مملكة غَرناطة
أصبحت عودة إسبانيا إلى حكم المسيحيين وفيهم من الجنود أمثال السيد، ومن الملوك أشباه فرديناند وألفونسو — أمرًا متوقعًا بين يدي الزمان.
ومن الجلي أن لكل أمة ميقاتًا، وأن لكل دولة عهد نمو ثم عهد ازدهار، يتبعهما الذبول والهرم والانحلال، وكما سقطت دولة الإغريق، وكما سقطت رومة، وكما سقطت كل مملكة قديمة شهدت الدنيا نهوضها وقوتها — سقط العرب في إسبانيا وشالت نعامتهم بعد أن دنا أجلهم وحان حَيْنُهم، فقد ذهبت ريحهم، وتفاقم الخلاف وزادت الجفوة بين أمرائهم قبل أن يتملكهم المرابطون، ثم إنهم لم يكونوا أحسن حالًا حينما دالت دولة المرابطين، فما كاد هؤلاء يغادرون الأندلس حتى ظهر في الميدان عدو جديد، ذلك أن الموحدين الذين تلوا عرش المرابطين بإفريقية راق لهم أن يحاكوهم في ضم الأندلس إلى ملكهم، وذلل أمامهم السبيل ما شجر من النزاع بين أمراء هذه المملكة المنكودة التي طال على تمزقها الأمد، فأخذ الموحدون الجزيرة الخضراء سنة ١١٤٥م/٥٤١ﻫ، وفي سنة ١١٤٦م/٥٤٢ﻫ نزلوا بإشبيلية ومالقة، وبعد أربع سنوات أصبحت قرطبة وبقية القسم الجنوبي من إسبانيا تحت رايتهم، وامتنع عليهم بعض الأمراء أول الأمر، ولكن الموحدين كانوا أعظم قوة وأشد بأسًا من أن يقف في وجوههم أمير أو زعيم.
ولم يفكر الموحدون في أن يجعلوا من الأندلس قاعدة لملكهم، بل لبثوا بإفريقية وأرسلوا من حضرتهم نوابًا يقومون بالأمر فيها، وكان من أثر ذلك أن ضعفت قبضتهم على الأندلس، وزلزلت أقدامهم فيها، فإن من الصعب العسير أن تضبط ولايات مضطربة متنازعة كولايات الأندلس بنواب يرسلون من مراكش، أو ببعوث الجند ترسل بين الحين والحين لصد كرات الأعداء، نعم، إن الموحدين قويت شوكتهم أول الأمر حينما قدموا إلى الأندلس بعدتهم وعديدهم، فانتصروا انتصارًا مؤزرًا في سنة ١١٩٥م/٥٩١ﻫ بموقعة الأرك بالقرب من بطَلْيَوْس، وقتلوا آلافًا من أعدائهم، وظفروا بغنائم يخطئها العد، ولكن الحظ وهو متقلب ملول، لوى عنهم وجهه في موقعة العُقاب المشئومة سنة ١٢١٢م/٦٠٩ﻫ التي قضت على ملكهم بالأندلس، فقد كان جيشهم ستمائة ألف مقاتل، لم ينج منهم إلا عدد قليل فر لينبئ بهزيمتهم ودحرهم، وسقطت مدينة إثر مدينة في أيدي المسيحيين، وضاعف كارثة الموحدين ما كان من الشغب بين قبائل البربر بإفريقية، وما توالى من وثبات المنافسين لهم فيها، فتبددت قوتهم، وطمع فيهم أمراء الأندلس الذين سئموا حكمهم المتزمت العنيف، فأزاحوهم عن الأندلس في سنة ١٢٣٥م/٦٣٣ﻫ وأعلن ابن هود نفسه حاكمًا لأكثر بلاد الجنوب، وتملك سبتة بإفريقية، وحين قضى نحبه في سنة ١٢٣٨م/٦٣٦ﻫ تحول حكم الأندلس إلى بني نصر أمراء غرناطة.
فإذا مررنا من فناء البركة أو القاعة الزورقية إلى بهو الرسل (السفراء) تخيلنا أيام ازدهار دولة المسلمين، وكدنا نبصر في صدرها خليفة الأمويين جالسًا على عرشه في عظمته وجلاله.
