سقوط غرناطة
أما الزغل: فهو آخر ملك عظيم أنبتته الأندلس؛ فقد كان شجاعًا ثابت الرأي، عدوًّا لدودًا شديد المراس قوي العزم في محاربة المسيحيين، ولو لم يفسد عليه ابن أخيه أمره، لبقيت غرناطة في أيدي المسلمين مدة حياته، وإن لم يكن ثمة مفر من انتصار المسيحيين في النهاية، وقد أسرع سلاطين غرناطة بتنازعهم وتكالبهم على الملك بتقريب هذه النهاية، وإذا حكمت الأقدار على ملك بالسقوط أخذت تملي له، وتملأ رأسه بالسخف والغرور.
وهكذا نرى اليوم سلاطين غرناطة وقد استبد بعقولهم الشغف بالانتحار — إن صح أن نسمي تخريبهم بلادهم بأيديهم انتحارًا — ففي الحين الذي كان يجب أن يجتمعوا فيه ويتواثقوا لصد المسيحيين، نراهم يبددون قواهم في محاربة بعضهم بعضًا، ونرى بعضهم يصد جيش أخيه وهو زاحف على الإسبان ليكون هو وأخوه آخر الأمر طعمة للإسبان، وتفرق أهل غرناطة شيعًا، فزاد ذلك في إشعال نار الغيرة والتحاسد بين السلاطين، ولم يكن من شيء أحب إلى الغرناطيين من إسقاط سلطان ونصب آخر مكانه؛ لأنهم قوم متقبلون لا يصبرون على حال، مولعون بالتغيير، سواء أكان للخير أم للشر، وكانوا يبتهجون بالسلطان ويؤيدونه ما دام سعيدًا موفقًا في حروبه، تعود جيوشه إليهم بالغنائم والأسلاب، فإذا خاب مرة في شيء من هذا أغلقوا أبواب المدينة دونه، ونادوا بحياة السلطان الذي أعدوه لساعته، وقد يكون هذا أبا عبد الله أو الزغل، أو أي رجل أسعده الحظ في هذه اللحظة بالفوز بحبهم الفَروك.
وبينما كان أبو عبد الله المشئوم يبذل وسعه في إحباط جهود عمه الزغل الباسل، كان المسيحيون يضيقون الدائرة المحيطة بالمملكة المنكوبة شيئا فشيئًا، فأخذت تسقط في أيديهم مدينة بعد أخرى، وتملكوا حصن لورة وغيره من الحصون سنة ١٤٨٤م/٨٨٩ﻫ بنسفها بالمدافع التي ابتكرت حديثًا، وتبع ذلك في السنة التالية سقوط ذكوان، وقَرْطَمة، ورندة.
وكان فرديناند في هذا الحين يحاصر بلش بالقرب من مالقة، فوصل الخبر إلى غرناطة فأثار غضب أهلها وسخطهم، فاستنهضوا عزيمة الزغل، وكان دائمًا على أهبة لمصافحة سيوف أعدائه ومنازلة الموت لاستبقاء الحياة، فقاد جنوده في جرأة وإقدام لتخليص بلش، وكان يعلم حق العلم أن ابن أخيه الخائن سيهتبل فرصة غيبته ويوطد ملكه بغرناطة، ولكن الزغل لم يلقب بالشجاع عبثًا، فجعل التفكير في نفسه دبر أذنه وتقدم لإنقاذ مالقة.
وكانت خطته أن يثب المحصورون بالمدينة من الداخل، وأن يفجأ هو وجيوشه أعداءه من الخارج، ولكن عدوه كان عظيم المكر شديد المحال، فقد وصلت هذه الخطة إلى يد فرديناند، فاتخذ لها عدتها.
