الفصل الأول
توقَّف قطار الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة المتجه من فيكتوريا إلى لويس في محطة ثري بريدجيز إثر خروجه عن مساره، وعلى الرغم من أن جون لكسمان كان محظوظًا بما يكفي بحيث لحِق بقطارٍ فرعي جاء متأخرًا عن موعده متجه إلى بيستون تريسي، كانت العربة الصغيرة التي كانت وسيلة النقل الوحيدة بين القرية والعالم الخارجي؛ قد غادرت.
قال ناظر المحطة: «إذا كان بإمكانك الانتظارُ نصف ساعة، يا سيد لكسمان، فسوف أتصل بالقرية وأستدعي بريجز للحضور إليك.»
أطل جون لكسمان إلى الخارج وشاهد الأجواء الممطرة، وهز كتفَيْه.
قال باقتضاب: «سوف أقطع الطريق سيرًا»، وخطا وسط الأمطار في ثباتٍ وعزم، تاركًا حقيبته في رعاية ناظر المحطة وجعل يزرِّر معطفه حتى ذقنه، ليقطع الميلين اللذين يفصلان محطةَ السكة الحديدية الصغيرة عن قرية ليتل بيستون.
كان المطر يتساقط بلا توقُّف، ومن المحتمل أن يستمر على مدار الليل. كان الطريق محاطًا على كلا جانبَيْه بأسيجةٍ شجرية عالية تألَّفت من أشجارٍ عديدة متتالية وارفة الأوراق، وكان الطريق نفسه في بعض المواضع موحلًا بشدة. توقَّف أسفل شجرةٍ كبيرةٍ محتميًا بها، ليملأ غليونه بالتبغ ويشعله ثم تابع مسيره خافضًا فُوَّهة الغليون إلى أسفل. كان يفضِّل السَّير، بل كان مستحبًّا لديه، لولا الأمطار الغزيرة التي نفذت إلى كل شق، وأغرقت معطفه الواقي من المطر بالكامل.
كان الطريق من بيستون تريسي إلى ليتل بيستون مرتبطًا في ذهنه ببعضٍ من أجمل المواقف في رواياته. فعلى هذا الطريق وضع تصوُّره لأحداث رواية «لغز تيلبري». وفي الطريق بين المحطة والمنزل، نسج حبكةَ قصةِ «محبرة جريجوري»؛ القصة البوليسية الأكثر رواجًا لهذا العام. فقد كان جون لكسمان متخصصًا في كتابة الحبكات الدرامية البارعة.
إذا كان الكبار في عالم الأدب يعتبرونه كاتب الأعمال «الصادمة»، فقد كان له جمهور عريض ومتزايد ومنبهر بالقصص الرصينة والمثيرة التي يكتبها، وكان يحبس أنفاسه وهو يتابع خيوط اللغز المتشابكة حتى يصل إلى حل الحبكة التي وضعها.
لكن ذهنه المضطرب لم يكن منشغلًا بالتفكير في الكتب، أو الحبكات، أو القصص وهو يهرول بخطوات واسعة عبر الطريق المهجور إلى ليتل بيستون. فقد حظي بمقابلتَيْن في لندن، كانت إحداهما كفيلةً بأن تملأه بالسعادة في الظروف العادية؛ فقد التقى تي إكس، و«تي إكس» هو تي إكس ميرديث الذي سيصبح يومًا ما رئيس إدارة المباحث الجنائية، وكان في ذلك الوقت مفوَّضَ شرطةٍ مساعدًا وكان منخرطًا في الأعمال الشائكة لتلك الإدارة.
اقترح تي إكس، بأسلوبه العصبي العنيف، أعظم فكرة لحبكةِ قصةٍ يمكن لأي كاتب أن يتمناها. لكن لم يكن اللقاء مع تي إكس هو ما يشغل ذهن جون لكسمان وهو يرتقي قمة التل، على المنحدر الذي كان يشكل المنزل الصغير الذي عُرِف بذلك الاسم المهيب نوعًا ما؛ بيستون بريوري.
كان ما يشغل ذهنه هو اللقاء الذي جمعه بالرجل اليوناني في اليوم السابق، والذي عبس وجهُه حينما تذكَّره. فتح بوابة المرور الصغيرة وسار عَبْر المزروعات وصولًا إلى المنزل، باذلًا قصارى جهده لينفض عن ذهنه ذكرى المناقشة الاستثنائية والعقيمة التي خاضها مع المرابي.
كان بيستون بريوري يتجاوز مساحة كوخ بقليل، على الرغم من أن أحد جدرانه كان أثرًا لا شك فيه لتلك المنشأة التي شيَّدها رجلُ دين يُدعى هوارد في القرن الثالث عشر. لقد كان مبنًى صغيرًا ومتواضعًا، شُيِّد على الطراز الإليزابيثي، ذا أسقف جملونية غريبة الشكل ومداخن عالية، أعطته نوافذه الشبكية وحدائقه المنخفضة عن الأرض من حوله، وبستان الورد الخاص به ومَرْجه الصغير؛ طابَعًا إقطاعيًّا معينًا كان مصدر فخر كبير لصاحبه.
مرَّ أسفل الشرفة المسقفة، ووقف لحظة في المدخل الواسع وأخذ يخلع عنه معطفه المبلل.
كان المدخل غارقًا في الظلام. كانت جريس على الأرجح تبدِّل ملابسها استعدادًا لتناول العشاء، وقرَّر أنه لن يزعجها وهو في تلك الحالة المزاجية التي كان عليها. مر عبر الممر الطويل المؤدي إلى غرفة المكتب الكبيرة الواقعة في مؤخرة المنزل. كانت ثمة نيرانٌ متوهجة في المدفأة ذات الطراز القديم، وكانت أجواء الراحة والدفء في الغرفة تبعث إحساسًا بالارتياح والسكينة. أبدل حذاءه، وأشعل مصباح الطاولة.
