرب قبل بَعثة محمد أشتاتًا من شعوب وقبائل متطاحنة، تتنافس في الشجاعة الوحشية، والكرم والبطولة، وتعيش من الغارات وانتهاب الغنائم، فحوَّلهم النبي في طرفة عين إلى قوم مسلمين، وملأ قلوبهم بحماسة الشهداء، ووصل حبَّهم الفطري للدنيا والمغانم بطموح نبيل هو تبليغ الدين إلى الناس كافة.
خضعت جزيرة العرب كلها لمحمد قبل أن يلاقي ربه، وانتشرت القبائل التي وحَّدَ كلمتها في الممالك المجاورة للجزيرة، وألقى أهلها لهم القياد دَهِشِينَ مشدوهين، ثم اكتسحت جيوش خلفائه بلاد الفرس، ومصر، وشمال إفريقية، حتى بلغوا منه المكان المعروف بأعمدة هرقل، وردَّد المؤذنون أذانهم من وراء نهر جيحون بآسيا الوسطى إلى شواطئ المحيط الأطلنطي.
وصدت الهجومَ العربي بآسيا الصغرى قواتُ إمبراطور الروم، ولم يُتَح للمسلمين أن ينالوا من هذه البلاد حظًّا إلا في القرن الخامس عشر، حين بلغوا ما طال إليه تشوُّقهم من فتح القسطنطينية التي دكت حصونَها شجاعةُ الترك العثمانيين وشدةُ مِراسهم، وفي النهاية المقابلة من بحر الروم، صدَّ أحد قواد الروم تيار العرب إلى حين، فاتَّجه العرب الفاتحون إلى ممالك شماليِّ إفريقية، وكبحوا جماح أمة البربر الشامسة العنيدة بعد جهاد عنيف، وأخضعوها لسلطانهم، ولم يقف في وجوههم إلا قلاع سَبْتَة وحصونها، وكانت سبتة كغيرها من بلاد جنوبي بحر الروم، تحت حكم إمبراطور الروم، غير أنها لبعدها من القسطنطينية كانت تتوجَّه إلى مملكة إسبانيا بطلب المعونة، فهي تابعة للروم من حيث الحكم، مضافة في الحقيقة إلى ملك طُلَيْطِلَة لحمايتها والدفاع عنها، ولم يكن في حكم الظن أن تكون معاوَنة إسبانيا لها كافية لصد أمواج العرب الفاتحين، على أنه حدث فوق هذا أن كان هناك شقاق بين «يوليان» حاكم «سَبْتَة» و«لذريق» ملك إسبانيا ففتح هذا الشقاقُ البابَ واسعًا لدخول العرب، وذلل سبيل الفتح للغزاة.
كان يحكم إسبانيا في ذلك الوقت القوط الغربيون، وهم قبيلة متوحشة كغيرها من القبائل التي اكتسحت ممالك الإمبراطورية الرومانية إبَّان ترنُّحها للسقوط، أما القوط الشرقيون فقد احتلوا إيطاليا، وتركوا أبناء عمومتهم من القوط الغربيين يأخذون مكان بعض القبائل الجرمانية الجافية، ويدقون أطناب حكمهم بإسبانيا في القرن الخامس الميلادي.
وكانت إسبانيا عندما دخلها القوط منحلَّة العُرَا، غارقة في ألوان من الترف الفاجر، والنعيم الذي يسلُب الرجولة، وبمثل هذا العبث وذلك الفجور ذهبت ريح دولة الرومان قبلهم، فإن الرومان كغيرهم من رجال الحروب، حينما انتهوا من غزواتهم الكثيرة المتعاقبة بالنصر والغَلَب ورأوا الدنيا تحت أقدامهم، انصرفوا إلى الراحة بعد الجهد الشاق، والجهاد المضني، وألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والأمن الشامل، فذهبت أخلاقهم، وماتت فيهم حمية آبائهم الشجعان البُسْل الذين كانوا يرضون بالكفاف، ويتركون آلة الحرث ليجردوا السيوف ماضية بتَّارة، إذا دعاهم أحد القياصرة لحماية بلادهم، أو لغزو قارة جديدة.
