حاضرة الخلافة
يقول أحد مؤرخي العرب: «إن قرطبة عروس الأندلس، بها من الجمال والزينة ما يبهر العين ويسر النفس، فأمراؤها المتعاقبون تاجُ مجدها، وقلادتُها نظمت من درر استخرجها شعراؤها من بحر اللغة الخضم، وحُلتها أعلام الآداب والعلوم، وأهداب حُلتها أصحاب الفنون والصناعات.»
وهكذا يصور المؤرخ الشرقي مدينته المحبوبة بما شاء من خيال الشرق البعيد.
ولقد كانت قرطبة أيام الخليفة العظيم حاضرة جديرة بالفخر والإعجاب، وإذا استثنينا بيزنطة فلن نجد في أوربا مدينة تساميها في جمال أبنيتها، أو في حياتها الرخية المترَفة، أو فيما تزخر به من أنواع العلوم وفنون الآداب.
إن الموجز الذي نحن بصدد نقله عن مؤرخي العرب في وصف قرطبة وما كانت فيه من نهضة وازدهار ومجد، إنما يعود زمنه إلى القرن العاشر، وإذا لحظنا أن أسلافنا السكسون في هذا العهد كانوا يسكنون الأكواخ ويفترشون القصيل، وأن لغتنا لم تكن تكوَّنت بعد، وأن القراءة والكتابة كانتا محصورتين في عدد قليل من الرهبان — عرفنا ما كان للعرب من مدنية عجيبة، وحضارة منقطعة النظير، وتظهر المقابلة جلية غريبة بين حاضرة الأندلس وغيرها من المدن إذا ذكرنا أن أوربا كلها في هذا العهد كانت غارقة في حمأة من الجهل وخشونة الأخلاق، وأنها لم يكن بها شيء من آثار المدنية إلا ما بقي للإمبراطورية الرومانية من أطياف في القسطنطينية وبعض أجزاء إيطاليا.
ويقول مؤرخ عربي آخر: «إن قرطبة مدينة حصينة، تحيط بها أسوار من الحجر ضخمة شاهقة، وهي جميلة الشوارع، وكانت في الزمن القديم مقر سلاطين الكفار، وكانت دورهم داخل سورها المحيط بها، ويشتهر سكانها بالرقة والظرف وكرم الخلق وحدة الذكاء، ولهم الذوق الكامل في مآكلهم، وملابسهم، وانتقاء خيولهم، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر، إذ كانت مركز الكرماء وميدان العلماء والشعراء، ولم تزل تُمْلأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحابُ الكتب أصحابَ الكتائب، ولم تبرح ساحتُها مجرَّ عوالٍ ومجرى سوابق، ومحطَّ معالٍ وحمى حقائق، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزَّوْر من الأسد.»
وهذا المديح الشرقي عرضة للمبالغة والإغراق، ولكن قرطبة كانت جديرة بكل ما ينثر عليها من الإطراء والثناء، ولن تستطيع إذا رأيتها الآن أن تدرك ما كان لها من جمال رائع أيام الخليفة العظيم، فإن شوارعها الضيقة ودورها المبيضَة بالجص لا ترسُم إلا صورة ضئيلة لما كان لها من العظمة واستبحار العمران؛ فقد تهدم «القصر» واتخذ الإسبان أطلاله بعد العز السامق سجنًا للمجرمين، ولا تزال القنطرة ماثلة فوق الوادي الكبير إلى اليوم، كما لا يزال المسجد الجامع الذي بناه أول الأمويين عجبًا من العجب، ومصدر دهشة للسائحين، ومن المحقق أنه كان أجمل روعةً أيام عبد الرحمن الناصر أو بعدها بقليل، حينما زاد الوزير الأعظم (المنصور بن أبي عامر) في بنائه.
وكانت هذه الحديقة تُروَى بأنابيب من الرصاص، تصب الماء منها تماثيل مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة، فترسله إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة.
