الحاجب العظيم
كان عبد الرحمن الناصر آخر عظماء الأمراء من بني أمية بالأندلس، وكان ابنه الحكم دودةَ كتب، ودود الكتب من الناس — وإن أفادوا جدًّا فيما اتجهوا إليه — قلما يكونون حكامًا عظماء، فإن منصب الملك لا يهيئ لصاحبه أن يبلغ الذروة في العلم، فقد يعرف الملك كل شيء تحت الشمس، وقد يصرف فراغه كما كان يفعل ملوك قرطبة في الشعر والموسيقى، غير أنه يجب ألا يدفن نفسه في خزائن كتبه، أو أن يُعْنَى بالمخطوطات أكثر من عنايته بالحروب، أو أن يؤثر تجليد الكتب ورتقها على رَتْق مواطن الألم من رعيته، وكان الحكم في شدة انصرافه إلى الكتب كذلك.
إنه لم يكن ضعيف القلب أو غافلًا عن تبعاته الجسام، ولكن انهماكه في الدرس سلبه الاهتمام بالغزو والتشوق إلى الظفر في الحرب، فقد أغرق في إلقاء العنان لطبيعته الميالة إلى الاطلاع حتى تكونت له أذواق وميول فنية، هي أثر الدراسات العلمية ونتيجتها.
ولم يضر طبعه الهادئ ومزاجه العلمي مملكته كثيرًا، فقد كان ابن الخليفة العظيم حقًّا حينما كان يقود جيوشه لمحاربة نصارى ليون إذا نقضوا عهودهم، وكان الرعب الذي غرسه أبوه في القلوب عظيمًا، والشعور بقوة الخلافة شاملًا، حتى إن أمراء نصارى الشمال ألقوا بزمام أمورهم إلى الحكم، وقدِم أحدهم إلى قرطبة يتوسل إليه ويرجوه في إعادته إلى عرشه.
وتم الصلح بين النصارى والمسلمين فاتسع الوقت للحَكم، فعاد إلى جمع الكتب لخزائنه، وكان يرسل رسلًا إلى كل بقاع الشرق ليبتاعوا له المخطوطات النادرة ويعودوا بها إلى قرطبة، وكان رسله ينقبون عن الكتب العزيزة المنال عند ورَّاقي القاهرة، ودمشق، وبغداد، وإذا لم يستطع الحصول على كتاب بأي ثمن أمر بنسخه، وكان يسمع أحيانًا بكتاب لا يزال في دماغ مؤلفه، فيرسل إليه بهدية ثمينة ويسأله أن يبعث بالنسخة الأولى إلى قرطبة، وقد جمع بهذه الوسائل ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب، وذلك في وقت لم تعرف فيه الطباعة، وحين كان الخطاطون يلاقون عنتًا في كتابة الكتب بالخط الواضح الجميل.
ولم يكتفِ الحكم بالحصول على هذه الكتب، ولكنه خالف جميع جمَّاعي الكتب بقراءتها جميعًا والتعليق عليها، وكان واسع العلم حتى إن تعليقاته كانت تعد عند العلماء من أجل ما يكتب وأنفسه، وكان تدمير البربر لقسم عظيم من هذه الخزائن كارثة على الأدب العربي.
وكان مما يطمئن له الظن أن يستريحَ خلف الخليفة العظيم وينعمَ بما جناه له أبوه من ثمار النصر ويمتع نفسه بالدراسة الهادئة، بينما كان أعداؤه في الخارج يرقُبون غزوه لبلادهم من حين إلى حين؛ لأن العمل الذي أتمه عبد الرحمن الناصر لم يستطع خليفة واحد أن ينقضه، ولم ينتقض إلا بعد أن تداوله خليفتان بعده، حينذاك هوى ذلك الملك الأثيل إلى الأرض مرة أخرى.