وفي ليلة رأى أهل بلش جنود الزغل مصطفين فوق شرف قريب فابتهجت نفوسهم، ولكنهم في الصباح حينما رددوا النظر لم يروا من هؤلاء الجنود أحدًا؛ لأنهم دحروا في أثناء الليل عند أسوار المدينة، وتمزق جيش الإنقاذ شر ممزق، وتبدَّد تبدُّد الضباب أمام هجمات مركيز قادس العاتية، وحينما أخذت فلول هذا الجيش تدخل في خزي وعار أبواب غرناطة، اشتد غضب الغرناطيين، فثارت ثورتهم، وأسرعوا بخلع طاعة الزغل ونصب أبي عبد الله سلطانًا مكانه، وبعد قليل أقبل الزغل في بعض رجاله نحو الأبواب، فرآها مغلقة في وجهه، ورفع رأسه فرأى علم أبي عبد الله خفاقًا فوق حصون الحمراء فارتد حزينًا محسورًا إلى مدينة وادي آش، وجعل بها حضرة ملكه بعد أن أغلقت غرناطة أبوابها وقلوبها دونه، ولفظته في ساعة بؤسه كما تلفظ النواة.
ثم شرع النصارى يحاصرون مالقة، ولكنها كانت صعبة المنال شديدة المنعة، لم يكن اقتحامها أمرًا يسيرًا، فقد أحاطت بها الجبال والأسوار الحصينة التي يعلوها الحصن الرابض قبل جبل فارو، حيث تستطيع حاميته أن تصب القذائف على من بالسهول التي تكتنف المدينة، وتطوع بالدفاع عنها في هذا الحين بطل عنيد، واسع الحيلة، صلب العود، يعرف بحامد الزغبي كان يقود من قبل جيش رُندة الذي حطمه النصارى تحطيمًا، فلم ينسَ لهم بعدُ تغلبهم عليه، وانتزاع القلاع الصخرية منه عنوة، وهب هذا الجندي الباسل يبث في أهل المدينة وبين أنصاره من البربر روحًا من الجرأة والصبر والتحدي، حاول ملوك الكثلكة جهد استطاعتهم أن يخمدوها فلم يفلحوا، فاستطاع حينما تمكن من جبل فارو أن يحمي المدينة، على الرغم من انحلال عزيمة بعض أهلها من التجار وأصحاب الأموال، وحاول الملك أن يرشيه، فرد إليه رسوله في أنفة وكبرياء، وحينما أنذر النصارى المدينة بوجوب التسليم، وألح عليه تجارها أن يغمد السيف، أجابهم في شمم وإيجاز: لقد جئت هنا للدفاع عن المدينة لا لتسليمها، وحصر فرديناند ضربه في جبل فارو فغطت مدافعه المعروفة «بأخوات شيمينيس السبع» الحصن برداء من الدخان والنار، واستمرت قذائف اللهيب تضطرم ليلًا ونهارًا، وهمَّ النصارى أن يأخذوا الحصن عنوة، فصب عليهم الزغبي وأنصاره الأشداء حميمًا من القار والراتنج، وقذفوا فوق رءوسهم الأحجار والصخور وهم يحاولون تسلق سلالمهم، وسددوا نحو صدورهم السهام فاضطروا إلى النكوص مدحورين.
ثم أخذ النصارى في دس الأنفاط (الألغام) تحت الأسوار فنجحوا، ونُسفت بعض المعاقل بالبارود لأول مرة في تاريخ الإسبان، واجتمع الفرسان المسيحيون حول أسوار مالقة، وحضرت الملكة ايزابلا نفسها فأثار حضورها روح الحماسة في الفرسان والجنود، ونصبت عرائش من الخشب لحماية الجنود في أثناء وضعهم الأنفاط تحت الأسوار، كل هذا والزغبي عنيد لا يسلِّم، قوي لا يغلب، ولكن القدر المحتوم جر إليه في ذيوله ما هو شر من المدافع وأفتك من البارود، فقد اشتدت المجاعة بين سكان المدينة، ففلَّت عزائمهم وصيرتهم أكثر ميلًا للإنصات إلى دعوة الصلح التي يبثها التجار منهم إلى سماع دعوة الصبر والمثابرة من الجنود المستميتين، ولم يكن هناك أمل في نجدة تصل لإنقاذهم، فإن الزغل همَّ مرة بعد أخرى بإنقاذ المدينة، فجمع ما بقي من جيشه، وزحف من وادي آش للنجدة، ولكن ابن أخيه المشئوم الذي أكد بأعماله شؤم لقبه أدركته الغيرة الكاذبة من عمه، فأمر جنده أن يصدوا جيشه ويشتتوه وهو ذاهب إلى مالقة، وانتهت آخر جهود الزغبي بمذابحَ شنيعةٍ، وأضر السغب بالسكان، وقذفت الأمهات بأطفالهن أمام جواد الحاكم باكيات صائحات بأن لم يبقَ لديهن فتاتة من طعام يغذين بها أطفالهن، وبأنهن لم تعد بهن طاقة لسماع بكائهم.
