عودة البربر إلى الحكم
تتدلى أحسن الممالك نظامًا وأضبطها حكامًا إلى الفوضى والاضطراب حينما تزول العزيمة التي كانت تهديها سواء السبيل، وبهذه الحقيقة وأمثالها تمسك من يرون أن خير أنواع الحكم أن يحكم الشعب نفسه، وقد قيل: إنك إذا قدت الأمة بخيط فوَهَى أو انقطع، فإنك لا تدري في أي طريق ستذهب الأمة، وهذه النظرية صادقة على إطلاقها، فمن الشعوب ما هو دائمًا في حاجة إلى خيط يقوده، وليس في العالم شعب يستغني تمام الاستغناء عن الاهتداء بعقل مسيطر، على أن هذا الاستغناء ليس في منفعة الشعوب في شيء إلا إذا عدت الركود مثلًا في الحكم صحيحًا.
والأندلس في أية حال لم تستطع الاستغناء عمن يقودها، فإذا مات قائدها وحاكمها سقطت معه الدولة، فهي على حد ما قيل «حينما يسقط سيزار العظيم، فإنني وأنت وجميع الأمة نسقط معه»، ولم يكن ذلك في الأندلس عن محبة للحاكم أو انعطاف نحوه، ولكن كان عن عجز وخور، فإن كثرة العشائر المتنازعة والقبائل المتنافسة جعلت الوصول إلى ما يشبه الاستقرار في حكم الأندلس مستحيلًا، ولن يكبح من جماح هذه العشائر أو يفل من غرب هذه القبائل إلا يد قوية.
واعتبر هذا بما تقرأ في تاريخ إرلندة عن العداوة المتأصلة بين سكان الشمال وسكان الجنوب — تعلم أن العرب ليسوا وحدهم الذين رأوا أن من الاستحالة حكم أمة تختلف فيها العناصر والأديان بالسهولة التي تحكم بها أمة متماثلة الأفراد في الجنس والدين، وتاريخ الأندلس — كما قصصنا عليك — كان حوادث متعاقبة في صعود وهبوط؛ فقد شهدنا فيه أول الأمر غارة عنيفة رائعة لجنود موهوبين، انتهت بفتح لم يكن منتظرًا ولا مرتقبًا، وما كاد يتم فتح الجزيرة حتى رأينا العشائر المتنافرة التي تجمعت لهذا الفتح المبين تنطلق من عقالها، وتدمر ثمرات الفتح التي جناها السيف واغتصبها الإقدام.
ثم نرى الشمري الذي خُلق ليكون ملكًا — وهو عبد الرحمن الداخل — فنرى الأندلس وقد عادت مرة أخرى إلى وحدتها وقوتها.
ومن المحزن أن هذا الدعاء ببقاء الملوك الصالحين لا يمكن أن يتحقق، ولكن الخليفة العظيم لم يترك المملكة خلوًا ممن يصلح لقيادتها، فإن إسبانيا أنقذت بالملوك مرتين، والآن ينقذها ويجمع شتاتها كبير الوزراء وهو المنصور الذي لا يغلب، والذي نفذت سلطته إلى كل زاوية من زوايا الأندلس، ولكن المنصور أيضًا لم يكن خالدًا، وحينما مات «ودفن في الجحيم» — كما كان يأمل الراهب المتبتل — أصبحت الأندلس التي بلغت في عهده قمة الثروة والقوة وعاشت في كنف السلامة والنظام، فريسةً للقوى المتنافرة التي دفنتها عزائمه وسطواته في جحورها، ففي غضون ثمانين سنة كان يمزق الأندلس تحاسد الزعماء وظلم العتاة من البربر والعرب والصقالبة والإسبان.
نعم، إن جذور الحزبية كانت قد اجتثت من أصولها بمرور السنين، وذهب عهد التفاخر بالأنساب والقبائل؛ لأن الناس نسوا أنسابهم، ومع ذلك بقي بالأندلس من التنافس الشخصي والجنسي والديني ما يكفي لجعلها جحيمًا أرضيًّا من النوع الذي كان يتمنى الراهب المؤرخ أن يدفن المنصور فيه.
