الخليفة العظيم
قد يشعر القارئ بشيء من خيبة الأمل حين يرى أننا قد بلغنا هذا القدر من الكتاب ولم نسرد له إلا قليلًا من أعمال البطولة وأحاديث الحروب، وأننا بدل أن نقص عليه سِيَرَ الأبطالِ، طغى بنا القلم إلى الإسهاب في اضطراب حركات الأجناس، وثورات الأديان، نعم؛ إننا بدأنا بداءة تستثير العاطفة وتحبس الأنفاس بذكر طارق وجنده من البربر الذين لم تكن فتوحهم اللامعة من أساطير الخيال، ولم تكن في صحة حوادثها أقل من تاريخ القرن التاسع عشر، وقفينا على ذلك بذكر الموقعة الكبرى الفاصلة، موقعة طَلوشة (تولوز) وهي حقًّا من الوقائع المؤثرة وإن أعوزها كثير من الإسهاب التاريخي، ثم ألممنا بموقعة العرب مع الإفرنج، وبمعركة رونسسفال التي أبعد وصفها في الخيال، وغشَّاها غمام من خطرات الأوهام، ومر على هذه المعركة مائة عام، فوصلنا إلى مقتل يولوجيوس، وإلى خمود حركة الاستشهاد الدينية.
ولم نكن في غضون هذا القرن نقرأ في تاريخ الأندلس إلا صراعًا عنيفًا بين العشائر والمذاهب الدينية المختلفة التي تمثل الشعب الإسباني، ومهما يكن من شيء، فإن أعمال البطولة نادرة دائمًا، وكثيرًا ما تكون من خَلْق الشعراء، فإن عقولهم الروحانية كثيرًا ما تُلبس بعض حوادث الحرب العادية أثوابًا من البطولة لا تدركها الأفهام، في حين أن الصراع بين قبيل وآخر أو مذهب وآخر هو كل ما شهدته الدنيا منذ وجد الإنسان، فمن الحق إذًا ألا ننساق مع أنفسنا في اعتقاد أن تاريخ الحركات العظيمة خالٍ من الروعة لأنه خالٍ مما يسحر النفس من أعمال البطولة الفردية؛ فقد كان لكثير من المغمورين من الرجال والنساء في غضون عصر الاستشهاد الديني إخلاص وجهاد وبطولة تفوق أعمال الفُرسان في ساحة القتال؛ لأنه من السهل أن تكون شجاعًا في معركة تغلي فيها الدماء، أما أن تبصر نُذُر الهلاك وتحتمل السجن الطويل المدى، وتنتظر بشجاعة وجلد يوم الإعدام وأنت ثابت القلب رابط الجنان — فشيء فوق طاقة كثير من الناس.
أخطأ شهداء المسيحيين في رأيهم جادَّة الصواب، وقذفوا بأرواحهم في غير مَقْذِف، ولكن شجاعتهم مع هذا كانت جديرة بالإعجاب كما كانت عقولهم جديرة بالرحمة.
كانت فلورا بطلة حقًّا، كما لو ضحت بحياتها في سبيل حقيق بالتضحية، وخُلِقَ يولوجيوس من طينة الأبطال على الرغم من تعصبه وتزمته، وكم في كل هذه الثورات السياسية والدينية التي مرت بنا من أعمال تجلى فيها الإخلاص والثبات والعزم والاحتمال! وهذه — وإن فرَّت من عين المؤرخ — لا تقل عن أعمال البطولة اللامعة في ميادين القتال.
إن أشق واجبات الإنسان لا يظهر غالبًا إلا في صغار حوادث البطولة، وإن في المعارك والتحام الجيوش فرصًا لا تعد لتكوين الأبطال.
ويسهل جدًّا أن ترى البطولة واضحة في شخص من أن تراها في شعب أو مدينة، وها نحن أولاء بصدد حياة رجل يعد بين قليل ممن قرُبوا من المثل الأعلى في عظمة الملك وقوة السلطان.
وكان عظماء العرب من أبناء الفاتحين قليلي العدد، فلم يمنعهم ضعفهم، ولم تقعد بهم قلتهم عن أن يقلبوا للأمير ظهر المِجَنِّ، فاستولوا على بعض إمارات منها إشبيلية التي أصبحت منافسًا مخيفًا لقرطبة، أما في المدائن الأخرى وحيث كان العرب أضعف من أن يقاوموا الأمير، فإنهم خضعوا له خضوعًا صوريًّا، واستقل حاكما لورَقة وسرقسطة استقلالًا حقيقيًّا، ولم يبق للأمير من يستنصر به إلا الجنود المرتزقة الذين أخضعوا له أهل قرطبة إخضاعًا ظاهريًّا، بحيث إذا جاوز المرء قرطبة لم يجد عربيًّا واحدًا يرجى منه أن ينصر الأمير أو يدافع عن الدولة الأموية.