كانت الطبقة الغنية بإسبانيا في عهد الرومان قد خلعت العِذار لأنواع الترف والشهوات، حتى لكأنَّها لم تخلق إلا للطعام والشراب، واللهو والقمار، ولكل ما يثير النفس العابثة ويُرضي نزعاتها، وكانت الطبقة الدنيا تشمل العبيد وأحلاس الأرض الذين أخلدوا إلى زراعتها حتى كأنهم قطعة منها لا يفارقونها حياتهم، فإذا انتقلت إلى مالك جديد، انتقلوا إليه معها.
وبين هاتين الطبقتين — طبقة الأثرياء، وطبقة العبيد والأحلاس — كانت الطبقة الوسطى من سكان المدن الأحرار تُلاقي من سوء الحال وضَنْك العيش ما كان شرًّا مما يلاقي العبيد وأشد نكرًا، فعليهم كان يقع عبء الإنفاق على الدولة، فهم الذين يؤدون الضرائب، ويقومون بخدمة الدولة وما تتطلبه المدن من الأعمال، وهم الذين يجمعون الأموال للأغنياء ليبعثروها في لذائذهم، وبديهي أن دولة تصاب بهذا الفساد وذلك الضعف لن تكون بها مُنَّة على صد فاتح بطاش شديد الشكيمة.
كان النبلاء والأغنياء — وهم في غمرة من النعيم ورفاغة العيش — لا يسمعون ما يلغَط به الناس من اقتراب الأعداء، وكانت سيوفهم قد صدِئت من طول ما مكثت في أغمادها، وكان العبيد لا يأبهون لتغلُّب حاكم على حاكم؛ لأنهم وصلوا إلى حال من الذل والبؤس بحيث لا يستطيع حاكم جديد أن يصيبهم بشر منها، وكانت الطبقة الوسطى ساخطة حانقة، وقد بهظها ما كانت تحمل من تكاليف الدولة، وما كان يقع عليها من الغُرْم من غير أن تنال من الغُنْم شيئًا.
وإن شعبًا هوى إلى هذه الهوة، وتدهور في هذا الدرك لا يستطاع في حكم البديهة أن يؤلَّف من رجاله جيش قوي مكافح؛ لذلك دخل القوط إسبانيا واستولوا عليها بدون عناء، وفتحت لهم المدن أبوابها عن طواعية، وخضعت لهم الحضارة الرومانية العليلة دون أن تمد للدفاع كفًّا، وفي الحق إن طريق القوط إلى الفتح كانت قد مُهِّدت بمن نزل قبلهم بإسبانيا من متوحشي الأللان والوندال والسوابي، فلم يكلفهم الغزو جهدًا، أو يحمِّلهم عنتًا؛ فقد علم الرومانيون من سكان إسبانيا حق العلم، ما يجر وراءه غزو المتوحشين من نكبات وأوزار، فكم رأوا مدائنهم والنار تلتهمها التهامًا، وكم رأوا زوجاتهم وأولادهم يساقون إلى الذل والأسر، وكم رأوا قوادهم يقتلون صبرًا، رأوا عواقب هذه الحروب ولعناتها، وما يتصل بأذيالها من الطواعين والمجاعات والقحط وشيوع الفوضى الضاربة، وعلمتهم هذه الكوارث درسًا لم ينسوه، فألقوا القياد للقوط خاضعين.
وكان للقوط بإسبانيا أكثر من مائتي سنة حينما وصل العرب في أوائل القرن الثامن إلى شواطئ المحيط الأطلنطي بإفريقية، وعبروا بأبصارهم مضيق هرقل، فشاهدوا من بُعدٍ ولايات إسبانيا المشرقة.