واستطاع ابن المنصور وخليفته أن يصون وحدة المملكة في مدى ست سنوات، تلاها انهمار سيل جارف من الطامعين المخاطرين، والخلفاء المتنافسين، والأدعياء الوقحين، وكان الإسبان الذين يمثلون جمهرة الأمة يؤثرون أن يحكمهم ملك، ويحبون أن يتعاقب الملوك من أسرة واحدة، ويذكرون بالإعجاب ما كان للدولة الأموية العظيمة من أثر عظيم، ولم يكن من رأيهم في الحكومة أن يكون المسيطر فيها وزيرًا كيفما كان عادلًا صالحًا؛ لأن الملك في زعمهم يجب أن يحكم الأمة بنفسه، لذلك رفعوا راية العصيان على ابن ثانٍ للمنصور، وزاد في غضبهم أنه أعلن حقه في وراثة العرش، فمضوا إلى الخليفة هشام المؤيد وحتموا عليه أن يقبض على أَزِمَّةِ الحكم بيديه الضعيفتين الواهنتين.
وقد صعب على هشام المسكين أن يُنزع فجاءة من عزلته في القصر بعد أن قضى فيها ثلاثين عامًا سجينًا مغتبطًا بسجنه، فتوسل إليهم ألا يطلبوا منه المستحيل، ولكنهم أصروا على ما يطلبون، فأطاعهم على الرغم منه، غير أنه حينما ظهر للناس جميعًا أن هذا الرجل الكهل كان أضعف من طفل، طلبوا إليه أن يعتزل، وأحلوا مكانه رجلًا من أسرته، وكان سقوطه في الحقيقة نهاية الدولة الأموية بالأندلس.
ثم جلس على العرش خليفة بعد خليفة في مدى عشرين عامًا، فكان أحدهم لعبة في أيدي القرطبيين، وآخر لعبة في أيدي الحراس من الصقالبة، وثالث لعبة في أيدي البربر، ورابع كان صورة تخفي وراءها مطامح أمير إشبيلية، ولكنهم كانوا جميعًا لُعَبًا لبعض الأحزاب، ولم يكن لهم مظهر من النفوذ، وقد شهد بهو القصر قتلًا بعد قتل كلما تلا خليفةٌ خليفةً، وأخفى مرة أحد هؤلاء الخلفاء المساكين البائسين نفسه في فرن حمَّامه، وحينما عرف مكانه جُرَّ وذُبح أمام الخليفة الجديد الذي لم يأتِ بعدُ دوره وإن كان قريبًا.
ثم ألزم هشام المؤيد المسكين — الذي نشَّأه المنصور وأمه «صبح» في طفولة دائمة — أن يُمثل دوره في صندوق الدنيا، فوضع على العرش ثم خلع، فبُدِّل بقيده الحريري في عزلته بين الفواتن من نساء القصر حيطانًا مظلمة لسجن حقيقي، ولا يعرف إلى الآن ما جرى له بعد ذلك، فنساؤه يُعلنَّ أنه جاهد للفرار من سجنه والتجأ إلى آسيا أو مكة، لم يُغْرِ العرش ذلك الملك البائس بشيء من مغرياته؛ لأنه كان يعشق العزلة والانقطاع إلى العبادة، ولا بد أن يكون قد عرف أن بقاءه بالأندلس سيشجع مطامع أنصاره، وأن ذلك سيؤدي حتمًا إلى النزاع والتفرقة، فمن المعقول إذًا أن يكون قد آثر أن يقضي بقية أيامه بمكة للعبادة والتبتل.
والذي جرى لهشام المعتد بالله عند عزله يصور لنا ما وصل إليه خلفاء بني أمية التاعسون من الذلة والمهانة بعد أن تركوا زمامهم للبربر المتوحشين، أو الصقالبة يلعبون بهم كما يُلعب بقطع الشِّطْرنج؛ فقد أمر رؤساء قرطبة أن يجر هذا الخليفة الرفيق الرقيق العاطفة هو وأسرته إلى سجن تحت الأرض مظلم متصل بجامع قرطبة، فجلس الخليفة في هذا السجن الدامس الظلمة يرتعد من البرد ويتسمم بهوائه الفاسد من العطن، وقد احتضن ابنته الصغيرة وأحاط به نساؤه يبكين ويولولن ويقضقضن في زمهرير قارص، وقد اشتد الجوع بالسجناء بعد أن تركهم السجانون القساة ساعات دون أن يفكروا في إطعامهم، ثم جاء الشيوخ ليبلغوا هشامًا حكم المجلس الذي اجتمع في عجلة ليفصل في أمره، ولكن الخليفة المسكين الذي كان يجهد في أن يبعث شيئًا من الدفء إلى ابنته التي كان يحملها بين ذراعيه قاطعهم قائلًا: «نعم نعم، إني سأخضع إلى حكمهم كيفما كان، ولكني أسألكم لله تعالى أن ترسلوا إليَّ شيئًا من الخبز، إن هذه الطفلة الصغيرة ستموت بين يدي من الجوع.» فتأثر الشيوخ لأنهم لم يريدوا أن يعذب الخليفة هذا التعذيب، وأمروا فأحضر إليه الخبز، ثم استأنفوا الكلام قائلين: «يا مولانا إن المجلس قرر أن تؤخذ عند الفجر لتسجن في قلعة كذا.»