بعد ذلك سلمت المدينة وأجبر الجنود قائدهم الزغبي — وكان لا يزال متشبثًا بجبل فارو — أن يفتح أبواب المدينة ففتحت، وكان جزاء هذا البطل الشجاع الباسل أن يُقذف به في جب فلم يسمع عنه خبر إلى اليوم.
وعندما رفع الحصار عن المدينة، أخذ سكانها المساكين يحارب بعضهم بعضًا لشراء الطعام من النصارى، وأسر الإسبان الحامية الإفريقية للمدينة وكانت لا تزال تحتفظ بشممها على الرغم مما أصابها من الإعياء والنصب، أما بقية السكان فسمح لهم بأن يفتدوا أنفسهم على شرط أن يسلموا جميع بضائعهم وأمتعتهم إلى الملك لتكون أول قسط من أقساط الفدية، وأنهم إذا لم يؤدوا الباقي بعد ثمانية أشهر عُدُّوا عبيدًا، وبعد أن أحصي عددهم وفتشت منازلهم أطلق سراحهم.
يا مالقة يا أجمل المدن وأبعدهن صيتًا!! أين منعة حصنك؟! وأين عظمة أبراجك؟! وماذا أفادت أسوارك القوية في حماية أبنائك؟! سيرثي بعض هؤلاء الأبناء لبعض وهم غرباء مشتتون في أرض غير أرضهم!! ولكن هذا الرثاء لن يلقى من الناس إلا سخرية وهزوًا.
أُرسل هؤلاء البؤساء إلى إشبيلية ليقوموا بخدمة الإسبان فيها، حتى انقضت ثمانية الأشهر، وإذ لم يستطيعوا أداء ما بقي عليهم من الفدية، حكم عليهم جميعًا بالعبودية، وكانوا زهاء خمسة عشر ألفًا، وهكذا نالت مكايد فرديناند أمنيتها، وبلغ مكره السيئ غايته.
أصبح القسم الغربي من مملكة غرناطة الآن في قبضة النصارى، واحتلت حامياتهم قلاع رُنْدة، ومالقة الجميلة، وكان أبو عبد الله لا يزال يحكم غرناطة، وقد أسرع بتهنئة سيده وسيدته على انتصارهما بمالقة، أما الزغل فكان في الشرق يتحدى الفاتحين، وقد جمع حول لوائه كل من بقي في نفسه شيء من الحمية والتصميم من بين العرب القانطين، وكان يملك غير منازع القسم من جيان إلى المرية، وهي ثغر عظيم الشأن على بحر الروم، ويدخل في ملكه أيضًا بعض المدن العظيمة: كوادي آش، وبسطة، ثم السفوح الوعرة لجبال البشرات، وهي مهد قوم شداد صلاب من الجبليين، تطل على عدد عديد من الأودية التي تسقى بالماء الخصر المنهمر من جبال نيفادا الثلجية حيث تكثر المراعى والكروم، وغياض البرتقال والرمان، والأترج والتوت، ومن هذه الخيرات وغيرها تتكون ثروة هذا الإقليم.
فألقى القياد على كرهٍ منه لفرديناند، وسلم إليه المرية، فأقطعه الملك قطعة من الأرض في البشرات، ومنحه لقب «أمير أَنْدَرَش» ولكنه لم يُقِمْ طويلًا بهذه البلاد التي ذهب فيها مجده وتولَّى سلطانه، فباع أرضه، واجتاز البحر إلى إفريقية، وهناك قبض عليه سلطان فاس فعذبه أشد عذاب وسمل عينيه، فقضى بقية أيامه هائمًا في الأرض بائسًا طريدًا، وما كان أشد حزن الناس على هذا البطل المغوار وهو في أسماله البالية، وقد قرءوا على رَق غزال خيط بردائه «هذا سلطان الأندلس العاثر الجد».