كان واضحًا أن الغرفة كانت مختلًى لرجل. كانت الكراسي المغطاة بالجلد، وخزانة الكتب الكبيرة والممتلئة عن آخرها التي شغلت أحد جدران الغرفة، وطاولة الكتابة الضخمة المصنوعة من خشب البَلُّوط المتين المغطاة بالكتب والمخطوطات غير المكتملة، كل ذلك كان يشي بما لا يدع مجالًا للشك بمهنة صاحبها.
بعد أن أبدل حذاءه أعاد مَلء غليونه، واتجه صوب المدفأة ووقف يحدِّق في قلبها المتقد.
كان رجلًا ذا طول يفوق المتوسط، نحيل البنية، وله كتفان عريضتان توحيان بأنه رياضي. وكان بالفعل يمارس التجديف في قاربه في فريقٍ من أربعة مُجدِّفين، وخاض منافساتٍ شرسة في الأدوار قبل النهائية لبطولة إنجلترا للملاكمة للهواة. كان وجهه ذا ملامح قوية، ونحيلًا، ولكن متناسقًا. كانت عيناه رماديتَيْن وعميقتَيْن، بينما كان حاجباه مستقيمَيْن ومنفرَيْن قليلًا. كان فمه الذي لا يوجد حوله أي شَعر كبيرًا وعريضًا، وفي وجنتَيْه سمرة عافية تشي بأنه قد عاش حياته في الهواء الطلق.
لم يكن في مظهره ملامح الزاهد أو رجل العلم. فقد كان في الواقع مجرَّد بريطاني عادي تبدو عليه أمارات الصحة والعافية، ويشبه إلى حد كبير أي رجل آخر من طبقته الاجتماعية ممن قد نقابلهم في صالة الطعام في معسكرات الجيش البريطاني، أو في استراحات سفن الأسطول البحري، أو في المواقع البعيدة من الإمبراطورية، حيث يُشَاهد العاملون وهم يعملون كتروس صغيرة في ماكينة ضخمة.
كان ثمة نقرٌ خفيفٌ على الباب، وقبل أن يأذن للطارق بالدخول، فُتِح الباب ودلفت منه جريس لكسمان.
لو وصفتها بأنها امرأة جريئة وجميلة، لربما استشفَفْت من هذا الوصف الوجيز وصفًا لأسلوبها وجاذبيتها. اجتاز الغرفة حتى وصل لمنتصفها لمقابلتها وقبَّلها في حنوٍّ ورقَّة.
قالت وهي تتأبَّط ذراعه: «لم أعلم بعودتك حتى …»
ابتسم قائلًا: «حتى رأيتِ الفوضى العارمة التي أحدثها معطفي.» وتابع: «أعرف أساليبك يا واطسون!»
ضحكت، ولكنها عادت إلى جديتها مرة أخرى.
«أنا في غاية السعادة بعودتك. فلدينا زائر.»
رفع حاجبَيْه في تساؤل.
«زائر؟ مَن ذلك الذي جاء في يومٍ كهذا؟»
نظرَت إليه مستغربةً بعض الشيء.
قالت: «إنه السيد كارا.»
«كارا؟ متى حضر؟»
«جاء في الرابعة.»
لم يكن في نبرتها أي حماس.
قال زوجها ساخرًا: «لا أفهم لمَ لا تحبين كارا العزيز.»
أجابَت بشيءٍ من الاقتضاب بالنسبة إلى طبيعتها: «توجد أسبابٌ كثيرة جدًّا.»
قال جون لكسمان بعد لحظةٍ من التفكير: «على أي حال، لقد جاء في وقته. أين هو؟»
«إنه في غرفة الاستقبال.»
كانت غرفة استقبال المنزل عبارة عن غرفة كبيرة متشعبة الاتجاهات ذات سقف منخفض، «مليئة باللوحات القديمة وزهور الأُقْحُوان» حسب وصف لكسمان. كراسي مريحة ذاتُ ذراعين، وبيانو كبير، ومدفأة مفتوحة تعود إلى القرون الوسطى، تواجهها أرضية ذات قِرْمِيد بلونٍ أخضر باهت وسجادة مهترئة ولكنها مبهجة، وشمعدانان فضيان كبيران، كانت تلك أبرز الملامح التي جذبت الزائر الجديد في المكان.
كان في هذه الغرفة تجانُس، ونظام هادئ، وطابَع يبعث الهدوء في النفس جعل منها مستقرًّا وبرَّ أمانٍ لأديب مضطرب الأعصاب. كان يوجد إناءان برونزيان كبيران ممتلئان ببراعم البنفسج، وثالث متوهج بزهور الربيع كشمس باهتة، بينما كانت براعم أزهار الغابات تعبق الغرفة برائحة عطرة خفيفة.
نهض رجلٌ عند دخول جون لكسمان وعبر الغرفة بخطًى رشيقة. كان رجلًا يمتلك وسامة استثنائية سواء في الملامح أو القوام. كان يفوق الكاتب طولًا، ما جعله يسير في اتجاهه بحركةٍ رشيقة تخفي طوله.
قال: «لم ألحق بك في المدينة؛ لذا فكَّرتُ في التوجُّه إلى القرية على أمل مقابلتك.»
كان يتحدَّث بتلك النبرة المنغمة ببراعةٍ تميز شخصًا له دراية طويلة بمدارس إنجلترا وجامعاتها العامة. فلم يكن في حديثه أي أثر للكنةٍ أجنبيةٍ غريبة، مع أن رمينجتون كارا كان يونانيًّا ووُلد في المنطقة الأكثر اضطرابًا من ألبانيا وتلقَّى جزءًا من تعليمه فيها.
تصافح الرجلان بحرارة.
«هل ستبقى حتى العشاء؟»
ألقى كارا نظرةً سريعة حوله مبتسمًا لجريس لكسمان. كانت جالسةً بقامة منتصبة في ضيق، عاقدة يديها بلا إحكام على ساقيها، وقد تجرَّد وجهها من أي حماس.
قال اليوناني: «إذا لم تمانع السيدة لكسمان.»
قالت بأسلوبٍ شبهِ آليٍّ: «سأكون سعيدةً إذا فعلت، إنها ليلةٌ مريعة ولن تجد أيَّ شيء يستحق الأكل في هذا الجزء من لندن، وأشكُّ كثيرًا …» وهنا ابتسمت قليلًا وأردفت: «إن كان ما يمكنني أن أقدِّمه لك من طعامٍ سوف يكون جديرًا بهذا الوصف.»