إن عبد الرحمن بنى مدينة لزوجته الزهراء، ولكنه كان يدهش جدًّا لو أنها جرؤت على أن تقترح عليه اسم شخص يوليه رياسة الشرطة، وحينما مات الحكم كان نفوذ نساء القصر عظيمًا، وكانت (صبح) أم الخليفة هشام أعظم مَنْ بالمملكة سلطانًا، وكان من صنائعها شابٌّ قُدِّر له بعد حين أن يكون أبعد منها نفوذًا وشأنًا، وذلك هو ابن أبي عامر الذي سندعوه من الآن بالمنصور، وهو اللقب الذي اتخذه لنفسه بعد أن أحرز انتصاراتٍ كثيرةً على المسيحيين.
ونشأة المنصور مثال رائع لما يمكن أن يعمله الذكاء والشجاعة والأثَرة في مملكة إسلامية حيث كانت الطريق إلى المعالي ممهدة للعبقريين كيفما كانت بدايتهم موئسة مثبطة؛ فقد كان المنصور في أول أمره يعيش من كتابة الرسائل لخدم القصر، وما زال يتدرج بلباقة حتى اتصل بكبير الحجاب الذي كانت له في هذا القصر سلطة رئيس الوزراء، فعيِّن في مناصب قليلة الشأن اكتسب فيها بسحر أخلاقه ومهارته في الملق محبة نساء القصر، وبخاصة السيدة «صبح» التي هامت به حبًّا، ثم ما زال يرقى منزلة منزلة بإظهار الخضوع للأميرات وتقديم الهدايا النفيسة إليهن، وكان يشتريها أحيانًا من مال الدولة حتى وصل إلى المناصب الرفيعة، ولما بلغ الحادية والثلاثين كان يشغل عدة مناصب، من بينها الإشراف على أملاك ولي العهد، وقضاء مدينة أو مدينتين، والنظر في الزكاة والمواريث، وسحر المنصور كل من لقيه برفيع أدبه وتواضعه، وكريم عطائه، ورقة إحساسه، ومساعدته للبائسين، وبذلك تمكن من اجتذاب عدد عظيم من الناس بينهم كثير من كبار الدولة.
وقد لاحت له لائحة فاقتنصها في شجاعة وحزم؛ ذلك أن نصارى الشمال عادوا إلى الشغب والمغالاة بقوتهم، ولم يكن المصحفي جنديًّا فتحير في اختيار من يصد اعتداءهم، والمنصور القاضي لم يكن أمهر منه في إدارة الحرب ولكنه نبع من أسرة قوية النبعة إذ كان أحد أسلافه من العرب الذين صحبوا طارقًا في غزو إسبانيا؛ لذلك لم يتردد لحظة ولم يخالجه شك في كفايته حينما طلب أن يقود الجيش بنفسه، وكانت غارته على ليون موفقة، وكان إغداقه على الجنود عظيمًا، حتى إنه حينما عاد إلى قرطبة لم يكن القائد المظفر فحسب، بل كان موضع محبة الجيش وإجلاله.
ونضجت الثمرة وآن له أن يضرب ضربة سياسية جديدة، فأخذ في مهارة يلعب بغالب والمصحفي ويوقع ما بينهما حتى اتسعت شقة الخلف بين القائد المحنك والمصحفي رئيس الوزراء، وكانت الضربة القاصمة أن أغرى القائدَ على العدول عن تزويج ابنته من المصحفي واتخذها زوجة له، وفي سنة ٩٧٨م/٣٦٨ﻫ بعد وفاة الحكم بسنين رمى المنصور بآخر سهم في كنانته، فاتهم المصحفي بالخيانة والسرقة وأثبت عليه ذلك بأدلة كثيرة وألقاه في السجن حيث بقي به خمس سنوات في أسوأ عيش وأذل مكانة، ثم مات أشنع ميتة مسجًّى برداء ممزق للسجان، ويقال إن المنصور دس له السُّم، وهكذا كانت نهاية كل من جرؤ على أن يقف في طريق مطامح المنصور؛ فقد آل تَعَس الطالع بالمصحفي الحاجب إلى الفقر والعار بمكايد هذا الشاب المحدث الذي لم يقف خمول أصله في وجه عبقريته بعد أن وصل الحاجب إلى قمة المجد والسلطان، وجثت الآلاف من الراجين عند قدميه، وحاول ملك ليون المعزول تقبيل يديه.