لم يبقَ للمسلمين غير غرناطة التي اغتبط أميرها أبو عبد الله أعظم اغتباط، وتشفى في عدوه القديم عمه أبي عبد الله الزغل حينما سلبه ملوك الكثلكة ملكه، وصاح من الفرح حينما بلَّغه الرسول الخبر: لن أقبل من الآن أن يلقبني أحد بالزغيبي؛ لأن الحظ أقبل عليَّ بوجهه.
ولكن الرسول أجابه في تؤدة: إن الريح التي تهب من أفق قد تهب من آخر، وإنه يجدر بالسلطان أن يكبح من فرحه وسروره حتى يستقر الجو، وكان أبو عبد الله كثيرًا ما يسمع سبَّه ولعنه بأذنه في جميع شوارع غرناطة، وكثيرًا ما يصل إليه ما يرميه الناس به من خيانة قومه ومحالفة أعدائه، ومع كل هذا كان يعيش مطمئنًّا هادئ البال، تام الثقة بحلفائه، سعيدًا بزوال ملك عمه، وفي أثناء ما كان يحرض الملكين عليه، عاهدهما على أنهما إن أفلحا في الاستيلاء على ملك الزغل وأخذا وادي آش والمرية، سلم اليهما غرناطة راضيًا، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى أفاق من غفوته، فإن فرديناند كتب إليه ينبئه بأن الشروط التي دونت لتسليم غرناطة قد تمت من ناحيته، وأنه يحتم تسليمها على حسب نصوص المعاهدة التي دونت بينهما، وألح أبو عبد الله عبثًا أن يرجئ فرديناند هذا الأمر قليلًا، ولكن الملك لم يتحول عما طلب، وأنذر بأنه إذا لم تسلم إليه المدينة أعاد نكبة مالقة، فارتبك أبو عبد الله ولم يدرِ ماذا يفعل، غير أن أهل غرناطة بزعامة موسى بن أبي الغسَّان الفارس الشجاع أخذوا الأمر في أيديهم، وبعثوا إلى فرديناند بأنه إن أراد أسلحتهم فليأتِ لأخذها بنفسه.
وحينما وصلت هذه العبارة الجريئة إلى أذن فرديناند، كان مرج غرناطة يزخر بالحب والفاكهة، وقد عاد إليه الخصب والنماء بعد أن عاثت فيه الحروب بين الزغل وأبي عبد الله، وبلغ الزرع أشده، وآن حصاده، وتطلَّب المناجل، فاقتنص فرديناند هذه السانحة ولجأ إلى طريقته المعتادة، فرمى المرج بخمسة وعشرين ألفًا من جنوده، غادروه بعد ثلاثين يومًا وهو أقفر من كف اللئيم، واقتنع فرديناند بهذا القدر في هذا العام، ثم أرسل على المرج في سنة ١٤٩٠م/٨٩٥ﻫ غارة مدمرة أخرى، ودفع أبا عبد الله إلى شجاعة يائسة، فلبس لَأْمة الحرب وهجم على أعدائه مستعينًا برأي موسى الذي كان نادرة في الرجال، وحينما رأى العرب الذين كانوا عاهدوا فرديناند من قبل على الطاعة سلطان غرناطة وهو يقود جيوشه للجهاد، وثبت عزائمهم من جديد، وألقوا بعهودهم في الهواء وانضموا إلى إخوانهم المحاربين.