قال بانحناءة بسيطة: «ما ستقدِّمينه لي سيكون كافيًا وزيادة»، والتفت إلى زوجها.
في غضون بضع دقائق كانا قد استغرقا في نقاشٍ حول الكتب والأماكن، وانتهزت جريس الفرصة للإفلات. ثم تحوَّلت دفة الحديث من الكتب على وجه العموم إلى كتب لكسمان على وجه الخصوص.
قال كارا: «لقد قرأتها جميعًا كما تعلم.»
لوى جون قسماته قليلًا. ثم قال متهكمًا: «يا لك من شيطان مسكين!»
قال كارا: «على العكس. لست أنا مَن يستحق الشفقة. إنَّ بداخلك مجرمًا كبيرًا يا لكسمان.»
قال جون: «أشكرك.»
ابتسم اليوناني قائلًا: «تلك ليست مجاملة.» وأضاف: «أنا فقط أشير إلى عبقريةِ قصصك. أحيانًا ما تضعني كتبُك في حيرةٍ وتزعجني. فأنا أغضب قليلًا إذا لم أستطِع تبيُّن الحل لألغازك قبل أن أنتهي من نصف الكتاب. بالطبع في أغلب الحالات أعرف الحل قبل أن أصل إلى الفصل الخامس.»
نظر إليه جون في دهشةٍ وكان منزعجًا إلى حدٍّ ما.
قال: «إنني أتباهى بنفسي إذا استحالت معرفة نهاية قصصي قبل الفصل الأخير.»
أومأ كارا.
وقال: «هكذا الأمر بالنسبة إلى القارئ العادي، ولكنك تنسى أنني طالب علم. أنا أتَّبع كلَّ خيط ولو صغيرًا تتركه مكشوفًا من الدليل.»
قال جون ضاحكًا وهو ينهض من كرسيه ليذكي نار المدفأة: «يجب أن تقابل تي إكس.»
«تي إكس؟»
«تي إكس ميرديث. إنه أذكى رجل يمكنك أن تقابله. كنا معًا في كايوس، وهو صديق مقرب جدًّا لي. إنه يعمل في إدارة المباحث الجنائية.»
أومأ كارا. ولاح في عينيه بريقُ الاهتمام وكان سيواصل المناقشة، ولكن في تلك اللحظة كان العشاء قد أصبح جاهزًا.
لم تكن وجبةً مرحة؛ إذ لم تشارك جريس كعادتها في الحوار، وآلت مهمة سد مواضع الفراغ في الحديث لكارا وزوجها. كان يراودها شعورٌ غريبٌ بالكآبة، هاجس شر لم تستطِع تحديده. أخذت على مدار العشاء تستدعي في ذهنها أحداث اليوم مرارًا، لعلها تكتشف سبب قلقها.
حين كانت تتبع هذه الطريقة، كانت تتوصل عادة إلى الأسباب التافهة التي ولَّدت خوفها، ولكن في تلك اللحظة تملكتها الحيرة حين وجدت نفسها عاجزة عن اكتشاف أي حل. كانت الخطابات التي تلقَّتْها هذا الصباح سارة، ولم تُعانِ أي مشكلاتٍ لا في المنزل ولا مع الخدم. كانت هي نفسها على ما يُرام، وعلى الرغم من أنها كانت تعلم أن جون يواجه مشكلةً ماديةً بسيطة، منذ لم يوفَّق في مضاربته على أسهم الذهب الرومانية، وما راودها من شكوك محدودة في أنه قد اضطر لاقتراض أموال لتعويض خسائره، فإن حظوظه كانت ممتازة، وكان نجاح كتابه الأخير مبشرًا، حتى إنها كانت أقل قلقًا منه بشأن المشكلة، ربما لأنها كانت ترى بوضوحٍ أكثرَ عدمَ أهمية تلك المخاوف المالية.
قالت جريس: «أظن أنكما ستحتسيان القهوة في غرفة المكتب، وأعرف أنكما ستعذراني؛ فعليَّ أن أقابل السيدة تشاندلر بخصوص الغسيل.»
منَّت على كارا بإيماءة بسيطة وهي تغادر الغرفةَ ولمست كتف جون برفقٍ وهي مارَّةٌ بجواره.
تتبَّع كارا قوامَها الرشيق بعينَيْه حتى غابَت عن الأنظار، ثم قال جون لكسمان:
«أريد أن أجلس معك يا كارا إذا سمحت لي بخمس دقائق من وقتك.»
قال الآخر بلا تردُّد: «يمكنك أن تأخذ خمس ساعات إن شئت.»
دلفا معًا إلى غرفة المكتب، وأحضرت لهما الخادمة القهوة والشراب، ووضعتهما على منضدة صغيرة بالقرب من المدفأة وانصرفت.
ظل الحديث عامًّا لبعض الوقت. مضى كارا يتجوَّل عبر المكان، مبديًا إعجابًا صريحًا بتلك السَّكِينة التي تعم الغرفة وتحسَّر على عجزه عن أن يشتريَ بالمال ذلك الدفء الذي ينعم به جون بثمنٍ زهيد، بينما انشغل مُضيِّفه ببروفة طباعة تحتاج إلى تصحيح.
تساءل كارا: «أظن من المستحيل أن يكون لديك إضاءة كهربائية هنا.»
أجاب الآخر: «بالضبط.»
«لماذا؟»
«أفضِّل ضوء هذا المصباح.»
قال اليوناني بتثاقلٍ وقد عبس وجهه قليلًا: «لا أقصد المصباح، إنني أكره هذه الشموع.»
وأشار بيده إلى رف المدفأة حيث برزت الشموع البيضاء الطويلة الست من شمعدانَيْن جداريَّيْن.
تساءل الآخر في دهشة: «لماذا تكره الشموع بحق السماء؟»
لم يُجِب كارا على الفور، ولكنه هزَّ كتفَيْه. وبعد قليل تكلَّم.