وأصبح المنصور الحاكم الأعلى بقرطبة؛ لأن الخليفة الشاب لم يبد أي اعتراض على الوصاية التي فرضت عليه، وكانت أمه «صبح» لا تزال صديقة حميمة للمنصور، ولم يكن في المملكة من يزعم أنه يقارع المنصور أو يدانيه في القوة إلا غالب أبو زوجته، نعم إن الجيش أعجب بالمنصور وعجِب من جرأته على قيادة الجيوش دون أن يكون له سابقة في الجندية، ولكنه عشق غالبًا وفني في محبته؛ لأنه كان شجاعًا حقًّا وجنديًّا بفطرته، وله من المهارة والتدابير في الحرب ما لا يغلب؛ لذلك كان غالب منافسًا مخيفًا للمنصور، وكان يجب أن يزل من طريقه، فاتخذ كبير الوزراء العُدة لذلك بطريقته الناعمة وعزيمته الهادئة.
وكلما حاول المنصور عملًا سار فيه بثبات لا يتزعزع، وإرادة من الحديد، ومن الأدلة الغريبة على أخلاقه: أنه كان مرة جالسًا في مجلس الوزراء وكان القوم يتحدثون في بعض الشئون العامة؛ إذ اشتمَّ مَنْ بالمجلس رائحة لحم يُشوى، وظهر لهم بعد ذلك أن الرئيس كان أحضر كَوَّاءً لكيِّ ساقه بينما كان يناقش زملاءه في هدوء وسكينة.
ومثل هذا الرجل لن يصعب عليه القضاء على أية عقبة ولو كانت القائدَ غالبًا؛ فقد دبر مكايده بعناية فنجحت جميعًا، وإذا رأى في وسائله من الشدة ما لا تستسيغه الأمة عمد إلى تدبير آخر فيه رضاؤها واستعادة محبتها، فحينما أطفأ المؤامرة التي قام بها عدد من كبار الدولة لاغتياله على النحو الذي سقناه آنفًا، وأحس أن له أعداء بين الفقهاء ورجال الدين، أسرع إلى مهادنتهم، فدعا إلى عقد اجتماع من زعماء الفقهاء، وطلب إليهم أن يكتبوا رَقًّا بأسماء كتب الفلسفة التي يرون فيها خطرًا على الدين وخروجًا عليه، وشهرة مسلمي الأندلس بشدة التحرج والتشدد في الدين معروفة، فطالما لقي الفلاسفة منهم عنتًا؛ لذلك عجل الفقهاء وقدموا إليه قائمة بالكتب المقضى عليها بالإعدام، فأسرع المنصور إلى إحراقها علنًا في الميادين، والمنصور كان من غير شك واسع الأفق، فسيح الصدر للفلسفة، ولكنه فاز بهذه الوسيلة السهلة بأن يُدعَى: حامي الإسلام، وبألا يأتمر به الفقهاء مرة أخرى.
إن رجلًا مثله واسع الحيلة لن يعجز عن التخلص من غالب، فعمد أولًا إلى إحداث بعض الإصلاح في نظام الجيش، فحد من سلطة القواد واختلس هذه السلطة لنفسه، ووصل إلى هذا باجتلاب جنود كثيرة من إفريقية ونصارى الشمال الذين ما كانوا يأنفون من بيع أنفسهم وسيوفهم لأي قائد مسلم، فأحبوا المنصور وأخلصوا له حينما رأوا سخاءه، وتوالت لديهم الأدلة على نبوغه الحربي، وقد كان دائمًا قاسيًا، أمر مرة أن يقطع رأس جندي بالسيف الذي كان يحمله؛ لأنه لمَح وميضه وقت أن كان يجب أن يكون مغمدًا، ولكنه كان في غير أمور النظام والتدريب أبًا لجنوده ما داموا يحسنون القتال ويفعلون ما يؤمرون.
وكان تأثيره في جنده لا يحد، كان مرة في خيمته فرأى جنوده يفرون في ذعر والنصارى في أعقابهم، فرمى بنفسه من كرسيه وقذف بخوذته بعيدًا وجلس فوق التراب، ففهم الجند ما أبداه قائدهم من أمارات اليأس، فعادوا أدراجهم وهجموا على النصارى فاستأصلوهم وتتبعوا الفارين إلى شوارع ليون.
