الشاب الداخل
استمر الخلفاء يحكمون القسم الأعظم من المملكة الإسلامية ستة قرون، وكان هذا الحكم في أول الأمر قويًّا واسع السلطة، فكان الخليفة يعيِّن أمراء الولايات ويعزلهم إن شاء ومتى شاء من إسبانيا إلى حدود الهند.
وكانت الأندلس أول ولاية نفضت عنها سلطة الخليفة، ولكي نفهم هذا يجب أن نذكر أن الخلفاء لم يتبع بعضهم بعضًا في سلالة متصلة الوراثة، فبعد الخلفاء الراشدين: «أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي» الذين نالوا الخلافة بقليل أو كثير من رغبة الأمة واختيارها — نصب أهل الشام معاويةَ خليفة بدمشق، فكان من نسله الخلفاء الأمويون، وكان عددهم أربعة عشر، حكموا من سنة ٦٦١م/٤١ﻫ إلى سنة ٧٥٠م/١٣٢ﻫ ثم أسقط السفاح دولتهم، فكان أولَ العباسيين المنسوبين إلى جدهم العباس عم النبي ﷺ، ونقل العباسيون مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد، واستمرت خلافتهم حتى أسقطها المغول سنة ١٢٥٨م/٦٥٦ﻫ.
عند ذلك حول نظره إلى الأندلس؛ حيث كان الصراع الدائم بين القبائل والعشائر المتنافسة جديرًا بأن يفتح بابًا لعبقري مثله، يؤيده النسب الأموي وتزكيه الهمة العالية؛ لذلك أرسل خادمه بدرًا إلى زعماء حزب الشام بإسبانيا، وكان بينهم كثير من موالي الأمويين الذين يوجب عليهم الشرف العربي نصر من ينتمي إلى ساداتهم الأولين، ورأى بدر من هؤلاء الزعماء رغبة في استقبال الأمير الشاب بعد أن فاوضوا القبائل المعادية من اليمن فوعدت بنُصرته، عندئذ عاد بدر إلى إفريقية.
وكان عبد الرحمن يصلي على سِيفِ البحر حينما رأى السفينة التي تحمل خير الأخبار مقبلة إليه، وكان يميل إلى الأخذ بالفأل كجميع المشارقة الذين طُبعوا على التفاؤل والتطير، واتفق أن أول رسول أندلسي قدم مع بدر كان اسمه أبا غالب تمَّامًا، فلما عرف عبد الرحمن اسمه صاح: «تمَّ أمرنا وغلبنا بحول الله وقوته.» ثم نزل إلى السفينة فأبحرت به إلى إسبانيا في سبتمبر سنة ٧٥٥م/١٣٨ﻫ وكان دخولُ هذا الناجي الفذ من بين السلالةِ الأمويةِ الأندلسَ أشبهَ بصفحة من قصة عجيبة، وهو يشبه وصول الشاب الذي ادَّعى مُلك إنجلترا إلى أسكتلندة سنة ١٧٤٥م.
وانتشر خبر دخوله الأندلس انتشار النار في الهشيم، فتزاحم عليه المناصرون القدماء للدولة الأموية يقدمون الطاعة، ووضع أبناء موالي الأمويين أنفسهم تحت أمره، وتأثرت قبائل اليمن التي لم تكن تشعر بانعطاف نحو الأمير الشاب، بحماسة أنصاره، فانتقلت إليها العدوى، وعقدت الخناصر على البر بوعدها، وتواثقت على نُصرته.
ورأى أمير الأندلس معظم جنوده وقد انصرف عنه، فاضطر إلى انتظار جيش جديد، على أن الأمطار في هذا الفصل من السنة جعلت القتال مستحيلًا، فترك ذلك لعبد الرحمن متسعًا من الزمن يجمع فيه جنوده، ويدبر أمره.
ولكن عبد الرحمن خدع يوسف بحيلة لا تليق بالأبطال، فطلب منه أن يتركه يجتاز النهر بعد أن هبط ماؤه ليعقد معه صلحًا، فلما وصل إلى الشاطئ الآخر انقضَّ على جيش يوسف بعد أن وثق الأمير بوعده، فتغلب عليه ودخل قرطبة ظافرًا، وكان له من الهيبة والشهامة والنخوة ما منع الجند من النهب والتخريب، وحمل نساء الأمير المهزوم وأسرته إلى مأمنها، ولم تمضِ السنة إلا وهو مسيطر على جميع ما احتازه المسلمون من أرض إسبانيا، وبهذا الإقدام النادر وبهمة عبد الرحمن قُدِّرَ للدولة الأموية بقرطبة أن تستمر في الحكم نحو ثلاثة قرون.