هكذا كانت حال الأندلس، وهذا ما آل إليه أمرها؛ فقد أصبحت ممزقة الأشلاء، منبتَّة الأواصر، تبعثرت فيها المقاطعات المستقلة التي صارت أشبه بالضياع منها بالولايات التي تكوِّن دولة قوية، وصارت أعجز من أن تقف في وجه فاتح قوي عزوم.
وكانت تلتمع أحيانًا أشعة من النور في ظلام هذه الفوضى القاتمة؛ فقد ذكرنا آنفًا أن حاكم مرسية كان أديبًا مثقفًا كما كان يشتهر حاكم قَسْطَلونة بإغداقه على الشعراء ورجال الفنون، وكان يعيش في قصر فوق أعمدة من الرخام، غطِّيت حيطانه بزخارف من المرمر والذهب، واشتمل على كل ما تشتهي النفس من النعيم.
أما ابن حجاج حاكم إشبيلية فإنه اضطر الأمير إلى مصالحته ومصادقته وحمل أعباء الحكم كريمًا نبيلًا، وأخذ رعيته بالرفق، فرفرف فوقها عَلَم السلام والطمأنينة، وعاقب المجرمين بعدل وصرامة، وأقام مراسم الملك في جلال وعظمة، وبلغ حرسه خمسمائة فارس، وكان رداؤه الملكي من الحرير المنسوج بخيوط الذهب والفضة، كتب عليه اسمه وألقابه بالذهب الخالص، وذاعت شهرته فراسله الملوك من وراء البحر وبعثوا إليه بهداياهم، وتوافد عليه العلماء والفقهاء من المدينة المنورة، وازدان قصره بأشهر المغنين من بغداد، وكانت جاريته «قمر» البغدادية شاعرة رائعة الحسن، بديعة الصوت، فصيحة اللسان، مرهفة الحس، وهي التي تقول فيه:
وقد اجتذب إلى قصره الشعراء، فأَمَّهُ جميعهم، حتى شعراء قرطبة الذين وثقوا من كرمه وتكريمه، وأعرض مرة عن شاعر وأنَّبه لأنه أراد أن يسرَّه بهجاء منافسيه من أشراف قرطبة، وكان من قوله له: لقد كذبتك نفسك يا هذا إن ظننت أن رجلًا مثلى يهَشُّ لسماع هذا الهجاء الدنيء.
كانت حال قرطبة تشبه حال ثغر تعرض لهجمات الأعداء، فكثيرًا ما فزع سكانها من نومهم في جوف الليل لصياح الزُّرَّاع على شاطئ النهر وقد وثب عليهم لصوص الطرق يُغمدون سيوفهم في رقابهم.
وكتب بعض من حضر هذا العهد يقول: «لقد أصيبت المملكة بانحلال شامل؛ فقد تلت المصائب المصائب فهي لا تنقطع، واستمر النهب والسرقات، وجُرَّت زوجاتنا وأولادنا قسرًا إلى الأسر والعبودية.»
ويل لك يا قرطبة، ويل لك يا بؤرة الفساد ونذير الزوال، يا موطن الفجائع والاضمحلال، لقد أصبحت بلا صديق أو حليف، ستحل مصيبتك حينما يصل إلى أبوابك القائد الكبير الأنف، الدميم الوجه، الذي يحرسه المسلمون من أمامه والكافرون من خلفه، فإن في وصول ابن حفصون إلى أسوارك القضاء المبرم والفناء المحتوم.
كان الخليفة عبد الرحمن الناصر حفيدًا لعبد الله، وقد ولي الحكم في الحادية والعشرين من عمره، وكان يُظَن أن يزاحمه عمه وأقاربه على الإمارة وهو في هذه السن وفي هذا الوقت العصيب، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، واستقبلت الأمة ولايته بصيحات الاستبشار والرضا من كل ناحية.
وكان الخليفة الجديد محبوبًا من الشعب ورجال القصر، تضافرت وسامة طلعته، وحسن سمته، وكرم أخلاقه، وقوة إدراكه، على أن تجعل منه خليفة تعشقه الجماهير، وأحس القرطبيون — وهم البقية الباقية من رعيته — بتجدد الأمل فيهم وهم يرقبون بواكير أعماله.
ولم يحاول عبد الرحمن إخفاء مراميه ومآربه، فقد هجر سياسة جده إلى غير عودة، وكان تناوحها بين الضعف والقوة سببًا في دمار البلاد، وأعلن مكانها في صراحة أنه لن يسمح بأي عصيان في أي جزء من أجزاء المملكة الأموية، ثم دعا الساخطين ورؤساء القبائل إلى الخضوع لسلطانه بعد أن أرسلها كلمة صريحة بأنه لن يترك جزءًا من مملكته يتحكم فيه العصاة، وكان في برنامجه من الجرأة ما ينعش آمال أكثر المتفائلين، وإن خاف كثير منهم من أن هذا البرنامج قد يؤلب العصاة في جميع أنحاء المملكة، ويجمعهم عصبة واحدة لسحق هذا الأمير الشاب العنيد، ولكن عبد الرحمن كان يعرف أخلاق أهل مملكته، فلم يكن في جرأته عابثًا أو متهورًا.