ويحدثنا المؤرخون بكثير من أعاجيب قصور الأمير عبد الرحمن وما كان بها من الأبواب الفاخرة التي تفتح على الحدائق حولها أو على النهر، أو التي يمر منها الأمير إلى المسجد الجامع في طريق فُرِشَت بالبُسُط الثمينة ليؤدي صلاة الجمعة.
ولبعض بساتين قرطبة أسماء مغرية تدعو المرء إلى الاضطجاع بجانب جداولها المتدفقة، والتمتع بشذى أزهارها وأثمارها، ﻓ «منية الناعورة» توحي إليك بإحساس نحو الراحة والنعيم، منصتًا إلى صوت الماء وهو ينصب من الساقية إلى حياض البستان، و«مرج الخز» كان بلا شك بستانًا ساحر المنظر لأهل قرطبة بأزهاره المختلفة الألوان، وكان جريان الوادي الكبير مصدر بهجة وسرور لهم؛ لأن الشرقيين لا يحبون شيئًا في الدنيا أكثر من أن يروا منظرًا يسمعون فيه تمتمة الأنهار، وعرب إسبانيا شرقيون في كل شيء إلا في موقعهم الجغرافي.
وقد امتد بين شاطئ النهر جسر فخم به سبع عشرة قنطرة، وهو لا يزال ماثلًا إلى اليوم يشهد بمهارة العرب في علوم الهندسة، وكانت المدينة مزدحمة بالدور الفخمة، قيل إنه كان بها أكثر من خمسين ألف قصر للعظماء ورجال الدولة، وأكثر من مائة ألف بيت للعامة، ونحو سبعمائة مسجد، وتسعمائة حمام.
وللحمامات شأن كبير في المدن الإسلامية؛ لأن النظافة عند المسلمين ليست من الإيمان فحسب، بل هي شرط لازم لأداء الصلوات والعبادات عامة، ذلك في حين أن كان مسيحيو العصور الوسطى ينهون عن النظافة ويعدونها من عمل الوثنيين، وكان الرهبان والراهبات يفخرون بقذارتهم حتى إن راهبة دوَّنت ببعض مذكراتها في صلف وعجب أنها إلى سن الستين لم يمسَّ الماء منها إلا أناملها عندما كانت تغمسها في ماء الكنيسة المقدس، نقول: بينما كانت القذارة من مميزات القداسة، كان المسلمون شديدي الحرص على النظافة، لا يجرؤون أن يقفوا لعبادة ربهم إلا إذا كانوا متطهرين، وحينما عادت إسبانيا إلى الحكم المسيحي أمر فيليب الثاني زوج ماري ملكة إنجلترا بهدم كل الحمامات العامة؛ لأنها من آثار المسلمين!
وبنيت دور إلى الجانب الغربي من المسجد لنزول فقراء المسافرين وأبناء السبيل، وبالمسجد مئات من الثريات التي صنعت من نحاس أجراس الكنائس للإضاءة ليلًا، وكان به شموع ضخمة زنة الواحدة منها خمسون رطلًا، كانت تشتعل ليلًا ونهارًا إلى جانبي الخطيب أو الواعظ في شهر رمضان، وكان بالمسجد ثلاثمائة خادم لإيقاد البخور من العنبر والعود، ولإعداد الزيت العطر لإضاءة عشرة آلاف فتيل للقناديل، وقد بقي كثير من جمال هذا المسجد ماثلًا إلى الآن، فإن السائحين يقفون اليوم دهشين أمام هذه الغابة من السواري، فيروعهم فيها منظر لا يكاد ينتهي من كل جانب، ولا تزال سواري الصوان اللامع والرخام المجزع في مواضعها، ولا يزال الزجاج الفاخر الذي استحضره صناع ماهرون من بيزنطة يلمع لمعان الجواهر، ولا يزال المحراب بقبابه المتلاقية يملأ العيون والقلوب، ولا تزال أشجار البرتقال مورقة بصحن الجامع تساير امتداد السواري، فإذا وقف المرء أمام عظمة هذا المسجد وجماله، عادت به الذكرى إلى أيام مجد قرطبة وازدهارها، أيام الخليفة العظيم التي لن تعود.