وكان للقوط منذ أن فتحوا إسبانيا متسع من الوقت لإصلاح ما فسد من شئونها، وبعث روح جديدة في الشباب، وكان عليهم أن يستفيدوا من مدنية الرومان، فكثيرًا ما استفادت العناصر المتوحشة التي كملت فيها صفات الرجولة من اندماجها في المدنيات القديمة الذابلة، وكان هناك أسباب خاصة تدعو القوط إلى إصلاح أحوالهم، فإنهم لم يكونوا شجعانًا أشداء فحسب، بل كانوا — فيما يزعمون — نصارى مخلصين، والحقيقة أنهم عندما استولوا على إسبانيا لم تكن النصرانية فيها إلا صورة ورسمًا؛ لأن قسطنطين اكتفى بجعل النصرانية دينَ الإمبراطورية الرومانية، ولم يُعْنَ بتقوية دعائمها في الممالك الغربية، وكان في حكم الظن أن يكون هبوط دين جديد على أمة جاهلة كالقوط جديرًا بأن يثير حماستها، ويملأ صدورها بالأمل بعد أن رزحت تحت أثقال الوثنية طويلًا، حتى لقد طمع قساوسة الكاثوليك في أن يكون لهم ولكنائسهم في العهد الجديد شأن مذكور، ولكن النتائج لم تؤيد المقدمات، فإن القوط جعلوا من أعمالهم الدينية ذرائع لغفران ما يجترحون من ذنوب وآثام، وأعدُّوا لكل إثم نوعًا من التوبة، واقترفوا الذنب ليتوبوا منه من جديد، دون أن يجدوا لذلك في صدورهم حرجًا!
وجملة القول أنهم كانوا كأشراف الرومان الذين سبقوهم عادةً وسوءَ خلق، ولم تدفعهم النصرانية إلى شيء من الخير والإصلاح، فكانت حال أحلاس الأرض اللازمين خدمتها أسوأ مما كانت في عهد الرومان؛ لأنهم لم يكتفوا بإلزامهم خدمة أرض بذاتها، أو سيِّد بعينه، بل حتَّموا عليهم ألا يتزوجوا إلا برضاء السيد، وأنهم إذا أصهروا من ضيعة مجاورة قُسِمت ذريتهم بين صاحبي الضيعتين. وحملت الطبقة الوسطى — كما كانت الحال في حكم الرومان — عبء الضرائب، فجرَّ ذلك إلى خراب هذه الطبقة وإفلاسها، وكانت الأراضي في قبضة عدد قليل من الأغنياء، يقوم على خدمتها وزراعتها عدد عديد من العبيد البائسين الذين يعيشون بلا أمل في الانتعاش من كبوتهم، أو حُلم في الخلاص من بؤسهم، وحسبك أن رجال الدين كانوا يخطبون ويُشيدون بالأخوَّة المسيحية بعد أن أثروا وملكوا الضياع الواسعة، اتبعوا السياسة الموروثة، وعاملوا عبيدهم وخَولهم بالعسف والشدة كما كان يفعل أثرياء الرومان، ثم إن أغنياء القوط غرِقوا في صنوف من النعيم أفقدتهم الحِسَّ، ونافسوا الوثنيين في الفجور، ففلجوا عليهم حتى أدركهم ذلك السُّبات الذي أطاح بدولة الرومان.
يقول بعض المؤرخين — وهو يحاول تمحيص الأسباب التي أدَّت إلى تغلب المسلمين على المسيحيين: «إن الملك ويتزا «غِيطشة» علَّم إسبانيا كيف تقترف الآثام»، ولكن إسبانيا كانت قد تعلمت ذلك على أحسن وجوه العلم قبل «غيطشة» بزمن بعيد، وربما لم يكن هذا الملك أسوأ من سابقيه الذين أغرقوا في الشهوات، وترخصوا في كل ما أصاب الدولة من الفساد والتدهور، ولما كانت آثام القوط المتوحشين قريبة الشبه جدًّا من مآثم الرومان الدائلين، لم تشعر المملكة عند انتقال الحكم من الرومان إليهم بشيء جديد.
هكذا كانت إسبانيا حينما كان جنود الإسلام يقيمون على الجانب الآخر من بحر الزقاق الذي عرف فيما بعد بمضيق جبل طارق، وهم قوم بُسْلٌ أشداء، تلتهب نفوسهم حماسةً لدينهم، وتتأجج شوقًا إلى ما في أرض الكفار الخصيبة من غنائم وخيرات، وقد تدربوا على السلاح منذ نعومة أظفارهم، وعاشوا في صحرائهم عيشة خشنة جافية، وإن موازنة بين هذين الفريقين لا تترك مجالًا للشك فيمن سيكون له النصر والغلب، على أن الخيانة التي جاءت بعد ذلك فساعدت الفاتحين على اقتحام البلاد، أزالت كل أثر للشك في انتصارهم.
وقد كتبت الفتاة إلى أبيها حينما شعرت بجسامة الكارثة، ودعت غلامًا تثق به وأوصته أن يسرع بالكتاب، وأن يصل ليله بالنهار حتى يضعه في يد أبيها، ثم منَّته الأماني.