وأمثال هذه الكوارث كانت كثيرة بقرطبة، فكل ثورة كان لها جناها المر من القتل والإرهاب، فإن أهل قرطبة الذين ازداد عددهم كانوا ينزعون إلى الاستقلال وفرض إرادتهم على الحكام، وهذا الاعتداد بالنفس كان نتيجة ثروة الأمة، ونمو التجارة والصناعة فيها.
فحينما أسقطوا أسرة المنصور من الحكم ثار العامة كعادتهم وشفوا غليل غضبهم بنهب قصر المنصور البديع الذي بناه في ربض قرطبة ليكون مقرًّا له ولرجال حكومته، وبعد أن انتهبوا ما فيه من الكنوز التي لا تقدر بثمن تركوه طعمة للنيران، واستمرت المذابح والنهب والاغتيال أربعة أيام لا ينهنه من حدتها أحد، وأصبحت قرطبة مجزرًا.
وحينئذ جاء دور البربر، وانتهى حكم الصقالبة الجبارين بحكم البربر القساة الذين سمنوا ونعموا بانتهاب المدينة، فحيثما سار هؤلاء البربر سار القتل والنهب وسارت النار في إثرهم، فكم نهبوا من قصر ثم أحرقوه، وقد لاقت منهم مدينة الزهراء الجميلة التي كانت ريحانة الخليفة العظيم شرَّ ما يُلاقَى؛ فقد استولوا عليها بخيانة ثم انتهبوها ثم أشعلوا فيها النيران، ولم يبقَ منها من بدائع الفن الرفيع التي زينها بها الخليفتان إلا كومة من حجارة سُفع، ووضعوا السيف في حاميتها وفر سكانها معتصمين بالمسجد، ولكن البربر الذين خوت قلوبهم من الخشية والرحمة أحاطوا بهم، وذبحوا في بيت الله الرجال والنساء والأطفال (سنة ١٠١٠).
وكانت قرطبة وإشبيلية — وهما أعظم مدن الأندلس — تُحكمان حكمًا جمهوريًّا في الصورة لا في الواقع؛ لأن سلطة رئيس المجلس كانت تشبه سلطة الإمبراطور كل الشبه، وحكم في النصف الأول من القرن الحادي عشر نحو عشرين أسرة مستقلة في نحو عشرين مدينة أو مقاطعة، ويسمى هؤلاء بملوك الطوائف، وبينهم: بنو عباد بإشبيلية، وبنو حمُّود بمالَقة والجزيرة، والأدارسة بغرناطة، وبنو هود بسرقسطة، وكان أقوى هؤلاء بني ذي النون الذين ملكوا طليطلة، وحكموا بلنسية، ومرسية، والمرية.
وقد أحسن بعض هؤلاء الملوك الحكم وإن كان أكثرهم عتاة جبارين، غير أنه مما يعجب له أنهم كانوا جميعًا غطارفة مثقفين يعضدون العلم والأدب، وكانت قصورهم مثابة للشعراء والمغنين؛ فقد كان المعتضد عالمًا أديبًا شاعرًا، ولكنه نصب ببستانه خُشبًا علق فوقها رءوس أعدائه الذين قضى عليهم، وكان يستبشر ويبتهج برؤيتها كل يوم.
وقصارى القول إن المملكة كانت في حالة من الفوضى والاضطراب تشبه ما وصلت إليه عند تولية الخليفة الناصر، نعم، إنه لم يقم بها عصيان من المسيحيين كما كان من ابن حفصون أيام الناصر، ولكن الفوضى كانت عامة، والخطر من سقوط الدولة وتحطمها كان بارزًا للعيان؛ فإن نصارى الشمال استجمعوا للوثوب، ورأوا الفرصة سانحة فهموا لاهتبالها؛ لأن ألفونسو السادس (الأذفونش) الذي وحد تحت إمرته أستورياس، وليون، وقشتالة، كان قد فهم ما يجب أن يفعله تمام الفهم؛ فقد رأى أنه لم يكن عليه إلا أن يمد حبله لملوك الطوائف مدًّا كافيًا ليشنقوا به أنفسهم؛ لأن هؤلاء الطغاة الذين لم ينظروا في العواقب، ولم يعنوا إلا بأنفسهم، ولم يتركوا جهدًا إلا بذلوه في إضعاف منافسيهم — كانوا يجثون عند قدمي ألفونسو لاستجداء معاونته كلما ضعفوا عن مقاومة إخوانهم المسلمين؛ لذلك تقربت كل الدويلات الإسلامية إلى ألفونسو بتقديم الإتاوات، وكان ألفونسو يزيد فيها كل عام كلما زادت قوته؛ لأنها ثمن عطفه وحمايته، ولأنه كان يريد أن يرضخ المسلمون من المال ما يكفي لمحوهم ومحو آثارهم من إسبانيا.