«لو سبق لك أن قُيِّدت في كرسيٍّ وبجوار هذا الكرسي برميل صغير من مسحوقٍ أسودَ، وفي ذلك المسحوق أُقحمت شمعة صغيرة ظلت تحترق وضوءُها يخبو ويخبو في كل دقيقة … يا إلهي!»
ذُهل جون حين رأى قطرات العَرق عالقةً على جبهة ضيفه.
قال: «يبدو هذا مثيرًا.»
مسح اليوناني العَرق من فوق جبهته بمنديل حريري وارتعشَتْ يده قليلًا.
قال: «كان شيئًا يتجاوز حد الإثارة.»
تساءل الكاتب في فضول: «ومتى حدث هذا؟»
أجاب الآخر: «في ألبانيا، كان ذلك منذ عدة سنوات، ولكن الشياطين دائمًا ما يُرسلون لي ما يذكِّرني بما حدث.»
لم يحاول أن يوضِّح مَن هم هؤلاء الشياطين، أو الظروف التي أوقعت به في هذا المأزق؛ بل غيَّر الموضوع بلا شك.
راح يتجوَّل عبر الغرفة الدافئة على مهل، وفي تلك الأثناء تتبَّع رف الكتب الذي شغل أحد الجدران وكان يتوقَّف بين الحين والآخر لاستطلاعِ كتابٍ ما. وبعد قليل سحب كتابًا ضخمًا.
قرأ العنوان: ««البرازيل البرية»، تأليف جورج جاذركول، أتعرف جاذركول؟»
كان جون يملأ غليونه من وعاءٍ أزرقَ كبير على مكتبه وأومأ برأسه.
«قابلته مرة واحدة، إنه شيطان كتوم. إنه قليل الكلام للغاية، وأقل ميلًا إلى الحديث عن نفسه من أيِّ رجلٍ أعرفه، شأنه شأن جميع الرجال الذين رأوا وفعلوا أشياء ذات قيمة.»
نظر كارا إلى الكتاب مغضِّنًا حاجبَيْه في تأمُّلٍ وراح يقلِّب أوراقه في فتور.
قال وهو يعيد الكتاب إلى موضعه: «لم أره قط من قبل، ولكنه سيخوض رحلته الجديدة نيابةً عني بنحوٍ ما.»
رفع الرجل الآخر بصره إلى رفيقه.
«نيابة عنك؟»
«نعم، تعلم أنه قد ذهب إلى باتاجونيا من أجلي. إنه يعتقد في وجود ذهب هناك، ستعرف الكثير عن ذلك من كتابه عن السلاسل الجبلية في أمريكا الجنوبية. لقد كنت مهتمًّا بنظرياته وراسلته. وكانت نتيجة تلك المراسلة أن اضطلع بإجراء مسح جيولوجي لي. وأرسلت إليه أموالًا من أجل نفقاته، وانطلق في رحلته.»
سأل جون لكسمان في دهشة: «ألم تره مطلقًا؟»
هزَّ كارا رأسه نفيًا.
قال مضيِّفه: «ألم يكن ذلك …؟»
«مخالفًا لطبيعتي، هذا ما كنت ستقوله. أصدقك القول، كان الأمر كذلك، ولكني حينها أدركت أنه رجل غير عادي. لقد دعوته لتناول العشاء معي قبل أن يغادر لندن، وردَّ عليَّ ببرقية من ساوثمبتون يخبرني فيها بأنه قد بدأ رحلته بالفعل.»
أومأ لكسمان.
ثم قال: «لا بد أنها حياة شيقة للغاية.» وأردف: «أظنه سيظل بالخارج فترة طويلة جدًّا؟»
قال كارا وهو يتابع استطلاعه لرف الكتب: «ثلاث سنوات.»
قال جون وهو ينفث الدخان من غليونه في تأمُّل: «أحسد أولئك الذين يطوفون العالم وهم يؤلفون الكتب.» وتابع: «إنهم يفوزون بأفضل ما فيه.»
التفت كارا. كان يقف خلف الكاتب مباشرة ولم يكن الآخر يرى وجهه. غير أن صوته كان به جدية غير معهودة وحِدَّة هادئة غير مألوفة.
تساءل بنبرته المتثاقلة البسيطة: «ماذا لديك لتشكو منه؟!» وأضاف: «لديك عملك الإبداعي، أروع فرع من فروع العمل يمكن أن يحظى به إنسان. إن ذلك الرجل البائس مقيدٌ بحقائق الواقع. أما أنت فلديك كل العوالم التي يقدِّمها لك خيالك مفتوحة على مصراعيها. يمكنك أن تخلق بشَرًا وتدمرهم، وتصنع قضايا مشوقة، وتضع عشرة أو عشرين ألف شخص في حيرة وارتباك، وفي لحظة، تفسِّر لغزك.»
ضحك جون.
وقال: «كلامك به قدْر من الصحة.»
تابع كارا بصوتٍ أكثر انخفاضًا: «أما بالنسبة لما تبقَّى من حياتك، فأظن أن لديك ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش … زوجة لا مثيل لها.»
استدار لكسمان في كرسيه سريعًا، والتقى بعيني الآخر، وكان في وضعيةِ وجهه الوسيم شيء حبس أنفاسه من الدهشة.
بدأ حديثه قائلًا: «لا أرى …»
ابتسم كارا.
قال ممازحًا: «كانت تلك صفاقة، أليس كذلك؟» وتابع: «ولكن لا بد إذن أنك لم تنسَ يا عزيزي أنني كانت لدي رغبة شديدة في الزواج من زوجتك. لا أظن ذلك سرًّا. وحين فقدتها، واتتني أفكارٌ بشأنك لا يُستحَب أن أتذكرها.»
استعاد ثباته وهدوءه وواصل تجوله العشوائي عبر الغرفة.
«لا بد أنك تذكر أنني يوناني، واليوناني المعاصر ليس فيلسوفًا. ولا بد أنك تتذكر أيضًا أنني ثري مدلَّل منذ نعومة أظافري، وكنت أحظى بكلِّ ما أريد منذ كنت رضيعًا.»