وكان من أثر كل هذا أن الخليفة حينما هب يقود جيوشه لمحاربة الولايات الخارجة عليه، رأى أن أكثرها أقرب إلى الخضوع من العصيان، وزاد في حماسة جنوده أن رأوا أميرهم الشاب الشجاع في مقدمتهم، وهو شيء لم يعهدوه من عبد الله جده، فساروا وراءه معجبين مستميتين، وأخذت المدن بالأندلس تفتح للأمير أبوابها واحدة إثر واحدة، فسلمت الولايات التي في جنوب قرطبة أولًا، ثم ألقت إشبيلية بقيادها، وأجبر البربر في الغرب على الطاعة، وأسرع أمير الجرف بإرسال الإتاوة، ثم تقدم الأمير لقتال النصارى بمقاطعة ريُّه (ريو) حيث يسكن منذ ثلاثين عامًا رعايا ابن حفصون الشجعان في معاقلهم الجبلية، وكان عبد الرحمن أعرف الناس بأن مثل هذه المعاقل لن ينال بظفر سريع؛ لذلك خطا خطوات متئدة حتى أخضعها لسلطانه، فسلم إليه معقل بعد معقل، بعد ما رأى أعداؤه ما بهرهم من عدله وشرفه، وأنه قد حافظ على معاهدته مع النصارى أكرم محافظة، وأنه أظهر غاية الحلم والصفح لكل من سلَّموا إليه، ولكن ابن حفصون بقي في معقله متحديًا مغالبًا كعادته، غير أنه كان قد شاخ فأدركته المنية، وأصبح استيلاء الخليفة على حصن «بُبَشتر» أمرًا هينًا موكولًا إلى الزمان.
وحينما وقف الأمير على مشارف هذا الحصن المنيع بعد استيلائه عليه، ونظر من بُعده الشاهق إلى القمم الشديدة الانحدار التي تحيط به، ثار وجدانه، وغمرته عواطفه، فسجد لله شكرًا على هذا الفتح المبين، وبقي مدة إقامته بالحصن صائمًا، وشمل أعداءه بالصفح والغفران.
ثم ألقت مُرْسية بالقياد وخضعت للخليفة، أما طليطلة فبقيت على تحديها وعصيانها ورفضت في كبرياء وغرور ما عرضه عليها عبد الرحمن من الهدنة، وانتظرت الحصار بصبر وجلد، ولم يخطر ببال أهل المدينة أنهم مُنُوا بأمير يخالف طابعه من عرفوهم من القواد الضعفاء الذين طالما آبوا بالعار والخيبة أمام حصونها المنيعة.
هجم الخليفة على طليطلة ووقف بجيشه لحصارها، ثم أراد أن يفهم من لم يكن يفهم أن هذا الحصار لم يكن محض تهديد، فأمر أن تبنى مدينة صغيرة فوق الجبل المقابل لها سماها «الفتح» وربض ينتظر عواقب الحصار، فلما اشتد الجوع بالسكان سلمت المدينة ودخلها عبد الرحمن فكانت آخر مدينة دانت له بالطاعة في المملكة التي ورثها من سميِّه عبد الرحمن الداخل، والتي بلغت الآن في سنة ٩٣٠م/٣١٨ﻫ غاية امتدادها.
وقد اقتضته إعادة ما ضيعه أسلافه من المملكة ثمانية عشر عامًا، غير أنه فاز بما أراده وأتمه، وعادت سلطته قوية الدعائم بين العرب والبربر والإسبان والمسلمين والمتسلمين، ومن هذا الحين أبى أن يخص أي حزب من رعيته بميزة أو يرفعه فوق غيره، وشدد الضغط على زعماء العرب، فابتهج الإسبان بإذلالهم، وأصبح الملك اليوم خالصًا للخليفة وحده، فحكم مستقل الرأي مستبدًّا، وقابلت الأمة استبداده بسرور وغبطة بعد عدة سنوات قضتها في الاضطراب والفوضى، وبعد أن استراح الناس من العصابات التي كانت تُغِير على زروعهم وكرومهم.
وإذا كان الخليفة مستبد السلطان، فإنه لم يتجاوز الحد في استبداده الذي أعاد الناس إلى حياة الأمن والثروة، وأطلق عقالهم لينالوا من الغنى ورغد العيش ما يشتهون على النحو الذي يشتهون.