وكان يخيل إلى المرء أن أيام العز الماضية قد عادت إلى غرناطة، فإن المسلمين استردوا من النصارى بعض الحصون وعاثوا في تخوم بلادهم، ولكن كل ذلك كان آخر شعاعة للشمس عند المغيب؛ فإن فرديناند وإيزابلا خرجا في إبريل سنة ١٤٩١م/٨٩٦ﻫ للحرب الصليبية التي اعتاداها كل عام، وعزما ألا يعودا إلا وغرناطة في قبضتيهما، فقاد الملك جيشًا عدته أربعون ألفًا من المشاة، وعشرة آلاف من الفرسان، وعقد أبو عبد الله مجلس الحرب بالحمراء بينما كانت سحب غبار الجيش الإسباني تُرَى من نوافذها، فرأى بعض رجال المجلس أن لا فائدة من المقاومة وأن الخير في التسليم، ولكن موسى قام واستحثهم أن يكونوا أبناء بررة لآبائهم، وأن يطردوا عنهم اليأس ما دامت فيهم قوة على القتال، وما بقيت لهم جياد سريعة الوثبات، فانتقلت حماسته إلى الناس، وصمموا على الموت، ولم يكن يسمع بغرناطة إلا صليل السلاح وأبواق الجنود.
وكان موسى قائد الدفاع وحارس أبواب المدينة، وكان أهل غرناطة قد أحكموا إيصادها عندما ظهر جيش النصارى فأمر بفتحها وقال: سنسد الأبواب بأجسامنا، فأثارت هذه الكلمات وأمثالها عزائم الشباب، وحين قال مرة لجنوده: إننا لا نحارب لشيء إلا لصيانة الأرض التي تحت أقدامنا، فإننا إن فقدناها فقدنا بيوتنا ومملكتنا — قذفوا بأنفسهم للموت معه، ومن الحق أن ندون هنا أن فرسان العرب تحت لواء هذا القائد الجريء قاموا بأروع ضروب الشجاعة والإقدام.
أما موسى فلم يرضَ بالتسليم، ولبس شِكَّته، وامتطى جواده، وخرج من المدينة إلى غير عودة.
وفي الخامس والعشرين من شهر نوفمبر سنة ١٤٩١م/٨٩٧ﻫ أمضيت شروط التسليم، وكان منها شرط يحدد زمنًا للهدنة لا يجوز بعد انقضائه أن تصل إلى المدينة أية نجدة، وأن تسلَّم عند ذلك للملكين، وترقب العرب عبثًا وصول ما كانوا يؤملون من النجدات من مصر أو من سلاطين تركيا فلم تأتِ، وأرسل أبو عبد الله في آخر ديسمبر إلى فرديناند يطلب إليه أن يدخل المدينة ويستولي عليها، فتقدم جيش النصارى من مدينة شنتفى صفوفًا، واخترق المرج، وعيون العرب الباكية تنظر إليه في جزع وحسرة، ودخلت مقدمته الحمراء، ونصبت الصليب الفضي الأكبر فوق قمة برج المدينة إلى جانب بيرق الحواري يعقوب، بين أصوات كانت تملأ الأفق صائحة: سنتياغو!! ثم نُصب حولهما علمَا قشتالة وأراغون، وجثا فرديناند وإيزابلا على ركبتيهما يحمدان الله على هذا الفتح المبين، وسجد خلفهما الجيش كله، ورتلت فرقة المرتلين الخاصة صلاة الشكر في تبتل وخشوع.
ووقف أبو عبد الله في ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان عند مرور هذا الموكب، فتقدم إلى فرديناند وسلم إليه مفاتيح المدينة، ثم ولى مدينته المحبوبة ظهره منطلقًا إلى الجبال حتى إذا وصل إلى قرية البذول وهي على مسافة مرحلتين من المدينة فوق مرقب عالٍ من البشرات — وقف يودع المملكة التي نُزع منها كما تنزع السن القادحة، فرأى المرج النضير وأبراج الحمراء، ومنائرها الضاربة في السماء، وبساتين جنة العريف، وكل ما بغرناطة من جمال وعظمة، فأجهش بالبكاء وصاح: الله أكبر!! ووقفت أمه عائشة إلى جانبه وهي تقول: حق لك يا بني أن تبكي كما تبكي النساء؛ لفقد مدينة لم تستطع أن تدافع عنها دفاع الرجال! ولا تزال البقعة التي ودع فيها أبو عبد الله مدينته بدموعه وزفراته تسمى إلى الآن: آخر حسرات العربي، ثم اجتاز أبو عبد الله إلى بر العدوة بإفريقية حيث كان يعيش بها هو وأبناؤه بالاستجداء وسؤال المحسنين.