قال الآخر وهو يعود إلى مكتبه ويمسك بقلمه: «أنت شيطان محظوظ.»
لم ينبس كارا بكلمةٍ للحظة، ثم بدا كما لو كان سيقول شيئًا، ثم تراجع وتمالك نفسه وضحك.
قال: «أتساءل إن كنت كذلك بالفعل.»
وفي تلك اللحظة تحدَّث بفورة نشاط مفاجئة.
«ما المشكلة التي تواجهها مع فاسالارو؟»
نهض جون من كرسيه واتجه صوب المدفأة، ووقف يحدِّق في أعماق نيرانها مباعدًا بين ساقيه وعاقدًا يديه خلفه، وتأهب كارا للإجابة عن السؤال الذي طرحه.
قال وهو ينحني بجوار الآخر ليشعل سيجاره بلفافة ورقية: «لقد حذرتك من فاسالارو. عزيزي لكسمان.» وأردف: «إن أبناء جلدتي يكونون بغضاء عند التعامُل معهم وهم في حالات مزاجية معينة.»
قال لكسمان موجِّهًا جزءًا من الحديث لنفسه: «لقد كان في غاية الكرم واللطف في البداية.»
قال كارا بتثاقُل: «وها هو الآن قد أصبح في غاية الفظاظة.» وأضاف: «تلك طريقة يتَّبعها المرابون يا عزيزي، كانت حماقة بالغة منك أن ذهبت إليه من البداية. كان بإمكاني أن أقرضك المال.»
قال جون في هدوء: «كانت لدي أسبابٌ دفعتني لعدم الاقتراض منك، وأعتقد أنك أنت نفسك قد ذكرت السبب الأساسي، حين أخبرتني لتوك، ما كنت أعرفه بالفعل، بأنك كنت ترغب في الزواج من جريس.»
تساءل كارا وهو يتفحَّص أظافره المشذبة بعناية: «كم المبلغ؟»
أجاب جون بضحكةٍ قصيرة: «ألفان وخمسمائة جنيه، ولا أملك منها في هذه اللحظة ألفين وخمسمائة شلن.»
«هل سينتظر؟»
هز جون لكسمان كتفَيْه.
ثم قال فجأة: «اسمع يا كارا، لا تعتقد أنني أريد توبيخك، ولكن معرفتي بفاسالارو كانت من خلالك؛ ومن ثَم فأنت تعرف أيُّ نوع من الرجال هو.»
أومأ كارا.
قال جون مقطِّبًا: «حسنًا، يمكنني أن أخبرك أنه كان شخصًا بغيضًا للغاية بالفعل، ولقد التقيته بالأمس في لندن، ومن الواضح أنه سيسبِّب لي الكثير من المتاعب. لقد كنت أعوِّل على نجاح مسرحيتي التي عُرضت في المدينة في أن توفِّر لي ما يكفي لسداد أمواله، وبحمق شديد قطعت الكثير من الوعود بالسداد لم أستطِع الوفاء بها.»
قال كارا: «أتفهَّم الأمر»، ثم أضاف: «هل لدى السيدة لكسمان علمٌ بهذه المسألة؟»
قال الآخر: «لا تعلم الكثير.»
أخذ يذرع الغرفة جَيئة وذهابًا في تململ، عاقدًا يديه خلفه وذقنه مستقر على صدره.
«بالطبع لم أخبرها بما هو أسوأ، أو عن كم كان الرجل بغيضًا وهمجيًّا.»
توقَّف ثم استدار.
سأله: «أتعلم أنه قد هدَّد بقتلي؟»
ابتسم كارا.
قال الآخر في غضب: «يمكنني أن أخبرك أنه لم يكن أمرًا مضحكًا بالمرة؛ فلقد جذبت ذلك التافه المدعي من مؤخرة عنقه وركلته.»
وضع كارا يده على ذراع الآخر.
«أنا لا أضحك عليك؛ بل أضحك من فكرة إقدام فاسالارو على التهديد بقتل أي شخص. إنه أكبر جبان في العالم. ما الذي دفعه لاتخاذ هذه الخطوة العنيفة بحق السماء؟»
قال الآخر في كآبة: «قال إنه في حاجةٍ ماسة للمال، وقد يكون ذلك صحيحًا. لقد كان في قمة الغضب والقلق، وإلا فربما أبرحت ذلك الوغد الضئيل ما يستحق من الضرب.»
واصل كارا جولته، ثم أنهى مسيرته وتوقَّف أمام المدفأة وراح ينظر إلى الكاتب الشاب بابتسامةٍ أبوية.
قال: «أنت لا تفهم فاسالارو، وأكرِّر إنه أكبر جبان في العالم. ستكتشف على الأرجح أنه مدجَّج بالأسلحة وتهديدات الذبح، ولكن ما عليك سوى أن تضغط على زناد مسدس وستراه يخر منهارًا أمامك. هل لديك مسدس بالمناسبة؟»
قال الآخر بفظاظة: «أوه، هذا هراء، لا يمكنني أن أورِّط نفسي في ذلك النوع من الميلودراما.»
قال الآخر في إصرار: «ليس هراء، حين تكون في روما، أو ما شابه، وحين تضطر للتعامل مع يوناني من الطبقة الدنيا، لا بد أن تستخدم أساليبَ من شأنها أن تؤثِّر فيه على الأقل. إن ضربته، فلن يغفر لك أبدًا وربما سيغرز سكينًا في صدرك أو في صدر زوجتك. أما إذا قابلت ميلودراميته بميلودراما مماثلة، وأشهرت سلاحك في اللحظة المناسبة، فسوف تنال النتيجة التي تبغيها. هل لديك مسدس؟»
ذهب جون إلى مكتبه، وفتح أحد الأدراج وأخرج منه مسدس براونينج صغيرًا.
قال: «هذا آخر حدود تسليحي؛ لم تنطلق منه رصاصة واحدة وأُرسِل إليَّ من معجب مجهول في عيد الميلاد الفائت.»
قال الآخر وهو يتفحص السلاح: «هدية غريبة في عيد الميلاد.»