ولم يكن يوليان يحب لذريق؛ لأن صلته بالملك المعزول — أو المقتول على الأرجح — صدته عن الميل إلى الغاصب، ثم جاء العبث بشرف ابنته فزاد نار حقده اشتعالًا، وأغراه بالكيد والانتقام، وقد استطاع أول الأمر أن يقف في وجه غارات العرب، ولكنه عزم الآن على ألا يدفع عن مملكة أثيم ثلب عرض ابنته، وصمم على أن يترك العرب يملكون إسبانيا إذا أرادوا، ثم زاد فقرر في قرارة نفسه أن يرشدهم إلى الطريق، فأسرع وحبُّ الانتقام يملأ صدره، إلى لذريق — بعد أن أسكت غضبه وأخفى ما في نفسه — فأحس الملك بشيء من الندم، ووثق في نفسه من أن فلورندا كتمت سره وسرها، وأخذ يغمر يوليان بصنوف من الإجلال والتكريم، ويستشيره في كل ما يتصل بحماية المملكة، ويُصيخ إلى ما يزوق له من الخديعة والختل، حتى إنه أرسل أكرم خيوله وخير عتاده إلى الجنوب؛ لتكون تحت إمرة يوليان إذا هجم الفاتحون.
وغادر الكونت طليطلة ومعه ابنته، محفوفًا بعطف الملك ورضاه، وطلب لذريق منه عند افتراقهما أن يرسل إليه نوعًا خاصًّا من البُزاة المعلمة، فأجاب يوليان بأنه سيرسل إليه بُزاة لا عهد له بها، وبهذه الإشارة الخفية إلى قدوم العرب عاد أدراجه إلى سبتة.
وما كاد يصل إليها حتى زار موسى بن نصير، الوالي من قبل الخليفة على شمال إفريقية، الذي طالما اشتبكت سيوفه بسيوفه في حروب مشتعلة الأوار، فأخبره أن الحرب بينهما قد وضعت أوزارها، وأنهما منذ اليوم صديقان حميمان، ثم أخذ يملأ أذني القائد العربي بأحسن القَصص عما في إسبانيا من الجمال والثروة، ويحكي عن أنهارها ومروجها، وأعنابها، وزيتونها، وعظمة مدنها وقصورها، وما فيها للقوط من كنوز، ثم قال إنها أرض تموج باللبن والشهد، وليس على موسى إلا أن يخطو فينالها بقبضته، وأخذ يوليان على نفسه أن يرشده إلى الطريق، ويعد له السفن، وكان القائد العربي داهية شديد الحذر، فخشي أن تكون هذه الدعوة خديعة واستهواء إلى الوقوع في شرك أو كمين؛ لذلك أرسل إلى الخليفة بدمشق رسلًا ليرى رأيه في الأمر، واكتفى فيما بين ذلك سنة ٧١٠م/٩١ﻫ بإرسال خمسمائة رجل بقيادة (طريف) أبحروا في أربع سفن ليوليان للإغارة على شاطئ الأندلس، ولم يرضَ موسى أن يُعرِّض من رجاله للخطر أكثر من هذا العدد؛ لأن العرب لم يكونوا قد اعتادوا بعد الإبحار في بحر الروم.
عاد طريف في شهر يوليه بعد أن نجح في الغرض الذي أرسل من أجله، فقد أرسى سفنه في المكان الذي لا يزال يسمى باسمه، ونزل الجزيرة الخضراء وانتهبها، ورأى بعينه ما كفى لاقتناعه بصدق ما قاله الكونت يوليان من فِقْدان وسائل الدفاع بإسبانيا، وبأن إخلاصه للفاتحين لا يقبل الشك.
ولكن موسى على الرغم من هذا لم تَمِلْ نفسه إلى المخاطرة في سبيل فتح جديد، وجاء كتاب من الخليفة بدمشق يأمره بألا يقذف بجيش المسلمين في أخطار مجهولة العاقبة، وعهد إليه أن يكتفي بإرسال فرق قليلة من آن لآن للإغارة المفاجئة.
ولكنه بعد أن ملأه نجاح طريف ثقةً بالنصر والتغلب، عزم على أن يوسع نطاق غزوه.