وقد بذل ملوك الطوائف هذه الإتاوات للاستعانة بجيوش ألفونسو، أو للخوف من غاراته العنيفة التي كان يشنها في كل مكان، حتى لقد وصلت جنوده إلى قادس.
ولكن ملوك الطوائف كانوا على الرغم من تفاقم الخطب أضعف من ذات خمار، وكانوا في يأس من توحيد كلمتهم وتواثقهم على مكافحة العدو؛ لكثرة ما بينهم من تحاسد وتنافس وغيرة؛ لذلك صاروا إلى ما ليس منه بد، وهو دعوة الغرباء إلى عونهم.
على أنه مع هذا التجأ إلى حيلة ليدهم بها أعداءه من البربر والأندلسيين على غرة، ولكن يوسف لم يكن من الهين خداعه، فأحاط في مهارة وحذق بجيش القشتاليين من الأمام والخلف، ووضعهم بين نارين، فتحطم القشتاليون وهزموا شر هزيمة على الرغم من المقاومة العنيفة وأساليب الحرب التي برع فيها هؤلاء الجنود المدربون، وفر ألفونسو — وما كاد يستطيع الفرار — بنحو خمسمائة فارس، وترك آلافًا مؤلفة من خيرة جنوده في الميدان، وبعد هذا النصر المبين عاد يوسف بن تاشفين إلى إفريقية، وترك بالأندلس ثلاثة آلاف من جنوده لمعاونة الأندلسيين؛ لأنه وعد ألا يضم الأندلس إلى مملكته، وبر بهذا الوعد إلا في جزيرة طريف فإنه اختارها لنفسه.
فرح الأندلسيون بمقدَمه وأطروا شجاعته، وابتهجوا بنجاة بلادهم، وأعجبوا بسذاجته وتقواه؛ إذ رأوا أنه لا يعمل عملًا إلا بعد استشارة الفقهاء، حتى إنه أبطل الضرائب بإسبانيا إلا ما أقره عمر بن الخطاب في عهود الإسلام الأولى، ولكن طبقة المتعلمين بالأندلس كانت تسخر من جهله وجفوة أخلاقه، فلم يكن يحسن العربية، ولم يكن يدرك مرامي الشعراء إذا أنشده شاعر قصيدة في مدحه، وليس هذا بالنقص اليسير في رأي الأدباء الأندلسيين الذين لا يغفلون عن إنشاد الشعر والاستشهاد به ولو كانوا في بحر من الدماء، فلم يكن يوسف في أعينهم إلا بربريًّا، غير أن نقدهم لثقافته لم يكن له وزن ما داموا في حاجة إلى سيفه، أما جمهرة الأندلسيين ففكروا في رفاهيتهم أكثر مما فكروا في علمه، وكانوا على استعداد لقبوله مسرورين ملكًا على الأندلس، وفي سنة ١٠٩٠م/٤٨٣ﻫ استجدى ملك إشبيلية عون المرابطين ليصدوا عنه غزوات المسيحيين الذين استمروا في عدائهم وطفقوا يرسلون غارات مستمرة من حصن ليط.
أجاب ابن تاشفين الدعوة مظهرًا التثاقل وعدم الرغبة، ولكنه في هذه المرة وجه هجومه إلى ملوك الطوائف وإلى نصارى قشتالة على السواء، وملأ الملوك الأغبياء أذنيه بشكوى بعضهم من بعض وخيانة بعضهم لبعض حتى عرفهم يوسف جميعًا، ولم يثق بهم جميعًا، وكان يعتمد على الأمة وعلى الفقهاء الذين أحلوه سريعًا من عهده بألا يضم إليه الأندلس، وغالوا فأدخلوا عليه أن مما يجب عليه — إرضاءً لربه — أن يعيد السلام والرفاهية إلى هذه البلاد المنكوبة.