قال لكسمان مستعيدًا بعضًا من خفَّة ظله: «أظن أن المانح الواهم تخيَّل من كتبي أنني أعيش في متحفٍ حقيقي للمسدسات وعصي السيوف والعقاقير المخدرة السامة، وقد جاءت معه بطاقة.»
سأله الآخر: «هل تعرف كيف يعمل؟»
أجاب لكسمان: «لم أعبأ به كثيرًا قط؛ أعرف أنه يُعبأ بسحب الزلاقة إلى الوراء، ولكن نظرًا لأن معجبي لم يرسل ذخيرة، فلم أجرِّبه قط.»
كان ثمَّة طرْق على الباب.
قال جون موضحًا: «إنه البريد.»
كان بحوزة الخادمة خطاب واحد على الصينية، وأخذه الكاتب عابسًا.
قال عندما غادرت الفتاة الغرفة: «إنه من فاسالارو.»
أمسك اليوناني بالخطاب في يده وتفحَّصه.
كان تعليقه الوحيد وهو يعيده إلى جون: «إنه يكتب بخط رديء للغاية.»
لا بد أن أراك الليلة دون تأخير، قابلني عند التقاطع ما بين بيستون تريسي وطريق إيستبورن. سأكون هناك في الحادية عشرة، وإذا أردت الحفاظ على حياتك، يُستحسن أن تُحضر لي معك جزءًا كبيرًا من المبلغ.
كان التوقيع باسم «فاسالارو».
قرأ جون الخطاب بصوتٍ مرتفع. ثم قال: «لا بد أنه فقد عقلَه ليكتب خطابًا كهذا، سوف أقابل هذا الشيطان الضئيل الجسد وألقنه درسًا في الأدب لن ينساه على الإطلاق.»
ناول الخطابَ لكارا الذي راح يقرؤه في صمت.
قال وهو يعيده إليه: «من الأفضل أن تأخذ مسدسك معك.»
نظر جون لكسمان إلى ساعة يده.
«لا يزال أمامي ساعة، ولكني سأستغرق قرابة عشرين دقيقة للوصول إلى طريق إيستبورن.»
تساءل كارا بنبرة دهشة: «هل ستقابله؟»
أجاب لكسمان بنبرة تأكيد حاسمة: «بالتأكيد، لا يمكن أن أجعله يأتي إلى المنزل ويتسبَّب لي في فضيحة، وهذا بالتأكيد ما سوف يفعله هذا الوغد الوضيع الضئيل.»
سأله كارا بصوت خفيض: «هل ستدفع له؟»
لم يُجِب جون. لم يكن بالمنزل سوى ١٠ جنيهات على الأرجح وشيك يستحق الدفع غدًا سوف يجلب له ثلاثين جنيهًا أخرى. نظر إلى الخطاب مرة أخرى. كان مكتوبًا على ورقةٍ ذات ملمس غير مألوف. كان سطحها خشنًا مثل ورق النشاف تقريبًا، وفي بعض المواضع سال الحبر الذي امتصه السطح المسامي للورقة. كان واضحًا أن الأوراق الخاوية قد وضعها رجل في عجالة شديدة حتى إنه لم يلحظ كثرتها المبالغ فيها.
قال جون: «سوف أحتفظ بهذا الخطاب.»
«أعتقد أنك على حق. ربما لا يعرف فاسالارو أنه ينتهك القانون بكتابته رسائلَ تهديدٍ وينبغي أن يكون ذلك الخطاب سلاحًا قويًّا جدًّا في يدك حال ظهور أي ظروف طارئة.»
كانت توجد خزنة صغيرة في أحد أركان غرفة المكتب فتحها جون بمفتاحٍ أخرجه من جيبه. فتح أحد الأدراج الفولاذية، وأخرج منه الأوراق التي كانت بداخله ووضع مكانها الخطاب، ثم دفع الدرج إلى مكانه وأغلقه.
ظل كارا طوال الوقت يراقبه باهتمام شديد كمن وجد قدرًا من الإثارة يفوق العادي في حداثة ما فعل.
وبعد ذلك بقليل غادر المنزل.
قال: «كنت أود أن آتي معك لحضور لقائكما الشائق، ولكن للأسف لدي أعمال في مكان آخر. دعني أطالبك بأن تأخذ مسدسك ومع ظهور أول علامة لأي نوايا دموية من جانب مواطني الرائع، أشهِرْه في وجهه واضغط عليه مرة أو اثنتين، ولن تضطر للقيام بالمزيد.»
نهضت جريس من خلف البيانو حين دخل كارا غرفة الاستقبال الصغيرة وتمتم ببعض تعبيرات الأسف التقليدية لقصر مدة الزيارة. لم يكن ثمة شك في أن اعتذار كارا ذاك لم يكن به ذرة صدق بالتأكيد. فقد كان رجلًا متحررًا من الأوهام على نحوٍ فريد.
ظلا يتحدثان معًا برهةً.
قال جون: «سأرى إن كان سائقك نائمًا»، وخرج من الغرفة.
ساد صمت قصير بعد انصرافه.
قال كارا: «لا أظن أنك سعيدة برؤيتي كثيرًا.» أثارت صراحته بعض الحرج لدى الفتاة واحمر وجهها قليلًا.
قالت بهدوء واتزان: «أنا دائمًا ما أسعد برؤيتك يا سيد كارا، سواء أنت أو أي من أصدقاء زوجي.»
أمال رأسه إلى أحد الجانبين.
ثم قال: «إن صداقتي بزوجك شيء …» ثم توقَّف كأنما تذكَّر شيئًا ما ثم أردف قائلًا: «كنت أريد أن آخذ معي كتابًا، تُرى هل سيمانع زوجك في أخذه؟»
«سوف أحضره لك.»
قال معارضًا إياها: «دعيني لا أزعجك؛ فأنا أعرف طريقي.»
ودون أن ينتظر لتأذن له ترك الفتاة بذلك الشعور البغيض بأنه يأخذ الكثير من الأمور كمسلَّمات. غادر لأقل من دقيقة ثم عاد واضعًا كتابًا تحت ذراعه.