فإذا أشرفنا من النافذة المطلة على سهل حدرو ذكرنا كيف أن عائشة زوج السلطان أبي الحسن أدلت منها ابنها أبا عبد الله محمدًا في زنبيل منذ خمسة قرون، وكيف أن شارل الخامس قال مرة وهو مشرف منها: «ما أشقى من يفقد كل هذا!»
وفي أثناء بحثنا عن التخطيط المشتبك المعقد لهذه الأطلال، نجد أنفسنا في مخدع الملكة الذي تطل نوافذه على المرج الفسيح الفيَّاح، فتعود بنا الذكرى إلى العهد القديم وما كان فيه من بُلهنية ونعيم ورفه؛ لأننا نرى بين صفوف المرمر الذي رصفت به أرض المخدع شقوقًا وفروجًا بالقرب من مدخله، يحدثنا القصاصون عنها أن البخور وأنواع الطيب كانت تحرق تحت المخدع، فينفذ إليه شذاها من هذه الشقوق، فتتعطر أرجاؤه، وإذا أطللنا من إحدى نوافذه، رأينا بستان «لينداراجا» ورأينا بالقرب منه حمامات السلاطين المُدلَّة بنحتها الرائع ورسومها العبقرية، وزلِّيجها الجميل.
وبهذه الحمامات فوَّارة كان يسيل منها الماء في صوت إيقاعي كأنه يحاول الانسجام مع رنات الموسيقى التي كانت تهبط من المشارف، وقد جلس بها القيان يغنين ويعزفن لسيدات القصر، وهن ينعمن بالاستحمام، أو يضطجعن على الأرائك الذهبية، وقد نقر كل مُسْتَحَمٍّ في صخرة عظيمة من المرمر، ووضع في غرفة سقفها من الزجاج المزين بالتهاويل، بينها صور من نجوم وورود ينفذ النور من خلالها.
وقد يكون بهو السباع أشهر جزء وأبدعه في هذا القصر، وإن كان أقل اتساعًا من ساحة الريحان، وبهذا البهو مائة وثمانية وعشرون عمودًا من المرمر، وضعت أجمل وضع، ونُسِّقت أبدع تنسيق باجتماع كل ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، وفوق هذه الأعمدة صفف ليست سامقة الارتفاع، والبهو غني بروائع الفن، مليء بنوادره.
ولن يتسع لنا الوقت إذا حاولنا مشاهدة جميع قاعات هذا القصر الفخم وأبهائه، وخير لنا أن نتجه الآن إلى قصر آخر، يسمَّى بجنة العريف، وهو جوسق القصر الأكبر، يصور ظاهره بساطة الفن الشرقي، وقد أصابه الآن الدمار، وحطمته يد الدهر والإنسان، حتى إن نقوشه العربية الدقيقة شُوِّهت بما لطختها به يد الجهل من طبقات الملاط، واختفت تماثيله المنحوتة وتولى جماله، وزالت نضارته منذ حين.
لم يكن يتوقع العرب والمملكة المسيحية القوية على مرمى سهم منهم، أن يعيشوا أكثر من قرنين في رفاغة من العيش وقد همست في آذانهم النذر، وأحسوا قرب زوالهم في الربع الثالث من القرن الخامس عشر، وكان اتحاد أراغون وقشتالة بتزويج فرديناند بإيزابلا أول ناعق بالفناء، وكان يحكم غرناطة في هذا الحين مولاي علي أبو الحسن، وكان من أشجع الشجعان قوة وجرأة، فصمم على أن يسبق مكايدهما، وأن يناجزهما الحرب، وكانت بداءة الشر أن أبَى أن يؤدي إليهما الإتاوة، حتى إذا وصل إلى حضرته رسول فرديناند يلح في طلبها وينذر ويوعد، أجابه أبو الحسن في صلف وكبرياء: «قل لمولاك إن سلاطين غرناطة الذين اعتادوا أداء الإتاوات قد ماتوا، وإن دار الضرب بغرناطة لا تطبع الآن غير السيوف.» ثم أرسل غارة شعواء على المسيحيين بقامة الصخرة ليعزز قوله بالعمل.