أطاع ابن تاشفين نصيحة الفقهاء، لما كان يخالجه من الطموح في ملك إسبانيا الذي كان يكتمه ويخفيه، فشرع في إخضاع إسبانيا قبل انتهاء سنة ١٠٩٠ فدخل غرناطة في نوفمبر، ووزع على قواده الكنوز العجيبة التي لم يروا مثلها أو ما يقرب منها في حياتهم من الماس والدر والياقوت والجواهر الثمينة، والحلي الذهبية والفضية، والكئوس الزجاجية وعتاق البسط، وغير ذلك مما لم يسمع به من النفائس، ثم سقطت جزيرة طريف في ديسمبر، وشهدت السنة التالية سقوط إشبيلية وغيرها من كبار مدن الأندلس، وجرد ألفونسو جيشًا يقوده البرهانس فهزمه المرابطون، وأصبح القسم الجنوبي في أيديهم إلا مدينة بلنسية التي لم تفلح فيها محاولة ما دام السيد الكمبيدور يتولى الدفاع عنها، وفي سنة ١١٠٢م/٤٩٥ﻫ سقطت بلنسية بعد موته، فغدت الأندلس الإسلامية كلها — حاشا مدينة طليطلة ورُيَّة — تابعة لمملكة المرابطين بإفريقية.
ولكن جمهور الأندلسيين كانوا في غبطة وسرور لاستيلاء المرابطين على الأندلس؛ فقد أمنوا على أرواحهم وأموالهم، وذلك شيء لم يستطيعوا تخيله أيام كانت المملكة ممزقة إلى ولايات، وكان أقوى الملوك من يستطيع أن يحمي رعيته حول قلعته، وأيام كانت الطرق غاصَّة بعصابات اللصوص، وأيام كان النصارى يغيرون على القرى وينهبون البلاد، أما الآن فقد استتب النظام والهدوء ولو إلى حين، وخضع الناس للقانون، وهزم النصارى فعادوا إلى حصونهم، وأخذ الناس مرة أخرى يحلمون بالثروة والرفاهية.
فقدَ البربر الميل إلى الحرب والإقدام على الأخطار واحتمال ويلات القتال، أو أقل إنهم فقدوا رجولتهم في أقصر ما يُتصور من زمن، فلم يكن لهم بعد عشرين عامًا جيش يعوَّل عليه في صد هجمات القشتاليين، بل كان جيشهم حشدًا غير منظم من حطام آدمي وكسالى بائسين أدمنوا الخمر، وخدعوا فتوتهم فبددوها، وأصبحوا عبيدًا لكل شهوة تجعل الرجل جبانًا رعديدًا.
وبدل أن يصونوا النظام كانوا هم أول العابثين بالنظام، فقطعوا الطريق على المسافرين وسرقوا كلما لاحت لهم لائحة، ووصل الضعف بحكامهم أن صاروا تحت سيطرة العواهر من النساء، والطامحين من الفقهاء، فنقضوا اليوم ما أبرموه بالأمس، ومثل هؤلاء لا يطول بهم الحكم، فإن ثورة جامحة قامت بإفريقية للقضاء على المرابطين، وجدد القشتاليون بقيادة ألفونسو «المحارب» غاراتهم على الأندلس، ففي سنة ١١٢٥ عاثت جنودهم في الجنوب سنة كاملة، وفي سنة ١١٣٣ أحرقوا أرباض قرطبة وإشبيلية وقرمونة، وانتهبوا شَريش وأشعلوا فيها النار، وامتدت غزوات النصارى من ليون إلى مضيق جبل طارق، أما الدولة الإسلامية حيال كل هذا فلم تفعل شيئًا؛ لذلك غضب الأهلون وثارت جموعهم وطردوا المرابطين من البلاد.
ويقول مؤرخ عربي: «وفي النهاية عندما رأى الأندلسيون تحطم دولة المرابطين لم ينتظروا طويلًا، فكشفوا حجاب الرياء وأظهروا العصيان وسمى نفسه بالملك واتخذ شعار السلطان كلُّ حاكم صغير، أو زعيم أو رجل ذي شأن يستطيع أن يجمع حوله ثلة من الأنصار، أو تكون له قلعة يحتمي بها عند الحاجة، وصار الملوك في الأندلس بعدد ما فيها من مدن: فملك ابن حمدين قرطبة، وابن ميمون قادس، وحكم ابن قسي و«ابن وزير سيدراي» بالغرب، واللمتوني بغرناطة، وابن مردنيش ببلنسية، وبعض هؤلاء من الأندلسيين، وبعضهم من البربر.
وكان عبد المؤمن قائد الموحدين هو الذي أزال ملك المرابطين في إفريقية وإسبانيا.