ولم يثبت أمير قرطبة الجديد فوق عرشه بغير جهاد أو نصب، فإن الذي أجلسه على العرش وذلل سبيله إليه لم يكن إلا حزبًا صغيرًا من الأحزاب الكثيرة التي اقتسمت المملكة فيما بينها، غير أن عبد الرحمن كان أكثر استعدادًا وأوسع حيلة من سواه للاحتفاظ بملكه بين هذه العناصر المضطربة المشاغبة، فإنه كان سريعًا عند الخطب، قوي العزيمة، غير متحرج إذا صمَّم، شديد البطش، لا يرعَى إلًّا ولا ذمة، سياسيًّا داهية، أعد لكل مفاجأة عُدتها، وكثيرًا ما دهمته الحوادث فرأت فيه بطلًا همامًا.
نبذ الناس عبد الرحمن فبقي وحيدًا محزونًا، هجره أصدقاؤه، ويئس منه أعداؤه فصبُّوا عليه لعناتهم، ونصب له الحبائل أهله وخدامه.
وقد تكون حروبه الطويلة للقبائل قد أفسدت طبيعته العربية السمحة، وقد يكون قد فُطِرَ هكذا على أخلاق شرسة لا تلين، فهو الآن لا يستطيع أن يندمج كعادته في زحام شوارع قرطبة، وإذا مر بهذه الشوارع فإنما يمر راكبًا محاطًا بحراس أقوياء من الغرباء، مشتبهًا في كل شيء، ومتهِمًا كل إنسان، تنتابه أفكار مظلمة، وتزعجه ذكريات الدماء، فكان له أربعون ألف حارس من مرتزقة البربر يحمونه من أعدائه الذين سحقهم تحت قدميه، وكان إخلاص هؤلاء الحراس المأجورين لمولاهم يعادل بغضهم لجميع الأهلين الذين أذلهم سيدهم وألصق آنافهم بالتراب.
وقد نظم عبد الرحمن في وَحْدته هذه القصيدة يناجي فيها نخلة نقلها من أرض أجداده وغرسها بالأندلس؛ لأنه كان يقول الشعر، وهو في أبياته يحنو على النخلة في منفاها ويقول:
أدرك الغرض الذي سعى إليه في ميعة طموحه، فأخضع العرب والبربر، وأعاد إلى الملك عدلًا ونظامًا، ولكنه كسب كل هذا فخسر قلوب رعيته.
فوارحمتا لذلك الفتى الوسيم الذي دخل الأندلس بطلًا مقدامًا ففاز بطاعة أهلها وإخلاصهم، ثم وارحمتا له وهو يدلف إلى قبره بعد اثنتين وثلاثين سنة، بغيضًا جبارًا، يحمي عرشه الملطخ بالدماء بسيوف المرتزقة الذين يبيعون إخلاصهم بالذهب، لقد حكم إسبانيا بالسيف، وعلى خلفائه أن يَجْرُوا على هذا السنن.
وقد رأى أكبر مؤرخ للأندلس: «أنه كان من الصعب على عبد الرحمن أن يسلك سبيلًا أخرى لتوطيد الحكم بين مشاغبي العرب والبربر، وأنه لم تكن لديه وسيلة لاجتثاث الفوضى إلا أن يقابل هذه الفوضى بالشدة والعسف؛ لأن كِلا الفريقين لم يعتد الحكم المنظَّم».
ومهما يكن من شيء فإن استمرار ظلم كهذا يخلق جوًّا من الحزن واليأس على الرغم من بهجة الانتصارات التي تُشِعُّ في جوانبه.
كان عبد الرحمن راجح الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلُد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعة، ولا يكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويؤثره، وكان قد أُعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم.
هذا هو بلا شك عبد الرحمن الشابُّ قبل أن تجعله المقاومة والدسائس قاسيًا جافيًا كثير الفزع والشكوك، وللقوة دائمًا طرق مروعة في عقاب أصحابها.