في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وألف من الميلاد (٨٨٦ﻫ) دُهم أهل الصخرة بياتًا وهم نائمون، وكان حارس القلعة قد هجر مكانه منها، والتجأ إلى كن يقيه العواصف والأنواء التي اشتد غضبها، وثارت ثورتها منذ ثلاث ليالٍ متعاقبة، وقر في نفسه أن أحدًا من الأعداء لن يخرج في مثل هذه الليلة الليلاء، وغاب عنه أن أرواح الشر أكثر ما تعمل في ظلام الليالي العاصفة، وفي منتصف الليل ارتفع الضجيج في المدينة، فكان أشد إرهابًا من صخب الأنواء، وصاح الإسبان مذعورين: العربَ العربَ، وسرت أصواتهم في كل ناحية من المدينة ممتزجة بصليل السيوف وأنين القتلى وصيحات الظفر والانتصار، وخُيِّل إلى أهل المدينة وقد شدههم الذعر، أن شياطين الليل طارت إليهم على أجنحة الريح وسلبتهم حصونهم ومعاقلهم، وارتفعت صيحات القتال من كل مكان، نداء يرجع نداءً، وصوت يردد صوتًا، هذا من فوق، وهذا من تحت، وهذا من معاقل القلعة، وهذا من طرق المدينة، نعم، كان العرب في كل مكان وقد لفَّهم الظلام وسترتهم الأنواء، غير أنهم مع كل هذا كانوا يعملون متعاونين على نظام دقيق وخطة محكمة، وباغت جنود أبي الحسن حراس الصخرة بعد أن هبوا من نومهم، فطارت نفوسهم شَعاعًا، وأناخ عليهم العرب فاستأصلوهم قبل أن يغادروا ثكناتهم، وبعد فترة قصيرة انتهى الصدام والقتال، والتجأ من نجا من أهل المدينة إلى مخابئ دورهم، أو ذهب إلى الأعداء راضيًا بالذل والإسار، وسكنت السيوف في أغمادها وسكت صليلها، ولكن العواصف ما زالت تزأر وتصخب مختلطة بأصوات العرب الذين خرجوا هائمين يبحثون عن الغنائم والأسلاب، وبينما كان السكان يرتعدون فرقًا مما سيصيبهم، إذا صوت بوق يدوِّي في أرجاء المدينة داعيًا إياهم أن يجتمعوا عزَّلا في الميدان الكبير، وهنالك أحاط بهم الجند لحراستهم حتى الصباح، وكان مما يثير الحزن والأسى أن ترى — وقد انبثق الفجر — هذه الجموع الحاشدة التي كانت تعيش في ترف ونعيم وقد اختلط حابلهم بنابلهم وشيوخهم بأطفالهم، ونساؤهم برجالهم، وأغنياؤهم بفقرائهم، وليس على أجسامهم ما يقيهم قارس البرد وعاصف الأنواء، وزاد الضجيج وارتفعت أصوات التوسل والرجاء، ولكن مولاي أبا الحسن القاسي سد أذنيه وأغلق قلبه دون العطف والرحمة، وأمر بهم أن يساقوا جميعًا إلى غرناطة كما يساق العبيد، وأبقى بالمدينة والقلعة حراسًا أشداء، وأمرهم أن يتيقظوا لكل طارق، ثم قفل إلى غرناطة والانتصار ينفخ خياشيمه كبرًا وزهوًا، ودخلها على رأس جنده ومعهم الغنائم والأسلاب، والبيارق والأعلام، وفي أثناء ما أقيم من الولائم والأفراح لهذا الفتح المبين، قدم أسرى الصخرة من الرجال والنساء والأطفال وقد نهكهم التعب، وأكل قلوبهم اليأس، فدخلوا المدينة كما يدخلها قطيع من البقر قد لفه الليل بسواق حطم.
وبهت أهل غرناطة وذعروا وتألموا لقسوة أبي الحسن، وشعر عقلاؤهم بسوء مغبة هذا التهور وسمَّوه: بداية النهاية، وصاحوا: «ويل لغرناطة! ويل لها! لقد دنت ساعتها، وستقع أنقاض الصخرة فوق رءوسنا.»
ولم يكن الانتقام بعيدًا؛ فقد استولى بعد قليل مركيز قادس على حصن الحَمَّة غيلة، وبهذا الاستيلاء تمكن النصارى من وضع حامية قوية في قلب بلاد المسلمين، وعلى مسافة قصيرة من غرناطة نفسها، وكم حاول أبو الحسن أن يسترد هذا الحصن فلم يفلح؛ لأن من به من الجنود أظهروا شجاعة نادرة المثال، وصبروا وصابروا حتى جاءهم المدد، وأدركتهم النجدة، وارتفع الصياح بغرناطة: «ويل للحَمَّة!! لقد سقطت الحمة وأصبح مفتاح غرناطة اليوم في أيدي الكفار.»