وتقص علينا الأساطير أن الملك لذريق قبل هذه الموقعة كان جالسًا على سرير ملكه بمدينة طليطلة، فدخل عليه رجلان جلَّل الشيب رأسيهما، وهما في ثياب بيض من نسج قديم، وكان حزاماهما مزيَّنين بصور مواقع النجوم وما لها من شأن في تصاريف القدر، وقد عُلِّق بهما كثير من المفاتيح، فلما مَثَلَا بين يدي الملك قالا له: اعلم أيها الملك أن هرقل منذ الزمن القديم، وحين نصب صنمه عند مضيق البحر أنشأ حصنًا قويًّا بالقرب من طليطلة القديمة، وأخفى فيه طِلَّسمًا جعل عليه بابًا من الحديد ثقيلًا، له أقفال من الصلب توكيدًا لحفظه، ثم إنه أمر أن يقوم كل ملك جديد بإضافة قُفل جديد لهذا الباب، وأنذر بالويل والثبور كلَّ من يهم بكشف هذا الطلسم، وقد قمنا وقام أسلافنا بحراسة باب الحصن منذ أيام هرقل إلى هذه الساعة، وعلمنا أن بعض الملوك حاول كشف هذا الطلسم فكانت عاقبة أمرهم الموت أو الجنون، ولم يصل واحد منهم إلى أبعد من عتبة بابه، وقد جئنا الآن أيها الملك لنرجوك أن تضع قفلك على باب الحصن كما فعل جميع الملوك قبلك، ثم انصرف الشيخان.
وحينما فكر لذريق فيما قالاه ثارت في نفسه الرغبة في دخول هذا الحصن المسحور، على الرغم من تحذير بطارقته ووزرائه الذين قالوا له: إن كنت تظن أن فيه مالًا فقدِّره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تُحدِث علينا بفتحه حادثًا لا نعرف عاقبته، وقد علمتَ أن قيصرًا الأكبر على جرأته لم يحاول دخوله …
ولكنَّ الملك أصر وصمم على الرغم من هذه النصيحة، فركب يومًا مع فرسانه إلى الحصن، وكان فوق صخرة عالية تحيط به مهاوٍ سحيقةٌ، وكانت حيطانه من المرمر الذي إذا واجهته الشمس كاد شعاعه يذهب بالأبصار، وكان مدخله في طريق منحوت في الصخر، وقد أُغلِق عليه باب عظيم من الحديد، غُطِّيَ بالأقفال الصدئة من عهد هرقل إلى أيام غيطشة.
ووقف الحارسان إلى جانبي الباب، وحاول فرسان الملك وبعض الحراس فتحه، فاستطاعوا بعد لأيٍ فكَّ أغلاقه قبيل الغروب، ودخل الملك وحاشيته من الباب إلى بهو في نهايته باب آخر، وقف أمامه تمثال من البرنز ضخم هائل المنظر، بيده رمح عظيم أخذ يحركه ويضرب به ما حوله من الأرض.
ولما رأى لذريق هذا التمثال هاله منظره، وأخذه البَهْر، وتملكته الدهشة والعجب، ولكنه حينما قرأ ما كتب على صدره وهو: «إني أقوم بواجبي» استرد شجاعته، وأمر التمثال أن يفسح له الطريق زاعمًا أنه لم يأتِ لاستباحة حرمة المكان، وإنما جاء ليعرف سر ما فيه، فهدأت عندئذٍ ثائرة التمثال ورفع رمحه، فمر الملك ومرت حاشيته من تحته إلى حجرة ثانية، فوجدوا جدرانها مغطاة بكريم الأحجار، ورأوا في وسطها مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، وعليها تابوت من الفولاذ به قفل علق به مفتاحه، وقد كتب عليه: «في هذا التابوت طِلَّسم الحصن، ولن تفتحه إلا يد ملك، ولكن ليحذر هذا الملك، فإن أشياء عجيبة ستصوِّر له ما يحصل له قبل موته».