ويجد مؤلفو العرب متعة في التحدث بعجائب الزهراء فيقول بعضهم: «لقد يمتد بنا الحديث إذا اقتصرنا على عد ما بالزهراء من جمال وفن: فهناك الجداول الدافقة، والأمواه المتعرجة، والبساتين الزاهرة، والقصور الفخمة لسكنى رجال الدولة، وهناك صفوف الجند والخدم والعبيد من كل بلد وملة وهم في ملابس الحرير بين إقبال وإدبار في شوارعها الفسيحة، ثم هناك ازدحام القضاة والفقهاء والشعراء وهم يمشون في وقار ورهبة في أبهاء القصر الفخمة وأفنيته الكثيرة.»
وقد قُدِّر عدد الفتيان من خدم القصر بخمسين وسبعمائة وثلاثة عشر ألفًا، يصرف لهم في كل يوم من اللحم نحو ثلاثة عشر ألف رطل، حاشا أنواع الطير والحوت، وقُدِّر عدد نساء القصر من كل جنس وطبقة — بما في ذلك نساء الخليفة ووصيفاتهن — بأربع عشرة وثلاثمائة وستة آلاف، وكان بالقصر من الخدم الصقالبة والخصيان خمسون وثلاثمائة وثلاثة آلاف، خصص بهم من اللحم أو الدجاج أو الطيور ثلاثة عشر ألف رطل، فمنهم من كان يصرف له عشرة أرطال، ومنهم من كان يصرف له أقل من ذلك على حسب منازلهم، وكان يُقذَف لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف رغيف في اليوم، غير ستة أقفزة من الحِمِّص الأسود تنقع لها في كل يوم.
وعجائب هذا القصر دُوِّنت بإسهاب في كتب مؤرخي هذا العهد، وخطب بها الخطباء ونظمها الشعراء الذين استنفدوا كنوز البلاغة في أوصافهم «وقد أطبق كل من رأى قصر الزهراء على أنه لم يُبنَ مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة من ملك وارد، أو رسول وافد، أو تاجر، أو جِهْبذ — وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة — إلا وكلهم قطع أنه لم يرَ له شبيهًا، بل لم يسمع، بل لم يكن يتوهم كونَ مثله، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب، والقبة وعجيب ما تضمنته من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الأثاث والفرش والسُّجُف ما بين مرمر مسنون وذهب مصون، وعمد كأنها أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى استقصاء التعبير عنها — لكفاه بعض ذلك شرفًا ونبلًا، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة لكي يُري الغافلين عنه من عباده مثالًا لما أعده لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلط عليها الفناء ولا تحتاج إلى الرمِّ، لا إله إلا هو المنفرد بالكرم».
وقد استقبل الخليفة بقصر الزهراء ملكة نافار وسانشو (شانجة) في حفل عظيم، وبه جلس ليحيِّي رسل ملك الروم الذين بعث بهم إلى حضرته، وقعد للقائهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ٣٣٨ﻫ/٩٤٩م في بهو المجلس الزاهر — قعودًا حسنًا نبيلًا، وكان قد أمر كبار رجال الدولة وقواد الجيوش أن يعدوا لهذه المقابلة خير إعداد وأفخمه، وكان البهو في أكمل زينة، والعرش في وسطه يلمع ذهبه، وتتلألأ نفائس جواهره، ووقف إلى يساره أبناؤه، فالوزراء على مراتبهم يمينًا وشمالًا، ثم الحجاب من أهل الخدمة، وأبناء الوزراء والموالي ورجال خاصة القصر وغيرهم.
وقد فرش صحن الدار بعتاق البسط وكرائم الدرانك، وظُلِّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملك الروم حائرين من بهجة الملك وفخامة السلطان، ثم تقدموا خطوات وقدموا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى، قسطنطين بن ليون، وهو في ورق سماوي اللون كتب بالذهب بالخط الإغريقي.
ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ليذكروا جلالة مقعده وعظيم سلطانه، ويصفوا ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته.
أما الأدب العربي فإن أوربا لم تَرَ في عهد من عهودها حفاوة بالأدب وأهله كما رأت في الأندلس حين كان الناس من كل طبقة ينظمون الشعر، ويظن أن هذا الشعر هو الذي أوحى للشعراء المغنين بإسبانيا بأناشيدهم القصصية وأغانيهم، وهو الذي حاكاه شعراء «بروفانس» و«إيطاليا».
وقد بلغت الأندلس الغاية في الفنون فبناء مدينة كالزهراء أو مسجد كالمسجد الجامع، ما كان ليتم على هذا الوضع الرائع إلا إذا بلغ العمال قمة المهارة في صناعاتهم، وكانت صناعة الحرير من الصناعات الممتازة بالأندلس، فقد قيل إن عدد النساجين بلغ في قرطبة وحدها مائة وثلاثين ألفًا.
واشتهرت المَرِيَّة بمنسوجاتها الحريرية وبسطها، ووصلت الفِخارة في الإتقان حدًّا عجيبًا، فقد انتهى الفن بالصناع بجزيرة ميورقة إلى أن أبرزوا أواني فخارية تلمع ببريق معدني، ومنها استعارت إيطاليا اسم أوانيها التي دعتها بالميورقية، وكانت تصنع الأواني النحاسية والحديدية والزجاجية المزججة والمذهبة بالمرية، ولا يزال لدينا بعض نماذج من العاج المحفور وقد كتب عليها أسماء عظماء قرطبة.
نعم، إن هذه الفنون نقلت من الشرق بغير شك، ولكن صناع الأندلس كانوا تلاميذ نجباء لأساتذتهم من البيزنطيين، والفرس، والمصريين، فوصلوا إلى درجة النبوغ في صناعة الحُلِيِّ، وبقي من ذلك إلى اليوم أثر عجيب من آثار ابن الخليفة العظيم، لا يزال يحفظه الإسبان فوق المذبح الأعلى لكنيسة قرطبة، وهو عُلبة مُلَبَّسة بالفضة، مرصعة بالدر، وقد كتب عليها بالعربية دعاء وتمجيد لأمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله، وهو دعاء يعد غريبًا فوق مذبح للمسيحية.
وكانت الحلي ومقابض السيوف دقيقة الصنع بارعة الفن، كما يدل على ذلك سيف الأمير أبي عبد الله آخر أمراء غرناطة، واشتهر المسلمون دائمًا بصناعة المعادن حتى إن بعض الأشياء التافهة كالمفاتيح، كانت جميلة الصنعة فائقة الحلية، والثريا البديعة التي صنعت لمسجد أمير غرناطة محمد الثالث والتي لا تزال ماثلة بمجريط (مدريد) خير مثال لتفوق العرب في نقش البرنز وإتقان زخارفه.
ووصلت الأندلس إلى منزلة في صناعة المخرمات لم تصلها إلا دمشق والقاهرة، ولا نزال نقرأ في كثير من أمكنة غرناطة تلك العبارة «لا غالب إلا الله» وهي شعار أمرائها، وقد سبق أن تحدثنا عن الأبواب النحاسية بقصور قرطبة، وبعض هذه لا يزال باقيًا إلى اليوم بكنائس إسبانيا.
وطالما سمع الناس عن سيوف طليطلة ومهارة أهلها في صناعة الصلب، وهذه الصناعة — وإن كانت في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي — زادت تقدمًا في أيام الخلفاء والأمراء بقرطبة، واشتهرت المرية، وإشبيلية، ومرسية، وغرناطة بصنع الدروع وآلات الحرب.
وجاء بوصية الدون بدرو: «وأوصِي أيضًا لابني بسيفي القشتالي الذي صنع بإشبيلية ورصع مقبضه بالذهب ونفيس الجوهر.»
وقصارى القول إن قرطبة كانت بحق «مفخرة للدنيا» في الفنون والعلوم وأسباب المدنية جمعاء.