قال: «إنني لم أستأذن لكسمان لآخذه، ولكنني مهتمٌّ بالكاتب إلى حدٍّ ما. أوه، ها هو»، والتفت إلى جون الذي دخل في تلك اللحظة. وسأله: «هل لي أن آخذ هذا الكتاب عن المكسيك؟» وأضاف: «سوف أعيده لك في الصباح.»
وقفا عند الباب يراقبان الضوء الخلفي للسيارة وهو يختفي عبر الممشى، وعادا إلى غرفة الاستقبال في صمت.
قالت وهي تضع يدها على كتفه: «تبدو قلقًا يا عزيزي.»
ابتسم ابتسامةً باهتة.
سألته في قلق: «هل الأمر متعلق بالمال؟»
للحظةٍ وسوست له نفسُه بأن يخبرها بأمر الخطاب. ولكنه كبح هذا الوسواس، لعلمه أنها لن تقبل بخروجه لو علمت بالحقيقة.
قال: «الأمر لا يستحق.» وتابع: «لا بد أن أذهب إلى بيستون تريسي لاستقبال آخرِ قطار. فأنا أنتظر وصول بعض بروفات الطباعة.»
كان يكره أن يكذب عليها، وحتى كذبة تافهة لا ضرر منها كهذه كانت بالنسبة إليه أمرًا مقيتًا.
قال: «أخشى أنكِ قضيت أمسية مضجرة.» وأضاف: «لم يكن كارا مسليًا.»
نظرَت إليه في تفكير.
ثم قالت بنبرةٍ متثاقلة: «لم يتغيَّر كثيرًا.»
تساءل بنبرةٍ تنمُّ عن إعجاب: «إنه رجلٌ غاية في الوسامة، أليس كذلك؟» وأردف: «لا أفهم ماذا أعجبكِ في شخصٍ مثلي، بينما كان أمامكِ رجلٌ ليس ثريًّا فحسب، بل ربما كان الرجل الأكثر وسامةً في العالم.»
ارتعدَت قليلًا.
ثم قالت: «لقد رأيت جانبًا من شخصية كارا ليس به أي جمال.» وتابعت: «أوه، يا جون، أنا خائفة من ذلك الرجل!»
نظر إليها في دهشة.
وسألها: «خائفة؟» وأضاف: «يا إلهي، ما أغرب ما تقولين يا جريس! أنا لا أظن أنه يمكن أن يفعل بكِ شيئًا.»
قالت بصوتٍ خفيض: «هذا بالضبط ما أخشاه.»
كان لديها سببٌ لم تُفصح عنه. كان أول لقاء لها برمينجتون كارا في سالونيك قبل عامَيْن. كانت تقوم بجولةٍ عبر منطقة البلقان بصحبة والدها — وكانت تلك آخر جولة لعالم الآثار المعروف — والتقت بالرجل الذي قُدِّر أن يكون له مثل هذا التأثير على حياتها في عشاءٍ أقامه القنصل الأمريكي.
كثيرة هي القصص التي رُويت حول هذا اليوناني بوجهه الملائكي، وعربته الفخمة، وثرائه غير المحدود. كان يُقال إن والدته سيدة أمريكية سُبيت على يدِ قُطَّاعِ طرقٍ ألبان وبيعت إلى أحد الأعيان الألبان، الذي وقع في حبها وتحوَّل لأجلها إلى المذهب البروتستانتي. تلقى تعليمه في يال وأكسفورد، وكان معروفًا بامتلاكه ثروةً طائلة، ويكاد يكون قد نُصِّب ملِكًا على حيٍّ جبلي مرتفع يقع على بُعد أربعين ميلًا من دورازو. كان بمثابة الحاكم، وكان يقطن منزلًا جميلًا بناه مهندس معماري إيطالي، جُلب أثاثه وتجهيزاته من أفخم مراكز العالم.
كانوا يطلقون عليه في ألبانيا «كارا رومو»، الذي يعني «الروماني الأسود»، ولم يكن لتلك التسمية سبب محدَّد، مثلما قد يتراءى لأي شخص؛ إذ كان ذا بشرة شقراء مثل بشرة الساكسونيين، وكانت خصلات شعره المجعدة القصيرة ذهبية تقريبًا.
وقع في غرام جريس تيريل. في البداية كانت مجاملاته لها تطربها، ثم جاء وقتٌ صارت تخيفها؛ إذ كانت عاطفته المشبوبة ولهيب عشقه لها واضحين على نحوٍ لا تخطئه عين. أوضحت له أنه لا يمكنه أن يعقد أيَّ آمال على أن تبادله حبَّه بحب، وفي مشهدٍ ما زالت أوصالها ترتعد حتى الآن حين تتذكَّره، أفصح عن شيءٍ من طبيعته المستهترة الجامحة. لم تره في اليوم التالي، ولكن بعد يومين وهي عائدة عبر السوق العامة من حفلٍ راقص أقامه الحاكم العام، استُوقفت عربتها، وأُجبرت على النزول منها عنوة، وكُتمت صرخاتها بواسطة قطعة من القماش مشبعة برائحة عطرية جميلة. كان مهاجموها على وشك إدخالها عنوة في عربة أخرى، حين تصادف مرور مجموعة من جنود البحرية البريطانية كانوا في إجازة ورأوا المشهد، وهمُّوا بإنقاذ الفتاة دون أدنى دراية لهم بجنسيتها.
لم يكن في أعماقها أيُّ شك في ضلوع كارا في هذه المحاولة التي تعود إلى القرون الوسطى للحصول على زوجة، ولكنها لم تخبر زوجها بشيء عن هذه المغامرة. وظلت حتى زواجها تتلقى دائمًا هدايا ثمينة، وكانت دائمًا ما تعيدها على العنوان نفسه … ضيعة كارا بليمازو. بعد بضعة أشهر من زواجها، علمت من الصحف أن «زعيم المجتمع اليوناني» هذا اشترى منزلًا كبيرًا بالقرب من كادوجان سكوير، ثم سعى جاهدًا للتعرُّف على زوجها حتى قبل انقضاء شهر العسل، ما كان مثار دهشة وإحباط لها.