وكلما مات ملك جبار تساءل الناس: من يخلفه؟ والجواب العام في مثل تلك الحال هو: ثورة وفوضى، إن العرش الذي يثبت على رءوس الحراب لا ينتقل في سهولة من الأب إلى الولد، ومع هذا لم تسقط دولة عبد الرحمن بموت مؤسسها المستبد، وكان من المتوقع أن تثور القبائل المناجزة التي كبح جِماحها بمشقة وجهد بعد أن أُطلقت من عقالها بموته، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن؛ لأن الرعب الذي غرسه في قلوبهم كان شديدًا، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من هوله، أو لأنهم رأوا في ولي عهده أميرًا محبوبًا يتحلى بصفات تضاد صفات أبيه؛ فقد كان هشام الذي تولى الملك بعده سنة ٧٨٨م/١٧٢ﻫ، وهو في الثلاثين من عمره — مثالًا لجميع الفضائل، وزاده ميلًا إلى عمل الخير وبذل العناية في الإصلاح، ما تكهن له به أحد المنجمين من أن ما بقي من عمره لا يزيد على ثماني سنوات؛ لذلك تفرغ الأمير في هذه المدة القصيرة للاستعداد للدار الأخرى، وكان قصره في أيام نشأته الأولى يموج بالعلماء والشعراء والحكماء، فأثرت فيه هذه النشأة، والولد كما يقولون أبو الوالد، وكان له من أعمال التقوى والصلاح ما لا يُحصر عدًّا، ورأى في حماه الغاضبون والمضطهَدون معقِلًا وملاذًا، وكان يرسل من يثق به من الوعَّاظ والدعاة إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعيَّن بالمدن عَسَسًا لمنع الشجار وارتكاب الجرائم، ورأى أن تقسم الغرامات المفروضة على الأشرار يبن الأتقياء الذين لا يمنعهم مطر أو برد من غشيان المساجد، وكان يعود المرضى، وكثيرًا ما كان يخرج في الليالي العاصفة وهو يحمل الطعام لمريض من الزهاد، حتى إذا بلغ داره جلس بجانب فراشه يراعيه ويرعاه.
وكانت الأمور تسير سيرًا حسنًا ما نالت هذه الطائفة رغباتها، غير أنه في سنة ٧٩٦م/١٨٠ﻫ بعد أن انتقل هشام إلى رحمة ربه، طرأ على قصر الخلافة تغيُّر عظيم، لم يكن الأمير الجديد «الحكَم» قليل الاهتمام بالدين أو خليعًا مستهترًا، ولكنه كان مرحًا يحب الحياة ويتمتع بها كلما أقبلت عليه، ليس به صفة من صفات الزهد والتقشف، وكانت هذه الأخلاق وأشباهها بغيضة إلى المتزمتين، فانطلقوا يتحدثون بمثالب الأمير في ذعر وإشفاق ويدعون له بالمغفرة والتوبة، ثم تجاوزوا الحد فسبوه في وجهه وصبوا عليه اللعنات، ولمَّا يئسوا من إصلاحه تآمروا على عزله وإجلاس آخر من أسرته مكانه، ولكن المؤامرات خابت، وكان جزاء المتآمرين أن صُلِبَ الأمراء الذين اشتركوا في المؤامرة وبعض الفقهاء المتعصبين، وقد كان يكون مثل هذا كافيًا لولا أن الفقهاء عادوا إلى الثورة، فعاد الأمير إلى إطفائها باستئصال مشعليها، ولكن القرطبيين لم يرعووا بعد كل هذا، وبقيت مراجل الثورة تغلي في قلوبهم، ولم يرعبهم ما سمعوه مما أصاب زعماء طليطلة الذين أظهروا العصيان كعادتهم، والذين استدرجهم ولي العهد بالحيلة والخديعة، حتى إذا قبض عليهم أفناهم ذبحًا وتقتيلًا.