ومن ذلك الحين أصبح هذا الحصن شوكة في جنوب ملوك العرب، فمنه خرج كونت تنديلة وعاث في المرج، وأكثر فيه الفساد.
ولم يصلوا إلى الطريق الذي كانوا يقصدون العيث والإفساد فيه إلا في اليوم التالي وكان شِعبًا ممتدًّا في أملاك العرب بالقرب من ساحل بحر الروم، وفي هذا الشعب لاقوا من الأهوال والفوادح ما يعجز عنه الوصف، فساروا فيه يستحثون الخُطا بين الجبال العابسة السامقة والأوعار والأخناق.
وطالما اعترض طريقهم مهاوٍ عميقة، وأودية صلدة بعيدة الغور قليلة الماء بين صخور تريد أن تنقض، وصخور أسقطتها عواصف الخريف، فعز اجتيازها، وقد يمشون ساعات طويلة في أخاديد، أو في مجرى جاف حفره السيل بين الجبال، وغمره بالحصا والأحجار، وكانت تغطي هذه المهاوي وتلك الأخاديد قمم عزيزة المرتقى صعبة المنحدر، جعلت من هذا المكان مخبأ صالحًا، كان يكمن فيه الجنود في أثناء الحروب بين العرب والمسيحيين، ثم أصبح بعد ذلك وكرًا للصوص يثبون منه على المسافرين.
وعند غروب الشمس بلغ الفرسان قمة بعض الجبال، ونظروا إلى ميامينهم فرأوا عن بعد قسمًا من مرج مالقة الوسيم وقد ظهر من ورائه بحر الروم، فاشتد فرحهم حتى كأنهم بقية من قوم موسى، ظفروا بعد أَيْنٍ بنظرة إلى أرض الميعاد بعد الفرقة والشتات، وحين اعتكر الظلام وصلوا إلى بعض الأودية والدساكر التي أطبقت عليها الجبال، ويسمي العرب هذه البقعة بشرقية مالقة، وفيها كُتِب لآمالهم أن تخيب، ولجيشهم أن يتمزق؛ فإن العرب لما علموا بقربهم ساقوا بقرهم، وحملوا أمتعتهم، والتجئوا بزوجاتهم وأولادهم إلى قلل الجبال ومعاقلها.
واشتد غضب النصارى، وانصرفوا مسرعين طامعين في أن يقعوا في الطريق على غنم أعظم وأوفر، وأرسل الدون ألونزو آل أغيلار وغيره من القواد جنودهم، فعاثوا فيما حولهم من الأرض، ودمروا ما شاء غيظهم أن يدمروا، واستلبوا بعض البقر من زراع العرب في أثناء فرارهم، وبينما كان هذا الفريق يعيث ويدمر ويشعل النار في الدساكر فتنير الجبال، أمر صاحب سنتياغو — وكان يقود ساقة الجيش — أن يجتمع الفرسان صفوفًا ليكونوا على استعداد إذا صاحت بهم صائحة.
وحاول بعض فرسان هذه الإخوَّة الدينية أن يهيموا في الأودية لاقتناص الغنائم، فدعاهم وزجرهم.
ثم قادهم سوء الطالع إلى شِعب في الجبل تقطعه الهوَّات والأخاديد البعيدة العمق، وتغطيه القمم، فكان مستحيلًا أن يحتفظ فيه الجيش بنظامه، وضاق مجال الخيل عن المسير فخرجت عن طوع فوارسها، وكانت تتسلق من صخرة إلى صخرة، وتنزل غورًا وتصعد في نجد، وتنقل سنابكها في مكان يضيق بِفِرْسِنِ الوعل، وحينما مروا بإحدى القرى كشفت لهم أضواؤها ما صاروا إليه من سوء الحال، وتفاقم الخطب، ووعورة الطريق، وهنا بصر بهم العرب الذين كانوا قد سبقوهم إلى معاقلهم الممعنة في الارتفاع، ورأوا الفخ الذي سقطوا فيه، فصاحوا جذلين مستبشرين ونزلوا من حصونهم، وربضوا فوق قمم الجبال التي تشرف على الهوات التي ارتطم فيها المسيحيون، وأخذوا يصبون عليهم وابلًا من السهام والأحجار.