ثم مات غالب في إحدى المواقع، وظهر قائد آخر هو جعفر صاحب المسيلة الذي أزعج المنصور بشهرته العظيمة بين جنوده، فدعاه إلى بهو الرياسة وسقاه الخمر حتى غلبه السكر، وحينما عاد إلى داره قتل في الطريق، ولهذه الفعلة الشنيعة التي تدل على غدر المنصور وتلطخ يديه بالدماء أخوات سلبته صفة البطولة بعد أن كان يستحقها بأعماله اللامعة، وجعلت ميل القلوب إليه مستحيلًا.
وكان يشرف بعين لا يفر منها شيء على كل قسم من أقسام إدارة الدولة، ويهب كثيرًا من وقته لإنماء الأدب وإنهاض الشعر، فقد كان أديبًا بطبعه، وكان يأخذ كتبه أينما ذهب بسيفه، ولم تكن كتبه إلا الشعراء الذين كانوا يصاحبونه في غزواته، ولم ينل قائد ما ناله المنصور من الانتصار في كل موقعة؛ فقد قذف نصارى الشمال بالحديد والنار مؤيدًا بجنوده الغرباء الأشداء، وبكثير من الجنود المسيحيين الذين جذبتهم إليه كثرة ما يصيبون في ظل قيادته من مغانم.
واستولى على ليون، وأتى على بنيان أسوارها الضخمة وقلاعها من القواعد، وقهر بَرْشِلونة، والأدهى والأمرُّ أنه خاطر بنفسه وبجيشه في شعاب غاليسية وجعل كنيسة شَنت ياقوب رُكامًا، تلك الكنيسة الرائعة التي كانت ملتقى الحجاج، والتي كان لها من المنزلة بأوربا ما يقرب من منزلة الكعبة عند المسلمين.
وكان المنصور جديرًا بلقبه الذي ناله بحق بعد إحدى هذه المواقع، وبتوالي الغارات على الشمال.
بقي أمراء المسيحية مغلولي الأيدي، وخضعت ليون والممالك المتاخمة لها، وأدت الإتاوات إلى قرطبة؛ فقد تكررت هزائم قشتالة وبرشلونة ونافار، واستولى المنصور على ليون، وبنبلونة، وبرشلونة، وشنت ياقوب، وحمل مرة ملك نافار على أن يجثو أمامه ذليلًا على ركبتيه؛ لأن الوزير — وهو لا يتجاوز عن شيء — علم أن امرأة مسلمة مأسورة بمملكته، فأطلقت في الحال مع كثير من ضروب الذلة والاعتذار.
وحدث مرة أن المنصور كان يحارب في الشمال، فسد جيش النصارى عليه وعلى جيشه الطريق إلى قرطبة، واحتلوا موقعًا حصينًا لا ينال، فلم يفت ذلك في عضده، وأمر جنوده أن يعيثوا بأرض الأعداء حولهم، وأن يجمعوا ما يستطيعون لبناء الخيام واستقرار الإقامة، ولم يجرؤ النصارى على منازلتهم؛ لأنهم وثقوا من أنهم سييأسون ويسلمون، ولكنهم دهشوا حينما رأوهم يقيمون المعسكرات ويحرثون الأرض ويزرعونها، وحينما سألوهم في عجب واستنكار عما يعملون، كان الجواب الهادئ: «إننا رأينا أن الوقت لا يتسع للعودة إلى قرطبة لأن موعد الغزوة الثانية أصبح قريبًا؛ لهذا عزمنا على الإقامة هذه الفترة القصيرة.» ففزع النصارى وهالهم أن يكون احتلال المسلمين دائمًا، ونزلوا من معاقلهم وفتحوا الطريق لهم ليعودوا إلى قرطبة آمنين محملين بما نالوه من نَفَل، وزاد بهم الخوف فأعطوهم كثيرًا من الحقائب والبغال ليحملوا عليها الغنائم
إن المنصور الذي لم تغلبه الرجال غلبه الموت!!