بقيت ذكرى يوم الخندق «الذي سميت به مذبحة طليطلة» كابحة جِماح المتعصبين والمشاغبين في قرطبة سبع سنين، ولما نصلت ذكرى ذلك الخندق المخيف الذي قُذِفَ فيه بجثث زعماء طليطلة، شرعت الفتنة تطل برءوسها في قصبة الأندلس، ولم يزدد بغض الأهلين للأمير؛ لأنه أبى أن يلبس الخشن من الثياب، وأبى أن يتراءى بالزهد والتقوى أمام أمته، بل كان يتجه هذا البغض أكثرَ ما يتجه إلى مماليك الأمير الذين كانوا يدعون «بالخُرْس»، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا من الزنوج وأشباههم الذين كانوا لا يستطيعون التكلُّم بالعربية، وكان هؤلاء الزنوج لا يجرؤون على السير في شوارع المدينة إلا جماعات؛ لشدة كراهية الناس لهم وتحفزهم لإيذائهم، وإذا خرج جندي وحده كان عرضة للضرب أو القتل، وحدث يومًا أن ضرب أحدُ هؤلاء الجنود بعضَ العامة فثارت ثورتهم جميعًا، وهجموا بقلب رجل واحد على القصر، يقودهم آلاف من الفقهاء الذين كانوا يسكنون الرَّبَض الجنوبي لقرطبة، وصاح الشر بينهم وطاشت عقولهم وصمموا على أن يقتحموا القصر على الرغم من حصونه وحراسه، فأطل الحكم من إحدى النوافذ فرأى بحرًا زاخرًا من الوجوه، وأبصر — والدهش يملأ نفسه — شدة مكافحة العامة لهجمات فرسانه، ولكنه لم يفقد هدوءه في هذه الساعة المحفوفة بالمخاطر، وتلك ميزة العظماء وشِنْشِنَة النسب الكريم، فعاد إلى بهوه، وأمر خادمه الخاص أن يحضر له قارورة الغالية، وأخذ في تؤدة وثبات يضمخ رأسه ولحيته، ولم يستطع فتاه يزنت أن يكتم عجبه من فعل سيده وهو يسمع تهشيم الشعب المفترس للأبواب، فقال: أهذا وقت الغالية يا مولاي؟! ولكن الحكَم قاطعه قائلًا: اسكت أيها الغِرُّ، كيف تتصور أن يتعرف العصاة رأسي بين بقية الرءوس إذا لم يتميز بريحه العطرة؟! ثم نادى قواده وشرع في اتخاذ الوسائل للدفاع، وكانت هذه الوسائل غاية في السهولة وقوة الأثر، فقد أرسل ابنَ عمٍّ له مع بعض الفرسان من طريق خلفية إلى الربض، فأشعل فيه النار، فلما رآها المشاغبون غادروا القصر وأسرعوا في ذعر وفزع لإنقاذ زوجاتهم وأطفالهم من اللهيب، فانقض الحكم وحراسه على مؤخرتهم، ووقع العصاة بين قوتين فحُطِّموا تحطيمًا، وجال بينهم «الخرس» يقتلون بالمئات ولا يستجيبون إلى توسلاتهم وصياحهم المؤلم بطلب الرحمة، وانتهت الثورة بمذبحة عامة، ونجَّى الحكم بهذه الضربة القاصمة قصره وسلالته.
وكان الأمير كريمًا فقبض يده عن الإيذاء بعد انتصاره، ولم يجاوز به الحد، واكتفى بهدم دور العصاة بالربض ونفيهم، فرحل بعضهم إلى الإسكندرية وكانوا نحو خمسة عشر ألفًا غيرَ النساء والأطفال، وبعد أن أقاموا بها قليلًا أبحروا منها إلى إقْريطِش (كريت) ورحل ثمانية آلاف إلى (فاس) وكانت جمهرة هؤلاء المنفيين من أبناء الإسبانيين المتسلمين الذين كانوا يرحبون بكل فرصة يُظهرون فيها بغضهم لحكم العرب، وتُرك الفقهاء — وهم أسُّ العصيان والثورة — بلا عقاب، إما لأن كثيرًا منهم من أصل عربي، وإما لمنزلتهم الدينية، وقد جُرَّ أحد زعمائهم إلى القصر جرًّا، فصارح الحكم في حدة غضبه وتعصبه بأنه ببغضه للأمير إنما يطيع أمر الله، فأجابه الحكم جوابه المأثور إذ قال: «إن الذي أمرك — كما تزعم — ببغضي أمرني بالعفو عنك، اذهب في رعاية الله.»