وأطبق الليل بظلامه الدامس مرة أخرى على المسيحيين وهم محبوسون في وادٍ ضيق يخترقه جدول عميق، وتحيط به الحبال الذاهبة في السحاب وقد اشتعلت فوقها نيران الدعوة إلى الجهاد، وبينما هم في هذه الحال من اليأس، إذا صيحات مزعجة يتردد صداها في جنبات الوادي: الزغل الزغل!! فسأل صاحب سنتياغو: ما هذه الصيحات؟! فأجابه جندي قديم: هذه صيحات الزغل قائد العرب، وهي تدل على قدومه بجيشه من مالقة، فالتفت صاحب سنتياغو إلى فرسانه وقال: فلنمت ممهدين الطريق بقلوبنا بعد أن عجزنا عن تمهيدها بسيوفنا، ولنخترق الجبال إلى الأعداء، ولأن نبيع أنفسنا هنا غالية، خير من أن نُذبح مستسلمين، وما كاد يتم قولته حتى لوى عنانه وهمز فرسه متسلقًا الجبل يتبعه المشاة والفرسان، وقد وقر في نفوسهم أنهم إذا لم يستطيعوا الفرار فلا أقل من أن ينالوا من أعدائهم بعض منال، وبينما هم يتسلقون إذ دهمهم من العرب سيل من السهام والحجارة، وكثيرًا ما كانت الصخرة تهوي على جموعهم كالرعد القاصف فتمزقهم تمزيقًا.
ولم ينسَ المسيحيون وشيكًا هذه الويلات، ويلات جبال مالقة، فكانوا يتحرقون للانتقام، وقد ظفروا بثأرهم وشفوا غلتهم، وفازوا بانتصار باهر حينما شن أبو عبد الله على بلادهم غارة شعواء، وكان في ذلك الحين قد اغتصب ملك غرناطة من أبيه، فزحف بجنوده خفية مدَّرعًا الليل، ولكن النصارى علموا بهذا الزحف، فأشعلوا النيران في قمم التلال للاستغاثة، وقد تنبه كونت قبرة لهذه النيران، وجمع زعماء قومه وأتباعه فعثروا على العرب بالقرب من لُشانة، وتربصوا لهم في غابة هناك، ثم سقطوا عليهم فهزموهم شر هزيمة، وحينما دخل فلول الفارين أبواب غرناطة، تعاظم الأمر أهلها فبكى الباكون، وندب النادبون قائلين: «غرناطة يا أجمل المدن!! أين ذهب جمالك وجلالك؟! لقد دفنت زهرات مجدك في أرض الأعداء، فلن يتردد في بطحاء الرملة بعد اليوم صدى سنابك الخيل، ولا صيحات الأبواق، ولن يزدحم فضاؤها بعد اليوم بشبابك النبلاء، وهم يستعدون للمبارزة والجلاد.
غرناطة يا أجمل المدن!! لن تسري بعد اليوم نغمات العود الناعمة في شوارعك المقمرة، ولن تسمع ألحان العشاق تحت قصورك العالية، وستخرس دقات الصنوج المرحة فوق تلالك الخصيبة، وستقف رقصات الزَّمْبَرة الجميلة تحت عرائشك الوريفة.
غرناطة يا أجمل المدن!! لِمَ أقفرت الحمراء من أهلها وأصبحت يبابًا؟! إن الريحان وأزهار البرتقال لا تزال ترسل أريجها بين غرفها وفراشها الوثير!! ولا تزال البلابل تصدح في مروجها الفيح، ولا تزال أعمدة أبهائها تنتعش برشاش الفوارات يتساقط عليها، وتنعم بخرير أمواهها كأنه صوت أم تدلل أطفالها، واحسرتاه!! لن نشهد بعد اليوم طلعة السلطان مشرقة بين أبهائها؛ لأن نور الحمراء أطفئ إلى الأبد.»
قُبِض على أبي عبد الله في هذه الموقعة، وأرسل أسيرًا إلى قرطبة، وانقض فرديناند على المرج يعيث فيه فسادًا، بينما كان مولاي أبو الحسن — وقد عاد إلى ملكه — شيخًا هِمًّا يحرق الأُرَّم غيظًا من وراء أسواره.