ثم أبصروا ميدانًا عظيمًا يتفانى فيه المسيحيون والمسلمون في موقعة طاحنة، وسمعوا أصوات جري الخيل ووقع حوافرها، وزعق الأبواق والصنوج، وما يصم الآذان من ضرب آلاف من الطبول بين بريق السيوف والقُضُب وحفيف السهام وصليل الرماح، ورأوا أن النصارى يتضاءلون أمام أعدائهم الذين تدفقوا عليهم كما يتدفق السيل، فتبدد شملهم، وسقط إلى الأرض بيرق الصليب، وديس علَم إسبانيا تحت الأقدام، وامتلأ الجو بصيحات الانتصار يخالطها صراخ الغضب وأنين المحتضَرين.
ورأى الملك لذريق بين هذه الفرق الفارة من الميدان فارسًا متوجًا، كان ظهره إليه، ولحظ أن سلاح هذا الفارس وعُدته تشبه سلاحه وعدته، وأنه كان يركب جوادًا أشهب يشبه جواده «أوريليا».
ثم رأى أن الفارس بعد قليل سقط عن جواده في هَرْج الحرب ومرْجها فلم يعد يُرَى، وأنَّ أوريليا أخذ يعدو في الميدان بغير راكب.
وحينما خرج الملك وحاشيته من الحصن دهشين خائفين اختفى التمثال من الوجود، وسقط الشيخان الحارسان ميتين عند مدخل الحصن، وكان من إرهاص الطبيعة الغاضبة أن التهمت النار الحصن، فتأجج كل حجر فيه وآض رمادًا تذروه الرياح، ويقول القصَّاصون إنه كلما سقط رماد من هذه الأحجار في مكان، وجد بجانبه نقطة من الدم المسفوك.
أولع مؤرخو العصور الوسطى من النصارى والعرب بالإفاضة في هذه الحادثة وإمدادها بكثير من صور الخيال وضروب الإرهاص كما قيل:
وكم قرأنا أن كلا الفريقين قبيل الموقعة كان ينشرح صدره أو ينقبض بالفأل والطيرة، وزعموا أن النبي نفسه ظهر لطارق في المعركة وحثه على الإقدام، وأمره أن يضرب ويغلب، إلى غير ذلك من أمثال هذه الروايات.
وقد سقطت قلوب المسلمين بين جنوبهم ذعرًا حينما رأوا الجيش اللَّهام الذي أعده لذريق لنزالهم، وحينما رأوا الملك في درعه الفاخرة وفوقه المظلة الملكية، ولكن طارقًا صاح في رجاله: «أيها الناس؛ العدو أمامكم والبحر وراءكم، وليس لكم والله إلا الجلد والصبر.» فاستنجد المسلمون بشجاعتهم وصاحوا: «إنا وراءك يا طارق.» ثم هجموا خلف قائدهم يقذفون بأنفسهم في وطيس الحرب وأتونها، واستمرت المعركة أسبوعًا، أظهر فيه الفريقان كثيرًا من ضروب الشجاعة والإقدام، وكان لذريق يستحث قومه مرة بعد أخرى، ولكن فرار أتباع غيطشة رجح كفة الميزان، فصار الميدان صورة محزنة للدمار والهزيمة.
هكذا تقول الأنشودة الإسبانية، ولكن نهاية لذريق بقيت سرًّا خفيًّا إلى اليوم؛ فقد وُجِدَ فرسه وخُفَّاه عند شاطئ النهر بعد يوم من المعركة ولم يظهر له أثر، ومن المحقق أنه غرق، وأن النهر حمل جثته إلى المحيط، ولكن الإسبان يأبون أن يصدقوا هذا، فقد ألبسوا الملك الراحل حللًا قدسية خفية الأسرار لم يخلعوها عليه في حياته، وجعلوا منه مَعينًا فياضًا لكثير من القصص والروايات، وخلعوا عليه صفات المنقذ المخلِّص، كما فعل الإنجليز بالملك آرثر، فاعتقدوا أنه سيعود مرة أخرى من مقره في بعض جزائر المحيط بريئًا من جراحه ليقود المسيحيين لقتال الملحدين.
وجاء في أساطيرهم أنه قضى بقية حياته في أعمال الخير والإنابة، وأن ثعابينَ أخذت تبتلعه شيئًا فشيئًا عقابًا لما كان يقترف من إثم حتى محيت ذنوبه «فإن عقاب البدن ينقذ الروح من الآلام»، ثم إنه حُمِل إلى الجزيرة الهادئة المطمئنة، ولا يزال رجاله منذ ذلك الحين ينتظرون أوبته إليهم كما يؤوب الظافر المنتصر.