كانت زياراته، لحسن الحظ، قليلة، ولكن الألفة التي كانت تتزايد بين جون وهذا الرجل الغريب غير المنضبط كانت مصدرَ ضيقٍ مستمر لها.
هل ينبغي في هذه اللحظة، في ذلك الوقت المتأخر، أن تصارح زوجها بكلِّ ما يخالجها من مخاوفَ وشكوك؟
قلَّبت الأمر في عقلها بعض الوقت. ولم تكن أقربَ إلى مصارحته بما بداخلها في أي وقتٍ أكثرَ من هذه اللحظة بينما كان جالسًا على الكرسي الكبير ذي الذراعين بجوار البيانو، وقد بدا وجهه مرهقًا قليلًا، ومستغرقًا بعض الشيء في تأملاته. ربما كانت ستتكلم لو كان أقل قلقًا. وعلى ذلك، حوَّلت دفة الحديث إلى عمله الأخير؛ تلك القصة البوليسية التي إن لم تجلب له ثروة، فسوف تدرُّ عليه زيادةً كبيرةً في دخله.
في الساعة الحادية عشرة إلا ربعًا، تفقَّد ساعته ونهض. وساعدته هي في ارتداء معطفه. ووقف مترددًا بعض الوقت.
سألته: «هل نسيت أيَّ شيء؟»
سأل نفسه إن كان ينبغي أن يأخذ بنصيحة كارا. فعلى أي حال لم تكن مقابلةُ رجلٍ شرس ضئيل الجسد هدَّد حياته بالشيء المستحب، وكانت مقابلته أعزلَ دون سلاح بمثابةِ مجازفة سخيفة. كان الأمر برمَّته عبثًا بالطبع، ولكن كان من العبث أنه اضطُر للاقتراض، ومن العبث أن هذا الاقتراض كان ضروريًّا، إلا أنه راح يتدبَّر أفضل النصائح، والتي كانت نصيحة كارا.
خطرت الواسطة فجأة بباله، ومع ذلك لم يكن كارا قد أشار مباشرة إلى أنه سيشتري أسهم الذهب الرومانية؛ بل تحدَّث فقط بحماس عن توقعاتها. فكَّر برهةً، ثم عاد أدراجه ببطء إلى غرفة المكتب وفتح درج مكتبه، وأخرج ذلك السلاح الصغير المقيت، ووضعه في جيبه.
قال: «لن أغيب طويلًا يا عزيزتي»، وبعد أن قبَّل الفتاة خرج بخطًى واسعة في الظلام.
جلس كارا مضطجعًا في سيارته الفارهة يدندن بلحنٍ صغير، بينما كان السائق يتقدَّم بحذرٍ على الطريق الشائك. كانت الأمطار لا تزال متواصلة، وكان كارا يضطر لمسح النوافذ لإزالة رذاذ الضباب الذي تجمَّع عليها ليعرف أين هو. كان يطل من النافذة من حينٍ لآخر كأنما كان يتوقَّع أن يبصر شخصًا ما، بعد ذلك تذكَّر بابتسامةٍ خفيفة أنه قد غيَّر خطته الأصلية، وأنه قد حدَّد قاعة الانتظار بمحطة لويس مكانًا للقاء.
هناك وجد رجلًا ضئيل الجسد ملفعًا حتى أذنيه في معطف كبير، يقف أمام النار الآخذة في الخمود. انتفض عند دخول كارا واتبعه إلى الخارج بناءً على إشارة منه.
كان واضحًا أن الغريب لم يكن إنجليزيًّا. كان وجهه شاحبًا ونحيلًا، ذا وجنتَيْن غائرتَيْن، وكانت لحيته غيرَ مشذبةٍ وشعثاء تقريبًا.
اقتاده كارا إلى حافة الرصيف المظلم، قبل أن يهم بالحديث.
سأله بفظاظة: «هل نفذت تعليماتي؟»
كان يتحدث باللغة العربية، وجاءت إجابة الآخر باللغة نفسها.
قال في خنوع: «كل ما أمرت به نُفِّذ، يا سيدي.»
«هل معك مسدس؟»
أومأ الرجل إيجابًا وضرب برفق على جيبه.
«معبأ؟»
سأله الآخر متعجبًا: «وما جدوى المسدس إن لم يكن معبأً، يا صاحب الفخامة؟»
قال كارا: «كما فهمت، لن تطلق الرصاص على هذا الرجل.» وتابع: «سوف تشهر المسدس فحسب. وعلى سبيل الحرص، من الأفضل أن تفرغه من الطلقات الآن.»
امتثل الرجل متعجبًا، وضغط على القاذف إلى الخلف.
قال كارا مادًّا يده: «سوف آخذ الطلقات.»
وضع الطلقات الأسطوانية الصغيرة في جيبه، وبعد أن تفقَّد السلاح، أعاده إلى صاحبه.
تابع قائلًا: «سوف تهدِّده.» وأردف: «صوِّب السلاح نحو قلبه مباشرة. ولا شيء سوى ذلك.»
أخذ الرجل يحرِّك قدميه في الأرض إلى الأمام وإلى الخلف في اضطراب.
وقال: «سوف أفعل ما تأمر به يا سيدي. ولكن …»
رد الآخر في غلظة: «بدون «لكن».» وتابع: «عليك أن تنفِّذ تعليماتي دون نقاش. وسوف ترى ما سيحدث في حينه. سوف أكون قريبًا منك. تأكد أن لدي سببًا لهذه اللعبة.»
أصرَّ الآخر في قلق: «ولكن افترض أنه أطلق الرصاص؟»
قال كارا في هدوء: «لن يطلق الرصاص.» وأردف: «كما أن مسدسه غير معبأ. يمكنك الانصراف الآن. فأمامك مسيرة طويلة. هل تعرف الطريق؟»
أومأ الرجل إيجابًا.
وقال في ثقة: «سرت عليه من قبل.»
عاد كارا إلى السيارة الليموزين الكبيرة التي كانت متوقفة على مسافةٍ من المحطة. تحدَّث إلى السائق بكلمة أو كلمتين باليونانية، وأمال له الرجل قبَّعته.